الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا
معنا اليوم الحكمة الخامسة عشر بعد المائة من الحكم العطائية : لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى
( لا يستحقر الورد إلا جهول , الوارد يوجد في الدار الآخرة والورد ينطوي بأنطواء هذه الدار , وأولى ما يعتني به ما لا يخلف وجوده , الورد هو طالبه منك , والوارد أنت تطلبه منه وأين ما هو طالبه منك مما هو مطلبك منه )
الورد في اللغة هو الشرب , قال تعالى :{ بئس الورد المورود } وفي الإصطلاح ما يرتبه العبد على نفسه أو الشيخ على تلميذه من الأذكار والعبادات . والوارد في اللغة : هو الطارق والقادم يقال ورد علينا فلان أي قدم وفي الإصطلاح ما يتحفه الحق تعالى قلوب أوليائه من النفحات الإلهية فيكسبه قوة محركة وربما يدهشه أو يغيبه عن حسه ولا يكون إلا بغتة ولا يدوم على صاحبه .
ثم أن الورد ينقسم على ثلاثة أقسام : ورد العباد والزهاد من المجتهدين وورد أهل السلوك من السائرين وورد أهل الوصول من العارفين فأما ورد المجتهدين : فهو إستغراق الأوقات في أنواع العبادات وعبادتهم بين ذكر ودعاء وصلاة وصيام , وقد ذكر في الإحياء والقوت أوراد النهار وأوراد الليل , وعين لكل وقت وردا معلوما. وأما ورد السائرين فهو : الخروج من الشواغل والشواغب وترك العلائق والعوائق , وتطهير القلوب من المساوي والعيوب وتحليتها بالفضائل بعد تخليتها من الرذائل , وعبادتهم ذكر واحد وهو ما يعينه له الشيخ لا يزيد عليه مع جمع القلب وحضوره مع الرب وأما ورد الواصلين فهو : إسقاط الهوى ومحبة المولى وعبادتهم فكرة أو نظرة مع العكوف في الحضرة فكل من أقامه مولاه في ورد فليلتزمه ولا يتعدى طوره ولا يستحقر غيره . إذ العارف لا يستحقر شيئاً بل يصير مع كل واحد في مقامه ويقرر كل شيء في محله , فلا يستحقر الورد ويطلب الوارد إلا جهول أو معاند , وكيف يستحقر الورد وبه يكون الورود على الملك المعبود ؟ الورد يوجد ثوابه وثمرته في الدار الآخرة والوارد الذي تطلبه ينطوي بإنطواء هذه الدار , قال تعالى :
{ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعلمون }
وجاء في الأثر : " أن الله يقول أدخلوا الجنة برحمتي وتقاسموه بأعمالكم " .
وأيضاً المراد من الواردات ثمراتها ونتائجها , وهو ما يعقبها من اليقين والطمأنينة والرضا والتسليم , وغير ذلك من المحاسن فإذا أعطتك نتائجها وجنيت ثمراتها فلك في الله غني عنها فلا يستحقر الورد ويطلب الوارد إلا من كان عبد الوارد وأما من كان عبد الله فلا يلتفت إلى ما سواه بل يلزم ما هو مكلف به من وظائف العبودية , قياماً بحق عظمة الربوبية فهو الذي يدوم , وبه يتوصل إلى رضا الحي القيوم وأولى ما يعتني به الإنسان ما ينقطع وجوده بإنقطاع موته وهو ورده فيغتنم وجوده ما دام في هذه الدار, فليس في تلك الدار عمل وإنما هي دار جزاء وحصول أمل , فالدنيا دار عمل لا جزاء فيها والآخرة دار جزاء لا عمل فيه , فليغتنم الإنسان عمره قبل الفوات فما من زمن يخلو عنه إلا وهو فائت منه
وقد جاء في الحديث : " لا تأتي على العبد ساعة لا يذكر الله فيها إلا كانت عليه حسرة يوم القيامة " اهـ
والذكر متنوع كل بحسب حاله , وقال الحسن رضي الله عنه : أدركت أقواماً كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم
وفي معنى ذلك قيل : السباق السباق قولاً وفعلاً ... حذر النفس حسرة المسبوق
وفي بعض الأحاديث عنه عليه الصلاة والسلام : من إستوى يوماه فهو مغبون , ومن كان يومه شراً من أمسه فهو محروم , ومن لم يكن في الزيادة فهو في النقصان ومن كان في النقصان فالموت خير له "
وأولى ما يعتني به العبد أيضاً ما هو طالبه منه الحق تعالى وهو الورد دون ما يطلبه هو منه وهو الوارد , فالورد من وظائف العبودية وهو الذي طلبه منا الحق تعالى , والوارد من وظائف الحرية ولذلك تطلبه النفس وتتعشق إليه وأين ما هو طالبه منا مما هو مطلبنا منه بينهما فرق كبير
قال الشيخ زروق رضي الله عنه : بينهما في القدر ما بينهما في الوصيف :" قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق " اه
فتحصل أن الإعتناء بالورد أفضل وأكمل من الإعتناء بالوارد لأن الورد من وظائف العبودية وهي لا تنقطع ما دام العبد في هذه الدار كما أن حقوق الربوبية لا تنقطع كذلك حقوق العبودية لا تنقطع .
قال النقشبندي رحمه الله : ولهذا لم يترك العبادة سيد هذا المقام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه , " فقيل له : كيف تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال أفلا أكون عبداً شكوراً " فأفاد صلى الله عليه وسلم أن شكر النعمة تمام الخدمة وهو موجب المزيد
قال تعالى : { لئن شكرتم لأزيدنكم }
وهذا سبيل طائفة الجنيد رضي الله عنه , لم يترك أوراده في حال نزاعه فقيل له في ذلك ؟ فقال ومن أولى مني بذلك وهذه صحائفي تطوي فلم يترك الخدمة رضي الله عنه في مثل هذه الحالة فكيف بسواها قيل له أن جماعة يزعمون أنهم يصلون إلى حالة يسقط عنهم التكليف قال : وصلوا ولكن إلى سقر .
وقال في كلام آخر : هذا كلام من يقول بالإباحة والسرقة والزنى عندنا أهون حالاً ممن يقول بهذه المقالة , ولقد صدق رضي الله عنه في قوله هذا , فإن الزاني والسارق عاص بزناه وسرقته ولا يصل إلى حد الكفر وأما القائل بسقوط الفرائض المعتقد لذلك فقد أنسل من الدين كانسلال الشعرة من العجين , فعض على هذا الأصل بالنواجذ يا أخي ولا تسمع كلام من أخذ الحقائق من الكتب وصار يتكلم بالزندقة والإلحاد وإسقاط الأعمال على حسب فهمه وهواه قال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تابعاً لما جئت به "
وقال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )
فعليك بمتابعته صلى الله عليه وسلم ومتابعة السلف الصالح في الأقوال والأفعال والأحوال تحز مقامهم وتسكن معهم فالمرء مع من أحب اهـ كلام النقشبندي وهو حسن لأن من أخذ الحقائق من الكتب لاذوق عنده , وإنما يترامى على الحقيقة بالعلم فيتبع الرخص ويسقط في مهاوي الهوى . وأما من كان من أهل الأذواق فسره مكتوم , وأمره محزوم عبادته أدب وشكر, وهو أحق بدوام الشكر, وكيف ينكر الواسطة ولولا الواسطة لذهب الموسوط .
قال أبو الحسن الدراج رضي الله عنه : ذكر الجنيد أهل المعرفة بالله وما يراعونه من الأوراد والعبادات بعدما أتحفهم الله به من الكرامات فقال الجنيد رضي الله عنه العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك اهـ وقد رأى رجل الجنيد رضي الله عنه وفي يده سبحة فقال له أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة , فقال : نعم سبب وصلنا إلى ما وصلنا فلا نتركه أبداً اهـ
فالشريعة باب والحقيقة بيت الحضرة , قال تعالى : " وأتوا البيوت من أبوابها " .
ثم قال : فلا دخول للحقيقة إلا من باب الشريعة ولله در سيدي عبد الله الهبطي الزجلي رضي الله عنه حيث يقول في منظومته :
وثالث الفصول في الشريعه ... لأنها إلى الهدى ذريعه فكل باب دونها مسدود ... ومن أتى من غيرها مردود قد أصطفاها ربنا عز وجل ... بفضله وجوده على الملل طريقة العدنان للرحمن ... محفوفة بالنور والرضوان طوبى لمن أتى بها للعرض ... والويل للذي بها لم يقض يا أيها المريد إن أردت ... وصال من بحبه شغفت فشد منك الكف يا ولي ... على شريعة النبي الأمي حصل جميع ماله الشرع أرتضى ... وكن لكل ما سواه رافضاً ترى الفؤاد صافياً وشارقاً ... وعن سوي المولي إلى المولي أرتقى
ثم قال : فبالشريعة الوصال للمنا ... كالفوز بالبقاء من بعد الفنا ومن يظن الخير في سواها ... فإنه والله ما دراهـــا
وقد رأيت كثيراً من الفقراء قصروا من الشريعة , فخرجوا من الطريقة , وسلبوا نور الحقيقة . ورأيت آخرين طال أمدهم في صحبة القوم , ولم يظهر عليهم بهجة المحبين ولا سيما العارفين وما ذلك إلا لعدم التحفظ على مراسم الشريعة .
وكان شيخنا اليزيدي رضي الله عنه يقول : كل من ترك الشريعة من غير جذب ولا عذر سلوكه كبيرة اهـ والله ما رأينا الخير إلا فيها وما ربحنا إلا منها , فالله يرزقنا الأدب معها إلى يوم الفصل والقضاء آمين .
ثم ذكر ثمرة الورد ونتيجته وهو المدد الإلهي , إذ بقدر الإستعداد تحصل الأمداد ولا إستعداد لها إلا بدوام الأوراد وتفرغ الفؤاد .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
|