موقع د. محمود صبيح

هذه وصيته رحمه الله تعالى ، وقد سألت عنه من جالسه فقال عنه : إنه أحد المصطفين الأخيار كان على ما كان وهباً رضي الله تعالى عنه ..

وقد كتبها في شعبان 1428 هـ ، وهذه نصها ولأول مرة ولله الحمد على الشبكة العنكبوتية فمن ينقلها يذكر أن مصدرها هذا الموقع الجليل :

بسم الله الرحمن الرحيم

وصيتي لك الحقيقية التي وصى بها أبو الأنبياء خليل الرحمن سيدنا إبراهيم بنيه ، العقيدة الحقة وتدبرها جيداً فأول أساس بنيانك تصحيح عقيدتك بربك وأن توحده التوحيد الخالص من كل الشوائب وأن توقن أنه معك في سرك وعلنك قائم على كل أمرك واعتقد أنه الفاعل في كل شيء " والله خلقكم وما تعملون " .

فراقبه دائماً في خلوتك وجلوتك وكن دائماً عند حكمه عاملاً بشرعه متبعاً أمره متجنباً نهيه مقتدياً بسنة سيد الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مسترشداً بسلوك السلف الصالح مترسماً نهجهم متتبعاً آثارهم لائذاً بهم معتصماً بحبل الله في كل شدة متوجهاً إليه في كل ما أهمك ونزل بك ولا تسع أبداً إلا حيث ترجو رضاه ولا تقل ولا تعمل حتى تعلم ما لله فيما أنت عليه عازم ، فما كان لله فامضه وهو يتولاك وما كان لغيره فدعه خوفاً منه لئلا يراك حيث نهاك ، وإياك وأن تشاركه فيما اختص به لذاته فلا تتكبر ولا تتعاظم فإنه قال : " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي " .

واحذره دائماً فإنه غيور على حدوده وحرماته " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " ، ولا يرضى من عباده إلا العبودية الحقة والتواضع والتبتل إليه في عبادته ، ولا تخف الناس في الله ولكن خف الله في الناس .

فالفرائض الفرائض أقمها في أوقاتها وبكل شروطها وأركانها وآدابها وبكل تمام وكمال وخشوع أدها وإذ دعا داعي الحق فأسرع لإجابته وقدم فرض ربك على كل ما في يدك ولا تهمل وتتوان عن أداء الصلاة عند النداء ما استطعت وبهذا يعرف صدق العبد مع مولاه ومكانة الله عنده وأن ربه أكبر من دنياه ومن كل شيء ، عود نفسك على ذلك ولا تهمل السنن ولا تقصر في الآداب فما بلغوا المنى والمراد إلا بحسن الأدب .

وإذا أردت أن تكون من الله بمكان وأن تنال الرضا والإنعام وأن تحظى بالمعارف والعلوم وتكون من أرباب المذاقات والفهوم وأن تفاض عليك الواردات والإلهامات وأن ترتع في منازل القرب وتسمو إلى حضرات القدس والأنس فلا تهمل التهجد ما حييت فإنه دأب الصالحين ومهرع المحبين الصادقين وهو خير وسيلة للوصول والمصافاه وباب الفتوح والموالاه وما نالوا ما نالوا إلا بقيامهم في الليل بين يديه خاشعين يدعونه خوفاً وطمعاً يناجونه بكلامه ويتملقونه بمواهبه وإنعامه ولقد مدح الله هؤلاء وجعلهم في عداد عباده المخلصين فقال : " ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ".

واجعل لك وقتاً تقضيه كل يوم في مطالعة كتب القدامى من القوم لتقف على علومهم وتتعرف على آدابهم وسلوكهم مع ربهم ومع الناس ومع أنفسهم ولتدرك بذلك الكثير من أحوالهم ومقاماتهم ، ولتعرف حالك مع الله وترى حقيقة كل أمر وكيف تتعامل مع الكل وتعالج نفسك فيما يبدو لك في دنياك وفي سيرك إلى مولاك .

فاجتهد في الاقتداء بهؤلاء السادة وانظر ما كانوا عليه من ربهم في كل أمورهم ولتتعلم منهم ما يفسد العمل وما يصلحه وحسن النية والقصد وتنهل من مواردهم وتشرب من معينهم ، فاحذو حذوهم لتنال من فضلهم وبرهم والله يتولاك ببركة حبهم ويرعاك بحسن اقتدائك بهم .

كن ابن وقتك ، فواجب الوقت الذي أنت فيه هو الذي يعينك وتهتم به فتفرغ من كل الشواغل للقيام بواجب وقتك ولا تشوشه عليك بالنظر إلى ما مضى أو التفكير فيه فما مضى قد انقضى وانتهى ، ولا تضيع وقتك الحاضر بالتفكير بما سيكون في المستقبل فإنه لا يكون إلا ما كان وليس لك حيلة في تبديل القضاء ولا قدرة لك على تغيير القدر ولا استطاعة لك على تحويل ما به حكم .

فوقت العبادة كن فيها لربك صادقاً ولله خالصاً مفرغاً قلبك من كل الخواطر والشواغل مستحضراً مولاك الذي والاك مراقباً إياه إن لم تكن له مشاهداً ، ولتعتقد حينئذ أنه يجب عليك فرض الشكر له والمنة إذ هداك لطاعته وأباحك حضرته وحباك فضله ، فكن له بذلك حامداً وشاكراً ، وأفضل العبادات يا بني ما كانت على قدم الشهود والشكر فارع ذلك جيداً واحرص عليه ، فكل ما وفقت له من طاعات ومبرات وخيرات ورياضات ومجاهدات منه من الله لك وفضل كبير منه إليك ونعمة تستوجب الشكر لتحظى بالمزيد ، " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " .

أما وقت العمل فكن له مراعياً ولكل أجزائه متقناً وواعياً ، معتقد أنك بعملك هذا تخدم أمتك ووطنك وشعبك وأنك لا تعمل من أجل قروش أو دراهم ، وبذلك يكون لك ثواب هذه النية الحسنة ، وإذا خالفت أو عصيت مولاك أو قصرت في أي واجب من واجباتك أو أهملت أدباً من آداب الطريق فسارع وبادر بالتوبة والاستغفار ، السر بالسر والعلانية بالعلانية واعزم وصمم على عدم العود إلى أي مخالفة ، وتذكر قول الحق : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزآؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين . " .

واحذر يا بني البطالة والكسل والسآمة والملل ، ولا تدع وقتاً يمر عليك دون عمل دنيوي يفيدك أو طاعة لله تسعدك فإن الله لا يحب أن يطلع على عبده فيجده فارغاً من أي عمل يشغله ، ونفسك إن لم تشغلها بأي شيء شغلتك هي بهواها ومخالفة مولاها ، وإذا كنت في نعمة فارعها ولا تفرح بها من قلبك وأد فيها حق ربك فلكل وقت حرمته وحقه ، وإياك أن تبيت إلا على طاعة أو ذكر أو استغفار أو توبة وعند نومك كن مستعرضاً عمل يومك ناظراً فيه أيها كان صالحاً وأيها كان فاسداً أو مخالفاً لتقلع عما نهى عنه الله ولتعزم على طاعته ورضاه .

وإياك وأن تنام وفي قلبك هموم الدنيا أو تفكر في مشاكل اعترضتك في نهارك فإنها تشوش عليك وقتك وتمنعك نومك وتقض مضجعك وترهق أعصابك فما قدر يكون ، وارجع في أمورك كلها إلى حكم الدين فيها وزنها بميزانه تسلم من الخطر والخطل ، وحكم دائماً شرع ربك في كل أعمالك ومقالك وكل ما يعترضك في دنياك أو يخطر على قلبك " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " وبذلك تكون بعيداً عن الهوى والشهوة والعاطفة واستفت قلبك فيما أهمك تجد إن شاء الله ما يزيل غمك ، فالبر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدر وترددت فيه النفس ، وإياك أن تعمل عملاً دون استفتاء أو استخارة أو استشارة من أهل الصدق وإن لم تهتد إلى حكم الشرع ، وقدر لرجلك قبل الخطو موضعها في كل عمل حتى لا تندم ولا تتحسر ، وكن حكيماً حاذقاً ولا تكن سطحياً عجولاً ، واحذر المعاصي والمخالفات فإنها شؤم على صاحبها وعلى الذرية ، وكم حرم ناس الرزق الحسي والمعنوي بمعاصيهم فإن المؤمن ليحرم الرزق بالذنب يصيبه فاحرص على ذلك جيداً .

وأوصيك بإيتاء زكاة مالك إذا استوفيت الشروط الشرعية من ملك النصاب الفائض عن حوائجك الأصلية ودار عليه الحول وإلا فلا تهمل الصدقة قدر وسعك تدفعها لمستحقها طيبة بها نفسك ، ولا تتراخى عن أداء فريضة الحج إذا ما يسر لك المال اللازم وإذا كنت في سعة فعاود الكرة بعد الكرة حاجاً أو معتمراً فإن ذلك مطهرة لك وقربة من ربك ، ولا تسأل عن فضل الحرمين والتمتع بروضة الحبيب والإقامة ما أمكنك في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وكن متردداً ما أمكنك على أضرحة الصالحين واللجوء إليهم وتوسل بهم لربك في كل ما يهمك فإن في زيارتهم انشراحاً للصدر وحل للعقد وتفريج للكرب .

ولا تغفل ليلة المولد الشريف كل عام وأنفق فيها عن سعة فإنها قربى من حضرة صاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم ، وكذا الأضحية كل عام واصنع بها كما دل الشرع أثلاثاً فإنها حفظ لك ولإخوتك من كل مكروه طول عمرك .

ودائماً عليك بالاستغفار فإنه ممحاة للأوزار ومجلبة للأرزاق وباب النوال ، وأكثر من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في سرك واجعلها وردك عند الخلاص من عملك والفراغ من واجباتك واملأ بها دائماً صدرك واشغل بها سرك لتدفع عنك الخواطر وأنت تعلم فضلها وحب شيخنا لها وأنها كانت أساس الخير له وسبب سعادته ، ولا تترك الطهارة أبداً باطناً فهي أصفى لقلبك لتتلقى فيض ربك وظاهراً فكلما أحدثت توضأت ما أمكنك فهو أحرس لك من عدوك فالوضوء سلاح المؤمن .

وإذا عرضت لك مشكلة فلا تنزعج وفوض أمرك فيها لله ولا تسلم نفسك لليأس والحزن والسأم بل ابحثها في ضوء الشرع من كل جوانبها وإياك أن تنظر لها من زاوية واحدة ، ولا تكن كالنعام تدفن رأسها في الرمال وتترك المشكلة دون نظر فيها واجهها بصبر وعقل وحزم وقلب الوجوه كلها فيها وما يترتب على كل وجه ثم استعن في حلها وفي ضوء الشرع مع الاستعانة بذوي الخبرة والصدق ، وهناك مشاكل قد تترك للزمن فهو كفيل بحلها فدعها حتى يحين أوانها ولا تسابق الأقدار واستخر الله دائماً في كل شئونك واستعن بالصبر والله يقول : " واستعينوا بالصبر والصبلاة " فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا نابه أمر فزع إلى الصلاة ، والله معك وسيرعاك إن شاء الله .

وإذا ضاق عليك صدرك يوماً فريض نفسك بالنزهة واترك ذلك المكان الذي أنت فيه وجل بنظرك في المخلوقات واعرف صنعه في الكائنات واستعن بالحوقلة والاستغفار والصلاة على النبي المختار صلى الله عليه وسلم وزر أحبابه الأحياء والمقبورين ، واحذر أن تشكو الله لعباده إذا نزل بك مكروه بل اصبر دائماً واتجه إلى ربك وحده بقلبك في رفع ما نزل بك فإنه رءوف رحيم مع اتخاذ الأسباب الشرعية والسعي الذي أمرنا الله به فيما إذا حل بنا مكروه من دعاء وعبادات وتضرع وتذلل ، وأطرق باب الأسباب الدنيوية مع عدم التبرم واليأس والشكوى ثم ارض بما قضى وسلم بما حكم تسلم وتغنم .

وإياك إياك والكذب والمخادعة والمصانعة فإن ذلك يطفيء نور إيمانك ويطمس بصيرتك ، هذا فضلاً عن فقدان ثقة الناس فيك واستشهارك بتلك الرذيلة وحسبك قول الله يوم القيامة : " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " ، وإياك والغيبة والنميمة فبئست الصفة الرذيلة ويكفي ما جاء في شأنها في القرآن : " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم " .

إياك والنفاق والرياء والتظاهر بالصالحات في تعاملك وعبادتك فمهما تبطن تظهره الأيام ويكفي أنك تعرف بذلك الخلق الذميم فيجفوك القريب والحبيب ويملك الأخ والصديق .
وإياك إياك أن تأكل الدنيا بالدين فإن ما قدر لك لابد يكون وما قضي عليك لا مفر لك منه ، وكن جريئاً في الحق لا تخشى لومة لائم ، وتجنب الحمق والطيش والسفه ، ودار رؤساءك وزملاءك في العمل وجارهم ما لم يكن ذلك مغضباً للرب فلا تشاركهم في السوء واتركهم وما استمرءوه من حيل في الاستيلاء على ما لا حق لهم فيه وأنكر ذلك بقلبك ولا تصب من باطلهم ودعهم وأمرهم إلى ربهم لتعيش معهم دون خصومة أو عداوة فقد فسد الزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وكن متفتحاً يقظاً لما حولك واعياً مفكراً بقلبك فيما تسمع وترى ولا تدع أمراً يمر عليك دون أن تأخذ منه العظة والعبرة وقس الأشباه على النظائر لتسلم من الخطأ في مستقبلك وتتزود بتجارب من سبقك وبذلك تكن عالم وقتك وحصيف زمانك ، وإذا استشارك مسلم فأخلص له النصح فإن المستشار مؤتمن وإياك والتضليل فذلك له سوء المصير .

وأنت تعلم أن الموت نهاية كل حي والكل إليه يصير فإذا مت فلا صراخ ولا عويل ولا مأتم ولا أحزان ولا حداد ولبس سواد بل أعمل ما رسمه الشرع وأرع الأمانة التي أنت مسئول عنها أمك وإخوتك وأولادك وتدبر شئونكم في الحياة وانهج نهج الصالحين وسر سير الحكماء الصادقين فالناس من بعدي سينظرون إليك بعين النقد فلا يرى الحق سبحانه والناس منك إلا كل صحيح سليم موافق للدين فإن الناقد بصير .

وإذا أردت الوصية الجامعة التي وصى بها سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم حبيبه أبا ذر وإليك ما روى السيوطي عن الطبراني عن أبي ذر قال : قال صلى الله عليه وسلم : أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله وعليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض ، عليك بطول الصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان عنك وعون لك على أمر دينك ، وإياك وكثرة الضحك فإنها تميت القلب وتذهب بنور الوجه ، عليك بالجهاد فإنه أجدر ألا تزدري نعمة الله عندك ، صل قرابتك وإن قطعوك ، قل الحق وإن كان مراً ولا تخف في الله لومة لائم ، ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك ولا تجد عليهم فيما تأتي ، وكفى بالمرء عيباً أن يكون فيه ثلاث خصال : أن يعرف الناس ما يجهل من نفسه ، ويستحي لهم مما هو فيه ، ويؤذي جليسه ، يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ولا روع كالكف ولا حسب كحسن الخلق .

هذه وصيتي فاحفظها واسع جهدك في تنفيذها وكن عند حسن ظني فيك فإني أتوسم فيك النبل والنجابة وآمل فيك الرشاد والهداية ، سدد الله خطاك وإلى الحق والخير هداك وفي كل أمر تولاك وأعزك بدينه وأيدك بنصره وأسبغ عليك نعمه وفضله إنه سميع مجيب وبالإجابة جدير نعم المولى ونعم النصير .

وصلى الله على سيدنا محمد الهادي البشير وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين .

شعبان 1428 هـ

حسن عباس زكي