الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا معنا اليوم الحكمة المائتان والسابع والخمسون من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين )
الميادين جمع ميدان , بكسر الميم وبفتحها وبه صدّر في القاموس وهو مجال الخليل , ثم استعير هنا لمحاربة النفوس ومجاهدتها , فهي تارة تكر عليه فتظفر به , وتارة يكر عليها فيظفر بها , وفي هذا المعنى قال شيخ شوخنا المجذوب رضي الله عنه :
سايس من النفس جهدك ... وصبح ومس عليها لعلها تدخل بيدك ... فتعود تصطــــــاد بها
فقد بين رضي الله عنه كيفية مجاهدتها , وعلمك الحيلة في أخذها , وذلك أن تدخل معها شيئاً فشيئاً فتعلمها الصمت وحده , ثم العزلة , ثم تقدمها للخراب شيئاً فشيئاً , تقدمها للقليل , فإذا استأنست به زدتها شيئاً آخر وهكذا ! فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ولا يعملها البطالة , فورده من العمل الذي تموت به لا يتركه , وقد كنت في حالة المجاهدة إذا هممت بترك وردي نادتني هواتف الأكوان حتى كنت في بعض الأيام تخاطبني الصبيان : يا هذا اليهودي حين نهتم بترك وردي من السؤال , وقد سمعت مراراً متعددة حين نستعمل خراباً : زد على يديك , وتارة يقول : زد صف سبيكتك وتارة نسمع يا عساس حين يسرقني شئ من الحس , وهكذا وكانت مجاهدتي لنفسي كلها سياسة لم أحملها من المرة الأولى إلا ما تطيقه حتى تستأنس به ثم نزيدها حتى كنت نفعل بها ما نشاء .
قال بعض العارفين : انتهى سير الطالبين إلى الظفر بنفوسهم فإن ظفروا بها وصلوا , وما ذكرته من السياسة للنفس والاحتيال عليها هو الصواب , قال في المباحث :
واحتل على النفس قرب حيلة ... انفع في النصر من قبيله
وأما إن حملها من أول مرة ما لا تطيقه فإنها تسقط وتمل وربما ترجع بالكلية , قال صلى الله عليه وسلم : " اكفلوا من العمل ما تطيقونه , فإن الله لا يمل حتى تملوا " " لا يكن أحدكم كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقي " والمنبت : هو المنقطع .
وحاصل ما ذكره الشيخ في هذه الحكمة أن الناس على قسمين : قسم لا سير لهم , إذ لا توجه لهم إلي الله فهم واقفون مع ظاهر الشريعة كل ما أباحته الشريعة أخذوه ثقيلاً كان على النفس أو خفيفاً , بل لا يأخذون إلا الخفيف لأنهم يقصدون رخص الشريعة وتسهيلها مما يوافق هواهم , فلم يغيروا من عوائدهم وشهواتهم شيئاً فعزهم وافر , وجاههم باق , ودنياهم في الزيادة وهؤلاء عوام المسلمين .
وقسم شاقت نفوسهم إلى حضرة الملك وغلبهم الشوق فتوجهوا إلى حضرته , واشتغلوا بمجاهدة نفوسهم ومحاسبتها , فكل ما يثقل عليها أدخلوها فيه وهي تموت وكل ما يخف عليها جنبوها منه وهي تبكي , هكذا يدومون عليها حتى ترتاض وتلين , وحينئذ تطاوعهم فيما يريدون فأول ما يجاهد المريد في ترك الدنيا أو التخفيف حتى لا يبقى ما يشغله عن ربه , ثم في ترك الناس والفرار منهم يتنكر لمن يعرف , ولا يتعرف لمن لا عرف , ثم في إسقاط المنزلة والجاه حتى يسقط من عين الناس , ويسقط الناس من عينه ثم في الذل والانكسار قلباً وقالباً , بالمشي بالحفا وتعرية الرأس وغير ذلك ؟ فإذا تحققت بالذل والتواضع والخمول والفقر وسكنت في ذلك واستحلته , فقد تمكن منها وملكها بل ملك الكون كله :
ونفسك تحوي بالحقيقة كلها أشرت بجد القول ما أنا خادع
فكل من ملك نفسه فقد ملك الوجود بأسره , فلولا مجاهدة النفوس ومحاربتها في هذه الميادين ما تحقق سير السائرين , إذ لا يتحقق السائر من القاعد إلا بمخالفة الهوي وخرق العوائد , فمن خرق عوائد نفسه حتى استوى عنده العز والذل والفقر والغنى , وغير ذلك من مكروهات النفوس , فقد تحقق سيره ووصوله ومن لم يقدر على تغيير شعرة من نفسه فلا سير له ولا وصول قال أبو عثمان الحيري : لا يكمل الرجل حتى يستوي قلبه في أربعة أشياء في المنع والعطاء والعز والذل , يعني أنه يكون عنده الذل كالعز , والمنع كالعطاء , لا ينقص منها
وقال محمد بن خفيف رضي الله عنه : قدم علينا بعض أصحابنا فاعتل وكان به علة البطن , فكنت أخدمه وآخذ منه الطست طول الليل , قال فغفوت مرة فقال لي نمت لعنك الله , فقيل له كيف وجدت نفسك عند قوله لعنك الله ؟ قال : كقوله رحمك الله .
وحكي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال : ما سررت في الإسلام إلا ثلاث مرات معدودات : كنت في مركب يوماً وكان به رجل يحكي الحكايات فيضحك منه الناس , وكان يقول رأيت وقتاً في معركة الترك علجاً ويقول هكذا , وكان يأخذ بلحيتي ويمد يده على حلقي والناس يضحكون منه , ولم يكن في ذلك المركب عنده أحد أصغر منى ولا أحقر , فسررت بذلك ويوماً آخر كنت جالساً فجاء إنسان فصافعني , ويوماً آخر كنت جالساً فجاء إنسان وبال علىّ .
يتبع إن شاء الله
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
|