الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا معنا اليوم الحكمة الثمانون بعد المائة من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( عنايته فيك لا لشئ منك , وأين كنت حين واجهتك عنايته , وقابلتك رعايته ؟ لم يكن في أزله إخلاص أعمال ولا وجود أحوال , بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال , ووجود النوال )
مما تواترت به الأخبار والنقول ووافق المنقول المعقول أن ما شاء الله يكون وما لم يشاء ربما لم يكن ومشيئة تعالى قديمة لأنها عين إرادته على وفق علمه وعلمه قديم , فكل ما يبرز في عالم الشهادة فإنما هو ما قدره الحق في عالم الغيب : " جفت الأقلام وطويت الصحف " قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } أي نظهرها , فلا سعادة ولا شقاء إلا وقد سبق بهما القدر والقضاء السعيد من سعد في بطن أمه والشقي في بطن أمه وقد تقدم قوله : ما من نفس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه . فإذا علمت ذلك أيها الإنسان اكتفيت بعلمه السابق عن طلبك اللاحق , وبقي طلبك عبودية , وأدباً مع الربوبية وإلا فعنايتك فيك سابقة على وجودك لا لشيء منك تستحق به عنايته ومنته , وأين كنت حين واجهتك عنايته في أزله حين سبقت لك منه العناية وكتبك في جملة أهل الرعاية والهداية ؟ ثم لما استنطقك يوم الميثاق أقررت بربوبيته , وأين كنت حين قابلتك رعايته وحفظه , وأنت في ظلمة الأحشاء حين أجرى عليك رزقه من عرق الدم , وحفظك في ذلك المستودع حتى اشتدت أعضاؤك وقويت أركانك ؟ فأخرجك إلى رفقه وما يسر لك من رزقه , لم يكن في أزله حين واجهتك عنايته ولا في مستودعك فى الرحم حين قابلتك رعاينه , إخلاص أعمال ولا وجود أحوال , تستحق بهما وجود النوال , بل لم يكن فى ذلك الوقت إلا محض الإفضال وعظيم النوال .
قال الواسطي رضي الله عنه : أقسام قسمت , ونعوت أجريت , كيف تستجلب بحركات أو تنال بمعاملات . وقال الشاعر:
فلا عمل مني إليه اكتسبتـــــــــــه سوى محض فضل لا بشيء يعلل
وقال آخر: وكنت قديماً أطلب الوصل منهم فلما أتاني العلم وارتقع الجهل
عملت بأن العبد لا طلب له فإن قربوا فضل وان بعدوا عدل
وأن اظهروا لم يظهروا وغير وصفهم وإن ستروا فالستر من أجلهم يحلو
وقال آخر:
قد كنت أحسب أن وصلك يشترى بنفائس الأموال والأرباح
وظننت جهلاً أن حبك هين تفنى عليه كرائم الأرواح
حتى رأيتك تجتبي وتخص من تختاره بلطائف الإمناح
فعلمت أنك لا تنال بحلية فلويت رأسي تحت طي جناحي
وجعلت في عش الغرام إقامتي فيه غدوي دائماً ورواحي
ولهذا لم يلتفت قلب العارف لخوف ولا رجاء , ولم يبق له في نفس غير وجه الله حاجة .
فتحصل أن الولاية وهي سر العناية لا تنال بحيلة ولا تدرك بطلب لكن من سبقت له العناية يسر لما أريد منه . قيل لذي النون : بم عرفت ربك ؟ قال : عرفت ربي بربي , ولولا ربي ما عرفت ربي اهـ .
وقيل لعلى كرم الله وجهه : هل عرفت الله بمحمد أوعرفت محمداً بالله ؟ قال : لو عرفت الله بمحمد ما عبدته ولكان محمد أوثق فىّ من الله , ولكن الله عرفنى بنفسه فعرفت محمداً صلى الله عليه وسلم بالله . وهنا انتهت معرفة العارفين , أعني حين تحققوا بسابق القدر غابوا عن أنفسهم في وجود معروفهم , فاستراحوا واستظلوا في ظل الرضى والتسليم , وهبّ عليهم من جناب المعارف نسيم لكن اختلفت أحوالهم في حال نهايتهم :
* الماء واحد والزهر ألوان *
فمنهم من يغلب عليه الهيبة والحياء . قال بعضهم : من ازدادت معرفته بالله ازدادت هبيته له , ومن كان بالله أعرف كان له أخوف , وفيهم قال الله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء }
ومنهم من يغلب عليه الشوق والاشتياق . قال بعضهم : من عرف الله اتسم بالبقاء واشتاق إلى اللقاء وضاقت عليه الدنيا بحذافيرها .
وقال السرى : أجل مقام العارف الشوق يقول الله تبارك وتعالى : " إن لي عباداً من عبادي أحبهم ويحبوني وأشتاق إليهم ويشتاقون إليّ وأذكرهم ويذكروني , وأنظر إليهم وينظرون إلىّ من سلك طريقهم أحببته , ومن عدل عنهم مقته قيل يا ربنا وما علامتهم ؟ قال : يراعون الظلال بالنهار كما يراعى الراعي الشفيق غنمه , ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب , فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة , وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلىّ أقدامهم وافترشوا إلىّ وجوههم , وناجوني بكلامي , وتملقوا إلىّ بانعامى , فمن صارخ وباك، ومن متأوه وشاك ومن قائم وقاعد، ومن راكع وساجد ، بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشكون من حبي , أول ما أعطيهم ثلاثاً : أقذف في قلوبهم من نوري , فيخبرون عني كما أخبر عنهم والثانية : لو كانت السموات والأرض وما فيهن من موازينهم لا ستقللتها لهم والثالثة : أقبل عليهم بوجهي أترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ما أريد أن أعطيه " اهـ
وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه : غيبني الشوق يوما فقلت : يا رب إن أعطيت أحداً من المحبين ما تسكن به قلوبهم قبل لقائك فاعطني ذلك فقد أضرني القلق فرأيت في النوم كأنه أوقفني بين يديه وقال : يا إبراهيم أما استحييت مني أن تسألني أن أعطيك ما يسكن قلبك قبل لقائي , وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه ؟ فقلت : يا رب تهت فلم أدر ما أقول فاغفر لي وعلمني ما أقول فقال : قل اللهم رضي بقضائك , وصبرني على بلائك وأوزعني شكر نعمائك .
ومنهم من تغلب عليه السكينة في القلب , لأن العلم واليقين يوجبان السكون والطمأنينة فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته قال تعالى : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب }
ومنهم من يغلب عليه الدهش والحيرة . قال بعضهم : أعرف الناس بالله أشدهم تحيراً فيه .وفي الحديث : " اللهم زدني فيك تحيراً "
ومنهم من يغلب عليه التواضع والخضوع والذل والانكسار قال الجنيد : العارف كالارض يطأها البارّ والفاجر , وكالسحاب يظل الأحمر والابيض , وكالمطر يسقى الماشي والراشي .
ومنهم من تتسع معرفته ويخوض بحار التوحيد , فلا يكدره شىء ولا يسلط عليه شيء , بل يأخذ النصيب من كل شيء ولا يؤخذ من نصيبه , يأنس بكل شىء , ولا يستوحش من شىء اهـ
قال أبو تراب : العارف به يصفو كدر كل شىء ولا يكدره شىء اهـ
وقال أبو سليمان الداراني : إن الله يفتح للعارف على فراشه مالا يفتح له وهو قائم يصلي .
وقال بعضهم : العارف ن أنس بذكر الله حتى استوحش من خلقه وافتقر إلى الله تبارك وتعالى , فأغناه عن خلقه ,وذل الى الله تبارك وتعالى فأعزه الله فى خلقه .
وفي زبور داوود عليه السلام : " يا داود بلغ أهل رضائي أني حبيب لمن أحبني وجليس لمن جالسني , وأنيس لمن أنس بذكرى , وصاحب لمن صاحبنى ومختار لمن اختارني , ومطيع لمن أطاعتي , بعزتي حلفت ما أحبني عبد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته أشد مما أحبني , ومن طلبني وجدني , ومن طلب غيري لم يجدني فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي , وأنسوا بذكري أؤنسكم بى أسرعوا إلى محبتي أسرع إلى محبتكم فإني خلقت طينة أحبتى من طينة إبراهيم خليلى وموسى كليمي وعيسى روحى ومحمد صفيى وخلقت قلوب المشتاقين من نورى ونعمتها بجلالي وجمالي " اهـ
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
|