نبدأ بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
قال سيدى ابن عطاء الله السكندرى عن أهل الخطوة ( الطى ) :
( الطي الحقيقي أن تطوي مسافة الدنيا عنك حتى ترى الآخرة أقرب إليك منك )
الطي : هو اللف والضم بحيث يصير الطويل قصيراً والكبير صغيرا ً يقال طويت الثوب أي ضممته وينقسم عند الصوفية إلى أربعة أقسام : طي الزمان , وطي المكان , وطي الدنيا , وطي النفوس
فأما طي الزمان : فهو أن يقصر في موضع ويطول في موضع آخر , كمن مر عليه سنون في موضع وفي موضع آخر ساعة أو يوم , كالرجل الذي خرج يغتسل في الفرات يوم الجمعة قرب الزوال فلما فرغ من غسله لم يجد ثيابه , فسلك طريقاً حتى دخل مصر فتزوج فيها وولد له أولاد وبقي سبع سنين , ثم ذهب يغتسل يوم الجمعة بنيل مصر , فلما فرغ فإذا ثيابه الأولى , فسلك طريقاً فإذا هو ببغداد قبل صلاة الجمعة من ذلك اليوم الذي خرج فيه والحكاية مطولة للفرغاني في شرح التائبة
وأما طي المكان : فمثاله أن يكون بمكة مثلاً فإذا هو بغيرها من البلدان وهذا مشهور لأولياء الله قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : والله ما صار الأولياء من قاف إلى قاف حتى يلقوا رجلاً مثلنا فإذا لاقوه كان بغيتهم .
وأما طي الدنيا : فهو أن تطوي عنك مسافتها بالزهد فيها والغيبة عنها وحصول اليقين التام في قلبك حتى يكون الآتي عندك واقعاً أو كالواقع , وسيأتي للشيخ : لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها , ولرأيت الدنيا وكسفة الفناء ظاهرة عليها وسيأتي تتمة الكلام على هذه الحكمة ثم أن شاء الله .
وأما طي النفوس : فهو بالغيبة في الله عنها , ولذلك يتحقق الزوال وتمام الوصال وقد ذكره الشيخ بقوله فيما يأتي : ليس الشأن أن تطوي لك الأرض , فإذا أنت بمكة أو غيرها من البلدان , إنما الشأن أن تطوي عنك أوصاف نفسك فإذا أنت عند ربك اه
وهذا هو الطي الحقيقي المعتبر عند المحققين لاطي الزمان أو المكان إذ قد يكون أستدراجاً أو مكراً أو تخيلاً وسحراً فالطي الحقيقي هو : أن تطوي عنك مسافة الدنيا كلها حتى يكون الموت أقرب إليك من نفسك التي بين جنبيك وكما قال الصديق رضي الله عنه : كل أمرء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وحتى ترحل عنها بالكلية فلا تبقي فيك منها بقية , هنالك ترحل إلى عالم الملكوت وتكشف لك أسرار الجبروت , وقد قيل في قوله عليه السلام : " الدنيا خطوة مؤمن " . بمعنى أنه يتخطاها بالزهد فيها
وقال بعضهم لا تتعجبوا ممن يدخل يده في جيبه فيخرج ما يريد ولكن تعجبوا ممن يضع يده في جيبه ولم يجد شيئاً ولم يتغير
وقيل لأبي محمد المرتعش : أن فلاناً يمشي على الماء قال عندي من مكنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم من المشي على الماء وفي الهواء اه
ومخالفة الهوى أنما تكون بالزهد في كل شيء والغيبة عن كل شيء , وكان شيخ شيخنا رضي الله عنه يقول : لا تفرحوا للفقير إذا رأيتموه يصلي كثيراً أو يذكر كثيراً أو يصوم كثيراً أو يعتزل كثيراً حتى تروه زهد في الدنيا ورحل عنها ولم يبق له التفات إليها فحينئذ يفرح به ولو قلت صلاته وصيامه وذكره وعزلته .
قلت : ومثل هذا تقدم في قوله: ما قل عمل برز من قلب زاهد وكذلك قال في التنوير : لا تدل على فهم العبد كثرة عمله ولا مداومته على ورده وإنما يدل على نوره وفهمه غناه بربه , وأنحياشه إليه بقلبه وتحرره من رق الطمع وتحليه بحلية الورع , وبذلك تحسن الأعمال وتزكوا الأحوال اه
فما قاله شيخ شيخنا صحيح لكن لا يفهمه إلا أهل الفن من أهل الذوق , إذ لا يجتمع مجاهدة ومشاهدة وإنما تكون المجاهدة أولاً , فإذا حصلت المشاهدة في الباطن ركدت الجوارح في الظاهر , وما بقي إلا فكرة أو نظرة والأدب مع الحضرة وربما يعترض على الشيخ من لم يعرف مقصوده من جهلة علم الطريق وبالله التوفيق .
وإنما يتحقق طي مسافة الدنيا بتحقق الزهد فيها ولا يتحقق الزهد فيها إلا برفع الهمة عن الخلق والتعلق بالملك الحق وبالإياس مما في أيدي الناس .
|