اليوم الثامن عشر:-
غزوة الخندق وتسمى أيضاً غزوة الأحزاب:-
سببها:-
كانت غزوة الخندق في شوال من السنة الخامسة، وكان سببها أن نفرا من اليهود، منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وحيي بن أخطب النضريون، وهوذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل -وهم كلهم يهود، وهم الذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا- خرجوا في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل، فأتوا مكة، فدعوا قريشا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك، فأجابهم أهل مكة إلى ذلك. ثم خرج اليهود المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم.
فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على فزارة والحارث بن عوف المري على بني مرة ومسعود بن رخيلة على أشجع. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم إليه شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق، فرضي رأيه. وقال المهاجرون يومئذ: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" .
وعمل المسلمون في الخندق مجتهدين، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة، من الحاجة التي لا بد له منها، يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستأذنه في اللحوق بحاجته، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله، رغبة في الخير، واحتسابا له.
فأنزل الله فيهم قوله تعالى" إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله، إن الله غفور رحيم"
ونكص المنافقون، وجعلوا يتسللون لواذا, فنزل فيهم قوله تعالى" لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا، قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم ".
وكان من فرغ من المسلمين من حصته عاد إلى غيره فأعانه حتى كمل الخندق.
ما ظهر من معجزات سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الغزوة:
وكان فيه آيات بينات وعلامات للنبوات مذكورات عند أهل السير والآثار، ومنها أن كدية اعتاصت على المسلمين – والكدية هي الحجر الضخم الصلد-، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فضربها بالفأس ضربة طار منها الشرار وقطع منها الثلث، وقال: "الله أكبر فتح قيصر، والله إني لأرى القصور الحمر", ثم ضرب الثانية فقطع منها الثلث الثاني، وقال: "الله أكبر فتح كسرى، والله إني لأرى القصور البيض", ثم ضرب الثالثة فقطع الثلث الباقي، وقال: "الله أكبر فتح اليمن، والله إني لأرى باب صنعاء" وكأنما سلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في ذلك اليوم مفاتيح تلك البلدان.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وزمان عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فو الذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
وقد نصر الله عبده وصدق وعده، والحمد لله رب العالمين.
البركة في تمر ابنة بشير
قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن مينا أنه حدث: أن ابنة لبشير بن سعد، أخت النعمان بن بشير، قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما، قالت: فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: فقلت: يا رسول الله، هذا تمر، بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه، قال: هاتيه، قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق: أن هلم إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
البركة في طعام جابر
قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن مينا، عن جابر بن عبد الله، قال: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، فكانت عندي شويهة، غير جد سمينة -أي شاه صغيرة غير كاملة السمن -, قال: فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمرت امرأتي، فطحنت لنا شيئا من شعير، فصنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق- قال: وكنا نعمل فيه نهارنا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا- قال: قلت: يا رسول الله، إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأحب أن تنصرف معي إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده.
قال: فلما أن قلت له ذلك، قال: نعم، ثم أمر صارخا فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله، قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل الناس معه، قال: فجلس وأخرجناها إليه. قال: فبرك وسمى الله ، ثم أكل، وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة. وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى نزلوا -بظهر سلع في ثلاثة آلاف، وضربوا عسكرهم، والخندق بينهم وبين المشركين, واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي وكان صاحب عقد بني قريظة ورئيسهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاقده وعاهده, فلما سمع كعب بن أسد بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، فقال له: افتح لي يا كعب بن أسد، فقال: لا أفتح لك فإنك رجل مشئوم تدعوني إلى خلاف محمد وأنا عاقدته وعاهدته ولم أر فيه إلا وفاء وصدقا، فلست بناقض ما بيني وبينه. فقال حيي: افتح لي حتى أكلمك فأنصرف عنك، قال: لا أفعل، قال: إنما تخاف أن آكل معك جشيشتك, فغضب كعب وفتح له، فقال: هل إنما جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش وسادتها وغطفان وقادتها قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه.
فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام – أي السحاب غير الممطر- لا غيث فيه، ويحك يا حيي! دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه. فلم يزل حيي بكعب يعده ويغره، حتى رجع إليه وعاهده على خذلان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن يصير معهم.
وقال له حيي بن أخطب: إن انصرفت قريش وغطفان دخلت عندك بمن معي من يهود.
فلما انتهى خبر كعب وحيي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعث سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وسيد الأوس سعد بن معاذ وبعث معهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير رضي الله عنهم أجمعين، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا إلى بني قريظة فإن كان ما قيل لنا حقا فالحنوا لنا لحنا نعرفه -أي تكلموا بكلام يفهم منه الغرض ولا يفهمه غيرنا-، ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كان كذبا فاجهروا به للناس" ,فانطلقوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: لا عهد له عندنا. فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فالذي بيننا وبينهم أكبر من المشاتمة, ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من المسلمين، فقالا: عضل والقارة, يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب بعث الرجيع: خبيب وأصحابه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشروا يا معشر المسلمين".
وعظم عند ذلك البلاء ,وأتى المسلمين عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنوا بالله الظنون، وأظهر المنافقون كثيرا مما كانوا يسرون، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها، وممن قال ذلك أوس بن قيظي.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصا.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان وأهل نجد ويرجع بقومهما عنهم. وكانت هذا المقالة مراوضة ولم تكن عقدا, فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما قد أنابا ورضيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما واستشارهما، فقالا: يا رسول الله هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أو أمر تصنعه لنا؟ قال: "بل أمر أصنعه لكم، والله ما أصنعه إلا لأنني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة". فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وما طمعوا قط بأن ينالوا منا ثمرة إلا بشراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم, فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال لهم: "أنتم وذاك". وقال لعيينة والحارث: "انصرفا، فليس لكم عندنا إلا السيف", وتناول الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم والمشركون يحاصرونهم ولا قتال منهم إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب الفهري وكانوا فرسان قريش وشجعانهم أقبلوا حتى وقفوا على الخندق, فلما رأوه قالوا: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فضربوا خيلهم فاقتحمت منه وصاروا بين الخندق وبين سلع.
وخرج سيدنا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم, وكان عمرو بن عبد ود قد أثبتته الجراح يوم بدر، فلم يشهد أحدا وأراد يوم الخندق أن يرى مكانه, فلما وقف هو وخيله نادى: هل من مبارز؟ فبرز له سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: يا عمرو إنك عاهدت الله فيما بلغنا عنك أنك لا تدعى إلى إحدى خلتين إلا أخذت إحداهما، قال: نعم، وقال: إني أدعوك لله عز وجل والإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك, قال: وأدعوك إلى البراز، قال: يا بن أخي والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك، فقال له سيدنا الإمام علي كرم الله وجهه: أنا والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو بن عبد ود العامري ونزل عن فرسه، وسار نحو سيدنا علي رضي الله عنه ، فتنازلا وتجاولا، وثار الغبار بينهما حتى حال دونهما، فما انجلى الغبار حتى رؤي سيدنا علي رضي الله عنه على صدر عمرو يقطع رأسه, فلما رأى أصحابه أنه قد قتله سيدنا علي اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين، وقال سيدنا علي رضي الله عنه في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت دين محمد بضراب
لا تحسبن الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب
نازلته وتركته متجدلا ... كالجذع بين دكادك وروابي
ورُمي يومئذ سيدنا سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل وهو وريد في الذراع ، رماه حبان بن قيس بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي. فلما أصابه قال له: خذها إليك وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار، وقيل: بل الذي رماه أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم.
إشكالية مردودة:-
يذكر بعض أهل السير أن هناك حادثة حدثت يوم الخندق خاصة بسيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه وهي : أن السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنهاكانت تنزل معه في حصنه أثناء حرب الخندق ولاحظت أن يهوديا يطيف به, فطلبت إلى سيدنا حسان رضي الله عنه أن ينزل إليه فيقتله، فقال لها: والله ما أنا بصاحب هذا، فأخذت هي عمودا ونزلت إلى الرجل وقتلته، ثم صعدت إلى سيدنا حسان رضي الله عنه، وقالت له: انزل فخذ سلبه.
ومن يقرأ هذا يرى وكأن سيدنا حسان والعياذ بالله وأستغفر الله من هذا القول كان جباناً وحاشاه من ذلك رضي الله عنه وأرضاه .
وعلى هذه الإشكالية يرد الإمام السهيلي فيقول: ((ومجمل هذا الحديث عند الناس على أن حسان كان جبانا شديد الجبن, وقد دفع هذا بعض العلماء وأنكره، وذلك أنه حديث منقطع الإسناد، وقال: لو صح هذا لهجي به حسان، فإنه كان يهاجى الشعراء كضرار وابن الزبعري وغيرهما، وكانوا يناقضونه ويردون عليه، فما عيره أحد منهم بجبن، ولا وسمه به، فدل هذا على ضعف حديث ابن إسحاق، وإن صح فلعل حسان أن يكون معتلا في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال، وهذا أولى ما تأول عليه. وممن أنكر أن يكون هذا صحيحا أبو عمر رحمه الله في كتاب الدرر له))أهـ.
وعقب على هذا الحديث أبو ذر أيضا بما لا يخرج عما ذكره السهيلي.
ويقوي ذلك كله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينصب له منبراً بالمسجد ويقول : قل وروح القدس يؤيدك . وما يقال ذلك لجبان.
فكان لابد من توضيح هذه الإشكالية وأكتفي بكلام الإمام السهيلي رحمه الله فيها ففيه الكفايه والعناية.
شأن نعيم في تخذيل المشركين عن المسلمين
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت رجل واحد من غطفان، فخذل عنا إن استطعت- وخذل عنا أي أدخل بين القوم حتى يخذل بعضهم بعضا - فإن الحرب خدعة".
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان ينادمهم في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: قل، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، وفيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، فإن رأوا نهزة أصابوا وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا.
ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم معشر قريش وفراقي محمدا وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا علي، قالوا: نفعل. قال: أتعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما كان من خلافهم محمدا وأرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رهنا رجالا ونسلمهم إليكم لتضربوا أعناقهم، ثم نكون معكم على من بقي منهم حتى تستأصلهم. ثم أتى غطفان، فقال مثل ذلك. فلما كانت ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين أرسل أبو سفيان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نفاجيء محمدا. فأرسلوا إليهم إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما نال من تعدى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم أحدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا.
فلما رجع الرسول بذاك قالوا: صدقنا والله نعيم بن مسعود. فردوا إليهم الرسل، وقالوا: والله لا نعطيكم رهنا أبدا، فاخرجوا معنا إن شئتم، وإلا فلا عهد بيننا وبينكم، فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم بن مسعود. وخذل بينهم واختلفت كلمتهم وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد، فجعلت الريح تقلب أبنيتهم، وتكفأ قدورهم.
فلما اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم واستتر في غمارهم، وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش ليتعرف كل امريء منكم جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد جليسي وقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة ولقينا من هذه الريح ما ترون، ما يستمسك لنا بناء ولا تثبت لنا قدر ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا، فإني مرتحل. ووثب على جمله.
قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إذ بعثني، وقال لي: "مر إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدث شيئا" -لقتلته بسهم. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رحيلهم فوجدته قائما يصلي، فأخبرته، فحمد الله.
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب رجع إلى المدينة ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل عليه السلام في صورة دحية بن خليفة الكلبي على بغلة عليه قطيفة ديباج فقال له: يا محمد إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها، إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي في الناس: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة". وكان سعد بن معاذ إذ أصابه السهم دعا ربه، فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
وإلى هنا أحباب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نكون قد إنتهينا من الكلام عن هذه الغزوة العظيمة وغداً بمشيئة الله موعدنا مع غزوة جديدة من غزوات سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.