كتمان السر
ـــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أعظم و أشرف المرسلين , وخاتم النبيين ورحمة الله للعالمين سيدنا ومولانا محمد , الطاهر الروح والجسد , خير من صلى وصام وقام وركع وسجد , وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين
وبعد...
جاء في كتاب / أدب الدنيا والدين (1 / 306 - 308) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي كِتْمَانِ السِّرّ]
كِتْمَانُ السِّرِّ الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي كِتْمَانِ السِّرِّ:
اعْلَمْ أَنَّ كِتْمَانَ الْأَسْرَارِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ النَّجَاحِ، وَأَدْوَمِ لِأَحْوَالِ الصَّلَاحِ.
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَعِينُوا عَلَى الْحَاجَاتِ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ» .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: سِرُّك أَسِيرُك فَإِنْ تَكَلَّمْت بِهِ صِرْت أَسِيرَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ كُنْ جَوَادًا بِالْمَالِ فِي مَوْضِعِ الْحَقِّ، ضَنِينًا بِالْأَسْرَارِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ. فَإِنَّ أَحْمَدَ جُودِ الْمَرْءِ الْإِنْفَاقُ فِي وَجْهِ الْبِرِّ، وَالْبُخْلُ بِمَكْتُومِ السِّرِّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَ الْخِيَارُ إلَيْهِ، وَمَنْ أَفْشَاهُ كَانَ الْخِيَارُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَا أَسَرَّك مَا كَتَمْت سِرَّك. وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ: مَا لَمْ تُغَيِّبْهُ الْأَضَالِعُ فَهُوَ مَكْشُوفٌ ضَائِعٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَهُوَ أَنَسُ بْنُ أُسَيْدٍ:
وَلَا تُفْشِ سِرَّك إلَّا إلَيْك ... فَإِنَّ لِكُلِّ نَصِيحٍ نَصِيحَا
فَإِنِّي رَأَيْتُ وُشَاةَ الرِّجَالِ ... لَا يَتْرُكُونَ أَدِيمًا صَحِيحَا
وَكَمْ مِنْ إظْهَارِ سِرٍّ أَرَاقَ دَمَ صَاحِبِهِ، وَمَنَعَ مِنْ نَيْلِ مَطَالِبِهِ، وَلَوْ كَتَمَهُ كَانَ مِنْ سَطْوَتِهِ آمِنًا، وَفِي عَوَاقِبِهِ سَالِمًا، وَلِنَجَاحِ حَوَائِجِهِ رَاجِيًا.
وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ: مَنْ حَصَّنَ سِرَّهُ فَلَهُ بِتَحْصِينِهِ خَصْلَتَانِ: الظَّفَرُ بِحَاجَتِهِ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ السَّطَوَاتِ.
وَإِظْهَارُ الرَّجُلِ سِرَّ غَيْرِهِ أَقْبَحُ مِنْ إظْهَارِهِ سِرَّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَبُوءُ بِإِحْدَى وَصْمَتَيْنِ: الْخِيَانَةُ إنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا، أَوْ النَّمِيمَةُ إنْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا.
فَأَمَّا الضَّرَرُ فَرُبَّمَا اسْتَوَيَا فِيهِ وَتَفَاضَلَا. وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ، وَهُوَ فِيهِمَا مَلُومٌ.
وَفِي الِاسْتِرْسَالِ بِإِبْدَاءِ السِّرِّ دَلَائِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ مَذْمُومَةٍ:
إحْدَاهَا: ضِيقُ الصَّدْرِ، وَقِلَّةُ الصَّبْرِ، حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَتَّسِعْ لِسِرٍّ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَبْرٍ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ ... وَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ
إذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ ... فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ
وَالثَّانِيَةُ: الْغَفْلَةُ عَنْ تَحَذُّرِ الْعُقَلَاءِ، وَالسَّهْوُ عَنْ يَقِظَةِ الْأَذْكِيَاءِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: انْفَرِدْ بِسِرِّك وَلَا تُودِعْهُ حَازِمًا فَيَزِلَّ، وَلَا جَاهِلًا فَيَخُونَ.
وَالثَّالِثَةُ: مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْغَدْرِ، وَاسْتَعْمَلَهُ مِنْ الْخَطَرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: سِرُّك مِنْ دَمِك فَإِذَا تَكَلَّمْت بِهِ فَقَدْ أَرَقْتَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْأَسْرَارِ مَا لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ مُطَالَعَةِ صَدِيقٍ مُسَاهِمٍ، وَاسْتِشَارَةِ نَاصِحٍ مُسَالِمٍ.
فَلْيَخْتَرْ الْعَاقِلُ لِسِرِّهِ أَمِينًا إنْ لَمْ يَجِدْ إلَى كَتْمِهِ سَبِيلًا، وَلْيَتَحَرَّ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يَأْتَمِنُهُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْدِعُهُ إيَّاهُ.
فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَمْوَالِ أَمِينًا كَانَ عَلَى الْأَسْرَارِ مُؤْتَمَنًا.
وَالْعِفَّةُ عَنْ الْأَمْوَالِ أَيْسَرُ مِنْ الْعِفَّةِ عَنْ إذَاعَةِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُذِيعَ سِرَّ نَفْسِهِ بِبَادِرَةِ لِسَانِهِ، وَسَقَطِ كَلَامِهِ،
وَيَشُحُّ بِالْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ، حِفْظًا لَهُ وَضَنًّا بِهِ، وَلَا يَرَى مَا أَذَاعَ مِنْ سِرِّهِ كَبِيرًا فِي جَنْبِ مَا حَفِظَهُ مِنْ يَسِيرِ مَالِهِ مَعَ عِظَمِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ
عَلَيْهِ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ أُمَنَاءُ الْأَسْرَارِ أَشَدَّ تَعَذُّرًا وَأَقَلَّ وُجُودًا مِنْ أُمَنَاءِ الْأَمْوَالِ.
وَكَانَ حِفْظُ الْمَالِ أَيْسَرَ مِنْ كَتْمِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّ إحْرَازَ الْأَمْوَالِ مَنِيعَةٌ وَإِحْرَازَ الْأَسْرَارِ بَارِزَةٌ يُذِيعُهَا لِسَانٌ نَاطِقٌ، وَيُشِيعُهَا كَلَامٌ سَابِقٌ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْقُلُوبُ أَوْعِيَةُ الْأَسْرَارِ، وَالشِّفَاءُ أَقْفَالُهَا وَالْأَلْسُنُ مَفَاتِيحُهَا، فَلْيَحْفَظْ كُلُّ امْرِئٍ مِفْتَاحَ سِرِّهِ.
وَمِنْ صِفَاتِ أَمِينِ السِّرِّ أَنْ يَكُونَ ذَا عَقْلٍ صَادٍّ، وَدِينٍ حَاجِزٍ، وَنُصْحٍ مَبْذُولٍ، وَوُدٍّ مَوْفُورٍ، وَكَتُومًا بِالطَّبْعِ.
فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَمْنَعُ مِنْ الْإِذَاعَةِ، وَتُوجِبُ حِفْظَ الْأَمَانَةِ، فَمَنْ كَمُلَتْ فِيهِ فَهُوَ عَنْقَاءُ مُغْرِبٍ.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: قُلُوبُ الْعُقَلَاءِ حُصُونُ الْأَسْرَارِ.
وَلْيَحْذَرْ صَاحِبُ السِّرِّ أَنْ يُودِعَ سِرَّهُ مَنْ يَتَطَلَّعُ إلَيْهِ، وَيُؤْثِرُ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ طَالِبَ الْوَدِيعَةِ خَائِنٌ.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: لَا تُنْكِحْ خَاطِبَ سِرِّك. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
لَا تَدَعْ سِرًّا إلَى طَالِبِهِ ... مِنْك فَالطَّالِبُ لِلسِّرِّ مُذِيعُ
وَلْيَحْذَرْ كَثْرَةَ الْمُسْتَوْدَعِينَ لِسِرِّهِ فَإِنَّ كَثْرَتَهُمْ سَبَبُ الْإِذَاعَةِ، وَطَرِيقٌ إلَى الْإِشَاعَةِ؛ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مُعْوِزٌ، وَلَا بُدَّ إذَا كَثُرُوا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجِدُ سَبِيلًا إلَى نَفْيِ الْإِذَاعَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ ذَنْبٌ،
وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ عَتْبٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كُلَّمَا كَثُرَتْ خِزَانُ الْأَسْرَارِ ازْدَادَتْ ضَيَاعًا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ ... وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِي
وَقَالَ آخَرُ:
فَلَا تَنْطِقْ بِسِرِّك كُلُّ سِرٍّ ... إذَا مَا جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ فَاشِي
ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنْ إذَاعَتِهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ إدْلَالِهِمْ وَاسْتِطَالَتِهِمْ، فَإِنَّ لِمَنْ ظَفِرَ بِسِرٍّ مِنْ فَرْطِ الْإِدْلَالِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِطَالَةِ،
مَا إنْ لَمْ يَحْجِزْهُ عَنْهُ عَقْلٌ وَلَمْ يَكُفَّهُ عَنْهُ فَضْلٌ، كَانَ أَشَدَّ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّ وَخُضُوعِ الْعَبْدِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أَفْشَى سِرَّهُ كَثُرَ عَلَيْهِ الْمُتَأَمِّرُونَ.
فَإِذَا اخْتَارَ وَأَرْجُو أَنْ يُوَفَّقَ لِلِاخْتِيَارِ، وَاضْطَرَّ إلَى اسْتِيدَاعِ سِرِّهِ وَلَيْتَهُ كُفِيَ الِاضْطِرَارُ، وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ لَهُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِيهِ بِالتَّحَفُّظِ
وَالتَّنَاسِي لَهُ حَتَّى لَا يَخْطِرَ لَهُ بِبَالٍ وَلَا يَدُورَ لَهُ فِي خَلَدٍ. ثُمَّ يَرَى ذَلِكَ حُرْمَةً يَرْعَاهَا وَلَا يُدِلُّ إدْلَالَ اللِّئَامِ.
وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا أَسَرَّ إلَى صَدِيقٍ لَهُ حَدِيثًا ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْت؟ قَالَ: بَلْ جَهِلْتُ. قَالَ: أَحَفِظْت؟ قَالَ: بَلْ نَسِيتُ.
وَقِيلَ لِرَجُلٍ: كَيْفَ كِتْمَانُك لِلسِّرِّ؟ قَالَ: أَجْحَدُ الْخَبَرَ وَأَحْلِفُ لِلْمُسْتَخْبِرِ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى نِسْيَانِ مَا اشْتَمَلَتْ ... مِنِّي الضُّلُوعُ عَلَى الْأَسْرَارِ وَالْخَبَرِ
لَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ يَنْسَى سَرَائِرَهُ ... إذَا كُنْتُ مِنْ نَشْرِهَا يَوْمًا عَلَى خَطَرِ
وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ تَذَاكَرَ النَّاسُ فِي مَجْلِسِهِ حِفْظَ السِّرِّ فَقَالَ ابْنُهُ:
وَمُسْتَوْدَعِي سِرًّا تَضَمَّنْتُ سِرَّهُ ... فَأَوْدَعْتُهُ مِنْ مُسْتَقَرِّ الْحَشَى قَبْرَا
وَلَكِنَّنِي أُخْفِيهِ عَنِّي كَأَنَّنِي ... مِنْ الدَّهْرِ يَوْمًا مَا أَحَطْتُ بِهِ خُبْرَا
وَمَا السِّرُّ فِي قَلْبِي كَمَيْتٍ بِحُفْرَةٍ ... لِأَنِّي أَرَى الْمَدْفُونَ يَنْتَظِرُ النَّشْرَا