العنصر الأول – التخطيط
للتخطيط أصل في المجتمع الإسلامي . مستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .
ففي القرآن الكريم دعوة إلي التخطيط في كل عمل . وفي قصصه مثل عالية لذلك . وأعمال الرسول " صلي الله عليه وسلم " كلها قائمة علي إعداد وتخطيط .
وهذه نماذج منها :
قال تعالي : { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) }
( يوسف : 47-49 ).
فيوسف عليه السلام كما بينت هذه الآيات أرشد إلي خطة لمواجهة الأعوام القحط والمجاعة المتوقعة .
** قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات :
{ أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات } .
ثم أرشدهم إلي ما يفيدونه في تلك السنين فقال : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ }. أي ما استغللتم في هذه السبع السنين الخصب فادخروه في سنبله ليكون أبقي وأبعد عن إسراع الفساد اليه إلا المقدار الذي تأكلونه . وليكن قليلاً. قليلاً لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد ... لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب ...
( تفسير ابن كثير ج2 ص480 بتصرف ) .
_ وضع يوسف " عليه السلام " الخطة التي وضحها في تفسيره لرؤيا الملك كالآتي :
1) الجد والدأب في العمل الزراعي لزيادة الإنتاج وتحديد مدة الخطة :
{ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا }
2) التخطيط السليم في التخزين لصيانة الثمار أطول مدة ممكنة لمواجهة سنوات القحط :
{ فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ }
3) الاقتصاد في الاستهلاك والاقتصار منه علي القدر الضروري :
{ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ }
4) حسن التصرف في المدخر أعوام القحط لتحقيق فائض ضروري لإعادة الاستثمار عندما تتهيأ الظروف المناسبة :
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ}
5) وهذا الفائض الذي اقتضت الضرورة الحرص عليه : يجب إحكام التصرف فيه وتخطيط الاستفادة منه . حتى تأتي السنة التي يرتقب الفيضان فيها :
{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }
العنصر البشري في الخطة :
ولقد أشارت الآيات الكريمة إلي جوانب أخري أرتبط بها نجاح الخطة ارتباطاً مباشراً . وأهمها جانبان : يجمعهما عنصر واحد هو العنصر البشري وعلاقته بنجاح الخطة :
1) الجانب الأول : يتعلق بيوسف نفسه . وفي هذا الجانب نري أمرين :
_ أولهما : أنه لم يرض ابتداء العمل في هذا الأمر وظلال الشك من حوله ، فحينما طلبه الملك ليستخلصه لنفسه قال للرسول ما قصه القرآن الكريم :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) }
( يوسف : 50 )
فلما ظهرت براءة يوسف"عليه السلام"وتجلي نقاؤه قال الملك ما قصه القرآن :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) }
( يوسف : 54 )
حينئذ طلب يوسف من الملك أن يجعله علي خزائن الأرض :{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) }
ومن هنا نجد تطبيقاً سليماً لقاعدة { الرجل المناسب في المكان المناسب } .
وإذا كان يوسف " عليه السلام " قد طلب إظهار براءته ، فقد كان لهذا أثره العلمي في توفر الثقة فيه والاطمئنان إلي أخلاقه . وأنه لن يستغل مكانه الذي يسيطر فيه علي الأقوات في محاباة أحد ، أو البطش بأحد ، أو الانحراف الذي قد يسوق ما في يد الفرد من سلطة .
** ومن هنا تظهر قوة التكامل بين الخطة والمخططين **
بين حساب الأرقام وحساب الأخلاق ، بين الأسس المادية والقيم الروحية ، بين الدين والحياة .
2) الجانب الثاني : يتجلي في اختيار المعاونين الذين ساعدوه في عمله . فعندما جاء أهله { فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } و {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} ذهب رجاله يبحثون عن صواع الملك فوجدوه في رحل أخ يوسف ، قال أخوة يوسف : { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فقال يوسف : { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ } فكان من رجال يوسف العون الصادق علي تنفيذ أوامره بدقة وهدوء .
ومن هنا نجد انعكاس أخلاق يوسف عليهم ، وضرورة العامل البشري علي مستوي القيادة والمستوي الشعبي في نجاح الخطة بعد التأكد من صحة أسسها المادية.
هذه قصة تخطيط أنزلها الله تبارك وتعالي علي رسوله الكريم " صلي الله عليه وسلم " ، استطاع بها يوسف " عليه السلام " أن يحل نمطاً من أنماط المعادلة الصعبة موازناً بين جوانب الإنتاج والاستهلاك بما يحقق الخير معيداً استغلال المدخرات . معتنياً في نفس الوقت بكل من الأسس المادية للخطة وجوانبها البشرية . مثيراً حوافز العمل المادي مع صيانته بضوابط من القيم الروحية التي تعمل من أجل إثراء الحياة _ في نفس الوقت _ إلي ما بعد الحياة من جزاء .
**وصلي اللهم وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم **
يتبع إن شاء الله .