أعلم أن الرجاء من جملة مقامات السالكين وأحوال الطالبين وإنما يسمى الوصف مقاما إذا ثبت وأقام وإنما يسمى حالا إذا كان عارضا سريع الزوال وكما أن الصفرة تنقسم إلى ثابتة كصفرة الذهب وإلى سريعةالزوال كصفرة الوجل وإلى ما هو بينهما كصفرة المريض فكذلك صفات القلب تنقسم هذه الأقسام فالذى هو غير ثابت يسمى حالا لأنه يحول على القرب وهذا جار في كل وصف من أوصاف القلب وغرضنا الآن حقيقة الرجاء فالرجاء أيضا يتم من حال وعلم وعمل فالعلم سبب يثمر الحال والحال يقتضى العمل وكان الرجاء اسما من جملة الثلاثة وبيانه أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فينقسم إلى موجود في الحال وإلى موجود فيما مضى وإلى منتظر في الاستقبال فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمى ذكرا وتذكرا وإن كان من خطر بقلبك موجودا في الحال سمى وجدا وذوقا وإدراكا وإنما سمى وجدا لأنها حالة تجدها من نفسك وإن كان قد خطر ببالك وجود شىء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سمى انتظار وتوقعا فإن كان المنظر مكروها حصل منه ألم في القلب سمى خوفا وإشفاقا وإن كان محبوبا حصل من انتظاره وتعلق القلب به وإخطار وجوده بالبال لذة في القلب وارتياح سمى ذلك الارتياح رجاء فالرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده ولكن ذلك المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون له سبب فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه الرجاء عليه صادق وإن كان ذلك انظارا مع انخرام أسبابه واضطرابها فاسم الغرور والحمق عليه أصدق من اسم الرجاء وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتقاء فاسم التمنى أصدق على انتظاره لأنه انتظار من غير سبب وعلى كل حال فلا يطلق اسم الرجاء والخوف إلا على ما يتردد فيه أما ما يقطع به فلا إذا لا يقال أرجو طلوع الشمس وقت الطلوع وأخاف غروبها وقت الغروب لأن ذلك مقطوع به نعم يقال أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض والإيمان كالبدر فيه والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها ومجرى حفر الأنهار وسياقه الماء إليها والقلب المستهتر في الدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التى لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة يوم الحصاد ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر السبخة التى لا ينمو إيمان مع خبث القلب وسوء أخلافه كما لا ينمو بذر في أرض سبخة فينبغى أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضا طيبة وألقى فيها بذرا جيدا غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه في أوقاته ثم نقى الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر او يفسده ثم جلس منتظرا من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته سمى انتظاره رجاء وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر اصلا ثم انتظر الحصاد منه سمى انتظاره حمقا وغرورا لا رجاء وإن بث البذر في أرض طيبة ولكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضا سمى انتظاره تمنيا لا رجاء فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظاره محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات وطهر القلب عن شوك الأخلاق الردئية وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة وكان انتظاره رجاء حقيقا محمودا في نفسه باعثا له على المواظبة القيام بمقتضى أسباب الإيمان في إنمام أسباب المغفرة إلى الموت وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات وترك القلب مشحونا برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور قال صلى الله عليه وآله وسلم الأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الجنة وقال تعالى فخلف من بعدهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا وقال تعالى فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وذم الله تعالى صاحب البستان إذا دخل جنته وقال ما أظن تبيده هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربدى لأجدن خيرا منها منقلبا فإذا العبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصى حقيق بإن ينتظر من فضل الله تمام النعمة وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة وأما العاصى فإذا تاب وتدارك جميع ما فرط منه من تقصير فحقيق بأن يرجو قبول التوبة وأما قبل التوبة إذا كان كارها للمعصية تسوءه السيئة وتسره الحسنة وهو يذم نفسه ويلومها ويشتهى التوبة ويشتاق إليها فحقيق بأن يرجو منا لله التوفيق للتوبة لأن كراهيتة للمعصية وحؤصه على التوبة يجرى مجرى السبب الذى قد يفضى إلى التوبة وإما الرجاء بعد تأكد الأسباب ولذلك قال تعالى إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله معناه أولئك يستحون أن يرجوا رحمة الله وما أراد به تخصيص وجود الرجاء لأن غيرهم أيضا قد يرجو ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء فأما من ينهمك فيما يكرهه الله تعالى ولا يذم نفسه عليه ولا يعزم على التوبة والرجوع فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بث البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهده بسقى ولا تنقية قال يحيى بن معاذ من أعظم الإغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة وانتظار زرع الجنة ببذر النار وطلب دار المطيعين بالمعاصي وانتظار الجزاء بغير عمل والتمني على الله عز وجل مع الإفراط ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس فإذا عرفت حقيقة الرجاء ومظنته فقد علمت أنها حالة أثمرها العلم بجريان أكثر الأسباب وهذه الحالة تثمر الجهد للقيام ببقية الأسباب على حسب الإمكان فإن من حسن بذره وطابت أرضه وغزر ماؤه صدق رجاؤه فلا يزال يحمله صدق الرجاء على تفقد الأرض وتعهدها وتنحية كل حشيش ينبت فيها فلا يفتر عن تعهدها أصلا إلى وقت الحصاد وهذا لأن الرجاء يضاده اليأس واليأس يمنع من التعهد فمن عرف أن الأرض سبخة وأن الماء معوز وأن البذر لا ينبت فيترك لا محالة تفقد الأرض والتعب في تعهدها والرجاء محمود لأنه باعث واليأس مذموم وهو ضده لأنه صارف عن العمل والخوف ليس بضد للرجاء بل هو رفيق له كما سيأتي بيانه بل هو باعث آخر بطريق الرهبة كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة فإذن حال الرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله تعالى والتنعم بمناجاته والتلطف في التملق له فإن هذه الأحوال لابد وأن تظهر على كل من يرجو ملكا من الملوك أو شخصا من الأشخاص فكيف لا يظهر ذلك في حق الله تعالى فإن كان لا يظهر فليستدل به على الحرمان عن مقام الرجاء والنزول في حضيض الغرور والتمنى فهذا هو البيان لحال الرجاء ولما أثمره من العلم ولما استثمر منه من العمل ويدل على إثماره لهذه الأعمال حديث زيد الخيل إذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأسألك عن علامة الله فيمن لا يريد وعلامته فيمن لا يريد فقال كيف أصبحت قال أصحبت أحب الخير وأهله وإذا قدرت على شىء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه وإذا فاتني منه شيىء حزنت عليه وحننت إليه فقال هذه علامة الله فيمن يريد ولو أرادك للأخرى هيأك لها ثم لا يبالى في أي أوديتها هلكت فقد ذكر صلى الله عليه وسلم علامة من أريد به الخير فمن ارتجى أن يكون مرادا بالخير من غير هذه العلامات فهو مغرور حديث قال زيد الخيل جئت لأسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد الحديث أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود بسند ضعيف وفيه أنه قال أنت زيد الخير وكذا قال ابن أبي حاتم سماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير يروى عنه حديث وذكره في حديث يروى فقال زيد الخير فقال يا رسول الله الحديث سمعت أبي يقول ذلك.
==========================
إحياء علوم الدين لحجة الإسلام الإمام الغزالي