موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 200 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 10, 11, 12, 13, 14  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين مايو 27, 2024 4:02 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (11)

- ثالثاً: بيان طريقة الإمام ابنِ فُورَك في إثباتِ العُلُوِّ:

1- كلامه في حديث الجارية:

نصَّ الإمامُ ابنُ فُورَك على أنَّ حديثَ الجاريةِ يُعَدُّ من جُملةِ ((الأَخْبَارِ المَشْهُورَةِ عِنْدَ أهلِ النَّقْلِ، وَذَلِكَ مِمَّا يتَعَلَّقُ بِذِكْرِ المَكَانِ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص:158)، عالَم الكُتُب] ثمَّ ذكر الرِّواية فقال: ((رُوِيَ فِي الخَبَرِ أَنَّ جَارِيَةً عُرِضَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ، مِمَّن أُرِيدَ عِتْقُهَا فِي الْكَفَّارَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ لَهَا: "‌أَيْنَ ‌اللهُ؟" فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ: "أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ")) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 158)، عالَم الكُتُب] وعلى هذا فرواية "أين الله" موهمة بنسبة المكان لله تعالى.

ثمَّ شرع الإمامُ ((فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ: "‌أَيْنَ ‌اللهُ؟" مَعَ اسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ فِي مَكَانٍ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 158)، عالَم الكُتُب] وذلك بالكلام على أداة الاستفهام "أَيْنَ"، وأنَّها من حيثُ الوضع اللُّغوي ظَرفٌ للسُّؤالِ عَنِ المَكانِ، وهذا مُمتنع في حقِّه تعالى، ولكن قَد يُستفهم بها عن المكانة كما جرى به لسان العرب، وهذا غير ممتنع في حقِّه تعالى، وعليه يتنزَّل الحديث.

قال الإمامُ ابنُ فُورَك: ((فَأَمَّا الكَلَامُ فِيمَا يتَضَمَّنُ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ: "‌أَيْنَ ‌اللهُ؟":
(‌أ) فَإِنَّ ظَاهِرَ اللُّغَةِ تَدُلُّ مِنْ لَفْظِ "أَيْنَ" أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ للسُّؤَالِ عَنِ الْمَكَانِ، وَيُسْتَخْبَرُ بِهَا عَنْ مَكَانِ المَسْؤُولِ عَنْهُ بِـ: "أَيْنَ" إِذَا قِيلَ: "أَيْنَ هُوَ؟"، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: لَمَّا ثَقُلَ عَلَى أَهْلِ اللِّسَانِ فِي الاسْتِفْهَامِ عَنِ المَكَانِ أَنْ يَقُولُوا: أَهُوَ فِي البَيْتِ؟ أَمْ فِي المَسْجِدِ؟ أَمْ فِي السُّوقِ؟ أَمْ فِي بُقْعَةِ كَذَا وَكَذَا؟؛ وَضَعُوا لَفْظَةً تَجْمَعُ [جَمِيعَ] الأَمْكِنَةِ، يَسْتَفْهِمُونَ بِهَا عَنْ مَكَانِ المَسْؤُولِ عَنْهُ بِـ: "أَيْنَ"، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ هَذِهِ الكَلِمَةِ.

(‌ب) غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَعْمَلُوهَا عَنْ مَكَانِ المَسْئُولِ عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذَا المَعْنَى تَوَسُّعًا أَيْضًا تَشْبِيهًا بِمَا وُضِعَ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عِنْدَ اسْتِعْلَامِ مَنْزِلَةِ المُسْتَعْلَمِ عِنْدَ مَنْ يَسْتَعْلِمُهُ: أَيْنَ مَنْزِلَةُ فُلَانٍ مِنْكَ، وَأَيْنَ فُلَانٌ مِنَ الأَمِيرِ، وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي اسْتِعْلَامِ الفَرْقِ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ؛ بِأَنْ يَقُولُوا: أَيْنَ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ، وَلَيْسَ يُرِيدُونَ المَكَانَ وَالمَحَلَّ مِنْ طَرِيقِ التَّجَاوُزِ فِي البِقَاعِ، بَلْ يُرِيدُونَ الاسْتِفْهَامَ عَنِ الرُّتْبَةِ وَالمَنْزِلَةِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: لِفُلَانٍ عِنْدَ فُلَانٍ مَكَانٌ وَمَنْزِلَةٌ، وَمَكَانُ فُلَانٍ فِي قَلْبِ فُلَانٍ حَسَنٌ، وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ المَرْتَبَةَ وَالدَّرَجَةَ فِي التَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ وَالإِكْرَامِ وَالإِهَانَةِ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 158-159)، عالَم الكُتُب].

ثمَّ وجَّه الإمامُ السُّؤال بـ: "أين الله؟" على هذا المعنى الثَّاني فقال: ((فَإذَا كَانَ ذَلِكَ مَشْهُوراً فِي اللُّغَةِ احْتُمِلَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ: "أَيْنَ اللهُ؟": اسْتِعْلَامٌ لِمَنْزِلَتِهِ وَقَدْرِهِ عِنْدَهَا وَفِي قَلْبِهَا، وَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَدَلَّتْ بِإِشَارَتِهَا عَلَى أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ عِنْدَهَا عَلَى قَوْلِ القَائِلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ رِفْعَةٍ وَعُلُوِّ مَنْزِلَةٍ: "فُلَانٌ فِي السَّمَاءِ"، أَيْ: هُوَ رَفِيعُ الشَّأْنِ عَظِيمُ المِقْدَارِ. كَذَلِكَ قَوْلُهَا: "فِي السَّمَاءِ" على طَرِيقِ الإِشَارَةِ إِلَيْهَا، تَنْبِيهًا عَنْ مَحَلِّهِ فِي قَلْبِهَا وَمَعْرِفَتِهَا بِهِ. وَإِنَّمَا أَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهَا كَانَتْ خَرْسَاءَ، فَدَلَّتْ بِإِشَارَتِهَا عَلَى مِثْلِ دَلَالَةِ العِبَارَةِ، عَلَى نَحْوِ هَذَا المَعْنَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يَقْتَضِي الحَدَّ وَالتَّشْبِيهَ وَالتَّمْكِينَ فِي المَكَانِ وَالتَّكْيِيفَ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 159-160)، عالَم الكُتُب].

ثمَّ نصَّ الإمامُ ابن فُورُك على طريقة أخرى في التَّعامل مع حديث الجارية برواية "أين الله؟"، وهذا بعد أن ذكر الطَّريقة السَّابقة في التَّأويل التَّفصيلي، فقال: ((وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنَ قَالَ: إِنَّ القَائِلَ إِذَا قَالَ: "إِنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ" وَيُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَهَا ‌مِنْ ‌طَرِيقِ ‌الصِّفَةِ لَا مِنْ طَرِيقِ الجِهَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [المُلك : 16] لَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 160)، عالَم الكُتُب] وهذه طريقة: "الإثبات مع التَّنزيه والتَّفويض" كما هو واضح، وهي طريقة فريق من أهل السُّنَّة الأشاعرة، وعليها يتنزَّل كلام الإمام ابن فُورَك الَّذي اتَّخذه ابنُ تيميَّةَ تُكَأَةً لأجل نِسبته إلى عقيدة الجِهَويَّة كما مرَّ معنا، وبهذا المنهج يتَّسق كلام الإمام ابنِ فُورَك في المسألة، ويتَّضح بتفسير بعضه ببعض، فلا تعارض ولا اضطراب ولا اختلاف اجتهاد خارج المذهب كما زعم ابن تيميَّة.

وعلى هذا؛ فالإمامُ ابنُ فُورَك جارٍ على أصول مذهب أهل السُّنَّة الأشاعرة: فَإمَّا التَّفويض مع التَّنزيه، وإمَّا التَّأويل بضوابطه، وأمَّا حمل الظَّواهر الموهمة للتَّشبيه على ظاهرها اللُّغوي المعروف - كما هو مذهب ابن تيميَّة - فهذا تجسيمٌ عند الإمام.

فإذا تبيَّن لك هذا فهمتَ مقصود الإمام ابنِ فورك من العُلُوِّ كما في النَّقل الَّذي اعتمده ابن تيميَّة - وقد مرَّ معنا -، وهو قوله: ((وَإِنْ سَأَلْتَ فَقُلْتَ: أَيْنَ هُوَ؟، فَجَوَابُنَا: إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ، كَمَا أَخْبَرَ فِي التَّنْزِيلِ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [المُلْك : 16])) [مجموع الفتاوى (16/61)، ط. دار الوَفاء] فهذا من باب إطلاق ما أطلقته النُّصوص، مع نفي المعاني الفاسدة في حقِّه تعالى كالجِهة والمكان، وكأنَّ الإمام يقول: الله أصلا فوق المكان والزَّمان، وفوق جميع ما نعرفه مِن معاني السُّمُوِّ.

وبهذا لا يعسر عليك فهم ما نقله أيضا ابن تيميَّة عن الإمام ابن فُورَك، وهو قوله: ((وَإِشَارَةُ الْمُسْلِمِينَ بِأَيْدِيهِمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي رَفْعِهَا إلَيْهِ. وَأَنَّكَ لَوْ سَأَلْتَ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ فَقُلْتَ: أَيْنَ اللَّهُ؟ لَقَالُوا: إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ، وَلَمْ يُنْكِرُوا لَفْظَ السُّؤَالِ بِـ: "أَيْنَ"؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ سَأَلَ الْجَارِيَةَ الَّتِي عُرِضَتْ لِلْعِتْقِ فَقَالَ: أَيْنَ اللَّهُ؟، فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ مُشِيرَةً بِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ: اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا مُنْكَرًا لَمْ يَحْكُمْ بِإِيمَانِهَا، وَلَأَنْكَرَهُ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ "فِي" بِمَعْنَى: "فَوْقُ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [التَّوبة: 2] أَيْ: فَوْقَهَا)) [مجموع الفتاوى (16/61)، ط. دار الوَفاء] وأنَّه مِن باب عُلُوِّ الدَّرَجَةِ بِالصِّفَةِ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي مُبَايَنَةَ الخَلْقِ كما سيأتي من كلام الإمام نفسه.

يُتيع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... jEk9GDSAYl

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... bZJCKyRqEl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت يونيو 08, 2024 1:57 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (12)

2- نصوصه الصَّريحة في نفي الجِهة والمكان والعُلُوِّ الحِسِّي وغيرِها من معاني الجِسمِيَّةِ في حقِّه تعالى:

قَالَ الإمامُ ابنُ فُورَك رَادًّا على ((مَن قَالَ مِنَ المُعْتَزلَةِ والنَّجَّارِيَّةِ أَنَّ اللهَ فِي مَكَانٍ؛ عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُ مُدَبِّرٌ لِكُلِّ مَكَانٍ مُقَدِّرٌ لِمَا فِيهِ)) مَا نَصُّهُ: ((وَنَحْنُ نَأْبَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ: فَوْقَهَا وَعَلَيْهَا، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [التَّوبة : 2] أَي: فَوْقَهَا، وَكَمَا قَالَ: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه : 71] أَيْ: عَلَيْهَا)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 334-335)، عالَم الكُتُب] وَهذا نصٌّ من نفس الكتاب الَّذي نقلنا منه تقرير الإمام في حديث الجارية، فمَن فهم منه أنَّ الرَّجل يُثبت العُلُوَّ الحِسِّي في حقِّ ربِّهِ، فقد أُوتيَ من قِبَل غرضه الفاسد، وذلك لأنَّ الإمامَ الذي قال هذا هو نفسه مَن قال أيضا: ((وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنَّا لَا نُنْكِرُ القَوْلَ أَنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ، إِتِّبَاعًا لِلَفْظِ الْكِتَابِ، وَلَكِنَّا نَأْبَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ عَلَى مَعْنَى ‌كَوْنِ ‌الجِسْمِ ‌فِي ‌الجِسْمِ بِالتَّمَكُّنِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى القَوْلِ بِحُدُوثِهِ وَنَفْيِهِ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً. وَتَأويلُنَا أَيْضًا حَدِيثَ الجَارِيَةِ لَمَّا قَالَ لَهَا: "أَيْنَ اللهُ؟" فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا، بَلْ [قَالَ]: "‌أَعْتِقْهَا ‌فَإِنهَا ‌مُؤْمِنَةٌ"، وَنَابَتْ إِشَارَتُهَا عَنْ إِقْرَارِهَا، وَدَلَّتْ عَلَى مَا فِي قَلْبِهَا مِنَ الإِخْلَاصِ وَالمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ؛ فَكَذَلِكَ شَهِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ بِإِيمَانِهَا)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 398)، عالَم الكُتُب].

وقال في ردِّه على ابنِ خُزيمة: ((وَاعْلَمْ أَنَّهُ ‌لَيْسَ ‌يُنْكَرُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: "إِنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ" لِأَجْلِ أَنَّ لَفْظَ الْكِتَابِ قَدْ وَرَدَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ﴾ [المُلك : 17]، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ لَا عَلَى مَعْنَى فَوْقِيَّةِ المُتَمَكِّنِ فِي الْمَكَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ الجِسْمِ المَحْدُودِ المُحْدَثِ، وَلَكِنْ بِمَعْنَى مَا وُصِفَ بِهِ أَنَّهُ "فَوقَ" مِنْ طَرِيقِ الرُّتْبَةِ والمَنْزِلَةِ وَالعَظَمَةِ وَالقُدْرَةِ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 392)، عالَم الكُتُب].

وقال أيضاً في ردِّه على ابن خزيمة: ((ذَكَرَ صَاحِبُ التَّصْنِيفِ بَابًا تَرْجَمَهُ ‌باسْتِوَائِهِ ‌عَلَى ‌العَرْشِ، وَأَوْهَمَ مَعْنَى التَّمْكِينِ وَالاسْتِقْرَارِ، وَذَلِكَ مِنْهُ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى العَرْشِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى التَّمْكِينِ وَالاسْتِقْرَارِ، بَلْ هُوَ عَلَى مَعْنَى العُلُوِّ بِالقَهْرِ وَالتَّدْبِيرِ، وَارْتِفَاعِ الدَّرَجَةِ بِالصِّفَةِ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِي مُبَايَنَةَ الخَلْقِ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 389)، عالَم الكُتُب].

وقال في تأويل حديث الأوعال - وهو حديث ضعيف -: ((اِعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِب لَيْسَ فِيهِ مَا يَجِبُ أَنْ نُبَيِّنَ مَعْنَاهُ سِوَى قَوْلِهِ: "وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ"، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ مَعْنَى وَصْفِ اللهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ: فَوْقَ خَلْقِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى فَوْقِيَّةِ المَنْزِلَةِ وَالمَرْتَبَةِ، ‌وَفَوْقِيَّةِ ‌القُدْرَةِ ‌وَالعَظَمَةِ، وَأَمَّا الفَوْقِيَّةُ بِالْمَسَافَةِ وَالْمَكَانِ فَمُحَالٌ فِي وَصْفِهِ. وَفَائِدَةُ الخَبَرِ: تَعْرِيفنَا أَنَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ مِمَّنْ لَا يَدْخُلُ بَيْنَ طَبَقَتَيْنِ، وَلَا مِمَّنْ هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُخَالِفُونَ. وَإِذَا اسْتَفَدْنَا بِهَذَا الخَبَرِ تَكْذِيبَ هَذَيْنِ الفِرْقَتَيْنِ فِي دَعْوَاهُمَا عَلَى اللهِ أَنَّهُ يَحُلُّ فِي بَعْضِ المَخْلُوقَاتِ وَيُوصَفُ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، رَجَعَ تَأْوِيلُ الخَبَرِ إِلَى مَا نَقُولُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَلِطٍ وَلَا مُمْتَزِجٍ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ بَائِنٌ مِمَّا خَلَقَ، بَيْنُونَةَ الصِّفَةِ وَالنَّعْتِ لَا بِالتَّحَيُّزِ وَالمَكَانِ وَالجِهَةِ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 453-454)، عالَم الكُتُب] وهذا نصٌّ مهمٌّ جِدًّا؛ يُسلِّط الضَّوء أكثر على طريقة قُدماء الأشعريَّة في إثبات صفة العُلُوِّ في حقِّه تعالى، وأنَّهم كانوا يُطلقون نُصوص الكَون العُلوي بمقابل احتجاج الحلوليَّة بنُصوص الكَون السُّفلي، ولم يكن مُرادهم بهذا الإطلاق إثبات البَينونة بمعنى العُزلة والتَّحيُّز والجِهة - كما يزعم ابن تيميَّة -، بل مُرادهم بينونة الصِّفة والنَّعت.

وقال أيضاً: ((لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ‌إِنَّ ‌اللهَ ‌تَعَالَى ‌فِي ‌مَكَانٍ أَوْ فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ ظَاهِرَ مَعْنَى "فِي" وَمَا وُضِعَ فِي اللُّغَةِ لَهُ هُوَ: الوِعَاءُ والظَّرْفُ، وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا فِي الأَجْسَامِ وَالجَوَاهِرِ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 171)، عالَم الكُتُب].

وفي تأويل حديث: "‌كَانَ ‌فِي ‌عَمَاءٍ ‌مَا ‌تَحْتَهُ ‌هَوَاءٌ، ‌وَمَا ‌فَوْقَهُ ‌هَوَاءٌ" - وهو حديث ضعيف -، ذكر الإمام ابنُ فُورَك أنَّ هذا الخبر روي على وَجهين، أحدهما: العماء بِالمدِّ بمعنى: السَّحاب الرَّقيق، ونصَّ على تَأْويل هذا الوَجه على نحوِ تأويل قول الله تعالى: ((﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [المُلك : 16] وَذَلِكَ بِمَعْنَى القَهْرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالمُفَارَقَةِ لَهُ بِالنَّعْتِ وَالصِّفَةِ دُونَ التَّحَيُّزِ ‌فِي ‌المَكَانِ ‌وَالمَحَلِّ ‌وَالجِهَةِ. وَإِذا احْتُمِلَ مَا قُلْنَا وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مِمَّا يَخُصُّ مَعْنًى وَاحِدًا، كَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَتَحْدِيدِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُوداً)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 169)، عالَم الكُتُب].

وقال الإمامُ ابنُ فُورَك أَيضاً: ((مُقَدَّسٌ [=تَعَالَى] عَنِ الحَاجَاتِ، مُبَرَّأٌ عَنِ العَاهَاتِ، مُنَزَّهٌ عَنْ وُجُوهِ النَّقْصِ وَالآفَاتِ، مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِالجَوَارِحِ وَالآلَاتِ وَالأَدَوَاتِ، والسُّكُونِ وَالحَرَكَاتِ، وَالدَّوَاعِي والخَطَرَاتِ، بَلْ هُوَ الْأَعْلَى عَنْ جَمِيعِ مَنْ فِي الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 33-34)، عالَم الكُتُب] فتأَمَّل كيف يوَظِّف الإمامُ ما ظاهره عُلُوّ المكان ((بَلْ هُوَ الْأَعْلَى عَنْ جَمِيعِ مَنْ فِي الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ)) من أجل التَّعبير عن المعاني التَّنزيهيَّة، والدِّلالةِ على تعاليه جلَّ وعلَا عن الجوارح والآلات والحركات وغيرها من المعاني الدُّونيَّة، ولتنظر إلى قوله بعد ذلك مُباشرة: ((لَا يَلِيقُ بِهِ الحُدُودُ والنِّهَايَاتُ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الأَلْوَانُ وَالمُمَاسَّاتُ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ الأَزْمَانُ وَالأَوْقَاتُ، وَلَا يَلْحَقُهُ [النَّقَائِصُ] وَالزِّيَادَاتُ. مَوْجُودٌ ‌بِلَا ‌حَدٍّ، مَوْصُوفٌ بِلَا كَيْفَ، مَذْكُورٌ بِلَا أَيْنَ، مَعْبُودٌ بِلَا شَبَهٍ)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 34)، عالَم الكُتُب].

هذا؛ وقد نقل أيضا الإمامُ القُشَيرِيُّ في رسالته الشَّهيرة [الرِّسالة القُشَيريَّة (ص: 89-90)، ط. دار المنهاج] عن شيخهِ الإمامِ ابْنِ فُورَك عن الإمام أبِي عثمان المغربي - سماعا -؛ حكايته مع خادمه في نفي الجِهة عن الله، وقد سبق ذكرها عند الكلام على عقيدة القاضي الباقلَّاني.

وبعد هذا العرض لنُصوص الإمام ابن فُورَك الصَّريحة في نفي العُلُوِّ الحِسِّي، يستوقفنا هذا السُّؤال: هل اطَّلع ابنُ تيميَّة على كتاب "مُشكل الحديث" للإمام ابنِ فُورُك والَّذي يظهر من خلاله جليًّا مذهب الإمام العقدي؛ ومع ذلك نسب إليه عقيدة الجِهة كما سبق في بعض مزاعمه؟ والجواب: نعم!، وإليك البيان:
قال ابنُ تيميَّةَ في حقِّ المُؤَوِّلَةِ: ((هَؤُلَاءِ يَقْرِنُونَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مَوْضُوعَةً، وَيَقُولُونَ بِتَأَوُّلِ الْجَمِيعِ، كَمَا فَعَلَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ فَوْرِكٍ فِي كِتَابِ "مُشْكِلِ الْحَدِيثِ" حَتَّى أَنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ حَدِيثَ عَرَقِ الْخَيْلِ وَأَمْثَالَهُ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ. هَذَا مَعَ أَنَّ عَامَّةَ مَا فِيهِ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ هِيَ تَأْوِيلَاتُ الْمَرِيسِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (5/236-237)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية] فالتَّأويلات التي ذكرها الإمام ابن فُورَك في كتابه هذا؛ هي بعينها تأويلات بشر المريسي!، هكذا يزعم ابنُ تيميَّة.
ولا يهمُّنا هنا رأيه في هذا الكتاب، بقدر ما يهمُّنا: ما الَّذي دعاه إلى الإعراض عن هذا المصدر الأساسي لأجل استجلاء حقيقة عقيدة الإمام ابنِ فُورَك في صفةِ العُلُوِّ؟!.

بل قسَّم ابنُ تَيميَّةَ (النُّفاة!) إلى ثلاثة أنواع، فذكر في النَّوعِ الثَّالثِ: ((وَنَوْعٌ ثَالِثٌ: سَمِعُوا الْأَحَادِيثَ، وَالْآثَارَ، وَعَظَّمُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ، وَشَارَكُوا الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَهْمِيَّةَ فِي بَعْضِ أُصُولِهِمُ الْبَاقِيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْخِبْرَةِ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ، مَا لِأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَضَعِيفِهَا، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْفَهْمِ لِمَعَانِيهَا. وَقَدْ ظَنُّوا صِحَّةَ بَعْضِ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ لِلنُّفَاةِ الْجَهْمِيَّةِ، وَرَأَوْا مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَارُضِ. وَهَذَا حَالُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ فُورَكٍ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَمْثَالِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ تَارَةً يَخْتَارُونَ طَرِيقَةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ فُورَكٍ وَأَمْثَالُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى مُشْكِلِ الْآثَارِ. وَتَارَةً يُفَوِّضُونَ مَعَانِيهَا، وَيَقُولُونَ: تَجْرِي عَلَى ظَوَاهِرِهَا، كَمَا فَعَلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَمْثَالُهُ فِي ذَلِكَ. وَتَارَةً يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُهُمْ، فَيُرَجِّحُونَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً، كَحَالِ ابْنِ عَقِيلٍ وَأَمْثَالِهِ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (7/34-35)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية] وعلى هذا فالإمام ابنُ فُورَك والأشاعرة ليسوا لوحدهم في قفص اتِّهام ابنِ تيميَّة!؛ بل حتَّى الحنابلة كالقاضي أبي يَعلى وابنِ عَقيل وأمثالهم، فجميعهم قد شاركوا الجهميَّة في بعض أصولهم، ولم تكن لهم الخبرة الكافية بالقرآن والحديث، بحيث تعصمهم من مناصرة بِدَع النُّفاة!، هكذا يزعم ابن تيميَّة كما ترى.

3- ملحوظة:
قال ابنُ تيميَّةَ في نصٍّ آخر: ((وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ الْمَوْجُودَةُ الْيَوْمَ بِأَيْدِي النَّاسِ - مِثْلُ أَكْثَرِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ ‌فُورَك فِي كِتَابِ "التَّأْوِيلَاتِ"، وَذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ "تَأْسِيسَ التَّقْدِيسِ" وَيُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي كَلَامِ خَلْقٍ كَثِيرٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ، مِثْلَ أَبِي عَلِيٍّ الجُبَّائِيِّ، وَعَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الهَمَدَانِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ، وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَغَيْرِهِمْ - هِيَ بِعَيْنِهَا تَأْوِيلَاتُ بِشْرٍ ‌الْمَرِيسِيِّ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ رَدُّ التَّأْوِيلِ وَإِبْطَالُهُ أَيْضًا، وَلَهُمْ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي أَشْيَاءَ. فَإِنَّمَا بَيَّنْتُ أَنَّ عَيْنَ تَأْوِيلَاتِهِمْ هِيَ عَيْنُ تَأْوِيلَاتِ بِشْرٍ ‌الْمَرِيسِيِّ)) [الفَتْوَى الحَمَوِيَّة ضمنَ مجموع الفتاوى (5/18-19)، ط. دار الوَفاء] وهذا أيضا واضحٌ في اتِّهام الحرَّاني الإمامَ ابنَ فُورَك بنشر (بِدع!) بشر المريسي والجَهميَّة!، وفيه أيضا اتِّهام لابن عَقيل الحنبلي والإمام حجَّة الإسلام الغزالي الشَّافعي، دع عنك الإمام الفخر الرَّازي!.

والعَجيب أن يتناقل هذا النَّص التَّيمي - الباطل - في حقِّ متكلِّمة أهل السُّنَّة؛ بعض الحنابلة المنزِّهة من أمثال العلَّامة مَرعي الكَرمي (ت : 1033 هـ) كما تجده في [أَقَاويل الثِّقَات (ص: 232)، مؤسَّسة الرِّسالة]، وأمَّا العَلَّامة الشَّمس السَّفَارِينِي (ت : 1188 هـ) فنَقله في عدَّة مواضع من تواليفه كما تجده في [لَوامع الأنوار البَهيَّة (1/24) وَ(1/108)، مؤسسة الخافقين ومكتبتها: دمشق] و[لوائح الأنوار السَّنِيَّة (1/185-186)، مكتبة الرُّشد: السُّعوديَّة]، ولكنَّه - وعلى خلاف الشَّيخ مرعي الكرمي - ارتأى شطب اسم ابن عقيلٍ الحنبلي والإمام أبي حامد الغزالي من نصِّ ابن تيميَّة!، وكأنَّه استبشع صنيعه في إدراج أمثال هؤلاء في قائمة المتَّهمين!.

وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّما يدلُّ على خطورة التَّسليم لتقريرات ابن تيميَّة العَقديَّة، خاصَّة منها ما يقرِّره في حقِّ مُخالفيه المنزِّهة.

هذا وقد ردَّ العلَّامة شِهابُ الدِّين ابنُ جَهْبَل (ت : 733 هـ) على ابن تيميَّة هذا الاتِّهام الباطل؛ فقال: ((وَذَكَرَ [=ابنُ تيميَّةَ] أَنَّ هَذِهِ التَّأْويلَاتِ هِيَ الَّتِي أَبْطَلَتْهَا الأَئِمَّةُ، وَرَدَّ بِهَا عَلَى بِشْرٍ [=المَرِيسِيِّ]، وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ فُورَك، وَالإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ - قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُمَا -، هُوَ مَا ذَكَرَهُ بِشْرٌ، وَهَذَا بَهْرَجٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى مَحَكِّ النَّظَرِ القَوِيمِ، وَلَا مِعْيَارِ الفِكْرِ المُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهُ مِنَ المُحَالِ أَنْ تُنْكِرَ الأَئِمَّةُ عَلَى بِشْرٍ أَنْ يَقُولَ مَا تَقُولُهُ العَرَبُ، وَهَذَانِ الإِمَامَانِ مَا قَالَا إِلَّا مَا قَالَتْهُ العَرَبُ، وَمَا الإِنْكَارُ عَلَى بِشْرٍ إِلَّا فِيمَا يُخَالِفُ فِيهِ لُغَةَ العَرَبِ، وَأَنْ يَقُولَ عَنْهَا مَا لَمْ تَقُلْهُ)) [رسالة في الرَّدِّ على الفتوى الحَمَوِيَّة لابْنِ تَيميَّة ضمن طبقات الشَّافِعيَّة الكُبرى للتَّاج السُّبكي (9/72)، هجر].

يُتبع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... vR8t1kEyJl

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... rSqKKjWsUl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يونيو 30, 2024 2:38 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (13)

وزَعم ابنُ تيميَّة أيضاً أنَّ العُلُوَّ الحِسِّي مذهب أهل الأرض جميعا!، فقال في ردِّه على الإمام الرَّازي: ((وَأَمَّا نَقْلُ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِمَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا إِلَّا بَعْضَهُ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى أَنَّ أَئِمَّةَ الْأَشْعَرِيَّةِ الْكِبَارَ، كَانُوا يَنْقُلُونَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ عَلَى الْعَرْشِ إِلَّا الْجَهْمِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَمَا نُذْكُرُهُ مِنَ احْتِجَاجِ الْمُثْبِتَةِ بِالدُّعَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَا فِيهِ عِبْرَةٌ، وَكُلُّ مَنْ صَنَّفَ فِي بَيَانِ مَذَاهِبِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا بِلَا نِزَاعٍ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (1/166-167)، ط. المجمَّع].

ثمَّ أخذ يحتجُّ لرأيه هذا ببعض النِّقال، وذكر منها هذا النَّقل عن الإمام القرطبي المفسِّر: ((قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِ "شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى": هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي كِتَابِ "تَمْهِيدِ الْأَوَائِلِ" لَهُ، وَقَوْلُ الْأُسْتَاذِ ابْنِ فُورَكٍ فِي شَرْحِ "أَوَائِلِ الْأَدِلَّةِ"، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالطَّلَمَنْكِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْدَلُسِيِّينَ، وَقَوْلُ الْخَطَّابِيِّ فِي "شِعَارِ الدِّينِ". ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ حَكَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا: "وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْآيُ وَالْأَخْبَارُ، وَالْفُضَلَاءُ الْأَخْيَارُ: أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ، كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، بِلَا كَيْفٍ، بَائِنٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فِي مَا نَقَلَ عَنْهُمُ الثِّقَاتُ")) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (1/170 إلى 172)، ط. المجمَّع].
هكذا جاء نقل ابن تيميَّة كما ترى، وكأنَّ الإمام القرطبي قد نقل - بإقرار وإمرار - عقيدةَ العلوِّ الحِسِّي عن الإمام ابن فُورَك والقاضي أبي بكر الباقلَّاني والحافظ ابن عبد البرِّ والإمام الخَطَّابي!.

وبالرُّجوع إلى كلام الإمام القرطبي من مصدره، وقد سبق ذكره بسياقه عند الحديث على عقيدة الإمام الباقلَّاني في العُلُوِّ؛ نجد أنَّ ابن تيميَّة قد حذف منه قول الإمام الباقلَّاني: ((بَابٌ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قِيلَ لَهُ: الأَيْنُ سُؤَالٌ عَنِ المَكَانِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَحْوِيهِ مَكَانٌ وَلَا تُحِيطُ بِهِ أَقْطَارٌ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ، لَا عَلَى مَعْنَى كَوْنِ الجِسْمِ عَلَى الجِسْمِ بِمُلَاصَقَةٍ وَمُجَاوَرَةٍ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا)) [الأَسْنَى فِي شَرحِ أسماءِ الله الحُسنى وصفاتِه (ص: 168-169)، ط. المكتبة العصريَّة]!!!.

كما حذف منه أيضاً تقرير الإمام القرطبي: ((فَمَنْ تَأَوَّلَ عَلَى أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِّ وَفَهِمَ مِنْ كَلَامِهِ فِي كِتَابِ "التَّمْهِيدِ" وَ"الاسْتِذْكَارِ" أَنَّ: اللهَ تَعَالَى مُسْتَقِرٌّ عَلَى عَرْشِهِ اسْتِقْرَارَ الجِسْمِ عَلَى الجِسْمِ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ وَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَ[حَسِيبُهُ] اللهُ)) [الأَسْنَى فِي شَرحِ أسماءِ الله الحُسنى وصفاتِه (ص: 169)، ط. المكتبة العصريَّة]!!!.

وتصوَّر يا عبد الله أن لَّو ذكر ابن تيميَّة كلام الإمام القرطبي بسياقه ولحاقه، بدون بتر ولا حذف؛ هل كان سيبقى له أيّ وجه لأن يحتجَّ به؟!.

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... bZJCKyRqEl

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... i8ZKA3Cwhl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يوليو 11, 2024 1:25 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (14)

4- معاني الفَوقِيَّةِ عندَ الإمامِ ابنِ فُورَك وأسلافهِ قُدَماء الأشعريَّة:

قال الإمامُ ابنُ فُورَك: ((وَاسْتِعْمَالُ "فِي" بِمَعْنَى: "فَوقَ" ظَاهرٌ فِي اللُّغَةِ مُنْتَشِرٌ، مِنْهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [التَّوبَة : 2] أَي: فَوْقَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه : 71]. قَالَ المُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ: "علَى جُذُوعِ النَّخلِ"، وَعَلَيْهِ يُتَأَوَّل قَوْلُهُ: ﴿أَأَمِنْتُم مَّنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [المُلك : 16] أَنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ: "مَنْ فَوْقَهَا"، وَإِذا كَانَ ظَاهِراً فِي اللُّغَةِ اسْتِعْمَالُ "فِي" بِمَعْنَى: "فَوْقَ"، وَقَدْ قَالَ تبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنْعَام : 18]، وَقَالَ: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النَّحل : 50]، وَأَطْلَقَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى "فَوْقَ خَلْقِهِ"؛ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى [ذَلِكَ] أَوْلَى، وَعَلَيْهِ يُتَأَوَّلُ أَيْضًا قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزُّخْرُف : 84] أَي: "هُوَ فَوقَ السَّمَاءِ إِلَهٌ، وَفَوقَ الأَرْضِ إِلَهٌ". أنْشَدَ بَعْضُهُمْ: "وَهُمْ صَلَّبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ" مَعْنَاهُ: "عَلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ")) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 172-173)، عالَم الكُتُب] فتأمَّل هنا أنَّ الإمامَ يتكلَّم على إطلاق الفَوْقيَّة كما جاءت في النُّصوص، ويصرُّ على تخليصها من كلِّ معاني الحلول، بمعنى أنَّ الله فوق المكان وغير ممتزج بالخلق، ولكنَّ ابن تيميَّة يُصرُّ على أنَّ مراد قُدماء الأشعريَّة بهذا: أنَّه تعالى في مكان على العرش!.

ثمَّ قال الإمامُ ابنُ فورَك بعدها: ((وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: "إِنَّ اللهَ عَزَّ ذِكْرُهُ فَوْقَ مَا خَلَقَ": لَمْ نَرْجِعْ بِهِ إِلَى فَوْقِيَّةِ المَكَانِ وَالارْتِفَاعِ عَلَى الأَمْكِنَةِ بِالْمَسَافَةِ، وَالإِشْرَافِ عَلَيْهَا بِالْمُمَاسَّةِ لِشَيْءٍ مِنْهَا؛ بَل قَوْلُنَا: "إنَّهُ فَوْقَهَا" يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:

- أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ قَاهِرٌ لَهَا، مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا، إِثْبَاتًا لِإِحَاطَةِ قُدْرَتِهِ بِهَا، وَشُمُولِ قَهْرِهِ لَهَا، وَكَوْنهَا تَحْتَ تَدْبِيرِهِ جَارِيَةً عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ ومَشِيئَتِهِ.

- وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ فَوْقَهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُبَايِنٌ لَهَا بِالصِّفَةِ وَالنَّعْتِ، وَأَنَّ مَا يَجُوزُ عَلَى المُحْدَثَاتِ مِنَ العَيْبِ وَالنَّقْصِ وَالعَجَزِ وَالآفَةِ وَالحَاجَةِ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِهِ. وَهَذَا أَيْضًا مُتَعَارَفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ: "فُلَانٌ فَوْقَ فُلَانٍ"، وَيُرَادُ بِذَلِكَ رِفْعَةُ المَرْتَبَةِ وَالمَنْزِلَةِ.

وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ "فَوْقَ خَلْقِهِ" عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.

- وإنَّمَا يَمْتَنِعُ الوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى التَّحَيُّزِ فِي جِهَةٍ، وَالاخْتِصَاصِ بِبُقْعَةٍ دُونَ بُقْعَةٍ.

وَإِذَا قُلْنَا أَنَّهُ فَوْقَ الْأَشْيَاءِ عَلَى هَذَا الوَجْهِ؛ قُلْنَا أَيْضًا فِي تَأْوِيلِ إِطْلَاقِ القَوْلِ بِأَنَّهُ فِيهَا عَلَى مِثْلِ هَذَا المَعْنَى)) [مُشْكِلُ الحديثِ وبيانُه (ص: 173-174)، عالَم الكُتُب] فالمراد بالفَوقِيَّةِ: فَوقِيَّة القَهر والغَلبة والجبروت وغيرها من مَعاني الجلال والكمال وعُلُوِّ المكانة، وأَيضا: فَوقيَّة المباينةِ والمُغايَرَةِ والمُخَالَفَةِ بمعنى أنَّه تعالى بائِنٌ ممَّا خَلَقَ بَيْنُونَةَ الذَّاتِ والصِّفَةِ وَالنَّعْتِ، لَا بِالتَّحَيُّزِ وَالمَكَانِ وَالجِهَةِ والعُزْلَةِ وغيرها من معاني الجِسميَّة.

فرجعت "الفَوْقِيَّة" عِند الإمامِ ابنِ فُورَك وسلفه قُدماء الأشعريَّة إلى مَعنى ثُبوتي، وآخر سَلبي، والممتنع هو المعنى الحِسِّي، وهو مرادُ ابنِ تيميَّة.

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... YWa45JDQwl

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... B7dVoygBel

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يوليو 19, 2024 4:04 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (15)

- رابعاً: مُناظرةُ الإمام ابنِ فُورَك للكرَّاميَّة في مجلس السُّلْطَان مَحْمُود بْنِ سُبُكْتِكِينَ:

قبل أن نذكر كيف تناول ابن تيميَّة هذه المناظرة، لا بُدَّ أن نعرِّج على ما ذُكر في بعض المصادر، مِن أنَّ الإمام ابن فُورَك قد انقطعت حجَّته وبُهت أمام السُّلطان ابن سُبُكتِكينَ!

قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ (ت : 795 هـ): ((قَالَ الحَافِظُ عَبْدُ القَادِرِ الرُّهَاوِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو مُوْسَى المَدِيْنِيُّ الحَافِظُ، قَالَ: رَأَيْتُ بِخَطِّ ابنِ البَنَّاءِ - وَقَرَأَتُهُ عَلَى ابنِ نَاصِرٍ، بِإِجَازَتِهِ مِنِ ابْنِ البَنَّاءِ - قَالَ: حَكَى أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ بنِ جَدَّا العُكْبَرِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُوْدٍ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدٍ البَجَلِيَّ الحَافِظَ قَالَ: دَخَلَ ابنُ فُوْرَكَ عَلَى السُّلْطَانِ مَحْمُوْدٍ، فَتَنَاظَرَا، قَالَ ابنُ فُورَكَ لِمَحْمُوْدٍ: لَا يَجُوْزُ أَنْ تَصِفَ اللهَ بِالْفَوْقِيَّةِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُكَ أَنْ تَصِفَهُ بِالتَّحْتِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ جَازَ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ "فَوْقٌ" جَازَ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ "تَحْتٌ"، فَقَالَ مَحْمُوْدٌ: لَيْسَ أَنَا وَصَفْتُهُ بِالْفَوْقِيَّةِ، فَتُلْزِمُنِي أَنْ أَصِفَهُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَبُهِتَ)) [ذَيلُ طَبقَاتِ الحنابِلة (1/21-22)، مكتبة العبيكان: السُّعوديَّة].

وذَكر الحَافظُ الذَّهبي (ت : 748 هـ) الحكاية أيضاً، ولكنَّه زاد قوله: ((فَبُهِتَ ابْنُ فُورَكَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مَاتَ. فيُقَالُ: انْشَقَّتْ مَرَارَتُهُ)) [سِيَر اعلام النُّبلاء (17/487)، ط. الرِّسالة] وَ[تَاريخُ الإسلام (9/372)، ط. دارُ الغرب الإسلامي].

وصياغة الحكاية بهذه (الطَّريقة!) يستدعي بعض الوَقَفات:
1- إلزامُ الإمام ابن فُورَك للجِهَويَّة لا غُبار عليه، فمن جوَّز الفَوقيَّةَ الحِسِّيَّةَ في حقِّ ربَّه، يلزمه أن يُجَوِّز عليه كذلك التَّحتيَّة الحِسِّيَّة، لأنَّهم إذا جوَّزوا أن يخلق الله العالَم تحتَ ذاته فَيَعلُوَ عليه بالمسافة، جاز أيضاً - وفق مذهبهم - أن يخلقَهُ جلَّ وعلا تحتَهُ، فيكون العَالَم فَوق، والرَّبُّ أسفل منه، فيصحُّ عندئذٍ وصفه تعالى بصِفة السُّفلِ، وهو ما يحيله الخصم مع أنَّه لازم على مذهبه.
بل ويلزم على هذا المذهب ما هو أشنع وأفظع!

نعم؛ فَإذَا جازَ - عند الجِهَوِيَّةِ - أن يخلقَ اللهُ العالَمَ تحتَ ذاته بِالجهةِ والمكانِ، جاز أيضا أن يَخلقَه تعالى في الجِهات المتبقيَّة: عن يمينه، شماله، أمامه، خلفَه، وَفَوقَه، وَإِلَّا فيلزمهم تعطيل طلاقة القُدرة الإلهيَّة في التَّأثير على الممكن ببعض ما يجوز عليه، وهو كُفْرٌ باتِّفاقٍ. وعليه: جاز أَن يُحيط به تعالى العالَم مِن كلِّ الجِهاتِ، فيكون محصوراً مَحدوداً بمخلوقاته من كلِّ الجِهاتِ وليس مِن جِهَةِ التَّحت فقط - كما يزعمون -، وَهُو كُفْرٌ بِاتِّفَاقٍ.

قال حُجَّةُ الإسلَامِ أبُو حَامِدٍ الغَزَاليُّ (ت : 505 هـ) : ((نَدَّعِي: أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِالِاسْتِقْرَارِ عَلَى الْعَرْشِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُتَمَكِّنٍ عَلَى جِسْمٍ وَمُسْتَقِرٍّ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ لَا مَحَالَةَ. فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ: أَكْبَرَ مِنْهُ، أَوْ أَصْغَرَ، أَوْ مُسَاوِيًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنِ التَّقْدِيرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُمَاسَّهُ جِسْمٌ مِنْ هَذِهِ الجِهَةِ لَجَازَ أَنْ يُمَاسَّهُ مِنْ سَائِرِ الجِهَاتِ، فَيَصِيرُ مُحَاطًا بِهِ، وَالخَصْمُ لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ بِحَالٍ، وَهُوَ لَازِمٌ عَلَى مَذْهَبِهِ بِالضَّرُورَةِ. وَعَلَى الْجُمَلَةِ: لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى الْجِسْمِ إِلَّا جِسْمٌ، وَلَا يَحُلُّ فِيهِ إِلَّا عَرَضٌ، وَقَدْ بَانَ أنَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ)) [الاقتصادُ في الاعتقادِ (ص:168)، ط. دار المنهاج].

فهل حقًّا عجزَ الإمامُ ابن فورك - وهو من هو - على أن يُحرِّرَ حُجَّته البالغة على هذا الوَجه من الوضوح حتى يُقال عنه أنَّه: (بُهِتَ!)؟!

2- جاء في الحكاية قول السُّلطان محمود: ((لَيْسَ أَنَا وَصَفْتُهُ بِالْفَوْقِيَّةِ، فَتُلْزِمُنِي أَنْ أَصِفَهُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ))، هكذا بتقرير ليس فيه إلَّا ترديد صدى الدَّعوى العريضة نفسها!، بلا إقامة حُجَّةٍ ولا نَصب أدلَّةٍ، ولا بيان شافٍ ولا تقرير كافٍ، وكأنَّ الإمام ابن فُورَك كان يجهل تماماً أنَّ الله قد وصف نفسه بالعُلُوِّ! بل ربَّما يكون قد سَمعه لأوَّل مرَّة في حياته!
ولو كانت هذه الطَّريقة حُجَّة دامغة تقطع المخالفين، لصلحت أيضًا بالنِّسبة للحلوليَّة وغيرهم من فِرق الضَّلال، فكلّهم يدَّعون بأنَّهم لا يصفون الله إلَّا بما وصف به نفسه، فللحلولي مثلًا أن يحتجَّ لمذهبه بنُصوص الكَون السُّفلي: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ﴾ [الأنفال : 17] وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النُّور : 39] وَقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح : 10] وأيضاً: ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ [مُحمَّد : 35] وهلمَّ جَرّاً!

3- نعم؛ وصف الله تعالى نفسه بالفَوقيَّة، ولكن: هل هي فَوقيَّة مكانٍ أم مكانةٍ أم هما معاً؟، وأين الدَّليل على صحَّة هذا المعنى دون الآخر؟، وأينَ في نصوص الوَحيَين أَنَّه تعالى فوق العالَم بِالجِهةِ والمكان والمسافةِ والحيِّز؟! هكذا تكون المباحثة من أجل إقامة الحُجَّة على الخصوم، وليس بالمصادرة على المطلوب.

4- الإمامُ ابنُ فُورَك لا يُنكر الفَوقيَّةَ بالمعنى اللَّائق بالله، كيف ونصوص القرآن والسُّنَّة طافحة بإثباتها للهِ ربِّ العالَمين، وإنَّمَا يُنكر فَوقيَّةَ المكان والجِهَةِ والتَّحيُّزِ المستلزمة لإثبات الجِسميَّةِ، وقد مرَّ معنا كلامه في هذه المسألة بإسهاب.

إذن: فعلى أيِّ وجه يُبهت الإمامُ ابنُ فُورَك إذا سمع من أحدهم أنَّ الله قد وصفَ نفسه بِالفَوْقِيَّة؟!

5- في أَنَّ الحُجَّة التي ذكرها الإمامُ ابنُ فُورَك مُلزمةٌ للجِهوِيَّة بِالتَّجسيم:

ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ حُجَّةً مِن حُجَجِ الإمامِ الفخِر الرَّازِي الملزمة للجِهَوِيَّة بوَصفه تعالى بصفة التَّحتيَّة - بناءً عَلَى مذهبهم في مسألة العُلُوِّ - فقالَ: ((قَالَ الرَّازِيُّ: الْبُرْهَانُ الْخَامِسُ: هُوَ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ تَعَالَى فِي الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ. بَيَانُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ خُسُوفٌ قَمَرِيٌ فَإِذَا سَأَلْنَا سُكَّانَ أَقْصَى الْمَشْرِقِ عَنِ ابْتِدَائِهِ قَالُوا: إِنَّهُ حَصَلَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَإِذَا سَأَلْنَا سُكَّانَ أَقْصَى الْمَغْرِبِ قَالُوا: إِنَّهُ حَصَلَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ هُوَ بِعَيْنِهِ آخِرُ اللَّيْلِ فِي أَقْصَى الْمَغْرِبِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ الْأَرْضِ كُرَةً. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْأَرْضَ لَمَّا كَانَتْ كُرَةً امْتَنَعَ كَوْنُ الْخَالِقِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْيَازِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ كُرَةً فَالْجِهَةُ الَّتِي هِيَ فَوْقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُكَّانِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ هِيَ تَحْتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُكَّانِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَعَلَى الْعَكْسِ، فَلَوِ اخْتَصَّ الْبَارِي بِشَيْءٍ مِنَ الْجِهَاتِ لَكَانَ تَعَالَى فِي جِهَةِ التَّحْتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَصْمِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُخْتَصًّا بِالْجِهَةِ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (4/3-4)، ط. المجمَّع].

ثمَّ ردَّ عليه ابنُ تيميَّة من وجوه وفي ثنايا بعضها قال: ((فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتَهُ مِنَ التَّحْتِيَّةِ لِبَعْضِ النَّاسِ، لَنَا فِيهِ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَمْنَعَ كَوْنَ ذَلِكَ تَحْتِيَّةً، وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: مِثْلُ هَذِهِ التَّحْتِيَّةِ لَيْسَ تَمْتَنِعُ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (4/49)، ط. المجمَّع] إذن فهذه التَّحتيَّة غير ممتنعة عند ابن تيميَّة!

ثمَّ قال مخاطبًا الإمام الفخر الرَّازي: ((إِنَّكَ اسْتَدْلَلْتَ بِمُوَافَقَةِ الْخَصْمِ لَكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالتَّحْتِيَّةِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْفَوْقِيَّةِ؛ فَذَكَرْتَ أَنَّ وَصْفَهُ بِالْفَوْقِيَّةِ أَوْ بِغَيْرِهَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالتَّحْتِيَّةِ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا يُوصَفُ بِالْفَوْقِيَّةِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ كَالسَّمَوَاتِ وَالْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا يَجِبُ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ التَّحْتِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْتَهَا لِمَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الْحُجَّةِ؛ ثُمَّ قُلْتَ: "وَالتَّحْتِيَّةُ مُتَّفَقٌ عَلَى انْتِفَائِهَا فَيَجِبُ نَفْيُ مَلْزُومِهَا وَهُوَ الْوَصْفُ بِالْفَوْقِيَّةِ")) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (4/49)، ط. المجمَّع].

ثمَّ قال ابنُ تيميَّة مُنتحلًا كالعادة لسان غيره: ((فَيُقَالُ لَكَ: إِذَا كَانَ كُلُّ مَا وُصِفَ بِالْفَوْقِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ وَصْفِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَانَ هَذَا لَازِمًا لِكُلِّ مَا هُوَ فَوْقُ وَعَالٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْذُورًا، فَنَحْنُ نَلْتَزِمُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ مَا يُوصَفُ بِالْفَوْقِ، وَهَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ لَا يُوصَفَ لَا بِفَوْقِيَّةٍ وَلَا غَيْرِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمُهُ، لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ فَوْقَ شَيْءٍ أَصْلًا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ جِهَاتِهِ السِّتِّ وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا يُشَارُ إِلَيْهِ: لَا يَكُونُ إِلَّا مَعْدُومًا. فَثُبُوتُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتَهُ - إِنْ سُلِّمَ أَنَّ فِيهِ تَحْتِيَّةً تُجَامِعُ الْفَوْقِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ - خَيْرٌ مِنْ سَلْبِ الْفَوْقِيَّةِ وَسَائِرِ الْمَعَانِي السَّلْبِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِعَدَمِهِ، فَإِنَّكَ نَزَّهْتَهُ مِمَّا ادَّعَيْتَ أَنَّهُ تَحْتِيَّةٌ لِتَنْفِيَ بِذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْفَوْقِيَّةِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ بِالْكُلِّيَّةِ. فَمَا فِي قَوْلِكَ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ الَّذِي يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ أَعْظَمُ مِمَّا ادَّعَيْتَهُ فِي قَوْلِ مُخَالِفِكَ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (4/419-50)، ط. المجمَّع] إذن: فابنُ تيميَّةَ لا يجد أيّ غضاضة في التزام ما ألزم به الرَّازي الجِهويَّةَ من شناعات، بل وصفه تعالى بِالفَوْقِيَّةِ الحِسَّيَّةِ مع وصفه بالسُّفُولِ وَالتَّحْتِيَّةِ الحِسِّيَّةِ خيرٌ مِن تنزيهه تعالى عن الجِهة الحِسِّيَّة!، هكذا يُقرِّر الحرَّاني كما ترى.

وقال ابن تيميَّة أيضاً في أحد وجوه ردِّه على الإمام الرَّازي: ((إِذَا كَانَ الْبَارِي فَوْقَ الْعَالَمِ، وَقُلْتَ [=يُخاطِب الإمام الرَّازي]: "إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةِ التَّحْتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ"، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ، وَأَنْتَ لَمْ تَذْكُرْ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ لَا حُجَّةً عَقْلِيَّةً وَلَا سَمْعِيَّةً؟، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ فَعِنْدَكَ لَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يُحِيلُ النَّقْصَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَقْصٍ بَلْ هَذَا غَايَةُ الْكَمَالِ وَالْإِحَاطَةِ كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (4/45)، ط. المجمَّع] إذن: أن يكون الله في جِهة التَّحتِ بالنِّسبة لبعض النَّاس، هذا غايةٌ في إثبات الإحاطة المكانيَّة لله!، فهو سبحانه فَوق بعض النَّاس - في القُطب الشَّمالي مثلًا - فَوْقِيَّةً حِسِّيَّةً بالمسافة، وبالنِّسبة لآخرين - في القُطب الجنوبي مثلًا - فهو تعالى أسفل مِنهم وتَحتهم بالمسافة أيضاً، وهذا يقتضي أن يكون تعالى مُحيطًا بالعالَمِ كُلِّهِ إحاطةً حِسِّيَّةً مِن كلِّ الجِهاتِ، فالله تعالى: فَوقَ وتَحتَ، وهذا غايةُ الكمال والإحاطة المكانيَّة!، هكذا يُقرِّر ابن تيميَّة جوابًا على إلزام الإمام الرَّازي كما ترى.

وعلى هذا؛ فيلزم أن يكون العالَم داخل الذَّات العليَّة!، وبالتَّالي ذاته - جلَّ وعزَّ - هو محلُّ ومكانُ العالَم!، والعياذ بالله.

وممَّا يزيدك يقينًا بأنَّ هذا الرَّجل يقصد حقًّا الإحاطة المكانيَّة في حقِّ ربِّه، هو أنَّه بنفسه قال: ((الْمُصَلِّيَ إِنَّمَا مَقْصُودُهُ التَّوَجُّهُ إِلَى رَبِّهِ، وَكَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ أَنْ يُبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ إِلَى أَيِّ الْجِهَاتِ صَلَّيْتَ فَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى رَبِّكَ، لَيْسَ فِي الْجِهَاتِ مَا يَمْنَعُ التَّوَجُّهَ إِلَى رَبِّكَ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ وَافِيَةً بِالْمَقْصُودِ. فَقَالَ: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ [البَقَرَة : 115]، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِلْكُهُ، وَهُوَ خَلْقُهُ. وَقَدْ عُلِمَ بِالْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ أَنَّ الرَّبَّ فَوْقَ خَلْقِهِ، وَمُحِيطٌ بِهِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَقْبَلَ شَيْئًا مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى رَبِّهِ، كَسَائِرِ مَا يَسْتَقْبِلُهُ، وَاللَّهُ قِبَلَ وَجْهِهِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ صَلَّى؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ)) [بَيانُ تلبيس الجَهميَّة (6/79)، ط. المجمَّع].

وقال أيضاً: ((وَالْعَبْدُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ، وَاللَّهُ يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، مَا لَمْ يَصْرِفْ وَجْهَهُ عَنْهُ، كَمَا تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ مِثْلَ قَوْلِهِ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ" وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَيْنَمَا اسْتَقْبَلَ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ وَجْهَ اللَّهِ، فَإِنَّ ثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ عَلَى سَمَوَاتِهِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ كُلِّهِ، فَأَيْنَمَا وَلَّى الْعَبْدُ فَإِنَّ اللَّهَ يَسْتَقْبِلُهُ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (6/76-77)، ط. المجمَّع].

فهذه نصوص الرَّجل في إثبات الإحاطة الحِسِّيَّة في حقِّ ربِّهِ، وهو ما يفسِّر التزامه بما ألزم به الإمامُ الرَّازي الجِهَويَّةَ أي: إثبات التَّحتيَّة لله، ويُطلق عليها ابن تيميَّة في بعض المواضع: التَّحتيَّة الإضافيَّة أو التَّقديريَّة.

وبعد هذا يحقُّ لك أن تقلِّب كفيك وأنت تقرأ لابنِ تيميَّةَ مُقرِّراً: ((السُّفْلُ مَذْمُومٌ فِي الْمَخْلُوقِ، حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ، وَذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْعِبَادِ، حَتَّى أَنَّ أَتْبَاعَ الْمُضِلِّينَ طَلَبُوا أَنْ يَجْعَلُوهُمْ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ لِيَكُونُوا مِنَ الْأَسْفَلِينَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مِمَّا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ، وَيُوصَفُ بِهِ الْمَذْمُومُ الْمَعِيبُ مِنَ الْمَخْلُوقِ؛ فَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُنَزَّهَ وَيُقَدَّسَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي السُّفْلِ أَوْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالسُّفْلِ هُوَ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ، أَوْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي صِفَاتِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ بَلْ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى بِكُلِّ وَجْهٍ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهمِيَّةِ (5/99)، ط. المجمَّع]! وقال أيضاً: ((اللَّهُ فِي الْعُلُوِّ لَا فِي ‌السُّفْلِ)) [الفَتوَى الحَمَوِيَّة الكُبرى ضمن مَجموع الفتاوى (5/70)، ط. دار الوَفاء] !

وَأيضا: أَلْزَمَ الإِمَامُ الرَّازِيُّ المجسِّمةَ بِقَولِهِ: ((إِنْ لَمْ يَكُنْ لِامْتِدَادِهِ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ نِهَايَةٌ، فَكُلُّ نُقْطَةٍ فَوْقَهَا أُخْرَى، فَلَا شَيْءَ يُفْرَضُ فِيهِ إِلَّا وَهُوَ سَافِلٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نِهَايَةٌ كَانَ فَوْقَ طَرَفِ الْعُلُوِّ خَلَاءٌ أَعْلَى مِنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ عُلُوًّا مُطْلَقًا)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (7/12)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية] وَ[الأربعين في أصول الدِّين (1/163)، ط. مكتبة الكلِّيات الأزهريَّة] ومُراد الإمام أَنَّ قَوْلَهُم بِفَوْقِيَّةِ المَسَافَةِ يَسْتَلْزِمُ أن يكونَ الجانب الفَوقَانِي مِنَ الذَّاتِ العَلِيَّةِ أعلى مسافةً من الجانب التَّحتَّاني منه والَّذي هو أقرب إلى سطح العرش، وبالتَّالي تفاوُت جوانبه تعالى مِن حيث الكمال؛ فكلُّ جُزءٍ أعلى في الذَّات فهو أكمل من الجزء الَّذي تحتَه وهكذا، فيلزم نسبة النَّقص للرَّبِّ!

ويلزم أيضا وصف جانب الذَّات العَلِيَّة التَّحتاني - القريب من صفيحة العرش -أقول: يلزم وصفه بالسُّفل، بالنِّسبة إلى الجانب الفَوقَاني المتباعد عن العرش!، وهكذا.

ولما كان الأمر كذلك اعترض ابنُ تَيمِيَّة على إلزام الإمام الرَّازي هذا من وجوهٍ، فاستعمل أسلوبه المعروف - مُنْتَحِلًا لِسَانَ غَيْرِهِ فِي مَقَامِ الاحْتِجَاجِ عَلَى الفَخْرِ - فقال في الوَجه الثَّالث: ((الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ لَهُ إِخْوَانُهُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ فِي ذَاتِهِ: قَوْلُهُ: "إِنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى فَكُلُّ نُقْطَةٍ مِنْهَا فَوْقَهَا نُقْطَةٌ، فَكُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ سُفْلٌ" لَا يَقْدَحُ فِي مَطْلُوبِنَا، فَإِنَّ مَقْصُودَنَا أَن لَّا يَكُونَ غَيْرُهُ أَعْلَى مِنْهُ، بَلْ هُوَ عَالٍ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا قَدَّرْتَ أَنَّهُ مَا مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا وَغَيْرُهُ مِنْهُ أَعْلَى مِنْهُ، لَمْ يَقْدَحْ هَذَا فِي مَقْصُودِهِ وَلَا فِي كَمَالِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا مَا هُوَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالْوَاجِبُ إِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا كَمَالٌ فِي الْعُلُوِّ، وَلَا يَقْدَحُ فِي الْعَالِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ عَالِيًا عَلَيْهِ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (7/12)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة] فالتَزَم ابن تيميَّة الجِسميَّة ووصف (بعض!) الذَّات العليَّة بِالتَّحتيَّة كما يعكسه قوله: ((وَلَا يَقْدَحُ فِي الْعَالِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ))، فالرَّجل يَتَكَلَّمُ حَتْمًا عَنْ جِسْمٍ مُمتدٍّ في الأبعادِ بطولٍ وعرضٍ وعُمقٍ، مُتراميَ الأَطرافِ، يَسْكُنُ فَوْقَ العَرشِ، له حَجْمٌ ونِهاياتٌ وحدودٌ ومِساحةٌ، ومَسافةٌ بَين جوانبه، ويَعْلُو جانبهُ الفَوْقَانِي عَلَى جانبهِ التَّحْتَانِي!

وممَّا يثير الانتباه هو أنَّ ابن تيميَّة لم يُعرِّج هنا على إلزام الإمام الرَّازي القائل - كما مرَّ معنا -: ((وَإِنْ كَانَ لَهُ نِهَايَةٌ كَانَ فَوْقَ طَرَفِ الْعُلُوِّ خَلَاءٌ أَعْلَى مِنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ عُلُوًّا مُطْلَقًا)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (7/12)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية].

ولكنَّ ابن تيميَّة قد تعرَّض لهذا الإلزام من جهة أخرى كما في نقضه على تأسيس التَّقديس للفخر الرَّازي، ولا بأس أن نذكر كلامه هناك:
ذكر ابنُ تيميَّة إلزَام الإمام الرَّازي للجِهَوِيَّةِ، وهو قوله: ((أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَنَاهِيًا مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، فَحِينَئِذٍ يُفْرَضُ فَوْقَهُ أَحْيَازٌ خَالِيَةٌ وَجِهَاتٌ فَارِغَةٌ، فَلَا يَكُونُ هُوَ تَعَالَى فَوْقَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ؛ بَلْ تَكُونُ تِلْكَ الْأَحْيَازُ أَشَدَّ فَوْقِيَّةً مِنَ اللَّهِ. وَأَيْضًا فَهُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ الْفَارِغِ، فَلَوْ فُرِضَ حَيِّزٌ خَالٍ لَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ فِيهِ جِسْمًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ هَذَا الْجِسْمُ فَوْقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ عِنْدَ الْخَصْمِ مُحَالٌ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهمِيَّةِ (3/681-682) و(3/752-753)، ط. المجمَّع] فالإمامَ الرَّازي يخاطبُ هنا المجسِّمةَ الذين يعتقدون أنَّ ربَّهم مُتَحَيِّزٌ وله حَجمٌ مَحدودٌ، وليس هو ذاهباً في الجِهاتِ إلى لا نهاية، ويعتقدون أيضاً أنَّ ربَّهم فوق العالَمِ فَوقِيَّةَ مَكانٍ وجِهَةٍ.

فيقول لهم: إذا كان الله محدوداً ومتناه الذَّات مِن كلِّ الجِهاتِ [راجع الكاشف الصَّغير عن عقائد ابنِ تيميَّة للأستاذ سعيد فودة (ص: 263)، دار الرَّازي]:
1- فإِمَّا أن تكون الجِهات وُجُودِيَّة: تتمايَز بعضها عن بعض، وهذا يُفضي إلى إثبات قديمٍ مع الله، وهو كُفْرٌ باتِّفاقٍ.
2- وإمَّا أن تكونَ الجِهات عَدَمِيَّة: فلا ميزة لواحدةٍ على الأخرى، وهنا: يَرد إلزام الإمام الرَّازي لهؤلاء المجسَّمة، وهو: إذا أراد الله أن يخلق جسماً فيستحيل أن يخلقَه داخل ذاته باتِّفاقٍ، وهذا لأنَّ الله ليس جِسماً عند المنزِّهة فلا يقبل الدُّخول ولا الخروج، وعند المجسِّمة: لأنَّهم يعتقدون أنَّه تعالى جِسمٌ مُصمتٌ لا جوف بداخله، فلا بُدَّ عندهم أن يخلق الله الجِسم خارج ذاته، في جهة منه، وبما أنَّه لا تمايز بين الجهات في أنفسها لأنَّها عَدَميَّة، فكما يمكن أن يخلق الله الجسم تحتَه، فكذلك يجوز أن يخلقه فوقَه، ومحاولة التَّفريق هنا محض تحكُّم ليس إلَّا، وعلى هذا جاز وجود جِسمٍ فَوق الله بالمسافة والجهة، وبالتَّالي يبطل مذهب المجسَّمة الجِهويَّة في العُلُوِّ الحِسِّي.

هذا وجه إلزام الإمام الفخر الرَّازي للمجسَّمة، وهو جارٍ على نفس طريقة الإمامِ ابنِ فُورَك في إلزامِ الكرَّاميَّة بحسب ما جاء في الحكاية أعلاه.

فما كان من ابنِ تيميَّة إلَّا ردَّ على إلزام الإمام الرَّازي هنا - بعد أخذٍ وردٍّ ومصادرة على المطلوب - قائلًا: ((وَأَيْضًا: فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَلَمْ تَذْكُرْ عَلَى إِبْطَالِهِ حُجَّةٌ؛ لَاسِيَّمَا وَعِنْدَكَ أَنَّ النَّقْصَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُعْلَمِ امْتِنَاعُهُ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا عَلِمْتَهُ بِالْإِجْمَاعِ، لَاسِيَّمَا إِنِ احْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [الْبَقَرَةُ : 210] وَبِقَوْلِهِ: "كَانَ فِي عَمَاءٍ، مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ". لَاسِيَّمَا وَهَذَا لَا يُنَافِي الْفَوْقِيَّةَ وَالْعُلُوَّ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ وَالتَّدْبِيرِ، وَعِنْدَكَ لَا يَسْتَحِقُّ اللَّهُ الْفَوْقِيَّةَ إِلَّا بِهَذَا، وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ سَوَاءٌ خَلَقَ فَوْقَهُ شَيْئًا آخَرَ أَوْ لَمْ يَخْلُقْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُسْتَحِيلًا عَلَى أَصْلِكَ لَمْ يَصِحَّ احْتِجَاجُكَ بِاسْتِحَالَتِهِ عِنْدَ الْمُنَازِعِ الَّذِي يُنَازِعُكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، بَلْ قَدْ يَقُولُ لَكَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا يَمْنَعُ جَوَازَ ذَلِكَ إِلَّا هَذَا فَعَلَيْكَ أَنْ تَقُولَ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَانِعٍ عِنْدَكَ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهمِيَّةِ (3/758 إلى 760)، ط. المجمَّع].
إذن: فجائزٌ أن يخلق الله جسماً فَوقَه بِالمسافةِ والجِهَة!!!، والرَّازي لم يذكر حُجَّة تمنع ذلك، ولا سيَّما وأنَّ ظاهر قوله تعالى: ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [الْبَقَرَةُ : 210] وَحديث: "كَانَ فِي عَمَاءٍ، مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ" يدلُّ على جواز أن يكون الغمام والهواء فوقَ الله تعالى بالجهة!!!، ولا سيِّما أيضًا أنَّ هذا القول مخرَّج على مذهب الرَّازي نفسه لأنَّه لا يقدح في فَوقِيَّة الرُّتبة الَّتي يُثبتها هو وحزبه!!!، هكذا يدَّعي ابنُ تيميَّة في هذا النَّصِّ الخطير، منتحلًا - كالعادة - لسان المخالفين للإمام الرَّازي، وما هو إلَّا لسانه هو لا غير، ولتنظر فقط في طريقة عرضه وإقراره وتسليمه بهذا الكلام لكي تدرك هذه الحقيقة، ودع عنك الآن ما لفَّقه الرَّجل من افتراءات في حقِّ الإمام الرَّازي.

يُتبع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... kkNuxExrkl

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... m5Eunmk2bl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يوليو 19, 2024 9:26 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مارس 29, 2012 9:53 pm
مشاركات: 46270
تسجيل متابعه

_________________
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يوليو 19, 2024 10:06 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717
شرفني بركة مروركم دكتورنا السيد الفاضل د حامد الديب

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 21, 2024 9:41 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (16)

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فيِ نصٍّ آخر: ((وَهَذِهِ عَادَةُ ابْنِ فُورَكٍ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا نُوظِرَ قُدَّامَ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ أَمِيرِ الْمَشْرِقِ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ وُصِفَ الْمَعْدُومُ لَمْ يُوصَفْ إلَّا بِمَا وَصَفْتَ بِهِ الرَّبَّ مِنْ كَوْنِهِ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، كَتَبَ إلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمَا إلَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، فَأَجَابُوا لِمَنْ عَارَضَهُمْ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ بِدَعْوَى الْحُجَّةِ)) [التِّسعينِيَّة ضمن الفتاوى الكبرى (6/531-532)، ط. دار الكتب العلميَّة] ثمَّ ادَّعى أنَّ مثلَ هذه الطَّريقة في التَّنزيه من الإمامِ فيها: ((جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَذَلِكَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، فَإِذَا قِيلَ لِلشَّخْصِ: هَذَا الْكَلَامُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، هَلْ يَكُونُ جَوَابُهُ أَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ؟! بَلْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ بَدِيهَةَ الْعَقْلِ وَضَرُورَتَهُ، وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِحَقٍّ، فَإِنَّ الْبَدِيهَاتِ لَا تَكُونُ بَاطِلَةً، بَلْ الْقَدْحُ فِيهَا سَفْسَطَةٌ، وَهُمْ دَائِمًا يُنْكِرُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مُخَالَفَتَهُمْ مَا هُوَ دُونَ هَذَا)) [التِّسعينِيَّة ضمن الفتاوى الكبرى (6/532)، ط. دار الكتب العلميَّة] وهو يقصد هنا أهل السُّنَّة السَّادة الأشاعرة طبعاً، ودعواه الضَّرورة والبديهة العقليَّة في هذا الأمر يُعدُّ من تهويلاته المعروفة، فتراه يُطبِّق أحكام الجِسم المحدود على الرَّبِّ المعبود، ثمَّ يدَّعي أن سلبه تعالى هذه المعاني والأحكام - المتعلَّقة بالأجسامِ - يستلزم ببديهة العقل وصفه بصفة المعدوم!، فكان يتوَجَّب عليه أوَّلًا أن يُثبتَ بأنَّ ربَّه جِسمٌ يَقبل الدُّخول في شيء أو الخروج منه؛ ثمَّ يبني عليه ما شاء من أحكام التَّجسيم التي يُطلقها في حقِّ ربِّه جُزافاً.

ثمَّ يقال له: هَلْ الله قَادِرٌ عَلَى أَن يَعْدِمَ العَالَم مِن العَرش إِلى الفَرش؟، فإن كانَ الجَواب:
1- لَا؛ فهُوَ كُفْرٌ باتِّفاقٍ، لِأَنَّهُ تَعْجِيزٌ لِطَلَاقَةِ القُدْرَةِ الإِلَهِيَّةِ فِي التَّأْثِيرِ عَلَى المَخْلُوقَاتِ المُمْكِنَاتِ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا.
2- نَعَم؛ فَعَدمُ العَالَمِ مَعناه بِالضَّرورةِ أنَّهُ جَلَّا وعلَا لَا دَاخِلَهُ وَلَا خَارِجَهُ، لَا مُتَّصِل بشيءٍ بمُماسَّةٍ ولا مُنفصل عنه بِمسافةٍ، صح؟ إذن: أَيْنَ ذهبت هُنا بديهة العقل الَّتي يدندن حولها الرَّجل؟!

وفي هذا؛ يقول الإمامُ أَبُو القَاسِمِ الأَنصاريُّ النِّيسابُورِيُّ (ت : 512 هـ): ((إِذَا قَدَّرْنَا عَدَمَ العَالَمِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي قَضِيَّةِ العَقْلِ: فَوْقٌ وَلَا تَحْتٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لِلْقَدِيمِ فِي الْأَزَلِ جِهَةٌ وُجُوباً عَلَى زَعْمِ الخُصُومِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلْعَالَمِ جِهَةٌ وُجُوباً لِتَسَاوِي الجِهَاتِ بِالإِضَافَةِ إِلَى المُحْدَثَاتِ، فَمَا المَانِعُ مِنْ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي جِهَةٍ لَا يَكُونُ بِالإِضَافَةِ إِلَى وُجُودِهِ - سُبْحَانَهُ - تَحْتاً)) [الغُنْيَة فِي الكلَام (1/389)، ط. دارُ السَّلام] وَراجع أيضاً [شَرْحُ الإرشاد (1/338)، ط. دار الضِّياء].

وأوضح حُجَّةُ الإسلَامِ أبُو حَامِدٍ الغَزَاليُّ (ت : 505 هـ) معنى كونِ الشَّيء في جِهَةٍ، وأنَّ الجِهات من الأمور الإضافيَّة، وأنَّها نِسبَة بين مُتَحَيِّزَيْنِ فقال: ((الحَيِّزُ إِنَّمَا يَصِيرُ جِهَةً إِذَا أُضِيفَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ مُتَحَيِّزٍ. وَالْجِهَاتُ سِتٌّ: فَوْقٌ، وَأَسْفَلُ، وَقُدَّامٌ، وَخَلْفٌ، وَيَمِينٌ، وَشِمَالٌ. فَمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ فَوْقَنَا: هُوَ أَنَّهُ فِي حَيِّزٍ يَلِي جَانِبَ الرَّأْسِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ تَحْتَنَا: أَنَّهُ فِي حَيِّزٍ يَلِي جَانِبَ الرِّجْلِ، وَكَذَا سَائِرُ الجِهَاتِ، فَكُلُّ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ فِي جِهَةٍ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ فِي حَيِّزٍ مَعَ زِيَادَةِ إِضَافَةٍ)) [الاقتصادُ في الاعتقادِ (ص: 154)، ط. دار المنهاج] ثمَّ قال: ((فَإِنْ قِيلَ: اخْتصَّ بِجِهَةِ فَوْقٍ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الجِهَاتِ. قُلْنَا: إِنَّمَا صَارَتْ الجِهَةُ جِهَةَ فَوْقٍ بِخَلْقِهِ العَالَمَ فِي هَذَا الحَيِّزِ الَّذِي خَلَقَهُ، فَقَبْلَ خَلْقِ العَالَمِ لَمْ يَكُنْ فَوْقٌ وَلَا تَحْتٌ أَصْلًا؛ إِذْ هُمَا مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلِ، وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ حَيَوَانٌ فَتُسَمَّى الجِهَةُ الَّتِي تَلِي رَأْسَهُ فَوْقاً، وَالْمُقَابِلُ لَهُ تَحْتاً)) [الاقتصادُ في الاعتقادِ (ص: 156-157)، ط. دار المنهاج] نعم؛ فَقَبْلَ خَلْقِ العَالَمِ لَمْ يَكُنْ فَوْقٌ وَلَا تَحْتٌ أَصْلًا، فلا كان الله داخلَ العالَم ولا خارجَهُ، وهذا صفة المعدوم عند ابن تيميَّة وأسلافه الكرَّاميَّة!

وقال أيضاً القاضي أبو بَكرٍ بن العَربي الإشبيلي المالكي (ت : 542 هـ) في ردِّ هذه الدَّعوى الباطلة: ((قَوْلُهُمْ: إِنَّ البَارِي تَعَالَى لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ العَالَمِ أَوْ خَارِجَهُ، وَكَوْنُهُ دَاخِلَ العَالَمِ مُحَالٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَارِجَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِجِهَةٍ مِنْهُ.
قُلْنَا: لاَ نَقُولُ: إِنَّهُ دَاخِلَ العَالَمِ وَلاَ خَارِجَهُ.
قَالُوا: فَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنِ المَعْدُومِ.
قُلْنَا: هَذَا مُحَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
- أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُم: "خَارِجَهُ" لَفْظَةٌ مُوهِمَةٌ؛ لِأَنَّ "خَارِجَ" فَاعِلٌ مِنْ خَرَجَ، وَوَصْفُ البَارِي بِذَلِكَ مُحَالٌ، فَالْغُواْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِكُمْ.
- الثَّانِي: أَنَّ العَالَمَ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِعَدَمٍ، لَهُ أَوَّلٌ، وَقَدْ كَانَ البَارِي تَعَالَى وَالعَالَمُ مَعْدُومٌ، فَهَلْ كَانَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: دَاخِلَ العَالَمِ أَوْ خَارِجَهُ؟ فَحَالُهُ بَعْدَ وُجُودِ العَالَمِ كَحَالِهِ مَعَ عَدَمِهِ)) [المُتَوَسِّط فِي الاعتِقادِ (ص: 167-166)، ط. دَار الحَدِيثِ الكَتَّانِيَّة] أي: بلَا جِهَةٍ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أيضاً: ((وَأَظْهَرَ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ سُبْكْتِكِينَ لَعْنَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَأَظْهَرَ السُّنَّةَ، وَتَنَاظَرَ عِنْدَهُ ابْنُ الْهَيْصَمِ وَابْنُ فُوْرَكَ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ، فَرَأَى قُوَّةَ كَلَامِ ابْنِ الْهَيْصَمِ، فَرَجَّحَ ذَلِكَ، وَيُقَالُ إِنَّهُ قَالَ لِابْنِ فُورَكَ: فَلَوْ أَرَدْتَ تَصِفُ الْمَعْدُومَ كَيْفَ كُنْتَ تَصِفُهُ بِأَكْثَرِ مِنْ هَذَا؟، أَوْ قَالَ: فَرِّقْ لِي بَيْنَ هَذَا الرَّبِّ الَّذِي تَصِفُهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ؟، وَأَنَّ ابْنَ فُورَكَ كَتَبَ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ يَطْلُبُ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ إِلَّا أَنَّهُ: لَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ فَسَادُ قَوْلِ ابْنِ فُورَكَ سَقَاهُ السُّمَّ حَتَّى قَتَلَهُ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (6/253)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية].

وهنا يزعم ابن تيميَّة أن ابنَ فُورَك قد استعان بالإمامِ الأستاذ أبي إسحاق الإسفَرَايِني حتَّى يجد جوابًا لإلزام الكرَّاميَّة، وأنَّ الأستاذَ نفسه لم يستطع الجواب إلَّا بذكر ملازمة الفَوْقِيَّة الحِسِّيَّة للجسميَّة، وتأمَّل هنا كيف يقلِّل الحرَّاني من أمر هذه الملازمة، وكأنَّ لزوم التَّجسيم عن إثبات الجِهة والمكان لله؛ أمرٌ مُسلَّمٌ ولا غرابة فيه!

وَابنُ تيميَّة باستسمانه لابنِ سُبُكْتِكِينَ وقوله: ((فَلَوْ أَرَدْتَ تَصِفُ الْمَعْدُومَ كَيْفَ كُنْتَ تَصِفُهُ بِأَكْثَرِ مِنْ هَذَا؟، أَوْ قَالَ: فَرِّقْ لِي بَيْنَ هَذَا الرَّبِّ الَّذِي تَصِفُهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ؟)) يكون قد استسمن ذا وَرَمٍ؛ لأنَّ هناك فرق عظيم بين قولنا:
1- كلُّ جِسمٍ ليس بمحدُودٍ ولا مُتَحَيِّزٍ ولا يقبل الدُّخولَ والخُروجَ فهو مَعدومٌ.
2- كلُّ مَوجُودٍ ليس بمحدُودٍ ولا مُتَحَيِّزٍ ولا يقبل الدُّخولَ والخُروجَ فهو مَعدومٌ.

فالقولُ الأوَّلُ مُسلَّمٌ؛ لأنَّ الجسم لا بُدَّ له من حَجمٍ ومِساحة، وحيِّزٍ أي: تقدير فراغٍ تنفذ فيه أبعاده الحِسِّيَّة وتنتشر فيه ذاته الجسمانيَّة، وعند نِهاية حدوده وأطرافه، يمكن أن يبدأ حدود وأطراف الجِسم الَّذي يقابله، فيقال أنَّه في جِهةٍ منه. وعلى هذا: فسلب هذه اللَّوازِم عن الجِسمِ يستلزم القول بعدمه.

وأمَّا القول الثَّاني فيتناول الكلام على كلِّ موجودٍ: وَاجب الوُجود سبحانه وتعالى، وممكن الوجود المخلوق، وعليه: فهو قول صحيح إذا كان المقصود بالموجود هنا: الجسم كما في القول الأوَّل، وأمَّا إذا أريد بالموجود هنا: واجب الوُجود، فلا يمكن أن يكون صحيحًا إلَّا إذا أقام الخصم - المدَّعي - الدَّليل القاطع على أنَّ واجب الوُجود جِسمٌ مُتحيِّزٌ مَحدودٌ، وعندها يحقُّ له أن يقول: مِن غير المعقول نفي الدُّخول والخروج عن الجِسمِ، وأنَّ نفي ذلك عنه يساوي القول بعدمه.

فأين دليل الكرَّاميَّة ومُناصرهم ابن تيميَّة على أنَّ الله جِسمٌ حتَّى يبنوا عليه إلزامهم هذا لأهل السُّنَّة الأشاعرة؟!

فهذا الإلزام لا يكون له معنى إلَّا إذا كان اللهُ جِسماً له حَجمٌ وأبعادٌ ومِساحةٌ، وبالتَّالي يقبل الدُّخول والخروج، ويقبل الاتِّصال الحِسِّي والانفصال بالمسافةِ.
فكان الواجب على المدَّعي أن يثبت بالأدلَّة الدَّامغة صحَّة الجسميَّة في حقِّ ربِّه أوَّلًا؛ قبل أن ينطَّ هذا النَّطِّ، ويُرغي ويُزبد، ويُفرِّع ويُفرقع، فكيف وقد بنى دعواه على سَراب؟!، فكيف والله تعالى يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشُّورى : 11]؟!

هكذا يكون تفكيك هذا القول بالطَّريقة العِلميَّة، وليس بالمصادرة على المطلوب، والتَّهوين تارة، والتَّهويل في أخرى كما يفعل ابن تيميَّة.
ثمَّ إنَّ أئمَّتنا تجدهم في مثل هذه الأمور يلزمون المخالفين لهم مِن المجسَّمة بشناعات أقوالهم، الَّتي يتظاهرون بالفرار منها، ولكنَّها لازمة لهم بلا انفكاك، فيُعاملونهم بطريقة "مِن فَمك ندينك"، وبهذا قضوا على بدعة الكرَّاميَّة ونُسختها المعدَّلة الهَيصميَّة.

وأمَّا طريقة ابنِ تيميَّة هنا، فهو يتبنى معاني الجِسميَّة بكلِّ قوَّةٍ، ولكنَّه يتظاهر فقط بتحاشي إطلاق الألفاظ كالجِسم والتَّبعيض والجارحة والحيِّز، بحجَّة أنَّ هذه الألفاظ لم ترد في نصوص الوَحيَين ولا عن السَّلف، وكأنَّ مَعانيها التي يقول بها قد ثبتت!، لأجل هذا فهو يحاول الاحتماء من وراء هذه السِّجالات التَّاريخيَّة بين أهل السُّنَّة الأشاعرة والمجسَّمة، فينصِّب نفسه حَكَمًا بين الفريقين، ويبثُ من خلالها عقائده المعروفة في التَّجسيم، بأسلوبه المعروف بالتَّشغيب واللَّفِّ والدَّوران.

يُتيع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... 7wFoBvkJUl

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... EMQqFFiWil

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت أغسطس 17, 2024 4:20 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (17)

والغريب في الأمر؛ هو أنَّ ابن تيميَّة نفسه قد احتفظ لنا ببعض كلام الإمام ابن فُورَك في رسالة بعث بها إلى الإمام أبي إسحاق الإسفَرَايِني، يحكي فيها ما جرى معه في مجلس السُّلطان ابن سُبُكتِكينَ، ويَظهر في ثنايا هذه الرِّسالة أنَّ الإمامَ ابن فُورَك قد عَرَض حُجَّته في نفي الجِهة عن الله ناصعةً دامغةً بالغةً، جرى فيها على الطَّريقة العلميَّة الرَّصينة، ولا يظهر فيها من قريب ولا بعيد أنَّ الإمامَ قد "بُهتَ" على حدِّ ما جاء في الرِّواية التي ذكرها الحافظ ابن رجب الحنبلي والحافظ الذَّهبي، بل على العكس، فالحيرة كانت بادية على السُّلطان، والإمام يحاول أن ينتزعه من ضعضاع التُّراب عند الحديث عن ربِّ الأرباب.

قال ابنُ تيميَّة: ((قَالَ ابْنُ فُورُك - فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ إلَى أَبِي إسْحَاقَ الإِسْفَرَايِينِيِّ يَحْكِي مَا جَرَى لَهُ - قَالَ: وَجَرَى فِي كَلَامِ السُّلْطَانِ: أَلَيْسَ تَقُولُ: إنَّهُ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ؟ فَقُلْتُ: "نَعَمْ؛ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَرَى نَفْسَهُ لَا فِي جِهَةٍ، وَلَا مِنْ جِهَةٍ، وَيَرَاهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا يَرَى وَرَأَى نَفْسَهُ. وَالْجِهَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الرُّؤْيَةِ". وَقُلْتُ - أَيْضًا -: "الْمَرْئِيَّاتُ الْمَعْقُولَةُ فِيمَا بَيْنَنَا هَكَذَا نَرَاهَا فِي جِهَةٍ وَمَحَلٍّ. وَالْقَضَاءُ بِمُجَرَّدِ الْمَعْهُودِ لَا يُمْكِنُ دُونَ السَّيْرِ وَالْبَحْثِ؛ لِأَنَّا كَمَا لَا نَرَى إلَّا فِي جِهَةٍ وَمَحَلٍّ، كَذَلِكَ لَمْ نَرَ إلَّا مُتَلَوِّنًا ذَا قَدْرٍ وَحَجْمٍ يَحْتَمِلُ الْمِسَاحَةَ وَالثِّقَلَ وَلَا يَخْلُو مِنْ حَرَارَةٍ وَرُطُوبَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ، إذَا لَمْ يَكُنْ عَرَضًا لَا يَقْبَلُ التَّثْنِيَةَ وَالتَّأْلِيفَ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَمَعَ هَذَا فَلَا عِبْرَةَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا".

قَالَ: "ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّ السُّلْطَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ وَثَانِي يَوْمٍ، يُكَرِّرُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَجْلِسِهِ: كَيْفَ يُعْقَلُ شَيْءٌ لَا فِي جِهَةٍ؟ وَمَا شَغَلَ الْقَلْبَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَتَرَبَّى عَلَيْهِ فَإِنَّ قَلْعَهُ صَعْبٌ، وَاَللَّهُ الْمُعِينُ. غَيْرَ أَنَّهُ فَرِحَتْ الكَرَّامِيَّةُ بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ.

فَلَمَّا رَجَعْتُ إلَى الْبَيْتِ فَإِذَا أَنَا بِرُقْعَةِ فِيهَا مَكْتُوبٌ: "الْأُسْتَاذُ - أَدَامَ اللَّهُ سَلَامَتَهُ - عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْبَارِيَ لَيْسَ فِي جِهَةٍ، فَكَيْفَ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ؟".
فَكَتَبْتُ: "خَبَرُ الرُّؤْيَةِ صَحِيحٌ. وَهِيَ وَاجِبَةٌ كَمَا بَشَّرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ قَالَ: "‌لَا ‌تُضَامُّونَ ‌فِي ‌رُؤْيَتِهِ"، وَمَعْنَاهُ: لَا تَضُمُّكُمْ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا فِي جِهَةٍ. وَكَلَامًا طَوِيلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَلَأْت ظَهْرَ الرُّقْعَةِ وَبَطْنَهَا مِنْهُ.

فَلَمَّا رُدَّتْ إلَيْهِ، أَنْفَذَهَا إلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ، وَهُوَ ‌أَبُو ‌مُحَمَّدٍ ‌النَّاصِحِيُّ، وَاسْتَفْتَاهُ فِيمَا قُلْتُهُ. فَجَمَعَ قَوْمًا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ والكَرَّامِيَةِ فَكَتَبَ هُوَ - أَعَزَّكَ اللَّهُ -: بِأَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي جِهَةٍ مُبْتَدَعٌ ضَالٌّ، وَكَتَبَ أَبُو حَامِدٍ الْمُعْتَزِلِيُّ مِثْلَهُ، وَكَتَبَ إنْسَانٌ بِسْطَامِيٌّ مُؤَدَّبٌ فِي دَارِ صَاحِبِ الْجَيْشِ مِثْلَهُ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ، فَأَنْفَذْ إلَيَّ مَا فِي ذَلِكَ الْمَحْضَرِ الَّذِي فِيهِ خُطُوطُهُمْ، وَكَتَبَ إلَيَّ رُقْعَةً وَقَالَ فِيهَا: إنَّهُمْ كَتَبُوا هَكَذَا. فَمَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الْفَتَاوَى؟

فَقُلْتُ: إنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَجِبُ أَنْ يُسْأَلُوا عَنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا بِتَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ؛ فَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْأُصُولِ وَالْفَتَاوَى فِيهَا فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّا لَا نُحْسِنُ ذَلِكَ")) [مجموع الفتاوى (16/57-58)، ط. دار الوفاء].

فهل هذا حال يُقال عن صاحبه أنَّه "بُهت" في المناظرة؟!

فأنتَ ترى أنَّ حجَّة الإمامَ تقوم على ما سبق بيانه، وهو أنَّ الجِهةَ الحِسِّيَّة لا تعقل إلَّا في الأجسام المحدودة، واللهُ ليس بجسمٍ باتِّفاق بين الإمامِ ابن فُورَك وخصمه - كما يبدو هنا -؛ لأنَّ السُّلطان لم يعترض على نفي الجِسميَّة كما في قول الإمام: ((كَذَلِكَ لَمْ نَرَ إلَّا مُتَلَوِّنًا ذَا قَدْرٍ وَحَجْمٍ يَحْتَمِلُ الْمِسَاحَةَ وَالثِّقَلَ...الخ))، وإنَّما غلب عليه وعلى من يدفعه عالَم المحسوسات، فقاسوا عليه بأنَّ كلَّ ما لَم يكن في جِهةٍ فهو معدوم، وإنَّما هذا يسري على الأجسام المحدودة لا على مَن ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشُّورى : 11].

وبعد أن ذكر ابنُ تيميَّة هذا الكلام الصَّادر من الإمام ابنِ فُورَك، جاء دوره للرَّدِّ عليه فقال: ((قُلْتُ: قَوْلُ هَؤُلَاءِ: "إنَّ اللَّهَ يُرَى مِنْ غَيْرِ مُعَايَنَةٍ وَمُوَاجَهَةٍ": قَوْلٌ انْفَرَدُوا بِهِ دُونَ سَائِرِ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ، وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ.
وَالْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ"...فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ؛ فَإِنَّ الْكَافَ - حَرْفَ التَّشْبِيهِ - دَخَلَ عَلَى الرُّؤْيَةِ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: "يَرَوْنَهُ عِيَانًا". وَمَعْلُومٌ أَنَّا نَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عِيَانًا مُوَاجَهَةً، فَيَجِبُ أَنْ نَرَاهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا رُؤْيَةُ مَا لَا نُعَايِنُ وَلَا نُوَاجِهُهُ فَهَذِهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ فِي الْعَقْلِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ كَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ)) [مجموع الفتاوى (16/58)، ط. دار الوفاء].

إذن: القولُ بأنَّ الله يُرى لا في جِهة ولا بمقابلة قول فاسد بالضَّرورة، فالله يُرى في جِهَةٍ وبمقابلة، بحيث يكون الرَّائي أي: العباد في جِهة، والمرئي أي: الله في جِهة منهم أي: فَوقَهم، وبينَ الرَّائي والمرئي: فُرجة ومَسافة وفضاء حتَّى تَصِحّ الرُّؤية باتِّصال شُعاع؛ تمامًا كما هو الأمر في رؤية الأجسامِ، هكذا يُقرِّر ابن تيميَّة كما يعكسه جليًّا قوله: ((وَأَمَّا رُؤْيَةُ مَا لَا نُعَايِنُ وَلَا نُوَاجِهُهُ فَهَذِهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ فِي الْعَقْلِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ كَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ))!

وقد تبعه في هذا ظلّه ابنُ القيِّم فقال في نُونِيَّتهِ [الكَافِية الشَّافِية (2/343) الأبيات: من 1275 إلى 1279، ط. دار عطاءات العلم]:
‌فَسَلِ ‌الْمُعَطِّلَ ‌هَلْ ‌يُرَى ‌مِنْ ‌تَحْتِنَا *** أَمْ عَنْ شَمَائِلِنَا وَعَنْ أَيْمَانِ
أَمْ خَلْفَنا وَأَمَامَنَا سُبْحَانَهُ *** أَمْ هَلْ يُرَى مِنْ فَوْقِنَا بِبَيَانِ
يَا قَوْمُ مَا فِي الأَمْرِ شَيءٌ غَيرُ ذَا *** أَوْ أَنَّ رُؤْيَتَهُ بِلَا إمْكَانِ
إِذْ رُؤْيَةٌ لَا فِي مُقَابَلَةٍ مِنَ الرَّ *** ائِي مُحَالٌ لَيْس فِي الإِمْكَانِ
وَمَنِ ادَّعَى شَيْئًا سِوَى ذَا كَانَ دَعْـ *** ـواهُ مُكَابَرةً عَلَى الأذْهَانِ

وقال أيضاً: ((وَاَلَّذِي تَفْهَمُهُ الْأُمَمُ عَلَى اخْتِلَافِ لُغَاتِهَا وَأَوْهَامِهَا مِنْ هَذِهِ ‌الرُّؤْيَةِ ‌رُؤْيَةَ ‌الْمُقَابَلَةِ ‌وَالْمُوَاجَهَةِ، الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ فِيهَا مَسَافَةٌ مَحْدُودَةٌ، غَيْرَ مُفْرِطَةٍ فِي الْبُعْدِ فَتَمْتَنِعُ الرُّؤْيَةُ، وَلَا فِي الْقُرْبِ فَلَا تُمْكِنُ الرُّؤْيَةُ، لَا تَعْقِلُ الْأُمَمُ غَيْرَ هَذَا، فَإِمَّا أَنْ يَرَوْهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تَحْتِهِمْ - تَعَالَى اللَّهُ - أَوْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَوْ أَمَامَهُمْ أَوْ عَنْ أَيْمَانِهِمْ أَوْ عَنْ شَمَائِلِهِمْ أَوْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إنْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ حَقًّا، وَكُلُّهَا بَاطِلٌ سِوَى رُؤْيَتِهِمْ لَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي فِي "الْمُسْنَدِ" وَغَيْرِهِ: "بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا الْجَبَّارُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس: 58] ثُمَّ يَتَوَارَى عَنْهُمْ، وَتَبْقَى رَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ"، وَلَا يَتِمُّ إنْكَارُ الْفَوْقِيَّةِ إلَّا بِإِنْكَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلِهَذَا طَرَدَ الْجَهْمِيَّةُ أَصْلَهُمْ وَصَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَرَكِبُوا النَّفْيَيْنِ مَعًا، وَصَدَّقَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَأَقَرُّوا بِهِمَا، وَصَارَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ وَنَفَى عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ مُذَبْذَبًا بَيْنَ ذَلِكَ، لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ)) [أعلام المُوَقِّعين (3/209-210)، ط. دار عطاءات العلم].

ولتنظر يا عبد الله في اشتراط ابن القيِّم أنَّ الرُّؤيةَ هي الَّتي ((تَكُونُ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ فِيهَا مَسَافَةٌ مَحْدُودَةٌ، غَيْرَ مُفْرِطَةٍ فِي الْبُعْدِ فَتَمْتَنِعُ الرُّؤْيَةُ، وَلَا فِي الْقُرْبِ فَلَا تُمْكِنُ الرُّؤْيَةُ)) فالرَّجل يتكلَّم حتما عن الرُّؤية المعروفة بين الأجسام! والأعجب منه ربطه امتناع الرُّؤية بمدى المسافة المحدودة بين الرَّبِّ وعباده! فرُؤية الله عنده مُمتنِعة في حال ابتعَد العبد عن ربِّه بمسافة كبيرة، أو اقتراب منه إلى حدِّ كبير، تمامًا كما هو الشَّأن في رؤيتنا للأجسام!

وأمَّا عن الحديث الَّذي احتجَّ به ابن القيِّم هنا، فقد ذكر محقِّق الكتاب في الحاشية هناك بأنَّه لم يجده في مُسند الإمام أحمد ولا في "إتحاف المهرة" للحافظ ابن حجر العسقلاني، وأنَّ الحديث عند ابن ماجة بإسناد ضعيف، ضعَّفه الحافظ الذَّهبي والبوصيري.

والحقيقة هنا هي أنَّ ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيِّم يعتقدان أنَّ ربَّهما جِسمٌ محدودٌ مُتَحَيِّزٌ في جِهةٍ من خلقه؛ لأجل هذا فالرُّؤية عندهما لا تُعقل إلَّا في جِهةٍ وبمُقابلةٍ واتِّصال شُعاعٍ بين الرَّائي والمرئي، فاشتراطهما هذه الشُّروط في الرُّؤية؛ كان لا بُدَّ أن يمهِّدان له بإقامة الدَّليل على أنَّ ربَّهما جِسمٌ، ثمَّ انطلاقا من صِحَّة هذه المقدِّمة، يحقُّ لهما أن يلتزما بهذه الشُّروط، وهو ما لَم يفعلانه، ولا يستطيعان أن يفعلانه.

وخلاصة كلام أهل السُّنَّة في مسألة الرُّؤية هو أنَّها قُوَّة يخلقها الله في عين عبده، فينكشف له بها بعض كمالاته تعالى، ومن المعلوم أنَّ هذا القدر لا يستلزم إثبات معاني الجسميَّة في حقِّه جلَّ وعلا.

قال الإمامُ النَّوويُّ (ت : 676 هـ): ((مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الرُّؤْيَةَ: قُوَّةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا اتِّصَالُ الْأَشِعَّةِ وَلَا مُقَابَلَةُ الْمَرْئِيِّ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، لَكِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ فِي رُؤْيَةِ بَعْضِنَا بَعْضًا بِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاتِّفَاقِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ، وَقَدْ قَرَّرَ أَئِمَّتُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ الْجَلِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتُ جِهَةٍ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، بَلْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ لَا فِي جِهَةٍ كَمَا يَعْلَمُونَهُ لَا فِي جِهَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)) [شَرحُ صَحِيح مُسْلم (3/15-16)، دارُ إحياء التُّراث العربي].

ولا بأس أن نذكر للقارئ ما يبيِّن له حال دعوى ابن تَيميَّة وأتباعه في اشتراط المقابلة والجهة والمسافة لإثبات الرُّؤية:

جاء في صحيح البُخاري (418): عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ قَالَ: "هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ فَوَ اللهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ وَلَا رُكُوعُكُمْ، ‌إِنِّي ‌لَأَرَاكُمْ ‌مِنْ ‌وَرَاءِ ‌ظَهْرِي" إذن: فقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ يراهم من وراء ظهره الشَّريف، بلا مُواجهة ولا مُقابلة ولا اتِّصال شُعاعٍ، وهذا بأن يخلق الله فيه مثلا هذا الإدراك، وفيه دليل - كما ترى - على أنَّ المواجهة والمقابلة ليست مِن شُروط الرُّؤية.

قال الحافظُ ابنُ حَجرٍ العسقلانيُّ في شرح هذا الحديث: ((أَيْ: أَنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنِّي لَا أَرَى فِعْلَكُمْ لِكَوْنِ قِبْلَتِي فِي هَذِهِ الْجِهَةِ، لِأَنَّ مَنِ اسْتَقْبَلَ شَيْئًا اسْتَدْبَرَ مَا وَرَاءَهُ، لَكِنْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ لَا تَخْتَصُّ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ إِمَّا بِأَنْ يُوحَى إِلَيْهِ كَيْفِيَّةُ فِعْلِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يُلْهَمَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَوْ كَانَ مُرَادًا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوْلِهِ: "مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي". وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَرَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِ مِمَّنْ تُدْرِكُهُ عَيْنُهُ مَعَ الْتِفَاتٍ يَسِيرٍ فِي النَّادِرِ، وَيُوصَفُ مَنْ هُوَ هُنَاكَ بِأَنَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ التَّكَلُّفِ، وَفِيهِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِلَا مُوجِبٍ. وَالصَّوَابُ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ هَذَا ‌الْإِبْصَارَ ‌إِدْرَاكٌ ‌حَقِيقِيٌّ خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ، انْخَرَقَتْ لَهُ فِيهِ الْعَادَةُ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْمُصَنِّفِ [=البُخارِيُّ]، فَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ ذَلِكَ الْإِدْرَاكُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِرُؤْيَةِ عَيْنِهِ انْخَرَقَتْ لَهُ الْعَادَةُ فِيهِ أَيْضًا فَكَانَ يَرَى بِهَا مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ، لِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا - عَقْلًا - عُضْوٌ مَخْصُوصٌ، وَلَا مُقَابَلَةٌ، وَلَا قُرْبٌ، وَإِنَّمَا تِلْكَ أُمُورٌ عَادِيَّةٌ يَجُوزُ حُصُولُ الْإِدْرَاكِ مَعَ عَدَمِهَا - عَقْلًا -، وَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِجَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، خِلَافًا لِأَهْلِ الْبِدَعِ لِوُقُوفِهِمْ مَعَ الْعَادَةِ)) [فتحُ الباري (1/514)، المكتبة السَّلفيَّة].

وقال الحافظ العراقيُّ عند شرح هذا الحديث: ((فِيهِ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ - فِي أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ مِنْ وَرَائِهِ كَمَا يَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعِلْمُ دُونَ الرُّؤْيَةِ كَمَا حَمَلَ بَعْضُهُمْ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَرَاهُمْ بِمَا يُوحَى إلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يَرَاهُمْ بِمَا خُصَّ بِهِ أَنْ زِيدَ فِي قُوَّةِ بَصَرِهِ حَتَّى يَرَى مَنْ وَرَاءَهُ، وَقَدْ سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَمَلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قُلْتُ لَهُ: إنَّ إنْسَانًا قَالَ لِي هُوَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرَاهُمْ كَمَا يَنْظُرُ الْإِمَامُ مِنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا، وَقَالَ صَاحِبُ "الْمُفْهِمِ" [=أبو العبَّاس القُرطبي]: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذَا الْإِبْصَارَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إدْرَاكًا خَاصًّا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ - مُحَقَّقًا انْخَرَقَتْ لَهُ فِيهِ الْعَادَةُ وَخُلِقَ لَهُ وَرَاءَهُ، أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ الْعَيْنِيُّ انْخَرَقَتْ لَهُ الْعَادَةُ، فَكَانَ يَرَى بِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ، فَإِنَّ ‌أَهْلَ ‌السُّنَّةِ ‌لَا ‌يَشْتَرِطُونَ ‌فِي ‌الرُّؤْيَةِ - عَقْلًا - هَيْئَةً مَخْصُوصَةً، وَلَا مُقَابَلَةً، وَلَا قُرْبًا، وَلَا شَيْئًا مِمَّا يَشْتَرِطُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَهْلُ الْبِدَعِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ إنَّمَا هِيَ شُرُوطٌ عَادِيَّةٌ يَجُوزُ حُصُولُ الْإِدْرَاكِ مَعَ عَدَمِهَا، وَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِجَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مَعَ إحَالَةِ تِلْكَ الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَلَمَّا ذَهَبَ أَهْلُ الْبِدَعِ إلَى أَنَّ تِلْكَ الشُّرُوطَ عَقْلِيَّةٌ؛ اسْتَحَالَ عِنْدَهُمْ رُؤْيَةُ اللَّهِ فَأَنْكَرُوهَا، وَخَالَفُوا قَوَاطِعَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي وَرَدَتْ بِإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ، وَخَالَفُوا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فِي هَذَا زِيَادَةٌ زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهَا فِي حَجَّتِهِ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشُّعراء: 219] قَالَ: "كَانَ يَرَى مِنْ خَلْفِهِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ"، وَقَالَ بَقِيٍّ بْنُ مَخْلَدٍ: "كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَرَى فِي الظَّلَّامِ كَمَا يَرَى فِي الضَّوْءِ")) [طرحُ التَّثريب في شرحِ التَّقريب (2/376-377)، دار إحياء التُّراث العربي] و[المُفْهِم لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تَلْخِيصِ كِتَابِ مُسْلِم لِأَبِي العَبَّاس القُرْطُبِي (2/57)، دار ابن كثير].

يُتيع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... 9nL5td2Drl

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... 3SKoQpNxLl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد أغسطس 18, 2024 10:18 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (18)

وقال الإمامُ البَدرُ العينِيُّ الحَنَفيُّ (ت : 855 هـ) عند شرح هذا الحديث: ((وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِلْأَشَاعِرَةِ حَيْثُ لَا يَشْتَرِطُونَ فِي ‌الرُّؤْيَةِ مُوَاجَهَةً وَلَا ‌مُقَابَلَةً، وَجَوَّزُوا إِبْصَار أَعْمَى الصِّينِ ‌بُقْعَةَ أَنْدَلُسَ. قُلْتُ: هُوَ الحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ [لِأَنَّ] ‌ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا - عَقْلًا - عُضْوٌ مَخْصُوصٌ، وَلَا مُقَابَلَةٌ، وَلَا قُرْبٌ، فَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِجَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي ‌الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا، وَلِلْمُشَبِّهَةِ وَالكَرَّامِيَّةِ فِي خُلُوِّهَا عَنِ الْمُوَاجَهَةِ وَالْمَكَانِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا جَوَّزُوا رُؤْيَةَ اللهِ تَعَالَى لِاعْتِقَادِهِمْ كَوْنه تَعَالَى فِي الجِهَةِ وَالمَكَانِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَثْبَتُوا رُؤْيَةَ اللهِ تَعَالَى بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ، كَمَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَبَيَّنُوا بِالبُرْهَانِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ ‌الرُّؤْيَةَ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الانْطِبَاعِ وَالْمُوَاجَهَةِ وَاتِّصَالِ الشُّعَاعِ بِالْمَرْئِيِّ)) [عُمدةُ القاري شرح صحيح البُخاري (4/157)، ط. دار الفِكر].

وقالَ أيضًا: ((وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ فِي الْآخِرَةِ فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِالأَبْصَاِر. فَإِنْ قُلْتَ: الرُّؤْيَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا خُرُوجُ شُعَاعٍ، وَانْطِبَاعُ صُورَة الْمَرَئِيِّ فِي الْحَدَقَةِ، وَالْمُوَاجَهَةُ والْمُقَابَلَةُ، وَرَفْعُ الْحُجُبِ، فَكَيفَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ قُلْتُ: هَذِهِ الشُّرُوطُ [لِلرُّؤْيةِ] عَادَةً فِي الدُّنْيَا، وَأمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللهُ تَعَالَى مَرْئِيًّا لَنَا؛ إِذْ هِيَ حَالَةٌ يَخْلُقُهَا اللهُ تَعَالَى فِي الحَاسَّةِ؛ فَتَحْصُلُ بِدُونِ هَذِه الشُّرُوطِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ الأَشَاعِرَةُ أَنْ يَرَى أَعْمَى الصِّينِ ‌بُقْعَةَ ‌أَنْدَلُسَ)) [عُمدةُ القاري شرح صحيح البُخاري (1/291)، ط. دار الفِكر].

ومن باب الفائدة هنا، نذكر ما جرى حول مسألة "الرُّؤية"، عند مُناظرة الإمام القَاضي أَبي بَكْرٍ الباقِلَّانِيِّ مع المعتزلةِ، في مجلس الملكِ "فَنَّاخُسْرُو":

قال الإمامُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو العَبَّاس المَقَّرِيُّ التِّلْمِسَانِيُّ (ت : 1041 هـ): ((قَالَ القَاضِي: ثُمَّ سَأَلَنِي النَّصِيبِيُّ عَنْ مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ: هَلْ يُرَى البَارِي سُبْحَانَهُ بِالْعَيْنِ؟ وَهَلْ تَجُوزُ الرُّؤْيَةُ عَلَيْهِ أَوْ تَسْتَحِيلُ؟ وَقَالَ: كُلُّ شَيءٍ يُرَى بِالْعَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ، فَالْتَفَتَ الْمَلِكُ إِلَى القَاضِي أَبِي يَكْرٍ، وَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ أَيُّهَا الشَّيْخُ فِي الْمَسْأَلَةِ.

فَقَالَ القَاضِي: لَوْ كَانَ الشَّيْءُ يُرَى بِالْعَيْنِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ عَلَى مَا قَالَ، وَلَكِنْ لَا يُرَى الشَّيْءُ بِالْعَيْنِ، فَتَعَجَّبَ الْمِلِكُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْتَفَتَ إِلَى قَاضِي القُضَاةِ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُرَ الشَّيْءُ بِالْعَيْنِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يُرَى؟ فَقَالَ: يَسْأَلُهُ الْمَلِكُ، فَقَالَ أَيُّهَا الشَّيْخُ: فَبأَيِّ شَيْءٍ يُرَى إِذَا لَمْ يُرَ بِالْعَيْنِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُرَى بِالْإِدْرَاكِ الَّذِي فِي الْعَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الشَّيْءُ يُرَى بِالْعَيْنِ لَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَرَى كُلُّ عَيْنٍ قَائِمَةٍ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنّ الأَجْهَرَ عَيْنُهُ قَائِمَةٌ وَلَا يَرَى شَيْئاً.

فَزَادَ الْمَلِكُ تَعَجُّباً، وَقَالَ لِلنَّصِيبِيِّ: تَكَلَّمْ، فَقَالَ النَّصِيبِيُّ: إِنَّي لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ يَقُولُ هَذَا، وَلَا بَنَيْتُ إِلَّا عَلَى مَا نَعْرِفُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ أَنَّ الشَّيْءَ يُرَى بِالْعَيْنِ، فَغَضِبَ الْمَلِكُ وَقَالَ: مَا أَنْتَ مِثَلُ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّكَ بَنَيْتَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الظَّنِّ.

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ: تَكَلَّمْ، فَقُلْتُ: الْعَيْنُ لَا تَرَى، وَإِنَّمَا تُرَى الأَشْيَاءُ بِالْإِدْرَاكِ الَّذِى يُحْدِثُهُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا؛ وَهُوَ الْبَصَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْتَضَرَ يَرَى الْمَلَائِكَةَ وَنَحْنُ لَا نَرَاهُمْ؟ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ يَرَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَا يَرَاهُ مَنْ يَحْضُرُهُ؟ وَالْمَلَائِكَةُ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَلَا نَرَاهُمْ نَحْنُ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ رُؤْيَةِ البَارِي تَعَالَى: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ، وَلَا إِفْسَادٌ لِلْأَدِلَّةِ، وَلَا إِلْحَاقُ صِفَةِ نَقْصٍ بِالْقَدِيمِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ، وَالشَّيْءُ إِنَّمَا يُرَى لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ لَمْ يَكُنْ مَرْئِيًّا لِأَنَّهُ جِنْسٌ؛ لِأَنَّا نَرَى سَائِرَ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا لِقِيَامِ مَعْنًى بِالْمَرْئِيِّ؛ لِأَنَّا نَرَى الْأَعْرَاضَ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْمَعَانِي، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وُجُوبُ رُؤْيَةِ الحَقِّ سُبْحَانَهُ فِي الَّدارِ الآخِرَةِ...ثُمَّ طَوَّلَ الكَلَامَ. قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ فَنَّاخَسْرُو يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، وَيَنْزِلُ عَنْ سَرِيرِ مُلْكِهِ، حَتَّى صَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ، لِمَا اسْتَعْذَبَ مِنْ كَلَامِهِ)) [أَزْهَارُ الرِّياض في أخبار القاضي عِياض (3/82 إلى 84)، مطبعة لجنةِ التَّأليف والتَّرجمة والنَّشر: القاهرة]، وهذه المناظرة كان قد ذكرها القاضي عياض وزاد هناك: ((ثُمَّ أَقْبَلَ الْمَلِكُ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُل لَّكَ: مَذْهَبٌ قَدْ طَبَّقَ الأَرْضَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَاصِرٍ)) [تَرتيب المَدَارِك (7/56)، الطَّبعة المغربيَّة]، وأشار إليها أيضا الحافظ ابنُ عساكِر كما في [تَبْيِين كَذِبِ المُفْتَري (ص: 264) فما بعد، ط. دار التَّقوى].

وفي قول الملك فَنَّاخُسْرُو: ((مَذْهَبٌ قَدْ طَبَّقَ الأَرْضَ)) شهادة على أنَّ مذهب أهل السُّنَّة السَّادة الأشاعرة هو مذهب السَّواد الأعظم من أئمَّة الإسلام.

فهذا بيانُ مذهب أهل السُّنَّة في مسألةِ الرُّؤية، وأنَّها إدراكٌ يخلقه الله في عين الرَّائي، فلا يستلزم هذا إثبات مُقابلة ولا جِهة ولا مسافة ولا غيره من معاني الجِسميَّة.

ولتقارن يا عبد الله ما سبق بقول ابن القيِّم: ((وَإِذَا جَازَ أَنْ يُرَى سُبْحَانَهُ، فَالرُّؤْيَةُ الْمَعْقُولَةُ لَهُ عِنْدَ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ، عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ وَتُرْكِهِمْ وَسَائِرِ طَوَائِفِهِمْ، أَنْ يَكُونَ الْمَرْئِيُّ مُقَابِلًا لِلرَّائِي، مُوَاجِهًا لَهُ، مُبَايِنًا عَنْهُ، لَا تَعْقِلُ الْأُمَمُ رُؤْيَةً غَيْرَ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِمُوَاجَهَةِ الرَّائِي وَمُبَايَنَتِهِ لِلْمَرْئِيِّ لَزِمَ ضَرُورَةً أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا لَهُ مِنْ فَوْقِهِ أَوْ مِنْ تَحْتِهِ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ أَوْ خَلْفِهِ أَوْ أَمَامَهُ. وَقَدْ دَلَّ النَّقْلُ الصَّرِيحُ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ لَا مِنْ تَحْتِهِمْ،...فَلَا يَجْتَمِعُ الْإِقْرَارُ بِالرُّؤْيَةِ وَإِنْكَارُ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُبَايَنَةِ لِهَذَا، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْجَهْمِيَّةَ الْمُغْلَ تُنْكِرُ عُلُوَّهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَرُؤْيَةَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَخَانِيثُهُمْ يُقِرُّونَ بِالرُّؤْيَةِ وَيُنْكِرُونَ الْعُلُوَّ. وَقَدْ ضَحِكَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ مُوَاجَهَةٍ لِلْمَرْئِيِّ وَمُبَايَنَةٍ لَهُ، وقَالُوا: هَذَا رَدٌّ لِمَا هُوَ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ)) [الصَّواعق المُرسَلَة (2/915-916)، ط. دار عطاءات العلم] وتأمَّل هذا الأسلوب في التَّهكُّم والازدراء بأهل السُّنَّة الأشاعرة كما في قوله: ((وَمَخَانِيثُهُمْ يُقِرُّونَ بِالرُّؤْيَةِ وَيُنْكِرُونَ الْعُلُوَّ. وَقَدْ ضَحِكَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ...))! والحقيقة أنَّ كلامه هنا مجرَّد تهويلات وجُملة افتراءات، وإلَّا فالرُّؤية تحصل بدون مُواجهة كما سبق بيانه.

وقارن أيضًا بقولِ ابنِ أبي العِز "التَّيمي": ((فَهَلْ تُعْقَلُ رُؤْيَةٌ بِلَا ‌مُقَابَلَةٍ! وَمَنْ قَالَ: يُرَى لَا فِي جِهَةٍ، فَلْيُرَاجِعْ عَقْلَهُ!!! فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُكَابِرًا لِعَقْلِهِ، أَوْ فِي عَقْلِهِ شَيْءٌ، وَإِلَّا فَإِذَا قَالَ: يُرَى لَا أَمَامَ الرَّائِي، وَلَا خَلْفَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ، رَدَّ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ بِفِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ)) [شرحُ الطَّحاويَّة (1/219)، ط. مؤسَّسة الرِّسالة] أقول: نعم؛ قد بانَ الآن من يتوَجَّب عليه حقًّا أن يُراجع عقله!

وجاء في حديث البخاري (86): قَوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "‌مَا ‌مِنْ ‌شَيْءٍ ‌لَمْ ‌أَكُنْ ‌أُرِيتُهُ ‌إِلَّا ‌رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي، حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ".

قال الإمامُ شَمسُ الدِّين الكَرمَانِيُّ (ت : 786 هـ): ((قَوْلُهُ: "مَا ‌مِنْ ‌شَيْءٍ ‌لَمْ ‌أَكُنْ ‌أُرِيتُهُ ‌إِلَّا ‌رَأَيْتُهُ" قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَةَ عَيْنٍ، بِأَنْ كَشَفَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ مثلًا لَهُ، وَأَزَالَ الْحُجُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، كَمَا فَرَّجَ لَهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى حِينَ وَصَفَهُ بِمَكَّةَ لِلنَّاسِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ ‌الرُّؤْيَةَ أَمْرٌ يَخْلُقُهُ اللهُ تَعَالَى فِي الرَّائِي، وَلَيْسَتْ مَشْرُوطَةً بِمُقَابَلَةٍ وَلَا مُوَاجَهَةٍ وَلَا خُرُوجِ شُعَاعٍ وَغَيْرِهِ، بَلْ هَذِهِ شُرُوطٌ عَادِيَّةٌ جَازَ الانْفِكَاكُ عَنْهَا عَقْلًا)) [الكواكبُ الدّرَاري في شرحِ صحيح البخاري (2/67-68)، ط. دار إحياء التُّراث العربي] وقاله أيضاً الإمام البَدر العينِي في [عُمدة القاري شرح صحيح البُخاري (2/97)، ط. دار الفِكر].

وفي حديث البخاري أيضاً (6576): عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ: "مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَخَيَّلُ بِي وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ".
قال الإمامُ شَمسُ الدِّين الكَرمَانِيُّ في شرح هذا الحديث: ((فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ وَالرَّائِي فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ؟ قُلْتُ: ‌الرُّؤْيَةُ أَمْرٌ [يَخْلُقُهُ] اللهُ تَعَالَى وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا -عَقْلًا - مُوَاجَهَةٌ وَلَا ‌مُقَابَلَةٌ وَلَا مُقَارَنَةٌ وَلَا خُرُوجُ شُعَاعٍ وَلَا غَيْرُهُ، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يَرَى أَعْمَى الصِّينِ بَقَّةَ أَنْدَلُسَ)) [الكواكبُ الدّرَاري في شرحِ صحيح البخاري (24/106)، ط. دار إحياء التُّراث العربي]، وَقاله أيضا الإمام العينِي [عُمدة القاري شرح صحيح البُخاري (24/141)، ط. دار الفِكر]، وأيضاً الإمام شَمس الدِّين البِرْماويُّ [اللَّامع الصَّبيح بشرح الجامع الصَّحيح (16/524)، ط. دار النَّوادر]، وأيضاً الإمامُ العلَّامةُ القَسْطَلَّانِيُّ وقال هناك: ((الإِدْرَاكُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَحْدِيقُ الأَبْصَارِ وَلَا قُرْبُ الْمَسَافَةِ)) [إرشاد السَّاري لشرح صحيح البُخاري (10/134)، المطبعة الكبرى الأَمِيريَّة].

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... vTfJXFncbl

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... R2HA6igkWl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أغسطس 19, 2024 7:26 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (19)

وواصل ابنُ تيميَّة ردَّه على الإمامِ ابنِ فُورَك قائلًا: ((وَأَمَّا قَوْلُهُ: "إنَّ الْخَبَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لَا فِي جِهَةٍ"، وَقَوْلُهُ: "لَا تُضَامُّونَ: مَعْنَاهُ: لَا تَضُمُّكُمْ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا فِي جِهَةٍ"، فَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْحَدِيثِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ؛ بَلْ هُوَ تَفْسِيرٌ مُنْكَرٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَلُغَةً)) [مجموع الفتاوى (16/58)، ط. دار الوفاء] هنا يزعم الحرَّاني أنَّ تفسير الإمام ابن فُورَك لحديث الرُّؤية بنفي الجهة عن الله؛ تفسير باطلٌ لم يقل به أحد من أئمَّة العلم!

وهنا لا بُدَّ أن نذكر بعض أقوال أئمَّة الإسلام في المسألة حتَّى يتَّضح لكلِّ باحثٍ مُنصفٍ نوع التَّهويلات الَّتي يُطلقها ابن تيميَّة من كيسه في مثل هذه الحالات:

قال الحافظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الحُسَيْنِ البَيهَقِيُّ (ت: 458 هـ): ((سَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا الطَّيِّبِ سَهْلَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِيمَا أَمْلَاهُ عَلَيْنَا فِي قَوْلِهِ: "لَا ‌تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ" - بِضَمِّ التَّاءِ وَتشْدِيدِ الْمِيمِ -: يُرِيدُ لَا تَجْتَمِعُونَ لِرُؤْيَتِهِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يُضَمُّ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يُرَى فِي ‌جِهَةٍ كَمَا يُرَى الْمَخْلُوقُ فِي ‌جِهَةٍ، وَمَعْنَاهُ - بِفَتحِ التَّاءِ -: لَا ‌تَضَامُّونَ لِرُؤْيَتِهِ مِثْلُ مَعْنَاهُ بِضَمِّهَا؛ لَا ‌تَتَضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ بِالِاجْتِمَاعِ فِي ‌جِهَةٍ، وَهُوَ دُونَ تَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنَ الضَّيْمِ؛ مَعْنَاهُ: لَا تُظْلَمُونَ فِي رُؤْيَتِهِ بِرُؤْيَةِ بَعْضِكُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَأَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ فِي جِهَاتِكُمْ كُلِّهَا، وَهُوَ يَتَعَالَى عَنْ ‌جِهَةٍ. قَالَ: وَالتَّشْبِيهُ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لِيَقِينِ الرُّؤْيَةِ، دُونَ تَشْبِيهِ الْمَرْئِيِّ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا)) [الاعتقاد والهِداية إلى سبيل الرَّشاد (ص: 177-178)، ط. دار التَّقوى]، ونقله الحافظ ابن حجر العسقلاني محتجًّا به في موضعين من شرحه على صحيح البخاري [فتح الباري (11/447) - (13/427)، المكتبة السَّلفيَّة]، وكان الحافظُ قد قال: (("تُضَامُونَ" - بِضَمِّ أَوَّلِهِ مُخَفَّفًا - أَيْ: ‌لَا ‌يَحْصُلُ ‌لَكُمْ ‌ضَيْمٌ ‌حِينَئِذٍ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ الضَّمِّ، وَالْمُرَادُ: نَفْيُ الِازْدِحَامِ)) [فتح الباري (2/33)، المكتبة السَّلفيَّة]، ونقل قول الحافظ البيهقي أيضاً الإمامُ العلَّامة القسطَلَّاني في [إرشاد السَّاري لشرح صحيح البُخاري (10/399)، المطبعة الكبرى الأَمِيرية]، وهذا القول الَّذي تناقله العلماء كما ترى هو القول نفسه الَّذي زعم ابن تيميَّة بأنَّه لَم يقل به أحدٌ من العلماء!

وَجَاءَ فِي "الفِقْهِ الْأَكْبَر" قَوْل الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانَ: ((وَاللهُ تَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُؤُوسِهِمْ بِلَا تَشْبِيهٍ، وَلَا كَيْفيَّةٍ، وَلَا كَمِّيَّةٍ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ)) وَهَذَا وَاضِحٌ فِي تَجْرِيدِ الإِمَام الرُّؤية يوم القيامة من كلِّ المعاني المستلزمة لإثبات الجِسْمِيَّةِ فِي حَقِّهِ تعالى.

قَالَ الإِمَامُ المُلَّا عَلِيُّ القَارِيُّ الْحَنَفِيُّ (ت: 1014 هـ) فِي شَرْحِ قولِ إمامِ مذهبه: (("بِلَا تَشْبِيهٍ"، أَيْ: رُؤْيَةٌ مَقْرُونَةٌ بِتَنْزِيهٍ لَا مَكْنُونَةٌ بِتَشْبِيهٍ. "وَلَا كَيْفِيَّةٍ": أَيْ فِي الصُّورَةِ. "وَلَا كَمِّيَّةٍ": أَيْ فِي الْهَيْئَةِ الْمَنْظُورَةِ. "وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ": أَيْ لَا فِي غَايَةٍ مِنَ الْقُرْبِ وَلَا فِي نِهَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، وَلَا يُوصَفُ بِالاتِّصَالِ وَلَا بِنَعْتٍ مِنَ الانْفِصَالِ، وَلَا بِالْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ كَمَا يَقُولُهُ الْوُجُودِيَّةُ المَائِلُونَ إِلَى الاتِّحَادِ)) [مِنَحُ الرَّوضِ الأزْهَرِ فِي شرحِ الفقهِ الأَكبر (ص: 245-246)، ط. دار البشائر الإِسلاميَّة].

وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ أَحْمَدُ الْبَيَاضِي زَادَه الرُّومِيُّ الحَنَفِيُّ (ت: 1097 هـ) فِي ثَنَايَا شَرْحِ كَلَامِ الْإِمَامِ حَوْلَ مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ: ((الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالْجِهَةِ: خُلُوّ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ عَنِ الشَّرَائِطِ وَالْكَيْفِيَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي رُؤْيَةِ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ)) [إِشَارَاتُ المَرَامِ مِنْ عِبَارَاتِ الإِمَامِ (ص: 202)، زَمْزَم بَبْلَشَرْزْ: بَاكِسْتَان].

وَجَاءَ فيِ كِتَابِ "الوَصِيَّةِ" لِلإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَبِي حَنِيفَةَ: ((وَلِقَاءُ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا جِهَةٍ: حَقٌّ")) وقال الإمامُ المُلَّا عَلِيُّ القَارِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي شَرحِهِ: ((وَالمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْصُلُ النَّظَرُ بِأَنْ يَنْكَشِفَ انْكِشَافًا تَامًّا بِالْبَصَرِ مُنَزَّهًا عَنِ المُقَابَلَةِ وَالجِهَةِ وَالهَيْئَةِ، فَهِيَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ)) [مِنَحُ الرَّوضِ الأزْهَرِ فِي شرحِ الفقهِ الأَكبر (ص: 246)، ط. دار البشائر الإِسلاميَّة].

وَقَالَ الإِمَامُ أَكْمَل الدِّينِ البَابِرْتِيُّ الرُّومِيُّ الحَنَفِيُّ (ت: 786 هـ) في شَرْحِ كِتَابِ "الوَصِيَّةِ" للإمامِ الأعظم: ((قَوْلُهُ: "بِلَا كَيْفِيَّةٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا جِهَةٍ": يَعْنِي مِنْ غَيْرِ اِرْتِسَامِ صُورَةِ المَرْئِيِّ فِي العَيْنِ أَوِ اتِّصَالِ شُعَاعٍ خَارِجٍ مِنَ العَيْنِ إِلَى المَرْئِيِّ وَحُصُولِ مُوَاجَهَةٍ، خِلَافاً لِلْمُشَبِّهَةِ وَالكَرَّامِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوا الرُّؤْيَةَ لِاعْتِقَادِهِمْ كَوْنَهُ تَعَالَى فِي الجِهَةِ وَالمَكَانِ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيراً)) [شَرْحُ وَصِيَّةِ الإمامِ أبِي حَنيفَةَ (ص: 132-133)، ط. دار الفتح] وقَالَ أيضاً: ((وَأَمَّا أَنَّهُ يُرَى بِلَا تَشْبِيهٍ وَلَا اِرْتِسَامِ صُورَةِ المَرْئِيِّ فِي العَيْنِ أَوِ اتِّصَالِ الشُّعَاعِ إِلَى المَرْئِيِّ وَحُصُولِ مُوَاجَهَةٍ؛ فَلِمَا عُرِفَ أَنَّ الله تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الجِهَةِ مُقَدَّسٌ عَنِ المَكَانِ مُتَعَالٍ عَنِ المُوَاجَهَةِ)) [شَرْحُ وَصِيَّةِ الإمامِ أبِي حَنيفَةَ (ص: 134)، ط. دار الفتح].

وقالَ الإمامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ الْحَنَفِيُّ (ت: 321 هـ) في عقيدته المشهورة: ((وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ، كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (*) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القِيَامَة: 22-23]. وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَ...وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ...وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ، لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ)) [مَتْنُ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص: 13 إلى 15)، ط. دار ابن حزم] وهذا فيه تجريد للرُّؤية من كلِّ المعاني الباطلة في حقِّه تعالى؛ كالحدودِ والجهاتِ والغاياتِ والإحاطة الحِسِّيَّة والكيفيَّة الجِسميَّة.

لأجل هذا قال الإِمَامُ القاضي أبُو حَفْصٍ سِرَاجُ الدِّينِ الغَزْنَوِيُّ الهِنْدِيُّ الحَنَفِيُّ ( ت: 773 هـ) فِي شَرْحِ كَلَامِ الْإِمَامِ الطَّحَاوِيِّ هنا: ((أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ رُؤْيَتَهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَعْنِي: بِأَنَّ رُؤْيَةَ اللهِ بِالْأَبْصَارِ فِي دَارِ الْقَرَارِ لِلْأَبْرَارِ: حَقٌّ، فَيَرَوْنَهُ لَا فِي مَكَانٍ وَلَا عَلَى جِهَةٍ، أَوِ اتِّصَالِ شُعَاعٍ، أَوْ ثُبُوتِ مَسَافَةٍ بَيْنَ الرَّائِي وَبَيْنَهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "بِلَا كَيْفِيَّةٍ"، مَقْصُودُهُ: الاعْتِقَادُ بِأَصْلِ الرُّؤْيَةِ وَعَدَمُ الاشْتِغالِ بِالْكَيْفِيَّةِ. وَإِنَّمَا قَالَ: "بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ"؛ لِأَنَّ الْإِحَاطَةَ - وَهِيَ الْإِدْرَاكُ بِالْجَوَانِبِ - مُحَالٌ عَلَى اللهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ حَتَّى يَكُونَ لَهُ نِهَايَاتٌ فَيُدْرَكُ بِهَا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الْأَنْعَام: 103])) [شَرْحُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص: 78)، دارة الكَرز].

وقال أيضاً الإِمَامُ الفَقِيهُ عَبْدُ الغَنِيِّ الغُنَيْمِيُّ المَيْدَانِيُّ الحَنَفِيُّ الدِّمَشْقِيُّ (ت: 1298 هـ) فِي شَرْحِ كَلَامِ الْإِمَامِ الطَّحَاوِيِّ: (("بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ": بِجَوَانِبِ الْمَرْئِي وَحُدُودِهِ، لِتَعَالِيهِ تَعَالَى عَنِ التَّنَاهِي وَالاتِّصَافِ بِالجَوَانِبِ وَالحُدُودِ. "وَلَا كَيْفِيَّةٍ": مِنْ مُقَابَلَةٍ وَجِهَةٍ وَارْتِسَامٍ، وَاتِّصَالِ شُعَاعٍ، وَثُبُوتِ مَسَافَةٍ بَيْنَ الرَّائِي وَالمَرْئِي، لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي رُؤْيَةِ الْأَجْسَامِ، وَاللهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجْسِمٍ فَلَيْسَتْ رُؤْيَتُهُ كَرُؤْيَةِ الْأَجْسَامِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ تَابِعَةٌ لِلشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَمَنْ كَانَ فِي مَكَانٍ وَجِهَةٍ لَا يُرَى إِلَّا فِي مَكَانٍ وَجِهَةٍ كَمَا هُوَ كَذَلِكَ، وَيُرَى بِمُقَابَلَةٍ وَاتِّصَالِ شُعَاعٍ وَثُبُوتِ مَسَافَةٍ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانٍ وَلَا جِهَةٍ وَلَيْسَ بِجِسْمٍ فَرُؤْيَتُهُ كَذَلِكَ لَيْسَ فِي مَكَانٍ وَلَا جِهَةٍ، وَلَا بِمُقَابَلَةِ وَاتِّصَالِ شُعَاعٍ وَثُبُوتِ مَسَافَةٍ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ رُؤْيَةً لَهُ، بَلْ لِغَيْرِهِ. كَذَا فِي شَرْحِ الطَّرِيقَةِ لِسَيِّدِي عَبْد الْغَنِي)) [شَرْحُ العَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص: 68-69)، ط. دَار الفِكر المُعاصر].

وقال الإمامُ ‌أَبُو ‌الْحَسَنِ ‌الْأَشْعَرِيُّ (ت: 324 هـ): ((فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ شَاهَدْتُمْ مَرْئِيًّا إِلَّا جَوْهَراً أَوْ عَرَضاً، مَحْدُوداً أَوْ حَالًّا فِي مَحْدُودٍ؟ قِيلَ لَهُ: لَا، وَلَمْ يَكُنْ ‌الْمَرْئِيُّ ‌مَرْئِيًّا لِأَنَّهُ مَحْدُودٌ، وَلَا لِأَنَّهُ حَالٌّ فِي مَحْدُودٍ، وَلَا لِأَنَّهُ جَوْهَرٌ، وَلَا لِأَنَّهُ عَرَضٌ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَمْ يَجِبْ القَضَاءُ بِذَلِكَ عَلَى الغَائِبِ، كَمَا - لَمْ يَجِبْ إِذَا لَمْ نَجِدْ فَاعِلًا إِلَّا جِسْماً، وَلَا شَيْئاً إِلَّا جَوْهَراً، أَوْ عَرَضاً، وَلَا عَالِماً قَادِراً حَيًّا إِلَّا بِعِلْمٍ، وَحَيَاةٍ وَقُدْرَةٍ مُحْدَثَةٍ - أَنْ يُقْضَى بِذَلِكَ عَلَى الغَائِبِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنِ الفَاعِلُ فَاعِلًا لِأَنَّهُ جِسْمٌ، وَلَا الشَّيْءُ شَيْئًا لِأَنَّهُ جَوْهَرٌ، أَوْ عَرَضٌ)) [اللُّمَعُ في الرَّدِّ على أهلٍ الزَّيغِ والبِدَع (ص: 190)، ط. مجلس حُكماء المسلمين] فلا تلازم بين القول بالرُّؤية وإثبات معاني الجِسميَّة عند الإمام الأشعري.

ونقَلَ الإمامُ ابنُ فُورَك (ت: 406 هـ) مذهبَ الإمامِ الأشعري في مسألةِ الرُّؤية من كتبه، فذكر من مذهبه: ((إِذَا قُلْتُمْ: إِنَّهُ يُرَى فَهَلْ يُرَى كُلُّهُ أَمْ بَعْضُهُ؟ قُلْنَا: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ مَا لَا كُلَّ لَهُ وَلَا بَعْضَ لَهُ، يُرَى عَلَى مَا هُوَ بِهِ، كَمَا يُعْلَمُ وَكَمَا يُرَى مَا لَهُ كُلٌّ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، فَلَا يَنْقَلِبُ بِالرُّؤْيَةِ؛ كَذَلِكَ مَا لَا كُلَّ لَهُ يُرَى وَلَا كُلَّ لَهُ، وَلَا يَنْقَلِبُ بِالرُّؤْيَةِ)) [تَجريدُ مُجرَّد مقالاتِ أبي الحسَن الأشعري (ص: 148)، ط. مجمع البحوث الإسلاميَّة بالأزهر].

ونقل عنه أيضاً: ((فَأَمَّا القَوْلُ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - إِذَا رُئِيَ هَلْ يُرَى فِي مَكَانٍ أَوْ لَا فِي مَكَانٍ؟ فَمَذْهَبُنَا فِي ذَلِكَ إِحَالَةُ القَوْلِ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، أَوْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، عَلَى كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الرَّائِي لَهُ فِي مَكَانٍ، وَالمَرْئِيُّ لَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ أَصْلًا)) [تَجريدُ مُجرَّد مقالاتِ أبي الحسَن الأشعري (ص: 146)، ط. مجمع البحوث الإسلاميَّة بالأزهر].

ونقل من مذهبه أيضاً: ((فَإِنْ قُلْتُمْ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَابَلَ؟ قُلْنَا: إِنْ أَرَدْتُمْ بِقَوْلِكُمْ: إِنَّهُ يُقَابَلُ أَيْ: يُدْرَكُ وَيُرَى، فَعَبَّرْتُمْ بِالْمُقَالَةِ عَنْ إِدْرَاكِهِ، فَالْخِلَافُ فِي العِبَارَةِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَكُونَ فِي حَيِّزٍ، وَالرَّائِي فِي حَيِّزٍ، فَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ)) [تَجريدُ مُجرَّد مقالاتِ أبي الحسَن الأشعري (ص: 139)، ط. مجمع البحوث الإسلاميَّة بالأزهر].

ونقل عنه أيضًا: ((فَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي يَذْكُرُهَا نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ فِي جَوَازِ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ، فَلَيْسَ مِنْهَا - عِنْدَنَا - شَرْطًا؛ كَنَحْوِ مَا يَذْكُرُونَ مِنَ: الْمُقَابِلَةِ، وَالتَّلَوُّنِ، وَالْقُرْبِ، وَالْبُعْدِ، وَالْكَثَافَةِ، وَاتِّصَالِ الشُّعَاعِ، وَسَائِرِ مَا يَذْكُرُونَهُ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ أَوْصَافُ الْمُشَاهِدِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا شَرْطًا وَلَا عِلَّةً فِي جَوَازِ مُشَاهَدَتِهِ)) [تَجريدُ مُجرَّد مقالاتِ أبي الحسَن الأشعري (ص: 135)، ط. مجمع البحوث الإسلاميَّة بالأزهر].

وأيضاً: ((فَأَمَّا القَوْلُ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - حَجَبَ المَمْنُوعِينَ مِنْ إِدْرَاكِهِ فَصَحِيحٌ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي صِفَةِ الكُفَّارِ: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المُطفِّفين: 15]، والمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مَمْنُوعِينَ عَنْ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الشُّورى: 51] فَذَلِكَ حِجَابٌ لِلْمُكَلَّمِ لَا لِلْمُكَلِّمِ، لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَزَّ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوباً، لِأَنَّ مَنْ سَتَرَهُ الْحِجَابُ، فَالْحِجَابُ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَيُبَيِّنُ حَدَّهُ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيراً)) [تَجريدُ مُجرَّد مقالاتِ أبي الحسَن الأشعري (ص: 146)، ط. مجمع البحوث الإسلاميَّة بالأزهر].

ونقل الحافظُ ابنُ عساكر (ت: 571 هـ) عن القَاضي أبِي المعالي عزيزي بنِ عبدِ الملك الشَّافِعي (ت: 494 هـ) المعروف بـ: "شَيذَلَه"، مذهبَ الإمام الأشعري في الرُّؤية؛ فقال: ((قَالَتِ الحَشَوِيَّةُ الْمُشَبِّهَةُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ‌يُرَى مُكَيَّفاً مَحْدُوداً كَسَائِرِ الْمَرْئِيَّاتِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالنَّجَّارِيَّةُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا ‌يُرَى بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَسَلَكَ [=الإمامُ الأشعري] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَرِيقَةً بَيْنَهُمَا فَقَالَ: "‌يُرَى مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ وَلَا حُدُودٍ وَلَا تَكْيِيفٍ؛ كَمَا يَرَانَا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَلَا مُكَيَّفٍ، فَكَذَلِكَ نَرَاهُ وَهُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَلَا مُكَيَّفٍ")) [تَبيينُ كذب المُفتري (ص: 306)، ط. دار التَّقوى].

ونقل الإمامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّهْرَسْتَانِيُّ (ت: 548 هـ) مذهبَ الإمامِ أبي الحسن الأشعري في الرُّؤية فقال: ((وَمِنْ مَذْهَبِ الأَشْعَرِيِّ: أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أَنْ يُرَى، فَإِنَّ الْمُصَحِّحَ لِلرُّؤْيَةِ إِنَّمَا هُوَ: الوُجُودُ. وَالبَارِي تَعَالَى مَوْجُودٌ فَيَصِحُّ أَنْ يُرَى. وَقَدْ وَرَدَ السَّمْعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ فِي الآخِرَةِ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (*) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ وَالأَخْبَارِ)) [المِللُ والنِّحل (1/113-114)، ط. دار المعرفة] ثمَّ نقل قولَ الإمامِ الأشعري فقال: ((قَالَ: "وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الرُّؤْيَةُ عَلَى جِهَةٍ، وَمَكَانٍ، وَصُورَةٍ وَمُقَابَلَةٍ، وَاتِّصَالِ شُعَاعٍ أَوْ ‌عَلَى ‌سَبِيلِ ‌اِنْطِبَاعٍ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ")) [المِللُ والنِّحل (1/114)، ط. دار المعرفة].

ونقل قول الإمام الأشعري هذا في تنزيه الله عن المقابلة والجهة في الرُّؤية الإمامُ الصَّفدي (ت: 764 هـ) في [الوَافِي بِالوَفَيَاتِ (20/139)، ط. دارُ إحياء التُّراث]، وكذلك تقيُّ الدِّين المَقْرِيزي (ت: 845 هـ) في [المواعظ والاعتبار بذِكر الخِطط والآثار (3/429)، ط. مكتبة مَدبولي].

وهذا صريحٌ في نفي الإمامِ الأشعري المقابلة والجهة وغيرها من معاني الجِسميَّة في حقِّه تعالى، وهو ما يكذِّب دعاوى ابن تيميَّة في حقِّ الإمامِ الأشعري.

ونَقَلَ ‌أَبُو ‌نَصْرٍ ‌السِّجْزِيُّ (ت : 444 هـ) مذهبَ الإمامِ الأشعري في مسألةِ الرُّؤيةِ، واعترض عليه بما لا طائل من ورائه، وما يهمُّنا هنا هو نقله لكلام الإمام الأشعري في المسألة، خاصَّة وأنَّ ابن تيميَّة وأتباعه يحتفون أيّما احتفاء برسالة هذا الرَّجل إلى أهل زَبيد، وإن كان جلُّ ما فيها مُصادم للعقيدة التَّيميَّة، وموافق لعقيدة التَّنزيه في الجُملة، على غرار تصريح المؤلِّف بتنزيه الله عن المكان والحدود وقيام الحوادث وغيره من معاني الجسميَّة:

قَالَ ‌أَبُو ‌نَصْرٍ ‌السِّجْزِيُّ: ((وَقَالَ الأَشْعَرِيُّ: "إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يُرَى يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ" وَأَظْهَرَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهَا. وَأَفْصَحَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: "أَنَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ"، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "لَا تَخْتَصُّ الرُّؤْيَةُ بِالْبَصَرِ، وَلَا تَكُونُ عَنْ مُقَابَلَةٍ؛ لِأَنَّ مَا يُرَى مُقَابَلَةً كَانَ جِسْماً")) [رِسَالَةُ السِّجْزِي إِلَى أَهْلِ زَبِيد في الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوتَ (ص: 118)، ط. دار الرَّايَة] وقَالَ السِّجزيُّ أيضاً: ((قَالَ الأَشْعَرِيُّ: "هُوَ مَرْئِيٌّ وَلَا يُرَى بِالْأَبْصَارِ عَنْ ‌مُقَابَلَةٍ")) [رِسَالَةُ السِّجْزِي إِلَى أَهْلِ زَبِيد في الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوتَ (ص: 137)، ط. دار الرَّايَة] فالأشعري ينفي المقابلة عند الرُّؤية، هكذا نقل أبو نصرٍ السِّجزي من كتبِ الإمامِ الأشعري نفسه.

وقالَ ‌أَبُو ‌نَصْرٍ ‌السِّجْزِيُّ أيضاً: ((وَزَعَمَ الأَشْعَرِيُّ: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُمَازِجٍ لِلْخَلْقِ وَغَيْرُ مُبَايِنٍ لَهُمْ، وَالأَمْكِنَةُ غَيْرُ خَالِيَةٍ مِنْهُ، وَغَيرُ مُمْتَلِيَةٍ بِهِ)) [رِسَالَةُ السِّجْزِي إِلَى أَهْلِ زَبِيد في الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوتَ (ص: 128)، ط. دار الرَّايَة] وهذا صريح من الإمام الأشعري في نفي الاتِّصال بالعالَم أو الانفصال عنه، والعجيب أن يعقِّب عليه السِّجزيُّ بقوله: ((وهذَا كلَامٌ مُسَفَّتٌ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ، وَتَحْقِيقُهُ: النَّفْيُ بَعْدَ الإِثْبَاتِ)) [رِسَالَةُ السِّجْزِي إِلَى أَهْلِ زَبِيد في الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوتَ (ص: 128)، ط. دار الرَّايَة] مع أنَّ السِّجزيَّ نفسه قال: ((وَلَيْسَ فِي قَوْلِنَا: إِنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ تَحْدِيدٌ [لَهُ]، وَإِنَّمَا التَّحْدِيدُ يَقَعُ لِلْمُحْدَثَاتِ، فَمِنَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى مَحْدُودٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا مَكَانَ وَلَا حَدَّ، لِاتِّفَاقِنَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ وَلَا مَكَانَ، ثُمَّ خَلَقَ الْمَكَانَ وَهُوَ كَمَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْمَكَانِ)) [رِسَالَةُ السِّجْزِي إِلَى أَهْلِ زَبِيد في الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوتَ (ص: 131)، ط. دار الرَّايَة] وقال: ((وَإِنَّمَا يَقُولُ بِالتَّحْدِيدِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ مَحْدُودَةٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا بِزَعْمِهِمْ كَانَ مَحْدُودًا، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْأَمْكِنَةِ، وَمِنْ حَلِّهَا وَمِنْ فَوْقَ كُلِّ مُحْدَثٍ؛ فَلَا تَحْدِيدَ [لِذَاتِهِ] فِي قَوْلِنَا)) [رِسَالَةُ السِّجْزِي إِلَى أَهْلِ زَبِيد في الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الحَرْفَ وَالصَّوتَ (ص: 132)، ط. دار الرَّايَة] ومَن ينفي الحدَّ عن ربِّهِ صراحةً كما هنا؛ فكيف لا ينفي لوازم ذلك كالمباينة بالمسافة والجِهةِ والحيِّز؟!

وهذه النِّقال من هذا السِّجزي، تنسف الدَّعاوى العريضة التي أطلقها ابن تيميَّة في حقِّ الإمام الأشعري، وأنَّه كان مِن مُثبتِي العُلُوّ الحِسِّي، وهي تؤكِّد بمكانٍ أنَّه لا فرق بين قُدماء الأشعريَّة وخلَفهم في مسألةِ العُلُوِّ.

وَقَالَ الحَافِظُ الكَبِيرُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ الجُرْجَانِيُّ (ت: 371 هـ) مُعَبِّرًا عَنْ عَقِيدَةِ "أَهْلِ الْحَدِيثِ": ((وَيَعْتَقِدُونَ جَوَازَ الرُّؤْيَةِ مِنَ الْعِبَادِ الْمُتَّقِينَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقِيَامَةِ دُونَ الدُّنْيَا...وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ التَّجْسِيمِ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا التَّحْدِيدِ لَهُ، وَلَكِنْ يَرَوْنَهُ جَلَّ وَعَزَّ بِأَعْيُنِهِمْ عَلَى مَا يَشَاءُ هُوَ بِلَا كَيْفٍ)) [كِتَابُ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوِ اعْتِقَادُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الحَدِيثِ (ص: 42-43)، ط. دار ابن حزم] وَهَذَا وَاضِحٌ فِي نَفْيِه الحُدُودَ في الرُّؤيةِ، وبالتَّالي نفي المقابَلَةِ والمواجهة وغيرها مِن معاني الجِسميَّة؛ وهذا لِأَنَّ القول بالمقابلةِ والمواجهةِ في الرُّؤيةِ يستلزم إثبات المحدوديَّة في حقِّ الرَّائي "العباد" والمَرئيِّ "الله" والمسافة الفاصلة بينهما "الفُرجة" كما يطلق عليها ابن تيميَّة.

هذا؛ وقد كان الحافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيْلِيُّ الْجُرْجَانِيُّ قال قبلها: ((وَلَا يُعْتَقَدُ فِيهِ [=تَعَالَى] الْأَعْضَاءُ، وَالْجَوَارِحُ، وَلَا الطُّولُ، وَالْعَرْضُ، وَالْغِلَظُ، وَالدِّقَّةُ، وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، تَبَارَكَ وَجْهُ رَبِّنَا ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)) [كِتَابُ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوِ اعْتِقَادُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الحَدِيثِ (ص: 37)، ط. دار ابن حزم] فهذه عقيدة أهل الحديث بمنصوص هذا الحافظ الكبير، وهي تكذِّب مزاعم ابن التَّيميَّة وأتباعه، لأجل هذا سارع بعض أقزامهم للاعتراض على الحافظ الإسماعيلي بكلام سفسافٍ مُتهافت.

وقال الإمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْكَلَابَاذِيُّ (ت: 380 هـ) ناقلًا مقالَةَ أئمَّةِ الصُّوفيَّةِ الأوائل في مَسأَلةِ الرُّؤيةِ: ((قَوْلُهُم فِي الرُّؤْيَةِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرَى بِالْأَبْصَارِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْكَافِرِينَ...وَقَولُهُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأَنعام: 103]: إِنَّمَا نَفَى اللهُ تَعَالَى الْإِدْرَاكَ بِالْأَبْصَارِ؛ لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ يُوجِبُ كَيْفيَّةً وَإِحَاطَةً، فَنَفَى مَا يُوجِبُ الْكَيْفِيَّةَ وَالإِحَاطَةَ دُونَ الرُّؤْيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِيهَا كَيْفِيَّةٌ وَإِحَاطَةٌ)) [التَّعَرُّف لِمَذهبِ أَهلِ التَّصَوُّف (ص: 20-21)، مكتبة الخانجي].

وذَكر الإمام مُحمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبري (ت: 310 هـ) بعض الأقوال في مسألة الرُّؤية، ثمَّ قال: ((وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ"، فَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهُ، وَالْكَافِرُونَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ مَحْجُوبُونَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطفِّفين: 15])) [جامعُ البيان (9/466)، ط. دار هجر].

ثمَّ أعاد الإمامُ الطَّبريُّ تحريرَ شُبهة المعتزلة في نفي الرُّؤية فقال: ((فَأَمَّا مَا اعْتَلَّ بِهِ مُنْكِرُو رُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ، لَمَّا كَانَتْ لَا تَرَى إِلَّا مَا بَايَنَهَا، وَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَضَاءٌ وَفُرْجَةٌ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ حَدٍّ لَهُ وَنِهَايَةٍ، فَبَطَلَ عِنْدَهُمْ لِذَلِكَ جَوَازُ الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ)) [جامعُ البيان (9/466)، ط. دار هجر] وواضحٌ أنَّ المعتزلةَ يقولون بالتَّلازم بين إثبات الرُّؤية وإثبات الجِسميَّة، فلا يُرى - عندهم - إلَّا ما كان محدوداً ومُتناهٍ، بحيثُ يكون بينَه وبينَ الرَّائي فَضاء ومَسافة، وهذا لا يكون إلَّا في الأجسام، فالرُّؤية مَنفيَّة لأنَّها تستلزم إثبات الجِسميَّة، والله ليس بِجسمٍ، هذا حاصل مذهب القوم.

ثمَّ أخذ الإمامُ الطَّبريُّ في ردِّ هذه الشُّبهة فقال: ((فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ - سِوَى صَانِعِكُمْ - إِلَّا ‌مُمَاسًّا لَكُمْ أَوْ مُبَايِنًا؟
فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، كُلِّفُوا تَبْيِينَهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ.
وَإِنْ قَالُوا: لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ.
قِيلَ لَهُمْ: أَوَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتُمُوهُ لَا ‌مُمَاسًّا لَكُمْ وَلَا مُبَايِنًا، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ، وَلَمْ يَجِبْ عِنْدَكُمْ - إِذْ كُنْتُمْ لَمْ تَعْلَمُوا مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ غَيْرَهُ إِلَّا ‌مُمَاسًّا لَكُمْ أَوْ مُبَايِنًا - أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلًا الْعِلْمُ بِهِ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ، لَا مُمَاسٌّ وَلَا مُبَايِنٌ؟!
فَإِنْ قَالُوا: ذَلِكَ كَذَلِكَ.
قِيلَ لَهُمْ: فَمَا تُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ الْأَبْصَارُ كَذَلِكَ لَا تَرَى إِلَّا مَا بَايَنَهَا وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فُرْجَةٌ، قَدْ تَرَاهُ وَهُوَ غَيْرُ مُبَايِنٍ لَهَا وَلَا فُرْجَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَلَا فَضَاءَ، كَمَا لَا تَعْلَمُ الْقُلُوبُ مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ إِلَّا ‌مُمَاسًّا لَهَا أَوْ مُبَايِنًا، وَقَدْ عَلِمَتْهُ عِنْدَكُمْ لَا كَذَلِكَ؟! وَهَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ مَعْلُومًا [لَا] ‌مُمَاسًّا [لِلْعَالَمِ] أَوْ مُبَايِنًا، وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ [مَوْصُوفًا] بِرُؤْيَةِ الْأَبْصَارِ لَا ‌مُمَاسًّا لَهَا وَلَا مُبَايِنًا، فَرْقٌ؟! ثُمَّ يُسْأَلُونَ الْفَرَقَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَلَنْ يَقُولُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمُوا فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ)) [جامعُ البيان (9/466-467)، ط. دار هجر] وتحرير جواب الإمام الطَّبري يكون هكذا: كما لا تعلمون فِي الشَّاهِد مَوصُوفًا بالتَّدبير والفِعلِ إلَّا وهو مُماسٌّ أو مُبايِنٌ، ومع ذلك وصفتم ربَّكم بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ، فكذلكَ الأبصارُ الَّتي لم تَرَ في الشَّاهِد مَوصُوفًا بالتَّدبير والفِعلِ إلَّا وهو مُماسٌّ أو مُباينٌ، قد ترى مُدَبِّراً وفَاعِلًا ((وَهُوَ غَيْرُ مُبَايِنٍ لَهَا وَلَا فُرْجَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَلَا فَضَاءَ)) أي: الله تعالى.

ولتنظر مرَّة أخرى في قول الإمام: ((قَدْ تَرَاهُ وَهُوَ غَيْرُ مُبَايِنٍ لَهَا وَلَا فُرْجَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَلَا فَضَاءَ)) ففيه نفي المُباينة بمعنى الانفصال عنِ العالَمِ بالجهة والحيِّزِ والمسافة، وهي المُباينة الَّتي يدَّعي ابن تيميَّة بأنَّها مذهب السَّلف والعُقلاء والأذكياء وأصحاب الفِطر السَّليمة واليهود والنَّصارى وعباقرة الفلاسفة والبشريَّة جمعاء...الخ تهويلاته الَّتي يستعملها ليسدُّ بها الفراغ!

وَقال الإمامُ المُقرئُ الفقيهُ اللُّغويُّ أبو العبَّاسَ المَهدَوِيُّ (ت: 440 هـ): ((﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأَنعام: 103] أَيْ: لَا تُدْرِكُهُ جِسْماً، وَلَا مُصَوَّراً، وَلَا مَحْدُوداً، كَمَا تُدْرِكُ سَائِرَ المَخْلُوقَاتِ)) [التَّحصيل لفوائد كتاب التَّفصيل (2/642)، ط. وزارة الأَوقاف القطريَّة].

وقال الإِمَامُ الحَافِظُ المُقْرِئُ أَبُو عَمْرٍو القُرْطُبِيُّ ثُمَّ الدَّانِيُّ (ت: 444 هـ): ((وَرُؤْيَتُهُ تَعَالَى بِغَيْرِ ‌حَدٍّ، ‌وَلَا ‌نِهَايَةٍ، ‌وَلَا ‌مُقَابَلَةٍ، وَلَا [مُحَاذَاةٍ]، لِأَنَّهُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشُّورَى: 11]. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ: "‌إِنَّكُمْ ‌سَتَرَوْنَ ‌رَبَّكُمْ ‌كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ". وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: "‌أَهْلُ ‌الْجَنَّةِ ‌يَنْظُرُونَ ‌إِلَى ‌اللَّهِ تَعَالَى بِأَعْيُنِهِمِ" وَأَشَارَ ابْنُ وَهْبٍ إِلَى عَيْنِهِ. وَمَعْنَى: "لَا تُضَامُّونَ" أَيْ: لَا تُدَافِعُونَ وَلَا تَزْدَحِمُونَ. وَمَعْنَى الحَدِيثِ الآخَر: "لَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِ" أَيْ: لَا يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ ضَرَرٌ فِي رُؤْيَتِهِ)) [الرِّسالة الوافِية (ص: 44 إلى 46)، دار البصيرة] وهذا صريحٌ في نفي المقابلة والجهة والحدِّ عند الرُّؤيةِ، وأنَّ هذا ما فهمه الإمام الدَّاني من مذهب إمامِ دار الهجرة في المسألةِ.

وقال الإمامُ ابنُ طَلحَةَ اليَابُرِيُّ المالكِيُّ (ت: 523 هـ): ((وَاللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَكْيِيفٍ، وَلَا جِهَةٍ وَلَا فَوْقٍ وَلَا تَحْتٍ، وَلَا خَلْفٍ وَلَا أَمَامَ وَلَا قُدَّامَ)) [المُختَصرُ في علم أصول الدِّين (ص: 167)، الرَّابطة المحمَّديَّة].

وقال القاضي أبُو بَكرٍ ابنُ العَرَبِي (ت: 543 هـ): ((وَمَعَ اسْتِحَالَةِ وَصْفِهِ بِالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ؛ فَإِنَّهُ يُرَى بِالأَبْصَارِ حَقِيقَةً، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (*) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القِيَامَة: 22-23]، فَقَرَنَ النَّظَرَ بِالْوَجْهِ وَعَدَّاهُ بِـ: "إِلَى"، ورَوَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ، واشْتُهِرَ وانْتَشَرَ بِحَيْثُ لَا يَتَأَتَّى إِنْكَارُهُ، وَقَدْ سَأَلَهَا الكَلِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَحِيلَةً لَمَا خَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِ)) [المُتَوَسِّطُ فِي الاعْتِقَادِ (ص: 170)، دَار الحَدِيثِ الكَتَّانِيَّة]، وقال: ((لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرُّؤْيَةِ المُقَابَلَةُ؛ فَإِنَّ الإِنْسَانَ يَرَى نَفْسَهُ فِي المِرْآةِ وَلَا يُقَابِلُهَا)) [المُتَوَسِّطُ فِي الاعْتِقَادِ (ص: 172)، دَار الحَدِيثِ الكَتَّانِيَّة].

وقال الإمامُ أبُو إسحاقَ الشَّاطِبيُّ (ت: 790 هـ): ((رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ عِنْدَنَا، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ ‌الرُّؤْيَةُ عَلَى أَوْجُهٍ صَحِيحَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّصَالُ أَشِعَّةٍ وَلَا ‌مُقَابَلَةٌ وَلَا تَصَوُّرُ جِهَةٍ وَلَا فَضْلُ جِسْمٍ شَفَّافٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْعَقْلُ لَا يَجْزِمُ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ بَدِيهَةً، وَهُوَ إِلَى الْقُصُورِ فِي النَّظَرِ أَمْيَلُ، وَالشَّرْعُ قَدْ جَاءَ بِإِثْبَاتِهَا فَلَا مَعْدِلَ عَنِ التَّصْدِيقِ)) [الاعتصامُ (2/330)، تحقيق: رشيد رضا، المكتبة التِّجارية الكبرى] والغريب في الأمر هنا هو أنَّ رشيد رضا - التَّيمي - لم ينبس بِبنت شَفة، على غير عادته في تصيُّد أدنى فُرصة لأجل لوك التُّهم الباطلة لأهل السُّنَّة الأشاعرة، نصرةً منه لشيخه ابن تيميَّة!

وقال القاضي الحنبليُّ أبُو يَعلَى الفرَّاء (ت: 458 هـ): ((كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: "تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ" حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَةَ الْقَمَرِ فِي جِهَةٍ وَمَحْدُودَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا فِي جِهَةٍ وَلَا مَحْدُودٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: 54] تُطْلَقُ هَذِهِ الصِّفَةُ وَإِنْ كَانَ الْعَرْشُ فِي جِهَةٍ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ وَصْفَهُ تَعَالَى بِالْجِهَةِ)) [إِبْطالُ التَّأويلات (1/182)، ط. دار إيلاف الدَّوليَّة] وقال: ((فَأَمَّا قَوْلُهُ : " كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ" فَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ إِلَّا تَحْقِيقَ رُؤْيَةِ الْعِيَانِ، لَا تَشْبِيهَ الْمَرْئِيِّ بِالْقَمَرِ فِي أَنَّهُ مَحْدُودٌ فِي جِهَةٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ رُؤْيَتُكُمْ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَرُؤْيَتِكُمُ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَيْ: كَمَا لَا تَشُكُّونَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ أَنَّهُ الْبَدْرُ، وَلَا يَتَخَالَجُكُمْ فِيهِ رَيْبٌ وَظَنٌّ، كَذَلِكَ تَرَوْنَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُعَايَنَةً يَحْصُلُ مَعَهَا الْيَقِينُ)) [إِبْطالُ التَّأويلات (2/285)، ط. دار إيلاف الدَّوليَّة].

فهل كلُّ هؤلاء الأئمَّة وغيرهم كثير - لا يحصيهم إلَّا الله - لم يكونوا مِن جمهور العُقلاء كما هو حاصل كلام ابن تيميَّة وأتباعه؟!

يُتبع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... CpKXK2oMul

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... ttN6nRqafl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أغسطس 27, 2024 12:24 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (20)

ثمَّ قال ابنُ تيميَّة عن السَّادة الأشاعرة في معرِض ردِّه على ما حكاه الإمامُ ابن فُورَك في مناظرة الكرَّاميَّة: ((وَلِهَذَا فَسَّرُوا "الْإِدْرَاكَ" بِالرُّؤْيَةِ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأَنعام: 103] كَمَا فَسَّرَتْهَا الْمُعْتَزِلَةُ، لَكِنْ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ فَلَا يُرَى بِحَالِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ.
وَالْآيَةُ تَنْفِي الْإِدْرَاكَ مُطْلَقًا دُونَ الرُّؤْيَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ كِلَابٍ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ، فَيُرَى مِنْ غَيْرِ إحَاطَةٍ وَلَا حَصْرٍ. وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْمَدْحُ، فَإِنَّهُ وَصْفٌ لِعَظَمَتِهِ أَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُ الْعِبَادِ وَإِنْ رَأَتْهُ، وَهُوَ يُدْرِكُ أَبْصَارَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - وَعِكْرِمَةُ بِحَضْرَتِهِ - لِمَنْ عَارَضَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: "أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟"، قَالَ: "بَلَى" قَالَ: "أَفَكُلَّهَا تَرَى؟")) [مجموع الفتاوى (16/59-60)، ط. دار الوفاء] إذن: فالله يُرى مِن غير أن يُحاط به أو يُدرك العباد نِهايات ذاته وحدوده، بمعنى: أنَّ العباد يرونه عَظيمًا بحيثُ لا يحيطون به كلّه لعِظَمة حَجمه ومِساحته، تمامًا كما لا يحيطون - رؤيةً - بحدود السَّماء لِعظَمِ جِرمِها، هكذا يقرِّر ابن تيميَّة كما ترى!

وإليك بعض أقواله الدَّالة على هذه الحقيقة:

قَالَ ابنُ تَيْمِيَّة منتحلًا لسان المثبِتة: ((الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَقُولُ إِنَّهُ لَا يُرَى إِلَّا كَبِيرًا عَظِيمًا، لَا نَقُولُ إِنَّهُ يُرَى لَا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا، بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ يُرَى عَظِيمًا كَبِيرًا جَلِيلًا كَمَا سَمَّى وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)) [بيانُ تَلبيس الجَهميَّة (4/479)، ط. المجمَّع] فالله يُرى عظيم الحَجمِ وفق زَعم ابن تيميَّة هنا؛ لأجل هذا لا تُحيطُ الأبصار بحدود ذاته وجوانبه؛ لأنَّه مُترامِيَ الأطراف والأبعاد!

وقال أيضًا مُخاطِبًا مخالفيه في مسألة "التَّبعيض": ((وَإِنْ عَنَيْتَ بِالتَّبْعِيضِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ السَّلَفِ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، لَمْ أُسَلِّمْ لَكَ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (6/288-289)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية] فالله يُرى منه بعضٌ دون بعضٍ!

وإن سألتَ لماذا؟ فالجواب تجده في قول ابن تيميَّة نفسه رادًّا على السَّادة الأشاعرة: ((وَأَمَّا الْإِدْرَاكُ وَالْإِحَاطَةُ الزَّائِدُ عَلَى مُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ، فَلَيْسَ انْتِفَاؤُهُ لِعَظَمَةِ الرَّبِّ عِنْدَهُمْ؛ بَلْ لِأَنَّ ذَاتَهُ لَا تَقْبَلُ ذَاكَ)) [مجموع الفتاوى (16/60)، ط. دار الوفاء] وعلى هذا؛ فانتفاءُ الإِدرَاك وَالإِحَاطَة كما في آية ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَام: 103]، لا يرجع إلى أنَّ الله ليس جِسماً كما عند الأشاعرة!؛ بل لأنَّه تعالى عظيم الحَجم جدًّا، وبِالتَّالي فيُرَى (بَعضهُ!) ولا يُدركُ ( كلّه!)، هذا حاصل كلام ابن تيميَّة!

وقال أيضاً في الرَّدِّ على الشَّيعي ابنِ المُطَهَّر الحِلِّي: ((وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ وَاحْتِجَاجُ النُّفَاةِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103] فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ: إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الرُّؤْيَةِ، أَوِ الرُّؤْيَةُ، أَوِ الرُّؤْيَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِالْإِحَاطَةِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَأَى شَيْئًا يُقَالُ: إِنَّهُ أَدْرَكَهُ، كَمَا لَا يُقَالُ: أَحَاطَ بِهِ، كَمَا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَكُلُّهَا تَرَى؟ قَالَ: لَا.
وَمَنْ رَأَى جَوَانِبَ الْجَيْشِ أَوِ الْجَبَلِ أَوِ الْبُسْتَانِ أَوِ الْمَدِينَةِ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ أَدْرَكَهَا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَدْرَكَهَا إِذَا أَحَاطَ بِهَا رُؤْيَةً)) [مِنهاجُ السُّنَّة (2/317)، تحقيق: محمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جَامِعة محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة] إلى أن قال: ((وَإِذَا كَانَ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْإِدْرَاكَ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً، كَمَا لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ وَالرُّؤْيَةِ نَفْيُ الْعِلْمِ وَالرُّؤْيَةِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يُرَى وَلَا يُحَاطُ بِهِ كَمَا يُعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْإِحَاطَةِ بِالنَّفْيِ يَقْتَضِي أَنَّ مُطْلَقَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِمَنْفِيٍّ، وَهَذَا الْجَوَابُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ)) [مِنهاجُ السُّنَّة (2/319-320)، تحقيق: محمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جَامِعة محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة] إذن: فالآية تنفي الإدراك والإحاطة بمعنى أن يُرى تعالى ( كلّه!)، فإذا كانت السَّماء لا يُحاط بها رؤيةً لعِظَم حَجمها؛ فما بالك بخالقها وهو أعظم منها مِساحة وامتداداً في الجهات، هذا حاصل كلام ابن تيميَّة!

وأمَّا عن زعمه بأنَّ هذا التَّجسيم مُوافق لكلام سيِّدنا ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - وعِكرمة، فهو من أغرب ما يكون!، وإلَّا فالله قَادِرٌ على أن يُريَ عباده حدودَ وأطرفَ السَّماء حتَّى تُحيط بها أبصار المخلوقين إحاطةً كُلِّيَّةً مِن كلِّ الجِهَاتِ، بل هذا ممكنٌ في كلِّ جسمٍ كما لا يخفى، مهما قلَّ حَجمه أو عَظُمت مِساحته وتباعدت جوانبه، وإلَّا لزم تعجيز القُدرة الإلهيَّةِ في التَّأثير على الممكنات ببعض ما يجوز عليها، وهو كُفرٌ باتِّفاق.
وعليه: فلو كان الله جسماً - والعياذ بالله - لجازَ أيضاً أن تُدركه الأبصار فتُحيط به مِن كلِّ الجهات، وهو ما ينسف فَهم ابن تيميَّة للآية بالكُلِّيَّة!

وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: ((وَأَمَّا إِذَا قِيلَ: الْمُرَادُ بِالِانْقِسَامِ أَوِ التَّرْكِيبِ أَنْ يَتَمَيَّزَ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، مِثْلُ تَمَيُّزِ عِلْمِهِ عَنْ قُدْرَتِهِ، أَوْ تَمَيُّزِ ذَاتِهِ عَنْ صِفَاتِهِ، أَوْ تَمَيُّزِ مَا ‌يُرَى ‌مِنْهُ عَمَّا لَا يُرَى، كَمَا قَالَهُ السَّلَفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103]، قَالُوا: لَا تُحِيطُ بِهِ. وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103] قَالَ: أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَكُلَّهَا تَرَى؟ قَالَ: لَا؛ فَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ، أَيْ: لَا يُحَاطُ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ)) [مِنهاجُ السُّنَّة (2/567)، تحقيق: محمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جَامِعة محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة].

ثمَّ قال: ((وَأَمَّا الِامْتِيَازُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ تَفَرُّقٍ وَانْفِصَالٍ، كَتَمَيُّزِ الْعِلْمِ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَتَمَيُّزِ الذَّاتِ عَنِ الصِّفَةِ، وَتَمَيُّزِ السَّمْعِ عَنِ الْبَصَرِ، وَتَمَيُّزِ مَا يُرَى مِنْهُ عَمَّا لَا يُرَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَثُبُوتِ صِفَاتٍ لَهُ وَتَنَوُّعِهَا، فَهَذَا مِمَّا تَنْفِيهِ الْجَهْمِيَّةُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مِمَّا أَنْكَرَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ نَفْيَهُمْ لَهُ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَنِّفِينَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ)) [مِنهاجُ السُّنَّة (2/568)، تحقيق: محمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جَامِعة محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة].

فتأمَّل قوله: ((أَوْ تَمَيُّزِ مَا ‌يُرَى ‌مِنْهُ عَمَّا لَا يُرَى)) فهو صريحٌ في أنَّ هناك (جوانب!) و(أطراف!) و(أبعاض!) مِن الذَّات العَليَّة تتميَّز بِأن يَراها البَشر، وأخرى لا تُرى لكونها في (جِهات!) بعيدة جدًّا، فَيُرَى تعالى (بَعْضُهُ!) مِن (بَعْضٍ!)، فَتَكُونُ رُؤْيَة بِلَا إدْرَاكٍ وَلَا إِحَاطَةٍ بنِهاياتِ وحُدودِ الذَّات الإِلهيَّة، هذا حاصل تقرير ابن تيميَّة هنا!

وَأمَّا حمله الإدراكَ على المعنى الحِسِّي أي: الإحاطة بكُلِّ حدودِ وجوانبِ وأبعادِ ومِساحةِ الذَّات العَليَّة؛ فهو تفسيرٌ يتوَقَّفٌ أوَّلًا على إقامةِ الدَّليل على صحَّة نسبة الجِسميَّة لله تعالى - جلَّ وعزَّ عن ذلكَ -، فَالجِسم له بعضٌ وكُلٌّ، وبالتَّالي قد يُرى بعضه لَا كلّه، إذا كان عظيم الحَجمِ كالسَّماء مَثلًا، وابنُ تيميَّة لم يقم أيّ دليل على أنَّ ربَّه جِسمٌ حتَّى يُسلَّم له هذا التَّفسير الباطل، وأنَّى له ذلك والله يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشُّورى: 11] فلو كان - تعالى - جِسماً لكانَ مِثل الأجسام في الجِسميَّة، فيلزمُه ما يلزمُها مِن الزِّيادة والنُّقصان!

وأمَّا أهل السُّنَّة فينفون الإدراك في حقِّه تعالى بمعنى نفي الإحاطة بكُنه وحقيقةِ الذَّات العَليَّة، وأمَّا الإدراك بالمعنى الحِسِّي فهو مَنفيٌّ أصلًا عندهم، لأَنَّ الله ليس جِسماً حتَّى يكون له بعضٌ وكُلٌّ.
فتحصَّل من هذا؛ أنَّ تفسير الإدراك بالإحاطة في آية ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103]، قد يُرادُ به:
1- المعنى الحسِّي: أي نفي إحاطة المخلوقين - رُؤيةً - بحدودِ وجوانبِ وأطرافِ ربِّهم، وهذا لا لأنَّ الله ليس جِسماً في نفس الأمر؛ بل لأَنَّه تعالى عظيم الحَجمِ والمِساحة بحيثُ يتعذَّر على الرَّائي له أن يُحيط بجميعِ حُدودهِ وجوانبهِ وأطرافهِ المترامية البعيدة جدًّا عن مَجال الرُّؤية، فيُرى - جلَّ وَعزَّ - بَعضُه لا كُلُّه، تماما كما هو الشَّأن في رؤيةِ الأجسام الضَّخمة، فلا تُحيط بها الأبصار لعِظَم جِرمها، هذا هو مذهب ابنُ تيميَّةَ!

وأمَّا مَن حملَ مِن أهل السُّنَّة المنزِّهةِ الإدراكَ في هذه الآية على المعنى الحِسِّي، فتراه يستدلُّ بها على نفي الجِسميَّة عن الله، بمعنى: إذا كان الله لا يُحاط به رُؤيةً من النَّاحيَّةِ الحِسِّيَّةِ؛ فَلأنَّه لا حدودَ ولا مِساحةَ ولا حَجمَ له أصلًا حتَّى يُحاط به.

2- حقيقة وكُنه الذَّات: وهو المعنى الَّذي يُثبته أهل السُّنَّة، فلا أحد يُدرك حقيقة وجلالة وعظمة الرَّبِّ إلَّا هو، فالمنفي هنا هو إحاطة المخلوق بحقيقة ذات خالقه جلَّ وعلا ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110].

وإليك بعض أقوال أئمَّة أهلِ السُّنَّةِ الَّتي تُبيِّن هذه الحقيقة:

قَالَ الإِمَامُ ‌أَبُو ‌إِسْحَاقَ ‌الزَّجَّاجُ (ت: 311 هـ): ((وقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأَنعام: 103]: أَعْلَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، وَفِي هَذَا الْإِعْلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ لَا يُدْرِكُونَ الْأَبْصَارَ، أَيْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفَ حَقِيقَةُ الْبَصَرِ، وَمَا الشَّيْءُ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ يُبْصِرُ بِعَيْنَيْهِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَعْضَائِهِ، ‌ ‌فَأَعْلَم ‌أَنَّ ‌خَلْقاً ‌مِنْ ‌خَلْقِهِ لَا يُدْرِكُ الْمَخْلُوقُونَ كُنْهَهُ وَلَا يُحِيطُونَ بِعِلْمِهِ، فَكَيْفَ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَالْأَبْصَارُ لَا تُحِيطُ بِهِ ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأَنعام: 103].
فَأَمَّا مَا جَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي الرُّؤْيَةِ وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ فَغَيْرُ مَدْفُوعٍ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى دَفْعِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَعْنَى إِدْرَاكِ الشَّيْءِ، وَالْإِحَاطَةُ بِحَقِيقَتِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ)) [مَعاني القُرآن وإِعرابه (2/278-279)، ط. عالَم الكُتب] فإذا كان المخلوق لا يُدركُ حقيقة القوَّة الَّتي يُبصر بها المخلوقات؛ فكيف سيدرك حقيقة الرَّبِّ؟! فنفيُ الإدراكِ في الآية بمعنى نفي الإحاطة بحقيقة الذَّات العَليَّة، فلا يعرف حقيقة الله إلَّا هو، ونفي هذا الإدراك لا يستلزم نفي رؤيته تعالى يوم القيامة، وهذا مذهب أهل السُّنَّة والحديث.

وقد نقل هذا التَّقرير الباهِر الإمامُ اللُّغويُّ أَبو منصورٍ الأَزهرِيُّ (ت: 370 هـ) في [تَهذيب اللُّغة (12/177-178)، ط. الدَّار المصريَّة للتَّأليف]، وأيضًا الإِمَامُ العَلَّامَةُ أَبُو الحَسَنِ عَلِيٍّ الوَاحِدِيُّ (ت: 468 هـ) ثمَّ قال بعد إيراده: ((قَالَ أَصْحَابُنَا: فَعَلَى هَذَا نَقُولُ: البَارِي يُرَى وَلَا يُدْرَكُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الإِدْرَاكِ هُوَ: الإِحَاطَةُ بِالرُّؤْيَةِ بِالْمَرْئِيِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ كَانَ مَحْدُوداً وَلَهُ جِهَاتٌ، وَالقَدِيمُ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ، يُرَى وَلَكِنْ لَا يُدْرَكُ، وَعَلَى هَذَا القَوْلِ فَقَدْ قُلْنَا بِظَاهِرِ الآيَةِ)) [التَّفْسِيرُ البَسِيط (8/332)، جامعة ابن سُعود الإسلاميَّة]، ونقلهُ أيضاً الحافظُ أَبُو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابنُ الجَوزِي الحنبلي (ت: 597 هـ) في [زَاد المسير (3/99)، ط. المكتب الإسلامي]، والإمامُ اللُّغويُّ جَمال الدِّين ابنُ مَنظورٍ الإفريقيُّ (ت: 711 هـ) في [لسان العَرب (4/64)، ط. دار صادر].

وَقَالَ الحافظُ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّد بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ (ت: 354 هـ): ((وَقَوْلُهُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103]، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ، يُرَى فِي الْقِيَامَةِ، وَلَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ إِذَا رَأَتْهُ، لأَنَّ الإِدْرَاكَ هُوَ الإِحَاطَةُ، وَالرُّؤْيَةُ هِيَ النَّظَرُ، وَاللهُ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ، لأَنَّ الإِدْرَاكَ يَقَعُ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ)) [الإحسانُ في تقريب صحيح ابنِ حِبَّان (1/259)، ط. مؤسَّسة الرِّسالة] فنفى الإدراك في الآية بمعنى نفي الإحاطة بِكُنهِ الذَّات العليَّة.

وقال الإمامُ القاضي أَبُو بَكْرٍ الباقِلَّانيُّ (ت: 406 هـ) وقد سبق ذكر قوله: ((جَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام : 103] عَلَى أَنَّهَا لَا تُدْرِكُهُ فِي جِهَةٍ، وَلَا تُدْرِكُهُ جِسْماً، وَلَا صُورَةً، وَلَا مُتَحَيِّزاً، وَلَا حَالًّا فِي شَيْءٍ، ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103] عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَتَكُونُ الحِكْمَةُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى وَأَهْلِ التَّشْبِيهِ وَمَنْ يَقُولُ بِالجِهَةِ والحَيِّزِ وَالصُّورَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)) [الإنصافُ (ص: 298)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] فالإدراك المستلزم لإثبات الحُدود والحجمِ والجِهةِ والصُّورةِ والحَيِّز - كما هو مذهب ابن تيميَّة - منفيٌّ عن الله عند القاضي الباقلَّاني.

وقال أيضاً: ((قَالَ [تَعَالَى]: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103]، وَلَمْ يَقُلْ: لَا تَرَاهُ الأَبْصَارُ. وَالإِدْرَاكُ بِمَعْنَى يَزِيدُ عَلَى الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الإِدْرَاكَ: الإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ الجِهَاتِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالْجِهَاتِ، وَلَا أَنَّهُ فِي جِهَةٍ، فَجَازَ أَنْ يُرَى وَإِنْ لَمْ يُدْرَك، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ اللَّعِينِ فِرْعَوْنَ: ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾ [يُونُس: 90]؛ يعْنِي: أَحَاطَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، فَالغَرَقُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَرَى، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ أَحَاطَ بِالشَّيْءِ. كَذَلِكَ المُؤْمِنُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَرَى رَبَّهُ وَلَا يُدْرِكُهُ بِالإِحَاطَةِ، وَهَذَا كَمَا نَقُولُ: إِنَّا نَعْلَمُ رَبَّنَا، وَلَا نَقُولُ إِنَّا نُحِيطُ بِرَبِّنَا، فَكَمَا كَانَتْ الإِحَاطَةُ مَعْنَى يَزِيدُ عَلَى العِلْمِ، كَذَلِكَ الإِدْرَاكُ مَعْنَى يَزِيدُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ قَوِلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمَّد: 19]، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]، ونَجْمَعُ بَيْنَ قَولِهِ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (*) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القِيَامَة: 22-23]، وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103]، فَنَقُولُ: مَعْلُومٌ وَلَا يُحَاطُ بِهِ، مَرْئِيٌّ وَلَا يُدْرَكُ)) [الإنصافُ (ص: 297)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] فنفى الإدراك والإِحَاطَة بمعنى إثبات الجِهة وغيره من معاني الجسميَّة في حقِّه تعالى.

وَقالَ الإمامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ (ت : 489 هـ): ((فَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103] فَالإِدْرَاكُ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ: هُوَ ‌الْوُقُوفُ ‌عَلَى ‌كُنْهِ ‌الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ، والرُّؤْيَةُ: هِيَ الْمُعَايَنَةُ، وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ بِلَا إِدْرَاكٍ، قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي قصَّةِ مُوسَى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا﴾ [الشُّعَرَاءِ: 61] فَنَفَى الْإِدْرَاكَ مَعَ إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْإِدْرَاكُ غَيْر الرُّؤْيَةِ، فَاللهُ - تَعَالَى - يَجُوزُ أَنْ يُرَى، وَلَكِنْ لَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ؛ إِذْ لَا كُنْهَ لَهُ حَتَّى يُدْرَكَ؛ وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ يُعْلَمُ وَيُعْرَفُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110] فَنَفَى الْإِحَاطَةَ مَعَ ثُبُوتِ الْعِلْمِ)) [تفسيرُ القرآن (2/132-133)، ط. دار الوَطن] وقولهُ: ((وَلَكِنْ لَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ؛ إِذْ لَا كُنْهَ لَهُ حَتَّى يُدْرَكَ)) محمولٌ على نفي الحقيقة المستلزمة للجِسميَّة؛ لا أنَّ الذَّاتَ العَلِيَّةَ لا حقيقة لها في نفس الأمر، بدليل أنَّهُ قال عندَ تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشُّعراء: 23] : ((وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ الْمَائِيَّةِ - وَلَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ - وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ أَوْصَافِ الْمَخْلُوقِينَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى لَمْ يُجِبْ جَوَابَ سُؤَالِ الْمَائِيَّةِ، فَلَمْ يَقُلْ: رَبِّي لَوْنُهُ كَذَا، وَهُوَ مِنْ كَذَا، وَرِيحُهُ كَذَا، وَلَكِنْ أَجَابَ بِذِكْرِ أَفْعَالِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ [الشُّعراء: 24]. وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ الْمَائِيَّةِ سُؤَالٌ عَنْ جِنْسِ الشَّيْءِ، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِنْسِيَّةِ)) [تفسيرُ القرآن (4/42-43)، ط. دار الوَطن] والمائيَّةُ كَالمَاهِيَّةِ وهو ما يُجَاب به عن السُّؤال بـ: "مَا"، وعلى هذا فالإمامُ ينفي عن الله المائيَّة بمعنى الكيفيَّة الجِسميَّة.

لأجل هذا؛ قال شَيْخُ المَالِكِيَّةِ القَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ (ت: 422 هـ) عندَ شرحِ قول الإمامِ ابن أبي زيدٍ القيروانِيِّ (ت: 386 هـ): ((يَعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُونَ بِآيَاتِهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ ‌فِي ‌مَائِيَّةِ ‌ذَاتِهِ)) كما في عقيدة "الرِّسالة"، ما نصُّهُ: ((قَوْلُهُ: "يَعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُونَ بِآيَاتِهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ ‌فِي ‌مَائِيَّةِ ‌ذَاتِهِ": فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِذِي جِنْسٍ وَلَا نَوْعٍ وَلَا شَكْلٍ، وَلَا مِثْلَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَالْمَائِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِذِي الجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَمَا لَهُ مِثْلَ. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِذِكْرِ الْمَائِيَّةِ ضَرْباً مِنَ الْمَجَازِ والاتِّسَاعِ، فَإِذَا سَأَلَ سَائِلٌ بِلَفْظِهَا فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنِ البَارِي مَا هُوَ؟ قَسَمْنَا عَلَيْهِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ سُؤَالُهُ؛ فَقُلْنَا: إِنْ أَرَدْتَ: مَا جِنْسُهُ وَنَوْعُهُ، فَلَيْسَ بِذِي جِنْسٍ وَلَا نَوْعٍ، وإِنْ أَرَدْتَ: مَا اسْمُهُ؛ فَاسْمُهُ: اللهُ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ، الْحَيُّ الْقَيُومُ)) [شَرْحُ عَقِيدَةِ ابْنِ أَبِي زَيْد الْقَيْرَوانِي (ص: 165)، دار البحوث للدِّراسات الإسلاميَّة وإحياء التُّراث: الإمارات].

وقالَ الحَافِظُ مُحْيِي السُّنَّةِ البَغَوِيُّ (ت: 516 هـ): ((وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103]، فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِدْرَاكَ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ: هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى كُنْهِ الشَّيْءِ وَالْإِحَاطَةُ بِهِ، وَالرُّؤْيَةُ: الْمُعَايَنَةُ، وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ بِلَا إِدْرَاكٍ)) [معالِمُ التَّنزيل (3/174)، ط. دار طَيبة] ففسَّر الإدراكَ بمعنى الوقوف على الكُنه وَالحقيقة.

وَقَالَ الإمامُ المُفسِّرُ ابْنُ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 541 هـ): ((نَقُولُ: إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ‌تَرَاهُ ‌الأَبْصَارُ ‌وَلَا ‌تُدْرِكُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ يَتَضَمَّنُ الْإِحَاطَةَ بِالشَّيْءِ ‌وَالْوُصُولَ ‌إِلَى ‌أَعْمَاقِهِ وَحَوْزَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُحَالٌ فِي أَوْصَافِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالرُّؤْيَةُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يُحِيطَ الرَّائِيُّ بِالْمَرْئِيِّ وَيَبْلُغَ غَايَتهُ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَتَرَتَّبُ العَكْسُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103]، وَيَحْسُنُ مَعْنَاهُ. وَمِثْلُ هَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ وَعَطِيَّةَ العَوْفِيِّ، فَرَّقُوا بَيْنَ الرُّؤْيَةِ وَالإِدْرَاكِ)) [المُحَرَّرُ الوَجِيز (ص: 651)، ط. دار ابن حزم] فنفى الإدراك المستلزم لإثباتِ التَّحيُّز والجِهة والجِسميَّة.

وقالَ الإمامُ المفسِّرُ القُرطبيُّ (ت: 671 هـ): ((قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103] بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَمِنْهَا الْإِدْرَاكُ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ وَالتَّحْدِيدِ، كَمَا تُدْرَكُ سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالرُّؤْيَةُ ثَابِتَةٌ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: لَا يُبْلَغُ كُنْهُ حَقِيقَتِهِ، كَمَا تَقُولُ: أَدْرَكْتُ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثُ فِي الرُّؤْيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) [الجامعُ لأحكامِ القرآنِ (7/54)، ط. دَار عَالَم الكُتُب] فنفى الإمامُ الإدراكَ المستلزم لإثبات الحدُود، وأثبتَ نفيَ الإحاطة بمعنى نفي إدراكنا لحقيقةِ وكُنهِ الذَّات العليَّة.
وَقالَ الإمامُ أَبو البَرَكاتِ النَّسَفِيُّ (ت: 710 هـ) في تفسيره رادًّا على المعتزلة: ((﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103]: لَا تُحِيطُ بِهِ...لِأَنَّ المَنْفِيَّ هُوَ الإِدْرَاكُ لَا الرُّؤْيَةُ، وَالإِدْرَاكُ: هُوَ الوُقُوفُ عَلَى ‌جَوَانِبِ الْمَرْئِيِّ وَحُدُودِهِ. وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالْجِهَاتُ يَسْتَحِيلُ إِدْرَاكُهُ لَا رُؤْيَتُهُ، فَنَزَّلَ الإِدْرَاكَ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَنْزِلَةَ الإِحَاطَةِ مِنَ العِلْمِ، وَنَفْيُ الإِحَاطَةِ الَّتِي تَقْتَضِي الوُقُوفَ عَلَى الجَوَانِبِ وَالحُدُودِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ العِلْمِ بِهِ، فَهَكَذَا هُنَا. عَلَى أَنَّ مَوْرِدَ الآيَةِ وَهُوَ التَّمَدُّحُ، يُوجِبُ ثُبُوتَ الرُّؤْيَةِ، إِذْ نَفْيُ إِدْرَاكِ مَا تَسْتَحِيلُ رُؤْيَتُهُ لَا تَمَدُّحَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُرَى لَا يُدْرَكُ، وَإِنَّمَا التَّمَدُّحُ بِنَفْيِ الإِدْرَاكِ مَعَ تَحْقِيقِ الرُّؤْيَةِ، إِذْ انْتِفَاؤُهُ مَعَ تَحَقُّقِ الرُّؤْيَةِ دَلِيلُ ارْتِفَاعِ نَقِيصَةِ التَّنَاهِي وَالحُدُودِ عَنِ الذَّاتِ، فَكَانَتْ الآيَةُ حُجَّةً لَنَا عَلَيهِمْ، وَلَوْ أَنْعَمُوا النَّظَرَ فِيهَا لَاغْتَنَمُوا التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَتِهَا. وَمَنْ يَنْفِي الرُّؤْيَةَ يَلْزَمُهُ نَفْيُ أَنَّهُ مَعْلُومٌ مَوْجُودٌ، وَإِلَّا فَكَمَا يُعْلَمُ مَوْجُوداً بِلَا كَيْفِيَّةٍ وَجِهَةٍ بِخِلَافِ كُلِّ مَوْجُودٍ، لِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَى بِلَا كَيْفِيَّةٍ وَجِهَةٍ بِخِلَافِ كُلِّ مَرْئِيٍّ؟ وَهَذَا لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ بِالْبَصَرِ كَمَا هُوَ، فَإِنْ كَانَ الْمَرْئِيُّ فِي الْجِهَةِ يُرَى فِيهَا، وَإِنْ كَانَ لَا فِي الْجِهَةِ يُرَى لَا فِيهَا)) [مداركُ التَّنزيل (1/527)، ط. دار الكَلِم الطَّيِّب].

وقالَ الإمامُ أَبُو حَيَّان الأندَلُسِيُّ (ت: 745 هـ): ((وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يُرَادُ بِهِ هُنَا مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ وَلَا تَمَدُّحٌ، لِأَنَّا نَحْنُ نَرَى الْأَبْصَارَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِدْرَاكِ: الْإِحَاطَةُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ؛ فَهُوَ تَعَالَى لَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ الْأَبْصَارُ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِحَقِيقَتِهَا)) [(4/198)، ط. دار الكُتب العِلميَّة].
وَقَالَ الحافظُ ابنُ كَثِيرٍ (ت: 774 هـ) في تفسيرِ قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103]: ((ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ ‌فِي ‌الْإِدْرَاكِ ‌الْمَنْفِيِّ، مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا أَنَّ مَنْ رَأَى الْقَمَرَ فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَتَهُ وَكُنْهَهُ وَمَاهِيَّتَهُ، فَالْعَظِيمُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْإِدْرَاكِ الْإِحَاطَةُ. قَالُوا: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ عَدَمُ الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الثَّنَاءِ، فَكَذَلِكَ هَذَا)) [تفسيرُ ابن كثير (6/124-125)، ط. مؤسَّسة قُرطبة] إلى أن قال: ((فَأَمَّا جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ - فَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلِهَذَا كَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تُثْبِتُ الرُّؤْيَةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَتَنْفِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103] فَالَّذِي نَفَتْهُ الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى رُؤْيَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِلْبَشَرِ وَلَا لِلْمَلَائِكَةِ وَلَا لِشَيْءٍ)) [تفسيرُ ابن كثير (6/127)، ط. مؤسَّسة قُرطبة] وواضح جدًّا أنَّ الحافظ ابن كثير ينفي الإدراك هنا بمعنى نفي معرفة الخلق بحقيقة وعظمة وجلال الله تعالى، وليس نفي إدراكهم حُدود الله - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً -.

وقالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ في الرَّدِّ على نُفاةِ الرُّؤية: ((وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى لمُوسَى: ﴿لَن تَرَانِي﴾ [الأَعراف: 143]، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فِي الدُّنْيَا جَمْعًا بَيْنَ دَلِيلَيِ الْآيَتَيْنِ، وَبِأَنَّ نَفْيَ الْإِدْرَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ؛ ‌لِإِمْكَانِ ‌رُؤْيَةِ ‌الشَّيْءِ ‌مِنْ ‌غَيْرِ ‌إِحَاطَةٍ ‌بِحَقِيقَتِهِ، وَعَنِ الثَّانِي: الْمُرَادُ لَنْ تَرَانِي فِي الدُّنْيَا جَمْعًا أَيْضًا، وَلِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي إِحَالَتَهُ مَعَ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَلَى وَفْقِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَلَقَّاهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْقَبُولِ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَتَّى حَدَثَ مَنْ أَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ وَخَالَفَ السَّلَفَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اشْتَرَطَ النُّفَاةُ فِي الرُّؤْيَةِ شُرُوطًا عَقْلِيَّةً كَالْبِنْيَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَاتِّصَالِ الْأَشِعَّةِ، وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ كَالْبُعْدِ وَالْحَجْبِ، فِي خَبْطٍ لَهُمْ وَتَحَكُّمٍ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يَشْتَرِطُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سِوَى وُجُودِ الْمَرْئِيِّ، وَأَنَّ الرُّؤْيَةَ إِدْرَاكٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلرَّائِي فَيَرَى الْمَرْئِيَّ، وَتَقْتَرِنُ بِهَا أَحْوَالٌ يَجُوزُ تَبَدُّلُهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى)) [فتحُ الباري (13/426)، المكتبة السَّلفيَّة] فتأمَّل تفسير الحافظ الإدراك بمعنى الإحاطة بِحقيقة الذَّات كما في قوله: ((وَبِأَنَّ نَفْيَ الْإِدْرَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ ‌لِإِمْكَانِ ‌رُؤْيَةِ ‌الشَّيْءِ ‌مِنْ ‌غَيْرِ ‌إِحَاطَةٍ ‌بِحَقِيقَتِهِ)) وقد نقله عن الإمامِ ابنِ بطَّال، وتأمَّل أيضاً نفيه حمل الإدراك على معنى الإحاطة الحسِّيَّة من كلِّ الجوانب، كما نجده في نفيه شرائط الرُّؤية الحِسِّيَّة في الشَّاهد.

وَقَالَ الإمامُ أبُو البقاء الحَنَفيُّ (ت: 1094 هـ): ((الإِدْرَاكُ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوُصُولِ وَاللُّحُوقِ. يُقَالُ: أَدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ: إِذَا بَلَغَتِ النُّضْجَ. وَقَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: 61]: أَيْ مُلْحَقُونَ، وَمَنْ رَأَى شَيْئاً وَرَأَى جَوَانِبَهُ وَنِهَايَاتَهُ قِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ رَأَى وَأَحَاطَ بِجَمِيعِ جَوَانِبِهِ، وَيَصِحُّ: "رَأَيْتُ الحَبِيبَ وَمَا أَدْرَكَهُ بَصَرِي" وَلَا يَصِحُّ: "أَدْرَكَهُ بَصَرِي وَمَا رَأَيْتُهُ" فَيَكُونُ الإِدْرَاكُ أَخَصَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ.
وَالإِدْرَاكُ: تَمَثُّلُ حَقِيقَة الشَّيْءِ عِنْدَ الْمُدْرِكِ...وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالٍ يَحْصُلُ بِهِ مَزِيدُ كَشْفٍ عَلَى مَا يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ مِنَ الشَّيْءِ الْمَعْلُومِ مِنْ جِهَةِ التَّعَقُّلِ بِالبُرْهَانِ أَوِ الْخَبَرِ، وَهَذَا الْكَمَالُ الزَّائِدُ عَلَى مَا حَصَلَ فِي النَّفْسِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ هُوَ الْمُسَمَّى: إِدْرَاكًا.
ثمَّ هَذِهِ الإِدْرَاكَاتِ لَيسَتْ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ الآلَةِ الدَّارِكَةِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُدْرَكِ وَلَا بِانْطِبَاعِ صُورَةِ الْمُدْرَكِ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْنَى يَخْلُقُهُ اللهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الحَاسَّةِ، فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ فِي الحَاسَّةِ الْمُبْصِرَةِ، بَلْ وَفِي غَيرِهَا زِيَادَةُ كَشْفٍ بِذَاتِهِ وَبِصِفَاتِهِ عَلَى مَا حَصَلَ مِنْهُ بِالْعِلْمِ الْقَائِمِ فِي النَّفْسِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَ حُدُوثاً وَلَا نَقْصاً. فَعَلَى هَذَا؛ لَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْإِدْرَاكُ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الإِدْرَاكَاتُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ؛ فَأَيْنَ اسْتِدْعَاءُ الرُّؤْيَةِ - عَلَى فَاسِدِ أُصُولِ الْمُنْكِرِينَ - الْمُقَابلَةَ الْمُسْتَدْعِيَةَ لِلْجِهَةِ الْمُوجِبَةِ كَونُهُ جَوْهراً أَوْ عَرَضاً؟!
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ نَوعٌ مِنَ الْعُلُومِ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى، وَالْعِلْمُ لَا يُوجِبُ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْمُدْرَكِ مُقَابَلَةً وَجِهَةً؛ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ وَتَوَاتَرَتِ الْآثَارُ مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَرَى جِبْرِيلَ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ هُوَ حَاضِرٌ فِي مَجْلِسِهِ لَا يُدْرِكُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، مَعَ سَلَامَةِ آلَةِ الْإِدْرَاكِ)) [الكُلِّيات (ص: 66)، ط. مؤسَّسة الرِّسالة].

يُتبع..

السَّايق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... NKLCQgcUil

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... BfNS75PsGl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد سبتمبر 01, 2024 3:55 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (21)

وَأمَّا قولُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - السَّابق -: ((وَهَذِهِ عَادَةُ ابْنِ فُورَكٍ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا نُوظِرَ قُدَّامَ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ أَمِيرِ الْمَشْرِقِ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ وُصِفَ الْمَعْدُومُ لَمْ يُوصَفْ إلَّا بِمَا وَصَفْتَ بِهِ الرَّبَّ مِنْ كَوْنِهِ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، كَتَبَ إلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمَا إلَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، فَأَجَابُوا لِمَنْ عَارَضَهُمْ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ بِدَعْوَى الْحُجَّةِ)) [التِّسعينِيَّة ضمن الفتاوى الكبرى (6/531-532)، ط. دار الكتب العلميَّة] فَهو يزعم أنَّ إثباتَ الاتِّصال أو الانفصال في حقِّه تعالى: ضرورَةٌ عقليَّةٌ!، بينما القول باستلزام العُلُوِّ الحِسِّي للجِسميَّة: فهو مجرَّدُ دعوى حُجَّة فقط!، والمقصود: أنَّ هذه الدَّعوى لا تقوى في نفسها على مُعارضة الضَّرورة العقليَّة!

وأمَّا قوله بالضَّرورة العقليَّة هنا، فقد سبق بيان أنَّها مُجرَّد دعوى باطلة عاطلة، لا تقوم على ساقٍ عند عرضها على المحكِّ العلمي، فلا نُعيد الكلام فيها.

وأمَّا عن طريقته هنا في تناول هذه المناظرة، فالأمر يستدعي بعض الوقفات:

- أوَّلًا: مُناظرة الإمامِ أبي إسحاقَ الإسْفَرَايِنِيِّ للكرَّاميَّة كما ذكرها بعض أيمَّة الإسلام:

قالَ القاضي أَبُو بَكرٍ بنُ العَربِي الإشبيليُّ المالكيُّ (ت: 542 هـ): ((وَالنُّكْتَةُ فِي اسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ [=تَعَالَى] مُتَمَكّْناً؛ أَنَّ المُتَمَكِّنَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الْمَكَانِ، أَوْ نَاقِصاً مِنْهُ، أَوْ زَائِداً عَلَيْهِ، وَجَمِيعُ أَقْسَامِهِ مُحَالٌ، فَذَلِكَ عَلَيْهِ مُحَالٌ، وَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ اسْتَدَلَّ الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ [=الإٍسْفَرَايِنِيُّ] فِي مَجْلِسِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ [‌=‌بْنِ سُبُكْتِكِينَ] عَلَى الكَرَّامِيَّةِ، فَمَا أَحَارَ أَحَدٌ مِنْهُمْ جَوَاباً عَنْهُ)) [المُتَوَسِّط فِي الاعتِقادِ (ص: 166)، ط. دَار الحَدِيثِ الكَتَّانِيَّة].

وذكر الإمَامُ الكَبيرُ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ (ت: 471 هـ) تفاصيلَ هذه المناظرة فقال: ((وَسَأَلَ بَعْضُ أَتْبَاعِ الكَرَّامِيَّةِ فِي مَجْلِسِ مَحْمُودِ ‌بْنِ سُبُكْتِكِينَ - سُلْطَانُ زَمَانِهِ رَحِمَهُ اللهُ - إِمَامَ زَمَانِهِ أَبَا إِسْحَاقَ ‌الإِسْفَرَايِنِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسأَلَةِ فَقَالَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: "اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّ الْعَرْشَ مَكَانٌ لَهُ؟" فَقَالَ: لَا. وَأَخْرَجَ يَدَيْهِ وَوَضَعَ اِحْدَى ‌كَفَّيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَقَالَ: كَوْنُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يَكُونُ هَكَذَا. ثُمَّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُخَصِّصٍ خَصَّهُ، وَكُلُّ مَخْصُوصٍ يَتَنَاهَى، وَالْمُتَنَاهِي لَا يَكُونُ إِلَهًا، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي مُخَصِّصاً وَمُنْتَهَى، وَذَلِكَ عَلَمُ الْحُدُوثِ"، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنْهُ، فَأَغْرَواْ بِهِ رَعَاعَهُمْ حَتَّى دَفَعَهُمْ عَنْهُ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَزِيرُهُ أَبُو الْعَبَّاسَ ‌الإِسْفَرَايِنِيُّ قَالَ لَهُ مَحْمُودٌ: "كجابودي؟ أَيْن هم شهرى توخداي كراميان را بسرايشان به زد".
وَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْإِلْزَامُ تَحَيَّرُوا، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنَ الْعَرْشِ، وَقَالَ قَوْمٌ أَنَّهُ مِثْلُ الْعَرْشِ، وَارْتَكَبَ ابْنُ المُهَاجِرِ مِنْهُمْ قَوْلهُ أَنَّ عَرْضَهُ عَرْضُ الْعَرْشِ. وَهَذِه الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَضَمِنَّةٌ لِإِثْبَاتِ النِّهَايَةِ، وَذَلِكَ عَلَمُ الْحُدُوثِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ صَانِعُ الْعَالَمِ)) [التَّبصِيرُ في الدِّين (ص: 112)، ط. عالَم الكتب].

وشرَحَ العلَّامةُ الكَوثريُّ قولَ السُّلطان ابنِ سُبُكْتِكِينَ بالفارسيَّة: ((كجابودي؟ أَيْن هم شهرى توخداي كراميان را بسرايشان به زد)) فقال: ((مَعْنَاهُ: أَيْنَ كُنْتَ؟ بَلَدِيُّكَ هَذَا قَدْ حَطَّمَ مَعْبُودَ الكَرَّامِيِّينَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ)) [التَّبصِيرُ في الدِّين (هامش على ص: 94)، تحقيق: الأستاذ زاهد الكَوثري، ط. المكتبة الأزهريَّة].

فأنتَ ترى كيف ألزامَ الإمامُ أبو إسحاقَ الإسفَرايني الكَرَّاميَّةَ بِالقَولِ بالجِسميَّةِ في حال التزامِ القولِ بالعُلُوِّ الحِسِّي، وبالتَّالي يلزمهم القول بالحدوث في حقِّه تعالى، وهو مُحالٌ، وأنَّ هذا اللَّازم لا ينفك، وأنَّ نفيه مُجرَّد مُكابرةٍ لا تستحقُّ الجواب، لأجل هذا بُهت القوم وسلَّموا للأستاذ، ممَّا دفع بعضهم إلى التزام ما لا يقوله عاقل.

فقارن يا عبد الله كلَّ هذه التَّفاصيل للمُناظرة، بأسلوب ابنِ تيميَّة في الكلام عليها!

- ثانياً: في أنَّ الحُجَّةَ الَّتي ذكرها الأستاذُ أبو إسحاق الإسْفَرَايِنِيُّ مُلزمةٌ للمجسِّمة، ولا مناص لهم للتَّخلُّص منها:

قالَ حُجَّةُ الإسلامِ أبُو حامِد الغزاليُّ (ت: 505 هـ): ((لَوْ كَانَ [=تَعَالَى] فَوْقَ العَالَمِ لَكَانَ مُحَاذِياً لَهُ، وَكُلُّ مُحَاذٍ لِجِسْمٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ أَوْ أَكْبَرَ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْدِيرٌ يُحْوِجُ إِلَى مُقَدِّرٍ، وَيَتَعَالَى عَنْهُ الخَالِقُ الوَاحِدُ الْمُدَبِّرُ)) ["الرِّسالةُ القُدْسِيَّةُ" ضمنَ إحياء علوم الدِّين (1/392)، ط. دار المنهاج].

ومقصود حجَّة الإسلام هو أنَّ القولَ بالعُلُوِّ الحِسِّي في حقِّه تعالى، يستلزمُ القولَ بمحاذَاتهِ تعالى للعَالَم ولا بُدَّ؛ لأنَّ هذا القَولَ معناه بالضَّرورة أنَّ حدودَ وحيِّزَ وامتدادَ الباري يبدأُ مُباشرةً بعد انتهاء حدِّ وحيِّزِ وامتدادِ العالَم، وليس هناك إلَّا الخالق و المخلوق، وعلى هذا فيلزم أن يكون الخالق فَوقَ العالَمِ فَوقِيَّةَ مُمَاسَةٍ وَتحَيُّزٍ وحُدُودٍ، ونسبةُ المُمَاسَّةِ والحُدودِ والتَّحَيُّزِ والامتدادِ في الأبعادِ لله تعالى يستلزم وصفهُ بالجِسميَّة وأنَّ لهُ مِساحَةٌ وَحَجْمُ.

إذن: فالفوقيَّةُ الحِسِّيَّةُ لَا تُعْقَلُ إِلَّا فِي الأجسامِ المحدودةِ، لأجلِ هذا قال الإمامُ الغزالي: ((لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى الجِسْمِ إِلَّا جِسْمٌ)) [الاقتصادُ في الاعتقاد (ص: 168)، ط. دار المنهاج].

إذا ظهر هذا، فأيُّ جِسمٍ - مهما كان حَجمُهُ - فالعقلُ يُجوِّزُ عليه الزِّيادة والنُّقصان، فالعقل لا يُوجب على الشَّمس أن يكون حجمها أو شكلها - مثلًا - على هذا المقدار أو الشَّكل الَّذي نشاهدها عليه، بل جائز أن يَزيد حجمها أو يَنقص، وجائز أيضاً أن تكون مُربَّعة أو مُثَلَّثَة عِوَض أن تكون مُستديرة، وهكذا إلى لا نهاية من التَّقديرات أو الاحتمالات الجائزة في حقِّها، وقُل نفس الشَّيء في جبلِ أُحُد والقَمر والإنسان والحيوان وَكلِّ الأجسام، فهي من حيثُ ذواتُها كأجسامٍ: مُمكناتٌ، تحتاجُ إلى مَن يُخصِّصها بهذا الحَجم دون غيره من الأحجامِ، وتحتاجُ إلى مَن يُصوِّرها بهذا الشَّكل دون غيره من الأشكال، وهكذا.

وهذه الحقيقة ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة: 247]، فأكَّد أنَّ الجِسمَ مهما بلغ حجمهُ، فهو يقبل الزِّيادة وبالتَّالي النُّقصان، فلا بُدَّ له إذاً مِن مُقدِّر يُقدِّره بهذا المقدار دون غيره من المقادير الجائزة عليه، وهذا المقدِّرُ هو الرَّبُّ المدَبِّرُ، فهو تعالى الَّذي حدَّه بهذا الحدِّ دون غيره، وبهذا الشَّكل دون غيره، وبهذا الطُّول أو العَرض أو العُمق دون غيره، وهكذا.

قَالَ الإمامُ الفخرُ الرَّازيُّ (ت: 606 هـ): ((قَولُهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [الحَشر: 24].
الخَالِقُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْمُقَدِّرُ، وَلَوْ كَانَ تَعَالَى جِسْماً لَكَانَ مُتَنَاهِياً، وَلَوْ كَانَ مُتَنَاهِياً لَكَانَ مَخْصُوصاً بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَلَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ خَالِقاً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى هُوَ الْمُقَدِّرُ لِجَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ بِمَقَادِيرِهَا الْمَخْصُوصَةِ، فَإِذَا كَانَ مُقَدَّراً فِي ذَاتِهِ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ لَزِمَ كَوْنُهُ مُقَدِّراً لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَأَيْضاً: لَوْ كَانَ جِسْماً لَكَانَ مُتَنَاهِياً، وَكُلُّ مُتَنَاهٍ فَإِنَّهُ يُحِيطُ بِهِ حَدٌّ أَوْ حُدُودٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُشَكَّلٌ، وَكُلُّ مُشَكَّلٍ فَلَهُ صُورَةٌ، فَلَوْ كَانَ جِسْماً لَكَانَ لَهُ صُورَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ مُصَوِّراً، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مُصَوِّراً لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ)) [أَساسُ التَّقديسِ (ص: 66)، ط. دار نُور الصَّباح].

وَقَالَ الإمامُ بَدرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ (ت: 794 هـ) فِي تَنْزِيهِ اللهِ عَنِ الجِسْمِيَّةِ: ((قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البَقَرَة: 247]، دَلَّ عَلَى أَنَّ الجِسْمَ قَدْ يَزِيدُ عَلَى جِسْمٍ آخَرَ، وَذَلَكَ لِأَجْلِ التَّألِيفِ وَالاجْتِمَاعِ وَكَثْرَةِ الأَجْزَاءِ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ البَارِي)) [تشنيفُ المسامع (4/648)، ط. مكتب قُرطبة].

وَقال الإمامُ أَبُو الثَّناء اللَّامِشيُّ الحنَفِيُّ: ((الجِسْمُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا عَلَى شَكْلٍ مِنَ الأَشْكَالِ، وَوُجُودُهُ عَلَى جَمِيعِ الأَشْكَالِ لَا يُتَصَّوَّرُ أَنْ يَكُونَ؛ إِذِ الفَرْدُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُطَوَّلًا وَمُدَوَّراً وَمُثَلَّثاً وَمُرَبَّعاً. وَوُجُودُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَشْكَالِ مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ إِيَّاهُ فِي صِفَاتِ المَدْحِ وَالذَّمِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ الحَدَثِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِسْماً لَوَقَعَتِ المُشَابَهَةُ وَالمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الأَجْسَامِ فِي الجِسْمِيَّةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشُّورى: 11]. [التَّمهيدُ لقواعِد التَّوحيد (ص: 56)، ط. دار الغَرب الإسلامي].

إذن: فكلُّ جِسمٍ مُمكنٌ؛ لأن ذاته يَقبل التَّحوُّل والتَّغيُّر بزيادة أو نُقصان، لأجل هذا فربوبيَّة الجسم باطلة؛ لأنَّ ذات الرَّبِّ: واجبٌ، والجِسم: مُمكنٌ جائزٌ.
فهذا وجه الإلزام الَّذي ذكره الإمامُ أبو إسحاقَ الإسفَرايني في مُناظرة الكرَّاميَّة، وهو أنَّ العُلُوَّ الحِسِّي يستلزم التَّقدير، والتَّقديرُ يستلزم الاحتياج إلى مُقَدِّرٍ ومُخَصِّصٍ، وهو مُحالٌ في حقِّه تعالى.

هذا؛ ولقد ذكر العلَّامة الكوثري أَنَّ الفيلسوف "موسى بن ميمون اليهودي" حاول الاعتراض على هذا الدَّليل بما لا طائل من ورائه، وتلقَّف منه ابنُ تيميَّةَ هذا الشُّذوذ نصرةً لعقيدته في أنَّ الله جسمٌ وله حجمٌ لا يَزيد ولا يَنقص!، كما تجده في تواليفه على غرار "بيان تلبيس الجهميَّة" و"درء تعارض العقل والنَّقل"، وهذا علاوة على كونه مُكابرة صريحة للمعقول، ومُناقضة للمنقول؛ فهو يفتح الباب على مِصراعيه أمام الفِرق الكُفريَّة لادِّعاء رُبوبيَّة كلِّ جسمٍ يُدَّعى قِدَمه!

نعم؛ فقد قال الإمامُ الكوثري عن ابن ميمون اليهودي هذا؛ أنَّه حاول ((نَقض دليل المتكلِّمينَ في نَفي الجِسميَّةِ عن الله من "احتياج المِقدار [=الحَجم] الخاصِّ إلى مُخصِّصٍ، والمُحتاجُ لا يكونُ قديماً" بأنَّ مقدارَهُ يكون واجِباً لا يحتملُ الزِّيادةَ والنُّقصَ، متغاضياً عن أنَّ الكَمَّ المُتَّصلَ القائمَ بالجِسمِ عَرَضٌ طارئٌ، حيثُ غفَلَ أنَّ مثلَ هذا الوُجوبِ: ممَّا يُمكنُ ادِّعاؤُهُ في كلِّ جِسمٍ يُدَّعى قِدَمُهُ، مع أنَّ قِدَمَ الأجسامِ ليس مذهبه؛ بل يذكُرُ نحوَ خمسٍ وعشرينَ مُقدِّمَةً تُنزِّهُ الباريَ تعالى عنِ الجِسميَّة، وقد أخذَ الشَّيخُ الحَرَّانيُّ [=ابن تيميَّة] في "معقوله" - بكلِّ أسفٍ - برأي ميمونٍ هذا في وُجوبِ المقدارِ الخاصِّ في مُحاوَلته الرَّدَّ على الآمِدِي في تنزيه الباري عن الجِهة مع ظهورِ سقوطِ رأي ابنِ ميمونٍ في المقدار الخاصِّ بما أوضحتُه)) [مِن عِبَر التَّاريخ (ص: 34-35)]، ط. دار الفتح] ولتنظر أيضا [مُقدِّمات الإمام الكوثري (ص: 233-234)، ط. دار الثريا: دمشق].

وَقالَ أيضاً حُجَّة الإسلام الغزاليُّ: ((الاسْتِوَاءُ: لَو تُرِكَ عَلَى الاسْتِقْرَارِ وَالتَّمَكُّنِ لَزِمَ مِنْهُ كَونُ الْمُتَمَكِّنِ جِسْماً مُمَاسّاً لِلْعَرْشِ، إِمَّا مِثْلَهُ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُحَالِ فَهُوَ مُحَالٌ)) ["الرِّسالةُ القُدْسِيَّةُ" ضمنَ إحياء علوم الدِّين (1/393)، ط. دار المنهاج].

قَالَ الإمامُ الحافظُ مُرتضَى الزَّبِيديُّ (ت: 1205 هـ) فِي شرحِ هذَا الأصلِ: ((ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمُحَالَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ تَفْسِيرِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالتَّمَكُّنِ فَقَالَ هُوَ: "كَوْنُ الْمُتَمَكِّنِ جِسْمًا مُمَاسًّا لِلْعَرْشِ، إِمَّا مِثْلَهُ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ".
وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوِ اسْتَقَرَّ عَلَى مَكَانٍ أَوْ حَاذَى مَكَانًا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْمَكَانِ، أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ، أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ:
(‌أ) فَإِنْ كَانَ مِثْلَ الْمَكَانِ: فَهُوَ إِذًا مُتَشَكِّلٌ بِأَشْكَالِ الْمَكَانِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْمَكَانُ مُرَبَّعًا كَانَ هُوَ مُرَبَّعًا، أَوْ كَانَ مُثَلَّثًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
(‌ب) وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْمَكَانِ: فَبَعْضُهُ عَلَى الْمَكَانِ، وَيُشْعِرُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ، وَلَهُ كُلٌّ يَنْطَوِي عَلَى بَعْضٍ، وَكَانَ بِحَيْثُ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ الْمَكَانُ بِأَنَّهُ رُبُعُهُ أَوْ خُمُسُهُ.
(‌ج) وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِقَدْرٍ، لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ إِلَّا بِتَحْدِيدٍ، وَتَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْمِسَاحَةُ وَالتَّقْدِيرُ.
وَكُلُّ مَا يُؤَدِّي إِلَى جَوَازِ التَّقْدِيرِ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى فَتَجَوُّزُهُ فِي حَقِّهِ كُفْرٌ مِنْ مُعْتَقِدِهِ، وَكُلُّ مَنْ جَازَ عَلَيْهِ الْكَوْنُ بِذَاتِهِ عَلَى مَحَلٍّ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ إِلَّا بِكَوْنٍ، وَقَبِيحٌ وَصْفُ الْبَارِي بِالْكَوْنِ، وَمَتَى جَازَ عَلَيْهِ مُوَازَاةُ مَكَانٍ أَوْ مُمَاسَّتُهُ جَازَ عَلَيْهِ مُبَايَنَتُهُ، وَمَنْ جَازَ عَلَيْهِ الْمُبَايَنَةُ وَالْمُمَاسَّةُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا حَادِثًا، وَهَلْ عَلِمْنَا حُدُوثَ الْعَالَمِ إِلَّا بِجَوَازِ الْمُمَاسَّةِ وَالْمُبَايَنَةِ عَلَى أَجْزَائِهِ؟!

وَقُصَارَى الْجَهَلَةِ قَوْلُهُمْ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَوْجُودٌ لَا فِي مَحَلٍّ؟، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَصْدُرُ عَنْ بِدَعٍ وَغَوَائِلَ لَا يَعْرِفُ غَوْرَهَا وَقَعْرَهَا إِلَّا كُلُّ غَوَّاصٍ عَلَى بِحَارِ الْحَقَائِقِ، وَهَيْهَاتَ طَلَبُ الْكَيْفِيَّةِ حَيْثُ يَسْتَحِيلُ، مُحَالٌ، وَالَّذِي يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْعَالَمَ أَوِ الْمَكَانَ: هَلْ كَانَ مَوْجُودًا أَمْ لَا؟ فَمِنْ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنْ يَقُولَ: بَلَى، فَيَلْزَمُهُ - لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ: لَا يَعْلَمُ مَوْجُودًا إِلَّا فِي مَكَانٍ - أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ: الْمَكَانُ وَالْعَرْشُ وَالْعَالَمُ قَدِيمٌ!، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: الرَّبُّ تَعَالَى مُحْدَثٌ!، وَهَذَا مَآلُ الْجَهَلَةِ وَالْحَشْوِيَّةِ، لَيْسَ الْقَدِيمُ بِالْمُحْدَثِ، وَالْمُحْدَثُ بِالْقَدِيمِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَيْرَةِ فِي الدِّينِ)) [إتحافُ السَّادة المتَّقين (2/109)، ط. مُؤسَّسة التَّاريخ العربي] وهو تحقيق بديع.

يُتبع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... mkhsvLfVEl

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... bcnREirjal

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين سبتمبر 02, 2024 11:02 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (22)

- ثالثاً: الكلام على طريقة ابنِ تيميَّة في التَّعامل مع إلزام الأستاذ أبي إسحاقَ الإسفرايني للكرَّاميَّة:

قبل الشُّروع في الكلام على هذا الموضوع، لا بُدَّ أن نبيِّن عقيدةَ ابن تيميَّة في إثبات الانقسام والتَّركيب في حقِّه تعالى، فنقول:

يعتقدُ ابنُ تيميَّة أنَّ الله جِسمٌ بمعنى أنَّه تعالى مُمتدٌّ في الأبعاد وذاهبٌ في الجِهاتِ لا إلى لا نِهاية، بل هو محدودٌ من كلِّ الجوانب، أمَّا من تحته فهو تعالى محدُودٌ بالعالَمِ الَّذي يُلاقيه من تلك الجِهة، وأمَّا من باقي الجِهات فهو مُتناهٍ بحدود ذاته، وعلى هذا فهو يُثبت الانقسام بمعنى أنَّ ما في الجانب الأيمن منَ الذَّات العليَّة غير ما في جانبه الأيسر، فالإشارةُ الحِسِّيَّة إلى هذه النَّاحيَّة مِن الذَّات غير الإشارة الحِسِّيَّة إلى النَّاحية الأخرى منها، وهكذا.
وإليك بعض نصوصه في هذا الأمر:

قالَ ابنُ تيميَّةَ في ردِّه على الإمامِ الرَّازي تنزيه الله عن الانقسام والتَّركيب: ((وَإِنْ قَالَ: أُرِيدَ بِالْمُنْقَسِمِ أَنَّ مَا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْهُ غَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الشَّمْسَ مُنْقَسِمَةٌ يَعْنِي: أَنَّ حَاجِبَهَا الْأَيْمَنَ غَيْرُ حَاجِبِهَا الْأَيْسَرِ، وَالْفَلَكَ مُنْقَسِمٌ بِمَعْنَى: أَنَّ نَاحِيَةَ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ غَيْرُ نَاحِيَةِ الْقُطْبِ الْجَنُوبِيِّ - وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ [=الرَّازي] - فَهَذَا مِمَّا يَتَنَازَعُ النَّاسُ فِيهِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (3/440)، ط. المجمَّع] وتأمَّل يا عبد الله هنا: أنَّ ابنَ تيميَّة يتكلَّم عن الانقسام بمعنى: هل ذات الله فيه جَوانب ونواحي بحيث تتميَّز بالإشارة الحِسِّيَّة، فما في هذا الجانب الأيمن - مثلًا - غير ما في هذا الجانب الأيسر، وما في الجانب الفَوقاني غير ما في الجانب التَّحتَّاني، تماماً كما هو الحال في الأجسام، فيمينها غير يَسارها، وهكذا.

وبعد تحرير المعنى المراد من الانقسام في حقِّه تعالى، جاء جواب ابنِ تيميَّة على الإمام الرَّازي هكذا: ((فَيُقَالُ لَهُ: قَوْلُكَ: "إِنْ كَانَ مُنْقَسِمًا كَانَ مُرَكَّبًا وَقَدْ تَقَدَّمَ إِبْطَالُهُ"...تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ أَصْلًا عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ؛ بَلْ تَبَيَّنَ أَنَّ إِحَالَةَ ذَلِكَ تَقْتَضِي إِبْطَالَ كُلِّ مَوْجُودٍ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (3/440-441)، ط. المجمَّع] وأضافَ مُخاطبًا أهلَ السُّنَّةِ المنزِّهة لله عن هذه المعاني الصَّريحة في الجِسمِيَّة: ((وَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْصِدُونَهُ بِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُمْكِنًا، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ السَّفْسَطَةَ الْمَحْضَةَ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (3/441)، ط. المجمَّع] فيجبُ إثبات هذا المعنى من الانقسام في حقِّ كلِّ مَوجود سواء كان واجباً أي: "الله" أو ممكناً أي: الأجسام المخلوقة، ومنعه يستلزم السَّفسطة المحضة أي: نفي الرَّبِّ!

إذن: فالله مُنقسمٌ بمعنى أنَّ ذاته تعالى مُمتَدٌّ في الأبعاد، بحيثُ تتميَّز أبعاضه وجوانبه وأطرافه بالمكان والجهةِ، فهذا يمينٌ وهذا يسارٌ، وهذا فوقٌ وهذا تحتٌ، وبين هذا الجانب والآخر مِساحة ومَسافة وامتداد، وهكذا! تماما كما هو الحال في الأجسام الممتدَّة المحدودة كالشَّمس مثلاً فحاجبها الأيمن في جهة، والأيسر في جهة أخرى، هذا حاصل تقرير ابن تيميَّة هنا كما ترى.

وقال أيضاً رادًّا على الإمامِ الرَّازي في نصٍّ صريحٍ ينضح بإثبات التَّركيب والانقسام ومعاني الجِسميَّة في حقِّه تعالى: ((الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَجْزَاءٌ وَأَبْعَاضٌ، بِمَعْنَى أَنَّ فِيهِ مَا يُمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، كَمَا أَنَّ الْفَلَكَ يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ وَجَانِبٌ مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالتَّرْكِيبِ مِنَ الْأَجْزَاءِ. فَهَذَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/135)، ط. المجمَّع] فالله يُمَيَّزُ جوانبه وأبعاضه وأجزاؤه كما يُمَيَّز جوانب الفلك! فتُمَيَّز هذه الأعيان المتحيِّزَة كما تُمَيَّز الصِّفات! هكذا يقرِّر ابن تيميَّة.

ولا يخفى أنَّ القُدرة والسَّمع والبصر صِفات معاني، فلا تصحُّ الإشارة الحِسِّيَّة إلى أحيازها بأنَّها هنا أو هناك، فلا تستلزم التَّركيب، بخلاف ما ذكره من الأجزاء والأبعاض والجوانب؛ فهي أعيانٌ مُتحيِّزةٌ، وتشغل جِهات في الذَّات، فتستلزم التَّركيب والانقسام والجِسميَّة، وبالتَّالي الاحتياج، وهو مُحالٌ في حقِّه تعالى.
وقال أيضاً: ((الِانْقِسَامُ أَكْثَرُ مَا يُرَادُ بِهِ امْتِيَازُ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا مِثْلُ امْتِيَازِ الصِّفَاتِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُقِرَّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ فِي كُلِّ مَوْجُودٍ، وَأَنَّ نَفْيَ هَذَا يَسْتَلْزِمُ جَحْدَ الْمَوْجُودَاتِ جَمِيعِهَا: الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/135)، ط. المجمَّع] فنفي الانقسام عن الواجب "الله" بمعنى نفي تميُّز (أبعاضه!)؛ فهذا يمينه وهذا يساره، وهكذا: يستلزم جَحد وجوده تعالى! تماما كما أنَّ نفيَ تميُّز أبعاض الجسم الممكن؛ يستلزم أيضاً القول بنفيهِ، هكذا يقرِّر ابن تيميَّة كما ترى.

فهذا هو الانقسام المثبت عند ابن تيميَّة، وأمَّا المنفي عنده فهو بمعنى جواز أن تُفارق أبعاضه وأجزاؤه تعالى الذَّات؛ فتنفصل عنها فعلًا.

وإليك بعض نصوصه:

قالَ ابنُ تيميَّة: ((فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّهُ انْفَصَلَ وَانْقَسَمَ حَتَّى صَارَ بَعْضُهُ فِي حَيِّزٍ وَبَعْضُهُ فِي حَيِّزٍ. فَهَذَا الْمَعْنَى الْمَعْرُوفُ مِنْ لَفْظِ "الْمُنْقَسِمِ" مُنْتَفٍ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِأَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَاحِدًا مُنَافَاةً ظَاهِرَةً)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (3/436)، ط. المجمَّع] فهو ينفي القِسمة الفِعليَّة.

وقالَ أيضاً: ((فَيُرَادُ بِالْمُرَكَّبِ مَا رَكَّبَهُ غَيْرُهُ، وَمَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فَاجْتَمَعَ، وَمَا يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ)) [مِنهاجُ السُّنَّة (2/164)، تحقيق: محمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جَامِعة محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة] فتأمَّل أنَّ الرَّجل لا ينفي مُطلق التَّركيب عن ربِّه كما هو مذهب أهل السُّنَّة؛ بل ينفي التَّركيب أو الانقسام بهذه القيود والشُّروط الَّتي ذكرها!

ولو سألتَ ابنَ تيميَّة لِمَ لا يقبل ربُّك الانقسام بمعنى أن تنفصل فعلًا منه أبعاضه؟ لكان جوابه: لأنَّ الله لا جوف له ولا فراغ فيه، فأجزاؤه مُجتمعة ومُنضمة ومُتماسكة بعضها ببعض، فلا تقبل التَّفريق! وهذا معنى اسم الله "الصَّمد"!

وهاك بعض أقواله الَّتي تُبيِّن هذه الحقيقة:

قالَ ابنُ تيميَّةَ: ((اللَّهُ سُبْحَانَهُ "أَحَدٌ" "صَمَدٌ": لَا يَتَجَزَّى وَيَتَبَعَّضُ وَيَنْقَسِمُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ كَمَا يَنْفَصِلُ الْجِسْمُ الْمَقْسُومُ الْمُعَضَّى، مِثْلَ مَا تُقَسَّمُ الْأَجْسَامُ الْمُتَّصِلَةُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ بَعْضٌ كَمَا يَنْفَصِلُ عَنِ الْحَيَوَانِ مَا يَنْفَصِلُ مِنْ فَضَلَاتِهِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهَا بِمَعْنَى أَنَّهَا مَعْدُومَةٌ وَأَنَّهَا مُمْتَنِعَةٌ فِي حَقِّهِ، فَلَا تَقْبَلُ ذَاتُهُ التَّفْرِيقَ وَالتَّبْعِيضَ؛ بَلْ لَيْسَ هُوَ بِأَجْوَفَ، كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِي تَفْسِيرِ "الصَّمَدِ" أَنَّهُ الَّذِي لَا جَوْفَ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ نَفْيِ التَّبْعِيضِ وَالتَّجْزِئَةِ وَالِانْقِسَامِ وَالتَّرْكِيبِ إِلَّا هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَنَحْوَهُمَا، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَى نَفْيِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (3/129-130)، ط. المجمَّع] فهذا الانقسام الَّذي ينفيه الرَّجل كما سبق بيانه.

ثُمَّ قال بعدها: ((وَإِنَّمَا مُرَادُ أَئِمَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الصِّفَاتِيَّةِ بِنَفْيِ ذَلِكَ [=الانقِسَام والتَّجزِّي والتَّبعيض]: مَا يَنْفُونَهُ عَنِ الْجِسْمِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ دُونَ شَيْءٍ، وَلَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ؛ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ قَدْرٌ وَحَدٌّ وَجَوَانِبُ وَنِهَايَةٌ، وَلَا هُوَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهَا، أَوْ يُشَارَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا دُونَ شَيْءٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَيْضًا عِنْدَ التَّحْقِيقِ أَنْ يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ نَفْيُ الْكَمِّ وَالْمِسَاحَةِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (3/130)، ط. المجمَّع] إذن: فنفي الانقسام المستلزم لإثبات الكَمِّيَّة والمِساحة والجوانب والحدود والنِّهايات والقَدْرِ أي: "الحَجم" في حقِّه تعالى الله: ليس مِن مذهب أهل السُّنَّة! بل هو من مذهب الْجَهْمِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمن تأثَّر بهم مِن الصِّفاتيَّة! هذا حاصل كلام ابنِ تيميَّةَ هنا.

وقال أيضاً في ردِّه على الإمامِ الرَّازي: ((الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنْ يُقَالَ: الذَّاتُ الَّتِي هِيَ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهَا، وَصِفَاتُهَا لَازِمَةٌ لَهَا، لَا يَجُوزُ أَنْ تُوصَفَ بِمَا تُوصَفُ بِهِ الذَّاتُ الْمُمْكِنَةُ الْجَائِزَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ الْمَخْلُوقَةَ لَهَا أَبْعَاضٌ وَصِفَاتٌ، فَيَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَبْعَاضِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُزِيلَ صِفَاتِهَا عَنْهَا، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدِمَهَا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُفَارِقَهُ صِفَاتُهُ الذَّاتِيَّةُ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ وَهُوَ عَظِيمٌ، يَتَمَيَّزُ مِنْهُ جَانِبٌ عَنْ جَانِبٍ، يَكُونُ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ مِنَ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُفَارِقَ ذَاتَهُ، وَيَكُونُ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ أَمْرًا وَاجِبًا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ الصَّمَدُ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/146-147)، ط. المجمَّع] فكونه تعالى فوق العرش، وهو عظيم الحَجم، وتتميَّز جوانبه بالجِهة والمكان، لا يستلزم بحال جواز انفصال ومفارقة جوانبه لعين الذَّات، بل هو تعالى صمدٌ أي: أجزاؤه مُتماسكة مُتَّصلة بالذَّات، ولا يجوز عليها مفارقته! هكذا يقرِّر هذا الرَّجل كما ترى.

وقالَ أيضاً في نصٍّ خطيرٍ جدًّا: ((وَقَوْلُنَا فِي هَذِهِ الْحُجَّةِ: كُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ لِمَحْضِ الْوُجُودِ. يُخْرِجُ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْعَدَمَ مِثْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ: فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ أَجْوَفَ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْغِذَاءُ الَّذِي هُوَ أَجْسَامٌ فِي مَحَلٍّ خَالٍ، لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ قَدْ خَرَجَ غَيْرُهُ بِالتَّحَلُّلِ، وَيَكُونُ بَدَلَ الْمُتَحَلِّلِ، فَيَكُونُ مُتَضَمِّنًا خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ الْجِسْمِ، وَذَلِكَ نَقْصٌ مِنْهُ، وَهُوَ صِفَةٌ عَدَمِيَّةٌ، وَوُجُودُ أَجْزَاءٍ فِيهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ خَالِيًا، وَهُوَ نَقْصٌ فِيهِ، وَهُوَ صِفَةٌ عَدَمِيَّةٌ، وَهَذَا يُنَافِي الصَّمَدِيَّةَ؛ فَإِنَّ "الصَّمَدَ" هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، فَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَلَا يَلِدُ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِ الْفَضَلَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الْإِنْسَانِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/339-340)، ط. المجمَّع] فالله لا يأكل ولا يشرب؛ لأنَّه صمدٌ بمعنى أنَّ أبعاضَه مُجتمعة مُتماسكة فلا يتخلَّلها أيّ فراغات، فهو تعالى مُمتلئ لا فراغ فيه حتَّى يشغله الأكل أو الشَّراب! وعليه فلا يجوز أيضا أن ينفصل أو يخرج منه تعالى شيءٌ فيترك خلاءً في ذاته! وهو ما ينافي الصَّمديَّة بمعنى أنَّه لا جوف له! هكذا يزعم ابن تيميَّة كما ترى.

وقال أيضا رادًّا على الإمام الرَّازي: ((وَإِنْ قِيلَ فِي جَوَانِبِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ هَذَا؛ فَذَلِكَ لِجَوَازِ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَمَدٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّفَرُّقُ وَالِانْفِصَالُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانَهُ، وَأَنَّ هَذَا الِاسْمَ [=الصَّمَدُ] يَقْتَضِي الِاجْتِمَاعَ وَالْقُوَّةَ، وَيَمْنَعُ التَّفَرُّقَ وَالِانْفِصَالَ. وَإِذَا كَانَتِ الصَّمَدِيَّةُ وَاجِبَةً لَهُ كَانَ الِاجْتِمَاعُ وَاجِبًا لَهُ، وَالِافْتِرَاقُ مُمْتَنِعًا عَلَى ذَاتِهِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/82)، ط. المجمَّع] فجوانب الأجسام المخلوقة جائز عليها الانفصال والتَّفريق، وأمَّا جوانب الخالق فلا!؛ لأنَّ اجتماعها في عين الذَّات واجبٌ، والقول بجواز انفصالها وتفرُّقها يُنافي الصَّمديَّة الواجبة له تعالى!

وقال أيضاً رادًّا على الإمام الرَّازي: ((قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ "الصَّمَدُ" وَقَدْ قَالَ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ "الصَّمَدَ" هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَقَالُوا أَمْثَالَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَتَفَرَّقُ، وَاللُّغَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَهُوَ لَفْظُ صَمَدٍ يَقْتَضِي الْجَمْعَ وَالضَّمَّ، كَمَا يُقَالُ: صَمَدْتُ الْمَالَ إِذَا جَمَعْتَهُ. وَقَدْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ حُذَّاقِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ هَذَا تَفْسِيرُ الْمُجَسِّمَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ نَوْعَانِ: أَجْوَفُ، وَمُصْمَتٌ كَالْعِظَامِ مِنْهَا أَجْوَفٌ وَمِنْهَا مُصْمَتٌ. فَالْحَجَرُ وَنَحْوُهُ مُصْمَتٌ، قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ جِسْمٌ مُصْمَتٌ لَا جَوْفَ لَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَمَدِيَّتَهُ تُنَافِي جَوَازَ التَّفَرُّقِ وَالِانْحِلَالِ عَلَيْهِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/98-99)، ط. المجمَّع] فقوله: ((وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَمَدِيَّتَهُ تُنَافِي جَوَازَ التَّفَرُّقِ وَالِانْحِلَالِ عَلَيْهِ)) بناه على قوله: ((وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ جِسْمٌ مُصْمَتٌ لَا جَوْفَ لَهُ)) فالله صمدٌ بمعنى أنَّهُ تعالى جسمٌ مُصمتٌ لا جوف له ولا فراغ فيه، لأجل هذا لا يجوز أن تفارق أبعاضه ذاته! والعياذ بالله من هذه العقائد!

وعلى هذا أتباعه، فقد قال شيخُ الوَهَّابِيَّة ابنُ العُثيمين: ((لَيسَ لَهُ [=تَعَالَى] أَسْنَانٌ وَلَا أَضْرَاسٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِمَضْغِ الأَكْلِ وَاللهُ تَعَالَى لَا يَأْكُلُ، كَمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعِدَةٌ وَلَا أَمْعَاءٌ؛ لِأَنَّهُ هَذِهِ يَحْتَاجُهَا مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الأَكْلِ، وَنَنْفِي ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ "صَمَدٌ"؛ قَالَ: بَعْضُ العُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِهَا: أَيْ: لَا جَوْفَ لَهُ، لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الأَكْلِ)) [شرحُ عقيدة أهل السُّنَّة (ص: 120-121)، ط. مؤسَّسة ابن عثيمين] فالله لا يأكل لا لأنَّهُ - أصلًا - مُنزَّهٌ عن الجِسميَّة؛ بل لأنَّهُ جسمٌ مُصمتٌ لا جوف له؛ فلا يَحْصُلُ الأكل الذي هو أجسام فِي مَحَلٍّ خَالٍ داخل ذاته تعالى!

فهذه عقيدة ابن تيميَّة في إثبات الانقسام والتَّركيب في حقِّ ربِّه!

وبعد هذا العرض، نعود للكلام على طريقة ابن تيميَّة في التَّعامل مع إلزام الإمام أبي إسحاقَ الإسفَرايني للكرَّاميَّة:

والحقيقة هي أنَّ ابن تيميَّةَ يلتزمُ أحد تلك اللَّوازم، وهو أنَّ الله أكبر حَجماً مِن العالَمِ، واستمع إليه وهو يحتجُّ على الإمام الفَخر الرَّازي بنقل كلام أسلافه المجسِّمة - بإقرارٍ وإمرارٍ - فيقول: ((قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي نَقْضِهِ عَلَى الْمَرِيسِيِّ وَصَاحِبِهِ: "وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: قِيَاسُكَ اللَّهَ بِقِيَاسِ الْعَرْشِ وَمِقْدَارِهِ وَوَزْنِهِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وَزَعَمْتَ كَالصِّبْيَانِ الْعُمْيَانِ: إِنْ كَانَ اللَّهُ أَكْبَرَ مِنَ الْعَرْشِ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ، فَإِنْ كَانَ اللَّهُ أَصْغَرَ فَقَدْ صَيَّرْتُمُ الْعَرْشَ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْعَرْشِ فَقَدِ ادَّعَيْتُمْ فِيهِ فَضْلًا عَنِ الْعَرْشِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ فَإِنَّهُ إِذَا ضَمَّ إِلَى الْعَرْشِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتْ أَكْبَرَ...
فَيُقَالُ لِهَذَا الْبَقْبَاقِ النَّفَّاخِ: إِنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ خَلْقٍ، وَلَمْ يَحْمِلْهُ الْعَرْشُ عِظَمًا وَقُوَّةً، وَلَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ حَمَلُوهُ بِقُوَّتِهِمْ، وَلَا اسْتَقَلُّوا بِعَرْشِهِ، وَلَكِنَّهُمْ حَمَلُوهُ بِقُدْرَتِهِ.
وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ حِينَ حَمَلُوا الْعَرْشَ وَفَوْقَهُ الْجَبَّارُ فِي عِزَّتِهِ وَبَهَائِهِ ضَعُفُوا عَنْ حَمْلِهِ وَاسْتَكَانُوا، وَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ، حَتَّى لُقِّنُوا: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، فَاسْتَقَلُّوا بِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا اسْتَقَلَّ بِهِ الْعَرْشُ وَلَا الْحَمَلَةُ، وَلَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَلَا مَنْ فِيهِنَّ، وَلَوْ قَدْ شَاءَ لَاسْتَقَرَّ عَلَى ظَهْرِ بَعُوضَةٍ فَاسْتَقَلَّتْ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وَلُطْفِ رُبُوبِيَّتِهِ، فَكَيْفَ عَلَى عَرْشٍ عَظِيمٍ أَكْبَرَ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؟! وَكَيْفَ تُنْكِرُ أَيُّهَا النَّفَّاخُ أَنَّ عَرْشَهُ يُقِلُّهُ، وَالْعَرْشُ أَكْبَرُ مِنَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ؟!)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (3/241-243)، ط. المجمَّع] فرَبُّ ابنِ تيميَّة أكبرُ حَجماً مِن العالَم!!! محمولٌ على العرش!!! ولثقله العظيم لا تطيق الملائكة - بقوَّتهم - على أن يحملوه!!! وإنَّما هو الَّذي أقدَرَهم على أن يحملوه بالعرش!!! ولو شاء تعالى لاستقرَّ على ظهر بعوضةٍ فَكَيْفَ عَلَى عَرْشٍ عَظِيمٍ!!! هذه هي العقيدة التَّيميَّة الَّتي يُنادي بها هذا الرَّجل وأتباعه! والعياذ بالله!

وكرَّر الحرَّانيُّ النَّقل نفسه عن هذا الدَّارمي، وصدَّره هذه المرَّة بقوله: ((وَقَدَّمْنَا أَيْضًا قَوْلَهُ فِي ضِمْنِ رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيِّ الْمُنْكِرِ لِاسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ، قَالَ:)) وذَكرَهُ [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (3/694-696)، ط. المجمَّع] ممَّا يدُلُّك على أنَّه يتبنَّى هذه العقيدة قلباً وقالِباً، لهذا تراهُ يُواجه بها أهل السُّنَّة المنزِّهة!

وذكر ابنُ تيميَّةَ أيضاً إلزامَ الإمام الرَّازي للجِهويَّةِ فقال: ((قَالَ [=الرَّازيُّ]: "وَأَيْضًا فَالْعَقْلُ يَأْبَى إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ فِي جِهَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى مَوْجُودٍ فِي جِهَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ يُسَاوِيهِ أَوْ أَنَّهُ أَصْغَرُ مِنْهُ أَوْ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ أَنْ يُقَالَ الْبَارِي مُسَاوٍ لِلْعَرْشِ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ، فَإِنِ الْتَزَمُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمُ انْقِسَامُ ذَاتِهِ")) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (5/293)، ط. المجمَّع].

ثمَّ رَدَّ عليه ابنُ تيميَّةَ من عدَّة وجوه، وذكر منها هذا: ((الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ كَوْنِ الْعَقْلِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا أَوْ زَائِدًا أَوْ نَاقِصًا...فَالْجَوَابُ عَنْهُ بِجَوَابٍ سَدِيدٍ وَأَنْتَ لَمْ تُجِبْ عَنْهُ بِجَوَابٍ سَدِيدٍ، بَلْ قُلْتَ: ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْقِسَامَ ذَاتِهِ، وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا فِي لَفْظِ الِانْقِسَامِ مِنَ الاشْتِرَاكِ، وَأَنَّ الِانْقِسَامَ الْمَعْرُوفَ غَيْرُ لَازِمٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا مَا سَمَّيْتَهُ أَنْتَ انْقِسَامًا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَازِمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَأَنَّهُ لَا مَحْذُورٌ فِيهِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (5/298-299)، ط. المجمَّع] فالإمام الرَّازي هنا يلزمُ الجِهويَّة بإثبات الانقسام في حقِّه تعالى، لأنَّ قولهم بأنَّ الله فوق العالَم بالمسافة، يقتضي أن يكون حَجم الله تعالى مُساوياً أو أكبر أو أصغر من حَجم العالَم، وهذا يستلزم أن يكون تعالى جِسماً، تتميَّز جوانبه بالجهة والإشارة الحسِّيَّة، فجِهةُ السَّاق في الذَّات غير جِهة الوَجه، وهذه غير جِهة الأصبع، وهكذا، فتصحُّ الإشارة الحِسِّيَّة إلى كلِّ عَينٍ من هذه الأعيان كونها في جهات مختلفة من الذَّات، ومجموعها يُمثِّل عين الذَّات، وكلُّ هذا تجسيمٌ بَاطلٌ لأنَّهُ يستلزم افتقار الجُزء إلى الكُلِّ، وغيره من اللَّوازم الباطلة، وهو محالٌ في حقِّه تعالى. فهذا وجه الإلزام بالانقسام في كلام الإمام الرَّازي.

فأنتَ ترى كيف ردَّ عليه ابنُ تيميَّة أوَّلًا فقال: ((أَنَّ الِانْقِسَامَ الْمَعْرُوفَ غَيْرُ لَازِمٍ بِالِاتِّفَاقِ)) فالانقسام المعروف بمعنى أن تنفصل - فعلًا - أبعاضه تعالى عن حَيِّزِ الذَّات فهذا لا يلزم، وقد سبق بيان هذا عند الكلام على عقيدة ابن تيميَّة في إثبات الانقسام والتَّركيب في حقِّ ربِّه.

ثمَّ قال الحرَّاني بعد نفي هذا المعنى المعروف من الانقسام: ((وَأَمَّا مَا سَمَّيْتَهُ أَنْتَ انْقِسَامًا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَازِمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَأَنَّهُ لَا مَحْذُورٌ فِيهِ)) فالانقسام بمعنى تميُّز جوانبه ونواحيه تعالى: أمرٌ ثابتٌ، وهو لازم لكلِّ موجود: الواجب والممكن! هذا حاصل عقيدة ابن تيميَّة هنا.

ثمَّ أكمل مُجيباً الإمام الرَّازي: ((وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعَقْلُ مُطَابِقًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (5/299)، ط. المجمَّع] فالله تتميَّز جوانبه، وهذا يُطابق ما جاء في الشَّرع والإجماع من أنَّ الله أكبرُ حَجماً من كلِّ شيءٍ! هكذا كان جواب الرَّجل! وهنا يظهر وجه التزام ابنِ تيميَّةَ بما ألزمَ به الإمامُ أبو إسحاق الإسفَرايني الكرَّاميَّةَ.

ثمَّ أخذ يستدلُّ لرأيه الفاسد ببعض الأحاديث والآثار، وذكر منها: ((كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلهِ] وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: "يَا عَدِيُّ، مَا يُفِرُّكَ؟ أَيُفِرُّكَ أَنْ يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ، يَا عَدِيُّ، مَا يُفِرُّكَ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنَ اللَّهِ؟" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي رَزِينٍ الْعَقِيلِيِّ الْمَشْهُورُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ مُخْلِيًا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: "يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مُخْلِيًا بِهِ؟" قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: "فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، فَاللَّهُ أَعْظَمُ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ عِكْرِمَةُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103] أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَكُلُّهَا تَرَى؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاللَّهُ أَعْظَمُ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (5/299-302)، ط. المجمَّع].

فواضح جِدًّا أنَّه يفهم من هذه الآثار والأحاديث - وفي صحَّتها كلام كما أنَّ تأويلها بما يليق بالله غير مُستبعد -، أقول: يَفهم منها مُقايسة بالحجم بين الخالق والمخلوق!، فالله - عنده - أكبرُ وأعظمُ مِن حيثُ الحجم والمِساحة والامتداد في الأبعاد من هذه المخلوقات الضَّخمة المذكورة!

ولله درُّ الإمام الرَّازي الَّذي يقول في ردِّ مثل هذا الفَهم الباطل: ((قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعامِ: 103] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهاً عَنِ الْمِقْدَارِ وَالشَّكْلِ وَالصُّورَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ الإِدْرَاكُ وَالعِلْمُ مُحِيطَيْنَ بِهِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ جِسْماً لَكِنَّهُ جِسْمٌ كَبِيرٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُحِيطُ بِهِ الإِدْرَاكُ وَالعِلْمُ؟
قُلْنَا: لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عُلُومَ الخَلْقِ وَأَبْصَارَهُمْ لَا تُحِيطُ بِالسَّمَاوَاتِ وَلَا بِالْجِبَالِ وَلَا بِالْبِحَارِ وَلَا بِالْمَفَاوِزِ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ أَجْسَامٌ كَبِيرَةٌ، وَالأَبْصَارُ لَا تُحِيطُ بِأَطْرَافِهَا، وَالعُلُومُ لَا تَصِلُ إِلَى تَمَامِ أَجْزَائِهَا، وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي تَخْصِيصِ ذَاتِ اللهِ بِهَذَا الوَصْفِ فَائِدَةٌ)) [أَساسُ التَّقديس (ص: 67)، ط. دار نُور الصَّباح].

وبعد هذا؛ فإن تعجب فاعجب لابن تيميَّة حيثُ يقول في عقيدته "الحَمويَّة": ((إذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَوْ كَانَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، لَلَزِمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ ‌أَكْبَرَ ‌مِنْ ‌الْعَرْشِ أَوْ أَصْغَرَ أَوْ مُسَاوِيًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَالِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ إلَّا مَا يَثْبُتُ لِأَيِّ جِسْمٍ كَانَ عَلَى أَيِّ جِسْمٍ كَانَ، وَهَذَا اللَّازِمُ تَابِعٌ لِهَذَا الْمَفْهُومِ، أَمَّا اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَيَخْتَصُّ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنَ اللَّوَازِمِ الْبَاطِلَةِ، الَّتِي يَجِبُ نَفْيُهَا، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ الْأَجْسَامِ)) [الفتوى الحمويَّة ضمنَ مَجموع الفتاوى (5/21)، ط. دار الوفاء].

ومن يقرأ هذا النَّص سيحسب أنَّ ابنَ تيميَّة لا يقول بشيءٍ من هذه اللَّوازم، وهو ما يتنافى كلَّيَّة مع كلامه السَّابق، ولكن الحقيقة هي أنَّ الرَّجل هنا يُراوغ فقط، لأنَّ القول بالجهة والعُلُوِّ الحِسِّي يلزم منه - كما سبق بيانه - القول بأحد هذه اللّوازم ولا بُدَّ، وهو - قطعاً - قائلٌ بالمكان والجِهة، فكيف تكون هذه اللَّوازم بناءً على مذهبه باطلة؟!

ثمَّ إنَّ ابنَ تيميَّة الَّذي يقول هنا: ((فَإِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ إلَّا مَا يَثْبُتُ لِأَيِّ جِسْمٍ كَانَ عَلَى أَيِّ جِسْمٍ كَانَ، وَهَذَا اللَّازِمُ تَابِعٌ لِهَذَا الْمَفْهُومِ)) هو نفسه ابنُ تَيميَّة الَّذي قال في ردِّه على الفخر الرَّازي: ((الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْعَرْشَ فِي اللُّغَةِ: السَّرِيرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ، وَكَالسَّقْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ. فَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ جَعَلَ لِلَّهِ عَرْشًا وَلَيْسَ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالسَّقْفِ، عُلِمَ أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَالسَّرِيرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (3/278-279)، ط. المجمَّع] اللَّهمَّ إلَّا إن كان يقصد بقوله: ((لِأَيِّ جِسْمٍ كَانَ عَلَى أَيِّ جِسْمٍ كَانَ)) أنَّ الله جِسمٌ لَا كأيِّ جِسمٍ كان!

ولقد تفطَّنَ العلَّامة شِهابُ الدِّين ابنُ جَهْبَل (ت: 733 هـ) لهذا الأسلوب "المراوغ" منِ ابن تيميَّةَ فقال: ((وَأَخَذَ [=ابنُ تيميَّة] عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ قَوْلَهُمْ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَو كَانَ فِي جِهَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ‌أَكْبَرَ أَوْ ‌أَصْغَرَ أَوْ مُسَاوِياً؛ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ". قَالَ: "فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: 54] إِلَّا مَا يُثْبِتُونَ لِأَيِّ جِسْمٍ كَانَ عَلَى أَيِّ جِسْمٍ كَانَ". قَالَ: "وَهَذَا اللَّازِمُ تَابِعٌ لِهَذَا الْمَفْهُومِ؛ وَأَمَّا اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنَ اللَّوَازِمِ".
فَنَقُولُ لَهُ: أَتَمِيمِيًّا مَرَّةً وَقَيْسِيًّا أُخْرَى؟! إِذَا قُلْتَ: اِسْتَوَى اِسْتِوَاءً يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ، فَهُوَ مَذْهَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَإِنْ قُلْتَ: اسْتِوَاءً هُوَ اسْتِقْرَارٌ وَاخْتِصَاصٌ بِجِهَةٍ دُونَ أُخْرَى، لَمْ يُجْدِ ذَلِكَ تَخَلُّصاً مِنَ التَّرْدِيدِ الْمَذْكُورِ)) [رسالة في الرَّدِّ على الفتوى الحَمَوِيَّة لابْنِ تَيميَّة ضمن طبقات الشَّافِعيَّة الكُبرى للتَّاج السُّبكي (9/49)، هجر].

وقال أيضا: ((لَوْ كَانَ فِي جِهَةٍ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ‌أَكْبَرَ أَوْ مُسَاوِياً أَوْ ‌أَصْغَرَ، وَالْحَصْرُ ضَرُورِيٌّ.
- فَإِنْ كَانَ ‌أَكْبَرَ: كَانَ الْقَدْرُ الْمُسَاوِي مِنْهُ لِلْجِهَةِ مُغَايِراً لِلْقَدْرِ الْفَاضِلِ مِنْهُ، فَيَكُونُ مُرَكَّباً مِنَ الأَجْزَاءِ وَالأَبْعَاضِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى جُزْئِهِ، وَجُزْؤُهُ غَيْرُهُ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْغَيْرِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إِلَهًا.
- وَإِنْ كَانَ مُسَاوِياً لِلْجِهَةِ فِي الْمِقْدَارِ، وَالْجِهَةُ مُنْقَسِمَةٌ لِإِمْكَانِ الْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ إِلَى أَبْعَاضِهَا، فَالْمُسَاوِي لَهَا فِي الْمِقْدَارِ مُنْقَسِمٌ.
- وَإِنْ كَانَ ‌أَصْغَرَ مِنْهَا - تَعَالَى اللهُ عَن ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيراً -: فَإِنْ كَانَ مُسَاوِياً لِجَوْهَرٍ فَرْدٍ، فَقَدْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّ إِلَاهَهُمْ قَدْرُ جَوْهَرٍ فَرْدٍ. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ - وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُمْ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ - لَكِنَّ هَذَا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يَضْحَكُ مِنْهُ جَهَلَةُ الزَّنْجِ، وَإِنْ كَانَ ‌أَكْبَرَ مِنْهُ: انْقَسَمَ.
فَانْظُرُوا إِلَى هَذِه النِّحْلَةِ، وَمَا قَدْ لَزِمَهَا، تَعَالَى اللهُ عَنْهَا)) [رسالة في الرَّدِّ على الفتوى الحَمَوِيَّة لابْنِ تَيميَّة ضمن طبقات الشَّافِعيَّة الكُبرى للتَّاج السُّبكي (9/87)، هجر].

وحتَّى أتباع ابنُ تيميَّة فقد شرحوا كلامه هذا في "الحَمَويَّة" وفق عقيدته المعروفة، فهذا ابنُ العُثيمين يقول: ((فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِذَا كَانَ اسْتِوَاءُ اللهِ عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى العُلُوِّ عَلَيْهِ لَزِمَ مِنَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ‌أَكْبَرَ مِنَ ‌العَرْشِ أَوْ ‌أَصْغَرَ أَوْ مُسَاوِياً، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْماً، وَالجِسْمُ مُمْتَنِعٌ عَلَى اللهِ؟)) ثمَّ اعترف بهذا اللُّزوم فقال: ((هَذَا اللُّزُومُ صَحِيحٌ، كُلُّ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي فَوْقَ أَكْبَرَ مِنَ الَّذِي تَحْتَ أَوْ أَصْغَرَ أَوْ مُسَاوِياً، وَهَذَا اللُّزُومُ عَقِلِيٌّ)) ثمَّ أجَاب عنه بقوله: ((فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ اللهَ ‌أَكْبَرُ مِنَ ‌العَرْشِ، وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا القَوْلِ شَيءٌ مِنَ اللَّوَازِمِ البَاطِلَةِ الَّتِي يُنَزَّهُ اللهُ عَنْهَا)) [شرحُ فتح ربِّ البَرِيَّة بتلخيص الحمَوِيَّة (ص: 187)، ط. مؤسَّسة ابن عثيمين] فالتَزَم الرَّجل الجِسميَّة في حقِّ ربِّه كما ترى، وادَّعى أنَّ الله أكبرُ حَجماً من كلِّ الأجسام! بل وعزَّز رأيه بما يفهمه هو وأمثاله من كلمة التَّكبير فقال: ((وَنَحنُ نَقُولُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: "اللهُ أَكْبَرُ". وَإِنْ كَانَ يَتَبَادَرُ فِي قَوْلِنَا: "اللهُ أَكْبَرُ" فِي الصَّلَاةِ وَالأَذَانِ: أَنَّهُ أَكْبَرُ أَيْ: مِنَ الكِبْرِيَاءِ وَالعَظَمَةِ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَبَادَرُ. لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ أَيْضاً هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِذَاتِهِ)) [شرحُ فتح ربِّ البَرِيَّة بتلخيص الحمَوِيَّة (ص: 188)، ط. مؤسَّسة ابن عثيمين] فالله أكبر بمعنى الكبرياء والعظمة وغيرها من المعاني، وأكبر أيضاً من حيثُ الحَجم! هذه عقيدة التَّيميَّة المجسِّمة.

- رابعاً: يمكنُ إعادة صياغة إلزام الإمامِ أبي إسحاق الإسفرايني للمُجِسِّمَةِ بأن يُقال لابنِ تيميَّةَ وأتباعه: هل يستطيعُ ربُّكم أن يَزيدَ في حَجمِ العالَم؟

والجَوابُ طبعاً: نَعَم؛ فقد قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فاطر: 1]، وقال الإمامُ الطَّبريُّ في تفسير هذه الآية: ((وَقَوْلُهُ: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ﴾: وَذَلِكَ زِيَادَتُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي خَلْقِ هَذَا الْمَلَكِ مِنَ الْأَجْنِحَةِ عَلَى الْآخَرِ مَا يَشَاءُ، وَنُقْصَانُهُ ذَلِكَ مِنَ هَذَا الْآخَرِ مَا أَحَبَّ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، يَزِيدُ مَا يَشَاءُ فِي خَلْقِ مَا شَاءَ مِنْهُ، وَيُنْقِصُ مَا شَاءَ مِنْ خَلْقِ مَا شَاءَ، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَلَهُ الْقُدْرَةُ وَالسُّلْطَانُ)) [جامعُ البيان (19/327)، ط. دار هجر].

فعندها يُقالُ لهم: هَلْ يَستَطيعُ ربُّكم أن يَزيدَ حَجْمَ العَالَمِ حتَّى يَفوقَ حَجم ذاته تعالى؟ فإن كان الجَواب:

- لَا؛ فيَلزَمُ تَعجيزُ طَلاقَة القُدرةِ الإلهيَّةِ في التَّأثيرِ على المَخلوقِ بِبعضِ ما يجُوزُ عليه، وهو كُفْرٌ باتِّفاقٍ.

- نَعَم؛ فيلزم بطلان عقيدة الجِهة والمكان والجُلوس؛ لأنَّ هذا يستلزم إبطال معنى كلمة التَّكبير "اللهُ أكبر" عند التَّيميَّة، وتجويز وصفه تعالى بأن يكون "أصغر" من مَخلوقاته، وهو كُفرٌ باتِّفاق.

يُتبع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... MLLmsauRql

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... 1NaAQyPkKl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء سبتمبر 03, 2024 10:49 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (23)

وقد تعرَّض ابنُ تيميَّة في مواضع أخرى من كتبه لهذه المناظرة بين الإمام ابنِ فُورَك وابن الهَيصم رأس الكرَّاميَّة في وقته، وأظهر جليًّا انحيازه التَّام لمذهب هؤلاء المجسِّمة، ومن المستحسن هنا ذكر كلامه مع بيان ما فيه:
قال ابنُ تيميَّة: ((وَقَدْ تَنَازَعَ ابْنُ فُورَكَ وَأَصْحَابُهُ مَعَ ابْنِ الْهَيْصَمِ وَأَصْحَابِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نِزَاعُهُمْ: لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا...)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/294-295)، ط. المجمَّع] وهو يعلمُ يقينا أنَّ خلاف المنزِّهة مع المشبِّهة: حقيقي لا لفظي، والأصل في مثل هذا المقام أنَّه لا مجال لفرض ما لا وجه له بحال!

ثمَّ قال في خلافهم الحقيقي: ((وَإِنْ كَانَا قَدْ تَنَازَعَا حَقِيقِيًّا هُمَا فِيهِ مُتَنَاقِضَانِ عَلَى حَقِيقَةِ التَّنَاقُضِ بِحَيْثُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَنْفِي مَا أَثْبَتَهُ الْآخَرُ، فَهَذَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَمُخَالَفَتُهُمْ جَمِيعًا لِلْمُعْتَزِلَةِ - الَّذِينَ سَلَكَ هَذَا الرَّازِيُّ وَأَمْثَالُهُ مَسْلَكَهُمْ فِي كِتَابِهِ هَذَا "التَّأْسِيسَ" - إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يَقُولَ الْمُثْبِتُ: كَوْنُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ أَوْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا أَوْ أَنْ يَكُونَ مُنْقَسِمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيَقُولُ الثَّانِي: كَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا يَكُونَ جِسْمًا. وَهَذَا الثَّانِي قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ. فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْعَرْشِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/295-296)، ط. المجمَّع].

يدَّعي ابن تيميَّة هنا أنَّ الخلاف بين الإمام ابن فُورَك ومَن معه مِن قُدماء الأشعريَّة، ومُخالفيه مِن الهيصميَّة الكرَّاميَّة؛ كان فقط في مسألة استلزام الجِهة للجِسميَّة أو عدم ذلك، وأمَّا إثبات العُلُوِّ الحسِّي فهو محلُّ اتِّفاقٍ بين الفريقين! فالمثبتة من الهيصميَّة الكرَّاميَّة يقولون: كَوْنُهُ فَوْقَ العَرْشِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ تعالى جِسْماً، وأمَّا قُدماء الأشاعرة فيقولون: كَوْنُهُ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ! وأمَّا متَّأخِّروا الأشاعرة كالرَّازي وأمثاله، فقد تأثَّروا بالمعتزلة، فلا يُثبتون أصلًا العُلُوَّ الحِسِّي، هكذا يزعم ابنُ تيميَّة في هذا النَّص! وهذا منه حيلة مكشوفة العوار، أحوَجه إليها شذوذ مذهبه، وضرورة تكثير سواد القائلين بالجِهة سدًّا للفراغ، وإن تطلَّب ذلك التَّشبُّث بالهواء، وما هكذا طريقه العلماء الأمناء.

هذا؛ وقد سبق بيان ما في دعواه هنا مِن كذب على الإمام ابنِ فُورَك والقاضي الباقلَّاني، وهذا بنقل صريح كلامهم في نفي الجِهة والعُلُوِّ الحِسِّي في حقِّه تعالى، بل وقد نقل هو نفسه كلام الإمام ابن فُورَك في نفي الجِهة في ثنايا هذه المناظرة كما سبق معنا، وكلّ هذا يعكس أسلوب هذا الرَّجل المناقض تماما للأمانة العِلميَّة - للأسف -!

ثمَّ أكمل قائلًا: ((فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْخِلَافُ الْمُحَقَّقُ بَيْنَ ابْنِ فُورَكَ وَأَصْحَابِهِ، وَبَيْنَ ابْنِ الْهَيْصَمِ وَأَصْحَابِهِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَعَ ابْنِ فُورَكَ أَوْ مَعَ ابْنِ الْهَيْصَم:
1- فَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ مَعَ ابْنِ فُورَكَ: ثَبَتَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، وَلَا يَكُونُ مُرَكَّبًا، وَلَا مُنْقَسِمًا، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا بَطَلَ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْمُؤَسِّسُ [=الرَّازِيُّ] وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَنَّ كَوْنَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ. وَحِينَئِذٍ فَيَبْطُلُ جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحُجَجِ فِي هَذَا الْكِتَابِ [=أساس التَّقديس] عَلَى إِبْطَالِ كَوْنِهِ عَلَى الْعَرْشِ. وَإِذَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ أَعْظَمُ الْمَقْصُودِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَلَامُهُ مِنْ جِنْسِ الْأَشْعَرِيَّةِ الْأَكَابِرِ الْمُتَقَدِّمِينَ.
2- وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ مَعَ ابْنِ الْهَيْصَمِ وَهُوَ أَنَّ كَوْنَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا - وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ هَذَا الْمُؤَسِّسُ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ الْجَهْمِيَّةُ وَأَمْثَالُهُمْ - فَيَكُونُ هَذَا الْمُؤَسِّسُ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي الْمُنَاظَرَةِ كَانَ لِابْنِ الْهَيْصَمِ دُونَ ابْنِ فُورَكَ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/296-297)، ط. المجمَّع] ولو كان ابنُ تيميَّة ينفي مُطلق الجِسميَّة عن ربِّه - كما هو مذهب أهل السُّنَّة -؛ لسارع إلى تضليل ابن الهيصم القائل بأنَّ "كَوْنَهُ تعالى فَوْقَ الْعَرْشِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا"؛ عِوَض أن يدَّعي - الحرَّاني - هنا جواز أن يكون هذا التَّشبيه أصوَب مِن التَّنزيه!

وقوله: ((فَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ مَعَ ابْنِ فُورَكَ: ثَبَتَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا...الخ)) بناه على باطل من القول كما سبق بيانه، وهو يريد بهذه الطَّريقة الملتوية إلزام الإمام الرَّازي، بأن يقول له: إمَّا أن يكون مذهب ابنِ فُورَك وقُدماء الأشاعرة في إثبات العُلُوِّ الحِسِّي - بزعمه - مع نفي الجِسميَّة: هو الصَّواب، وإمَّا أن يكون الصَّواب مع ابن الهَيصم في إثبات العُلُوِّ الحِسِّي والجِسميَّة معاً، وعليه: فأنتَ في كلا الاحتمالين محجوجٌ بإثبات أسلافك الأشاعرة للعلُوِّ الحِسِّي - بزعمه -، فيلزم من هذا بُطلان كلّ الأدلَّة الّتي أتيتَ بها في كتابك "أساس التَّقديس" من أجل إبطال الجِهة في حقِّه تعالى!

وهذا من ابن تيميَّة من أغرب ما يكون! فعِوَض أن يناقش الحرَّاني حُجج الإمام الرَّازي فيبطلها بالمعقول والمنقول، من دون مُشاغبة ولا مُشاكسة، ويُصرِّح بعقيدته في هذا الشَّأن من دون مواربة ولا تَقِيَّة، تراه هنا يحاول أن يلزم الفخرَ بأقوال الرِّجال - هذا على التَّسليم بفهمه الفاسد لها -!
ثم تأمَّل كيف يستسمن الرَّجل مذهب المجسِّمة فيقول: ((فَيَكُونُ هَذَا الْمُؤَسِّسُ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي الْمُنَاظَرَةِ كَانَ لِابْنِ الْهَيْصَمِ دُونَ ابْنِ فُورَكَ)) وأيُّ صَواب في وصف الرَّبِّ بمماثلة مخلوقاته في أصل الجِسميَّةِ والفَوقيَّةِ الحِسِّيَّةِ؟! وأين هذا الضَّلال من قوله تعالى: ﴿هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِیًّا﴾ [مريم: 65] ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشُّورى: 11] ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]؟!

ثمَّ قال ابنُ تيميَّة: ((وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْجِسْمِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، لَا يَنْفُونَ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا، وَإِنْ خَالَفَهُمْ بَعْضُهُمْ لَفْظًا فِيهَا، وَلَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا مَعْنَوِيًّا، فَيَكُونُ جَمَاهِيرُ الْخَلَائِقِ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ وَنُفَاتِهَا مَعَ ابْنِ الْهَيْصَمِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/297)، ط. المجمَّع] وطبعا؛ مثل ابن تيميَّة لا يستبيح لنفسه مُخالفة من يُطلق عليهم ((جَمَاهِيرُ الْخَلَائِقِ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ))، فهو بالتَّأكيد على مذهبهم في أنَّ:
1- الله فوق العرش فوقيَّةَ مسافةٍ ومكانٍ! كما يعكسه قوله: ((هُوَ عَلَى الْعَرْشِ))
2- لا يخوضون في لفظة "الجِسم" لا نفياً ولا إثباتًا! كما في قوله: ((وَلَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْجِسْمِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ))
3- لا ينفون ما تكلَّم به ابنُ الهيصم ((وَهُوَ أَنَّ كَوْنَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا))! كما في قوله: ((لَا يَنْفُونَ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا))
4- لا ينازعون ابن الهَيصم في المعاني الَّتي أرادها في حقِّ ربِّه أي: الجِسميَّة والعُلُوّ الحِسِّي، وإن خالفه بعضهم في إطلاق بعض الألفاظ التي لَم يرد إطلاقها عليه تعالى كـ: "الجسم"! كما تجده في قوله: ((وَإِنْ خَالَفَهُمْ بَعْضُهُمْ لَفْظًا فِيهَا، وَلَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا مَعْنَوِيًّا))

فتحصَّل من هذا؛ أنَّ المثبتة يُوافقون مذهب ابن الهَيصم في أنَّ كَوْنَهُ تعالى فَوْقَ العَرْشِ فَوقيَّةَ مسافةٍ ومكانٍ وجِهَةٍ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جلَّ وعلا جِسْمًا مُتحيِّزاً محدوداً! وخلاف (بعضهم!) معه: لفظيٌّ لا معنويٌّ! فمعنى الجِسم ثابت لله! هكذا يزعم ابن تيميَّة كما ترى.

ثمَّ قال: ((فَهَذَا الرَّازِيُّ وَذَوُوهُ يَقُولُونَ هُمْ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ كَوْنَهُ عَلَى الْعَرْشِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا أَوْ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْكَرَّامِيَّةَ أَصْوَبُ مِنْ شُيُوخِهِمُ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ الْكَرَّامِيَّةِ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ شُيُوخِهِمُ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَذَلِكَ أَيْضًا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/298)، ط. المجمَّع] وهنا يتجلَّى أسلوب ابن تيميَّة في حشو التَّجسيم بضرب الأقوال بعضها ببعض، بناءً على فهمه المحرَّف والمحرِّف لها، فلا جرم أن يدَّعي هنا بأنَّ: ((كَوْنَهُ عَلَى الْعَرْشِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا أَوْ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا)) - كما يقوله الهيصميَّة من الكرَّاميَّة - هو الصَّواب دون قول الأشاعرة في نفي الجِسميَّة: سواء من سَلف منهم كالإمام الأشعري، أو الخلف كالإمام الفخر الرَّازي!

وأضاف قائلًا: ((وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ مُتَقَدِّمُو الْأَشْعَرِيَّةِ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ ثَبَتَ بِهِ خَطَأُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ خَطَأُ الْكَرَّامِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ. فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّوَابُ مَعَ مُتَقَدِّمِيهِمْ فَهُمْ وَالْكَرَّامِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَإِنْ كَانَتِ الْكَرَّامِيَّةُ مُخْطِئَةً عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي قَوْلِهِمْ: هُوَ جِسْمٌ، فَهَذَا لَا يَضُرُّ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/298)، ط. المجمَّع] فتأمَّل أسلوبه الخطير في التَّهوين من شناعة التَّجسيم، فحتى على فرض خطأ الكرَّاميَّة في نسبة الجسميَّة للباري؛ فهذا عند ابن تيميَّة أمرٌ هيِّنٌ لا يضُرُّ! المهم أنَّ هذا الخطأ لا يؤثِّر في نسبة العُلُوِّ الحِسِّي للباري، كذا يزعم - من باب التَّنزُّل - مع أنَّه يعلم يقينا نوع الملازمة بين العُلُوِّ الحِسِّي والجِسم!
ثمَّ قال: ((وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ مَعَ مُتَأَخِّرِيهِمْ أَنَّ كَوْنَهُ عَلَى الْعَرْشِ يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ، فَهُمْ [=الكرَّاميَّة] وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ، فَيَكُونُ التَّجْسِيمُ حِينَئِذٍ لَازِمًا لِلطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا، فَلَا تَكُونُ إِحْدَاهُمَا مُصِيبَةً وَالْأُخْرَى مُخْطِئَةً)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/298)، ط. المجمَّع] ولتنظر فقط كيف لا يجد أيّ غضاضة في أن يكون التَّجسيم لازماً للمتقدِّمين مِن الأشعريَّة والكرَّاميَّة! وهذا أيضا من أسلوبه الملتوي، بناه على تحريف مذهب قُدماء الأشعريَّة في مسألة العُلُوِّ، حتَّى يتسنَّى له اختلاق أقوال متضاربة داخل المذهب، فيكتفي بمقابلة بعضها ببعض، ويُلزم هذا بقول هذا، وهكذا، فيستعيض بهذه الطَّريقة المصادمة للمنهجيَّة العلميَّة عن مُقارعةِ الحُجَّة بالحُجَّة، بل وله فيها معين على حشو عقيدته الفاسدة في التَّجسيم بشكل غير صادم ولا فاضح، وما هكذا طريقة العلماء في الرَّدِّ على المخالفين؛ بل هذه بضاعة المفلسين كما لا يخفى.

ثمَّ قال: ((وَإِذَا ثَبَتَ خَطَأُ إِحْدَى طَائِفَتَيِ الْأَشْعَرِيَّةِ تَيَقَّنَّا بِالِاتِّفَاقِ: أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ إِمَّا مُثْبِتُو الْعُلُوِّ، وَإِمَّا الْمُلَازِمُونَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْجِسْمِ، وَلَمْ يَثْبُتْ خَطَأُ الْكَرَّامِيَّةِ الْمُنَازِعِينَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ. لَا عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ الْمُثْبِتِينَ الْعُلُوَّ وَلَا عَلَى قَوْلِ الْآخِرِينَ الْمُلَازِمِينَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْجِسْمِ: ظَهَرَ أَنَّ الْكَرَّامِيَّةَ الْمُنَازِعِينَ الْأَشْعَرِيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ وَالْجِسْمِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ مَنْ ظَهَرَ خَطَؤُهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَوْلَى بِالْخَطَأِ مِمَّنْ لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ - وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ الْكُبْرَى عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ جَمِيعًا - وَخَطَؤُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْجِسْمِ إِنَّمَا يَظْهَرُ عَلَى إِحْدَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَطْ، وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ. فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ قَدْ ثَبَتَ لُزُومُ الْخَطَأِ لَهُمْ بِالضَّرُورَةِ: إِمَّا لِأَوَّلِيهِمْ وَإِمَّا لِآخِرِيهِمْ إِذَا كَانَ النِّزَاعُ مَعْنَوِيًّا تَضَادًّا)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/298-299)، ط. المجمَّع] إذن: فمذهب الكرَّاميَّة الذين يلازمون بين إثبات العُلُوِّ الحِسِّي في حقِّه تعالى وَإثبات الجِسم له جلَّ وعلا؛ هو - عند ابن تيميَّة - أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِن مذهب الأشاعرة نُفاة الجِسم! وإنَّما جعله أقرب إلى الصَّواب؛ لأنَّه يُخالف الكرَّاميَّة فقط في إطلاق لفظة "الجسم" عليه تعالى، فهو يتظاهر بتحاشي إطلاق ذلك عليه تعالى بحجَّة أنَّه لم يَرد، مع أنَّه مُريد لمعناه بِكلِّ قُوَّة كما مرَّ معنا! ولا أدري - من غير التَّقيَّة - ما فائدة التَّترُّس بتحاشي إطلاق اللَّفظ مع تبنِّي المعنى الدَّال عليه بكلِّ قوَّة؟!

ثم قال: ((وَأَمَّا الْكَرَّامِيَّةُ فَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِهِ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ جَمِيعًا، وَفِي مَسْأَلَةِ الْجِسْمِ إِنَّمَا يَكُونُونَ مُخْطِئِينَ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ فَقَطْ، إِذِ الْآخِرُونَ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى أَنَّ الْعُلُوَّ يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ، وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/299)، ط. المجمَّع] وهنا يُردِّد الرَّجل نفس ما سبق الحديث عنه، فالله فوق العرش فوقيَّة مكانٍ سواء مع إثبات الجِسم كما هو مذهب الكرَّاميَّة أو مع نفي ذلك كما هو مذهب قُدماء الأشعريَّة - بزعمه -، ثمَّ يحاول أن يُلزم بهذا الهراء الإمامَ الرَّازي والأشاعرة المنزِّهة!

ثمَّ ختم ابنُ تيميَّة الحرَّانيُّ حديثه عن المناظرة فقال: ((وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالْبَدِيهَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ مُتَقَدِّمِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَئِمَّتَهُمْ هُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي قَوْلِهِمْ مَا يُذْكَرُ أَنَّهُ خَطَأٌ. فَالْخَطَأُ الَّذِي مَعَ الْمُسْتَأْخِرِينَ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي فِيهِ بِدْعَةٌ كُلَّمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَكُلَّمَا بَعُدَتِ الْبِدْعَةُ عَنْ ذَلِكَ تَغَلَّظَتْ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/300)، ط. المجمَّع] إذن: فمُتَقدِّمو الأشعريَّة الَّذين يقولون بالعُلُوِّ الحِسِّي - بزعمه - مع نفي الجِسميَّة في حقِّه تعالى هم أَوْلى بالحقِّ والصَّواب مِن مُتأخِّري الأشعريَّة الذين ينفون العُلُوَّ الحِسِّي والجِسميَّة معاً، كذا يزعم هذا الرَّجل - مرارا وتكرارا -، فهل يعني هذا أنَّ ابنَ تيميَّة يوافق قُدماء الأشعريَّة في مذهبهم أي: إثبات العُلُوِّ الحِسِّي - بزعمه - مع نفي الجِسميَّة؟ والجواب تجده في قوله السَّابق: ((وَإِنْ كَانَ فِي قَوْلِهِمْ مَا يُذْكَرُ أَنَّهُ خَطَأٌ))، فإذا كان ابن تيميَّة موافق لهم في إثباتِ العُلُوِّ الحِسِّي - بزعمه -، فلمْ يبقَ خطؤهم - في نظر ابنِ تيميَّة - إلَّا في نَفيِهم الجِسميَّة عن الله! وهذا واضح جدًّا في كلامه هذا.

والسُّؤال هنا: لماذا لم يصرِّح ابن تيميَّة بذلك؟! لماذا يُجمجم ويُغمغم في مقام يقتضي التَّحرير والتَّفصيل؟! ما الَّذي كان يمنعه من التَّصريح هنا بعقيدته - جهارا نهارا - عِوَض مناصرة التَّجسيم بمثل هذا الأسلوب القائم على التَّقيَّة والمصادمة للمصداقيَّة العلميَّة؟! أهكذا يفعل من يتصدَّر للدِّفاع على عقيدة السَّلف؟!

والأعجب أنَّه في بعض المواضع من تواليفه يتَّهم زوراً السَّادة الأشاعرة بالتَّلبُس بمثل هذه الشَّناعات وغيرها، مع أنَّه كما ترى غارقٌ في أوحالها إلى حدِّ شَحمة أُذُنَيْهِ؛ فيقول مثلًا: ((أَنَّ لَوَازِمَ نُفَاةِ الْجِسْمِ أَعْظَمُ مِنْ لَوَازِمِ مُثْبِتَتِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ نَفَاهُ يُقَالُ عَنْهُ إِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ، وَأَنَّ إِقْرَارَهُ بِالْكُرَوِيَّةِ، وَبِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ التَّقِيَّةِ وَالْمُصَانَعَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَهَذَا يَقُولُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى قَالُوا إِنَّ الْأَشْعَرِيَّ إِنَّمَا صَنَّفَ كِتَابَ "الْإِبَانَةِ" تَقِيَّةً، وَإِلَّا فَالرَّجُلُ بَاطِنُهُ يُشْبِهُ بَوَاطِنَ شُيُوخِهِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي الظَّاهِرِ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الْبَاطِنِ.
وَأَيْضًا فَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ الرَّازِي وَجَدَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِهِ لَا يَنْصُرُ الْقَوْلَ الَّذِي يَنْصُرُهُ إِلَّا لِلتَّقِيَّةِ دُونَ الِاعْتِقَادِ، كَمَا فَعَلَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْقُرْآنِ وَنَحْوِهِمَا؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الرَّجُلَ مُنَافِقٌ لِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ هُمْ مُتَأَخِّرُو الْأَشْعَرِيَّةِ فَضْلًا عَنْ قُدَمَائِهِمْ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (5/362-363)، ط. المجمَّع] فتأمَّل كيف يتَّهم الأشاعرة بالتَّقيَّة والنِّفاق العلمي بلا دليل ولا برهان! ولتنظر في دعواه أنَّ نفيَ التَّجسيم في حقِّه تعالى يستلزم نفي الاستواء والرُّؤية والكلام وقيام الصِّفات بالذَّات العليَّة! فإن لم يكن هذا الهراء تَجسيمًا فما في الدُّنيا تجسيم!
وقال أيضا في ردِّه على الإمام الرَّازي قاصداً السَّادة الأشاعرة: ((وَأَيْضًا: فَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ فِي أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ - وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ نَفَى الْجِسْمَ وَمُلَازِمَهُ فِي الْإِسْلَامِ - إِنَّمَا هُمْ مُعَطِّلُونَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يُظْهِرُونَ الْإِقْرَارَ نِفَاقًا، وَمَدَارُ أَمْرِهِمْ عَلَى التَّعْطِيلِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (5/365-366)، ط. المجمَّع].

وقال فيهم أيضاً: ((هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة فِيهِمْ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَإِفْهَامِ النَّاسِ خِلَافُ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَالرَّافِضَةُ يُشْرِكُونَهُمْ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا وَنِفَاقًا)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (5/404-405)، ط. المجمَّع].

وأيضاً : ((وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْجَهْمِيَّةُ الَّذِينَ يُوجِبُونَ الْإِسْلَامَ وَيُحَرِّمُونَ مَا سِوَاهُ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَسْتَعْمِلُونَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي يَعْنُونَ بِهَا مَا لَا يُفْهِمُونَهُ النَّاسَ، مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ إِذَا أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِهَا، وَفِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُثْبِتُونَهَا هُمْ لِبَيَانِ مَا يَجِبُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَيُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُمْ لَا يَنْفُونَ عَنِ اللَّهِ إِلَّا مَا قَدْ يَظْهَرُ أَنَّهُ نَقْصٌ وَعَيْبٌ، وَهُمْ يَنْفُونَ بِهَا أُمُورًا لَوْ فَهِمَهَا النَّاسُ لَكَفَّرُوهُمْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ أَئِمَّتِهِمْ حَتَّى أَنَّ الْأَتْبَاعَ يُعْرِضُونَ عَنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (5/407-408)، ط. المجمَّع] وتأمَّل هنا تكفيره لأهل السُّنَّة السَّادة الأشاعرة المنزِّهة لله عن الجسميَّة كما في قوله: ((وَهُمْ يَنْفُونَ بِهَا أُمُورًا لَوْ فَهِمَهَا النَّاسُ لَكَفَّرُوهُمْ)) ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم!

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... r1DqJjEhMl

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... 4hB3HFBTTl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 200 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 10, 11, 12, 13, 14  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 4 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط