موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 200 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 9, 10, 11, 12, 13, 14  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد مارس 31, 2024 12:29 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


من تكتيكات التَّيْمِيَّة لنُصرة مشربهم!!! (٣٥)

ابنُ تيميَّة ممهِّداً لبدعة خطيرة تقضي باتِّهام مُعظم السَّلف بإقرار وإمرار ذرائع الشِّرك الأكبر المبيح للدَّم والمال!!!...يقرِّر ما حاصله: حُرمةُ المسجد النَّبوي الشَّريف ‌وَالعِبَادَةُ ‌فِيْهِ - قبل دُخول القبر الشَّريف فيه - ‌أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ إِدخالِه فيه!!!

قَالَ ابْنُ تيميَّة: ((وَالصَّلَاةُ فِي المَسَاجِدِ المَبْنِيَّةِ عَلَى القُبُوْرِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا مُطْلَقًا، بِخِلَافِ مَسْجِدِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيْهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ؛ فَإِنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَكَانَ حُرْمَتُهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ - قَبْلَ دُخُوْلِ الحُجْرَةِ فِيْهِ - حِيْنَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيْهِ وَالمُهَاجِرُوْنَ وَالأَنْصَارُ، ‌وَالعِبَادَةُ ‌فِيْهِ ‌إذْ ‌ذَاكَ ‌أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ إدْخَالِ الْحُجْرَةِ فِيْهِ، فَإِنَّهَا إنَّمَا أُدْخِلَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ الوَلِيْدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ)) [مجموع الفتاوى (27/185)، ط. دار الوَفاء].

وترجمة كلام هذا الحرَّاني تكون كما يلي: حُرمة وأفضليَّة وعظَمة المسجد النَّبوي الشَّريف تضعضعت بعد إدخال القبر الشَّريف فيه!!!.

نسأل الله السلامة والعافية
https://m.facebook.com/story.php?story_ ... 6739351796

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد مارس 31, 2024 12:07 pm 
غير متصل

اشترك في: الأربعاء فبراير 03, 2010 12:20 am
مشاركات: 7870
لا حول ولا قوة إلا بالله ........
حسبنا الله والنبي صلى الله عليه وآله وسلم

_________________
صلوات الله تعالى تترى دوما تتوالى ترضي طه والآلا مع صحب رسول الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد إبريل 07, 2024 11:54 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717

من تكتيكات التَّيْمِيَّة لنُصرة مشربهم!!! (٣٦)

- أوَّلًا: ابن تيميَّة مدافعا عن خرافته في "الجِهة العَدَميَّة": ((مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ كَوْنَ "اللَّهِ فِي السَّمَاءِ"، بِمَعْنَى: أَنَّ ‌السَّمَاءَ ‌تُحِيطُ بِهِ وَتَحْوِيهِ، فَهُوَ: كَاذِبٌ - إن نَّقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ -!!! وَضَالٌّ - إنْ اِعْتَقَدَهُ فِي رَبِّهِ -!!!))

قَال ابنُ تيميَّة الحرَّاني: ((مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ كَوْنَ "اللَّهِ فِي السَّمَاءِ"، بِمَعْنَى: أَنَّ ‌السَّمَاءَ ‌تُحِيطُ بِهِ وَتَحْوِيهِ، فَهُوَ كَاذِبٌ - إن نَّقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ - وَضَالٌّ - إنْ اِعْتَقَدَهُ فِي رَبِّهِ - وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا يَفْهَمُ هَذَا مِنْ اللَّفْظِ، وَلَا رَأْيَنَا أَحَدًا نَقَلَهُ عَنْ وَاحِدٍ، وَلَوْ سُئِلَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ: هَلْ تَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: "إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ": إنَّ السَّمَاءَ تَحْوِيهِ؟، لَبَادَرَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَى أَنْ يَقُولَ: هَذَا شَيْءٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِنَا)) ["الفَتاوى الحمَوَيَّة الكُبرى" ضِمن: مَجمُوع الفتاوى (5/70)، ط. دار الوَفاء].

- ثانياً: ابن تيميَّة ينقل عن طائفة قليلة من أهل الحديث أنَّ الله ينزل - بحركة - إلى السَّماء الدُّنيا، ويخلو منه العرش!!!

قال ابن تيميَّة في مسألة "هل يخلو منه العرش عند نزوله؟": ((‌وَأَهْلُ ‌الْحَدِيثِ ‌فِي ‌هَذَا ‌عَلَى ‌ثَلَاثَةِ ‌أَقْوَالٍ:
- مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ: يَخْلُو أَوْ لَا يَخْلُو، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ المقدسي وَغَيْرُهُ.
- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ، وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْدَه مُصَنَّفًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ، وَسَمَّاهُ: " الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَعَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ، وَعَلَى مَنْ تَأَوَّلَ النُّزُولَ عَلَى غَيْرِ النُّزُولِ"...الخ)) ["شَرح حديث النُّزول" ضِمن: مَجمُوع الفتاوى (5/228)، ط. دار الوَفاء] ثمَّ قَال: ((وَهُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ، وَيَجْعَلُ هَذَا مِثْلَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمَنْ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَانٍ. وَكَلَامُهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ طَائِفَةٍ تَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَنْزِلُ نُزُولًا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مَا ثَمَّ نُزُولٌ أَصْلًا...وَهُوَ يَحْمِلُ كَلَامَ السَّلَفِ: "يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" عَلَى أَنَّهُ نُزُولٌ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ...وَفِي الْجُمْلَةِ: فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ "يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ" طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ...)) ["شَرح حديث النُّزول" ضِمن: مَجمُوع الفتاوى (5 /236-237)، ط. دار الوَفاء].

فانظر ماذا ترى؟!!!
https://m.facebook.com/story.php?story_ ... 6739351796

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين إبريل 08, 2024 9:10 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


من تكتيكات التَّيْمِيَّة لنُصرة مشربهم!!! ٣٧)

يُقسِّم ابنُ تيميَّة الأشاعرةَ إلى قِسمَين في مسألة نسبة العُلوِّ الحسِّي لله ربِّ العالَمين:

(1) قسم يزعم أنَّهم كانوا - مثله ومثل أسلافه المجسَّمة -: يُثبتون العلوَّ الحسِّي، كمشايخهم الكُلَّابيَّة: ابن كُلَّاب والقَلَانِسي والحارث المحاسبي وغيرهم، ويطلق عليهم: المثبتة مِن قدماء الأشعريَّة، ويذكر منهم: الإمام الأشعري وعلي بن مُحَمَّد الطَّبري وابن مُجاهد وابن خَفيف الشِّيرازي والباقلَّاني وابن فُورَك وابن أبي زيد القيرواني والقاضي عبد الوهَّاب بن نصر البغدادي وغيرهم، فهؤلاء كانوا يثبتون أنَّ الله بذاته خارج العالَم!، أي: أنَّه تعالى مُنفصل عن العالَم بالمسافة = البينونة بالجِهة، هكذا يزعم الحرَّاني!

(2) القِسم المتبقي: مَن تأثَّروا بإمام الحَرَمَين الجويني، فخالفوا أيمَّتهم أولئك الأوائل، ونَفوا الدُّخول والخروج في حقِّه تعالى، فكانوا بهذا أشرّ من الحلوليَّة "الكفرة" الَّذين أثبتوا - على الأقل - وجود الرَّبّ حتَّى وإن جعلوه بذاته في كلِّ مكان، وأمَّا هؤلاء - فبنَفيِهم الدُّخول والخروج في حقِّه تعالى - يكونون قد حكموا رأساً بنفي وجود الرَّبِّ، هكذا يدَّعي هذا الرَّجل كما تجده في كتبه. ويُطلق على هذا القسم: الجَهميَّة نُفاة الرَّبِّ!!!، ومقصوده طبعاً: السَّادة الأشاعرة أيمَّة الإسلام، ونَقلة دين الله عبر مرِّ العصور والدُّهور.

وأمَّا عن اتِّهامه لمتأخِّري الأشاعرة؛ فالكلام عليه يكون في محلّ آخر إن شاء الله تعالى، وما يهمُّنا في هذه العُجالة هو الكلام - باقتضاب - عن دعواه العريضة في حقِّ متقدِّميهم.

فابن تيميَّة يعمَد إلى بعض الإطلاقات في إثبات الفوقيَّة والعلوِّ، الصَّادرة من قدماء الأشاعرة، فيفسِّرها على مشربه المعروف، ولكنَّه يُهمل بالكلِّيَّة التَّوفيق بينها وبين صريح كلامهم في نفي لوازم الفَوقيَّة الحِسِّيَّة والعلُوّ المكاني، وهذه طريقة مَن يتَّبعون ما تشابه من الأقوال عِوَض التَّحقيق العِلمي.

نعم؛ فكلّ مَن يحقِّق في كتابات ابن تيميَّة؛ يجده يقرِّر ما يلي:
(1) قُدماء الأشاعرة: ينفون الحُدود والحَجم والمساحة والأبعاد والمُماسَّة والملاصقة وغيرها من لوازم الجسميَّة في حقِّه تعالى، وينفون أيضاً قيام الحوادث بالذَّات العليَّة كالحركة والتَّغيُّر.

(2) العلوّ يقتضي أن يكون تعالى في جِهة من العالَم، فالله فوق العالَم فوقيَّة حِسِّيَّة، بحيث يصحُّ أن تقطع الملائكة مسافة حتَّى تصعد إليه تعالى، تتقلَّص هذه المسافة كلَّما صعدنا نحوَ الأعلى، وتنعدم عند نهاية حَدِّ العالَم، وتزداد كلَّما ابتعدنا عن العلوِّ، فالَّذي هو على المنارة أقرب إلى الله مَسافة ممَّن هو تحتها، ورائد الفضاء أقرب مسافة إليه تعالى ممَّن هو على سطح الأرض، وهكذا، وقد التزم ابن تيميَّة بهذه اللَّوازم كما في فتاواه.

إذن: فَوقنا: السَّماء الدُّنيا، وفوقها: الثَّانية، وفوق هذه: الثَّالثة، وهكذا إلى السَّابعة، وفوق السَّابعة: الكرسي، وفوق الكرسي: العرش، وينتهي حدّ العالَم بسطح عرش الرَّحمن، وفوقه مباشرة يبدأ امتداد ذات ربِّ ابن تَيميَّة، وهذا يستلزم أن يكون لكلّ نقطة مِن على سطح العرش ما يحاذيها من ذات الرَّبِّ، فَوقها مباشرة - والعياذ بالله -، أي: أنَّ سَطح العرش يعلوه مباشرة الجانب التَّحتاني للذَّات العليَّة، وعليه فالحدُّ التَّحتاني لذات ربِّ ابن تيميَّةَ مُماسٌّ ومُلَاصقٌ مباشرةً لسطح العرش - لزاماً -، فربُّه محدودٌ مِن جانبه التَّحتاني بالصَّفحة العُليا للعرش حتَّى لا يكون داخلًا في العالَم. وقد التزم الحرَّاني بكلِّ هذه اللَّوازم كما تجده في كتابه "بيان تلبيس الجهميَّة" وكذلك "درء تعارض العقل والنَّقل" وغيرها، بل ونسبَ هذه الوَثَنيَّة للسَّلف وأهل الحديث!!!، وقد خاب مَنِ افترى.

فتحصَّل من هذا البيان المقتضب لعقيدة الرَّجل، أنَّ العلوَّ عنده: يقتضي إثبات محدوديَّة الذَّات العَليَّة، أي إثبات: الجِسميَّة، لأنَّ المحدوديَّةَ لا تنفكُّ عن الحَجميَّة = الجِسميَّة.

فيمكن جمع تقريرات ابن تيميَّة الحرَّاني على النَّحو التَّالي:
(1) الكلَّابيَّة وقُدماء الأشاعرة يثبتون العلوّ الحِسِّي!!!
(2) العلوُّ الحِسِّي لا ينفك عن إثبات الحدود في حقِّه تعالى!!!
(3) قُدماء الأشاعرة ينفون الجسميَّة والحدود عنه تعالى

والآن: كيف يجمع ابن تيميَّة بين دعواه من جهة أنَّ قُدماء الأشاعرة يثبتون العلوّ الحسِّي، وبالمقابل اعترافه - هو بلسانه - أنَّهم ينفون كلَّ لوازم هذا العلوِّ؛ على غرار: الحدود والجسميَّة والمسافة؟!!!

وكيفَ ينسب عاقل - فضلًا عن كبار متكلِّمة الإسلام - العلوّ المكاني والجهة الحسِّيَّة لمن حقيقته - هي عنده - ليست أصلًا بحسِّيَّة، ولا هو جسم ولا هو محدود، ولا يصحُّ عليه الاتِّصال أو الانفصال الحِسِّي؟!!!

وهل يصحُّ - عقلًا أو نقلًا أو لغةً - إرادة حقيقة العلوِّ لذات غير محدود فوق عالَم محدود أو ما ليس بجسم فوق جسم؟!!!

الجواب: أنَّ ابن تيميَّة يتهرَّب بكلِّ قوَّة مِن ولوج هذه المحاور الفيصليَّة الَّتي تنسف دعواه من جذورها، بل تراه يجهد نفسه في محاولة توظيف هذا "التَّباين" - المزعوم - بين قُدماء الأشاعرة وخَلفهم، لاختلاق مساجلة وَهميَّة بَين "الفريقين"...الخ، فيضرب تقرير هذا بذاك، وتقرير ذاك بهذا، وهكذا هي طريقته الَّتي يتباهى بها دائماً، بل المرَّة الوحيدة الَّتي حاول الرَّجل فيها الجمع بين "مختلف" كلام الإمام ابن فُورَك في مسألة العلوِّ، انتهى به المطاف إلى اتِّهام الإمام بالتَّناقض والتَّذبذب!!!، كما تجده في فتاواه.

والحقيقة هي أنَّ عقيدة الكلَّابيَّة والأشاعرة الأوائل في مسألة العلوّ لا تختلف عن عقيدة خلَفهم، وإنَّما الإشكال في طريقة ابن تيميَّة - العوجاء - في فهمه وتصويره لحقيقة مذهبهم.

وأمَّا طريقة قُدماء السَّادة الأشاعرة فهي تقوم على:
(1) إطلاق ما أطلقته النُّصوص من إثبات العلوِّ، مع عدم الخوض في المعاني التَّفصيليَّة، ردًّا على شُبهات الحلوليَّة وغيرهم من الفِرق المنحرفة

(2) نفي جميع لوازم العلوّ الحِسِّي والفَوقيَّة المكانيَّة: كالتَّحيُّز والمكان والنُّقلة والمساحة والحَجم والحدود وقيام الحوادث بالذَّات العليَّة

فَمن (1) و(2) يكون مرادهم بالعلوِّ:
(1) العلوُّ المعنوي [القهر، الغلبة، الجبروت...الخ]: مطلقٌ غير مقيَّد بزمان ولا مكان..

(2) العلوّ بمعنى صفة سَلبيَّة: أي سَلب كلّ المعاني الباطلة في حقِّه تعالى، فهو جلَّ وعلا فوق كلِّ المعاني الأرضيَّة..

إذن: فمن حمَل النُّصوص المطلقة التي أطلقها قدماء الأشاعرة في مسألة العلوّ على مُحكم كلامهم، تبيَّن له اتِّساق مذهبهم في المسألة، وأنَّه لا تباين بين عقيدة السَّابق منهم واللَّاحق.

وأمَّا مَن اكتفى ببعض نصوصهم في الإطلاق، واستنبط منها إثبات الجهة الحسِّيَّة لله تعالى كما فعل ابن تيميَّة، فلا ولن يستطيع البتَّة أن يجمع بين دعواه العريضة من جهة، وبين صريح كلامهم في نفي لوازم الجِسميَّة والحدود في حقِّه تعالى، لأجل هذا تجد ابن تيميَّة يذكر نصوص القوم في الإطلاق، ويهمل بالكلِّيَّة إسقاطها على صريح كلامهم في التَّنزيه، وهذا حتى لا يفتضح أمره، وتنهدم دعواه العريضة في حقِّهم، وهذه الطريقة بالإضافة إلى كونها بضاعة المفلسين، فهي خيانة علميَّة لا تليق بطالب علم، فضلًا عن شيخ، فضلًا عن عالِم، فضلًا عن مُشيَّخ على الإسلام.

هذا، ولعلَّ وعسى أن نعالج الأمر بتوثيق أكثر، والله الموفِّق.

يراجع للفائدة:
- إثبات الفوقية بين قدماء أهل السنة الأشاعرة والخلف من أيمة الإسلام:
https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... XizxsjB6tl

- من تلبيسات ابن تيميَّة على ابن كلَّاب:
https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... 4aVnYGHrPl

- من تلبيسات ابن تيميَّة على علي بن مهدي الطَّبري:
https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... kEA5va8jtl

- نُصْرَةً لِمَشْرَبِهِ الـمَعْرُوفِ ابْن تَيْمِيَّة الحَرَّانِي يَسْتَبِيحُ (الخِيَانَة العِلْمِيَّة!) فِي نَقْلِ كَلاَم الإِمَام ابْن فُوْرَك فِي مَسْأَلَةِ "الفَوْقِيَّةِ"؟!:
https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... iH92YwL9jl

- من تلبيسات ابن تيميَّة على الإمام ابن فورك في مسألة العلوِّ:
https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... YFhridjUYl

- من تلبيسات ابن تيميَّة على الإمام الباقلَّاني في مسألة العلوِّ:
https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... Wp8pDWwUTl

https://m.facebook.com/story.php?story_ ... 6739351796

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء إبريل 16, 2024 11:19 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (1)

بسم الله والصَّلاة والسَّلام على خير خلق الله.

سنحاول في هذه السِّلسلة بإذن الله تعالى، تحليل بعض ما كَتبه ابن تيميَّة من تقريرات متعلِّقة بعقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة.

ولا يخفى على باحث أنَّ هذا الرَّجل قد أطال النَّفَس لأجل أن يُثبتَ نوع مُصادمة أو مُناقضة بينَ عقيدة هؤلاء الأئمَّة الأوائل، وبينَ عقيدة مَن خلَفهم مِن المتأخِّرين، ويعني بهم: كلّ مَن جاء بعد إمام الحَرَمَين أبي المعالي الجويني.

- عرض مذهب أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة في مسألة العُلوِّ والاستواء كما قرَّرهُ ابن تيميَّة الحرَّاني:

- أوَّلًا: يُقِرُّ ابن تيميَّة بأنَّ الإمام الأشعري وقُدَماء الأشعريَّة كانوا يُثبون الاستواء في حقِّه تعالى: صِفة فِعلٍ، بمعنى: أنَّ الله فَعَل فِعلًا في العَرش - وليس في ذاته - سمَّاه: استواءً، فالله لَم يَتغَيَّر ولم يَتَحَوَّل بعد الاستواء؛ بل العرش هو الَّذي تغيَّر بفعل الله فيه، وهذا الفِعل هو الَّذي يُطلق عليه "الاستواء"، ويضيف الحرَّاني بأنَّ هذا المذهب مُخالف لعقيدة السَّلف:

قال ابنُ تيميَّةَ: ((فَالْأَشْعَرِيُّ يَقُولُ: ‌الِاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي الْعَرْشِ، فَصَارَ بِهِ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي الْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ. وَيَقُولُ: هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ الْأَجْسَامِ، بَلْ تُوصَفُ بِهَا الْأَجْسَامُ وَالْأَعْرَاضُ، فَيُقَالُ: "جَاءَتْ الْحُمَّى، وَجَاءَ الْبَرْدُ، وَجَاءَ الْحَرُّ"، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا - أَيْضًا - قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَغَيْرِهِمَا)) [مجموع الفتاوى (16/221)، ط. دار الوفاء].

وَقَال: ((وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُمْ - كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُوَافِقُ أَبَا الْحَسَنِ ‌الْأَشْعَرِيَّ -: عَلَى أَنَّ "الْفِعْلَ" هُوَ الْمَفْعُولُ، وَأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ. يَقُولُونَ: مَعْنَى النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: أَفْعَالٌ يَفْعَلُهَا الرَّبُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ ‌الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ، قَالُوا: ‌الِاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي الْعَرْشِ كَانَ بِهِ مُسْتَوِيًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي. وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا السَّلَفَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ)) [مجموع الفتاوى (5/240)، ط. دار الوَفاء] وَ [شَرح حديث النُّزول لابن تيميَّة (ص: 209-210)، تحقيق: محمَّد ين عبد الرَّحمن الخميِّس، ط. دار العاصمة].

إذن: فالإمام الأشعري ومَن وافقه مِن الحنابلة كالقاضي أبي يعلى الحنبلي وابن الزَّاغوني، كانوا يُثبتونَ الاستواء صِفةَ فِعلٍ، وهذا الفعل يقوم بالعَرش لا بالرَّبِّ، وَهذا مذهبٌ باطِلٌ مُخالِف لعقيدة السَّلف، هكذا يقرِّر ابن تيميَّة بكلِّ وضوح كما في قوله: ((وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا السَّلَفَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ)).

يُتبع..

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... wcKMWCxUrl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس إبريل 18, 2024 1:23 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (2)

- ثانياً: كيف فسَّر ابنُ تيميَّة مَذهبَ أئمَّة الكلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة في مسألة الاستواء؟

قَالَ ابْنُ تيميَّة الحرَّانيُّ: ((وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ والقَلَانِسِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَرْشِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي النُّزُولِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُحْدِثُ فِي الْعَرْشِ قُرْبًا ‌فَيَصِيرُ ‌مُسْتَوِيًا ‌عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ - نَفْسُهُ - فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ)) [مَجمُوع الفتاوى (5/260)، ط. دار الوَفاء] وَ [شَرح حديث النُّزول لابن تيميَّة (ص: 262)، تحقيق: محمَّد ين عبد الرَّحمن الخميِّس، ط. دار العاصمة] فالله خلقَ العرش ثمَّ أحدثَ فيه (قُربًا!)، فصار تعالى مُستويًا عليه، مِن غير أن يَتَغَيَّر ذاته تعالى أو ينفعل أو يتأثَّر، هكذا يُقرِّر ابن تيميَّة على لسان أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة!.

ولكن: ماذا يعني ابنُ تيميَّة بالقُرب هنا؟ والجواب تجده في قوله: ((زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ أَخَذَ عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ مَا أَخَذَهُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَكَثِيرٍ مِمَّا نُقِلَ فِي كِتَابِ "مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ" مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَذَكَرَ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ يَنْفِي قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ: أَنَّهُ يَخْلُقُ أَعْرَاضًا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ يُسَمِّيهَا: نُزُولًا، كَمَا قَالَ: إنَّهُ يَخْلُقُ فِي الْعَرْشِ مَعْنًى يُسَمِّيهِ: اسْتِوَاءً. وَهُوَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ: ‌تَقْرِيبُ ‌الْعَرْشِ ‌إلَى ‌ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِعْلٌ، بَلْ يَجْعَلُ أَفْعَالَهُ اللَّازِمَةَ - كَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ - كَأَفْعَالِهِ الْمُتَعَدِّيَةِ - كَالْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ -، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ.
وَالْأَشْعَرِيُّ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ - يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ فِي النُّزُولِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ هَذَا الْقَوْلَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي نَفْيِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ، وَالسَّلَفُ الَّذِينَ قَالُوا: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَنْزِلُ كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ...مُرَادُهُمْ نَقِيضُ هَذَا الْقَوْلِ)) [مَجمُوع الفتاوى (5/231-232)، ط. دار الوَفاء] وَ [شَرح حديث النُّزول لابن تيميَّة (ص: 181-182)، تحقيق: محمَّد ين عبد الرَّحمن الخميِّس، ط. دار العاصمة] إذن: فالله قَرَّب إلى ذاته العرشَ، القُرب الحِسِّي المعروف في الأجسام أي: بقطع مسافة، فاللهُ حَرَّك العرشَ وقَرَّبه إلى ذاته تعالى، فصار جلَّ وعلا فَوقَ عَرشه فَوقيَّةَ جِهةٍ ومَكانٍ وتحَيُّزٍ، مِن غير أن يَتحرَّك هو تَعالى إلى جِهة العَرش، بل العرش هو الذي تحرَّك - بقدرة الله - نحو الجِهة التَّحتانيَّة للذَّات العَليَّة، وصار الرَّبُّ فَوقَهُ، هكذا يشرح ابن تيميَّة مذهب أئمَّة الكلَّابيَّة والأشعريَّة في مسألة الاستواء كما تجده في قوله: ((وَهُوَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ: ‌تَقْرِيبُ ‌الْعَرْشِ ‌إلَى ‌ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِعْلٌ)) فالتَّقريب إلى ذات الرَّبِّ: حِسِّيٌّ، وانظر إلى قوله: ((وَالْأَشْعَرِيُّ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ - يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ)) فالعرش صار تحتَ الذَّاتِ العليَّةِ تحتِيَّةً حِسِّيَّةً، وهو تعالى فَوقَهُ فَوقيَّةً حِسِّيَّةً.

وَقَالَ فِي نصٍّ آخر: ((‌وَاَلَّذِينَ ‌يُثْبِتُونَ ‌تَقْرِيبَهُ الْعِبَادَ إلَى ذَاتِهِ: هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُلَّابِيَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ قُرْبَ الْعِبَادِ إلَى ذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ يُثْبِتُونَ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ بِذَاتِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: الِاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي الْعَرْشِ، فَصَارَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ، وَهَذَا - أَيْضًا - قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ، وَابْنِ الزَّاغُونِي، وَطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ)) [مَجمُوع الفتاوى (5/278)، ط. دار الوَفاء] وَ[شَرح حديث النُّزول لابن تيميَّة (ص: 318)، تحقيق: محمَّد ين عبد الرَّحمن الخميِّس، ط. دار العاصمة] وفي هذا النَّص يُقرِّر ابنُ تيميَّةَ نفس ما قرَّره في النَّصِّ السَّابق، إلَّا أنَّه هنا ادَّعى إثبات الإمام الأشعري وأئمَّة الكُلَّابيَّة قُرب العِباد - وليس العرش فقط - إلى ذاته تعالى!، وهو يعني طبعاً: القُرب الحِسِّي بالمسافة كما هو واضح، فكما يُقرِّب اللهُ العرشَ إلى ذاته قُرب مَسافة، يُقرِّب تعالى أيضاً العبادَ إلى ذاته؛ بل والملائكة وغيرها مِن المخلوقات، وينسب الحرَّاني كلَّ هذه الاعتقادات الباطلة إلى قُدماء الأشعريَّة والكُلَّابيَّة!.

وهذا في الحقيقة عقيدته هو وسلَفه المجسِّمة لا غير، ولتنظر في قوله: ((الثَّالِثُ: قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، الَّذِينَ يُثْبِتُونَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِمَّنْ دُونَهُمْ، وَأَنَّ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ صَارَ يَزْدَادُ قُرْبًا إلَى رَبِّهِ بِعُرُوجِهِ وَصُعُودِهِ؛ وَكَانَ عُرُوجُهُ إلَى اللَّهِ، لَا إلَى مُجَرَّدِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّ رُوحَ الْمُصَلِّي تَقْرُبُ إلَى اللَّهِ فِي السُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ بَدَنُهُ مُتَوَاضِعًا. وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ)) [مَجْمُوع الفَتَاوَى (6/8)، ط. دَار الوَفَاء] وعلى هذا فرائد الفضاء الكافر وهو في مكُّوكه أقرب إلى الله مِن المُوَحِّد وهو في بيت الله!.

يُتبع..

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... 4c4LEeXs5l

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس إبريل 18, 2024 2:17 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (3)

- ثالثاً: الاستواءُ والعُلوُّ عند ابن تيميَّة لا ينفكُّ عن الحركة والانتقال والتَّحوُّل من حال إلى حالٍ في حقِّه تعالى:

قَالَ ابْنُ تيميَّة الحرَّاني: ((وَأَمَّا لُزُومُ الانْتِقَالِ؛ فَلِلنَّاسِ عَنْهُ جَوَابَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى جَوَازِ قِيَامِ الصِّفَاتِ الفِعْلِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالمَشِيئَةِ بِذَاتِهِ:
1- فَمَن لَّمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّهُ لَمَّا خَلَقَ العَالَمَ لَمْ يَنْتَقِلْ هُوَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ؛ بَلْ خَلَقَهُ مُبَايِناً لَهُ، لَمْ يَدْخُلْ فِي العَالَمِ، وَلَمْ يَدْخُلِ العَالَمَ فِيهِ، وَحَدَثَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَالَمِ إِضَافَةٌ كَمَا حَدَثَتْ إِضَافَةُ المَعِيَّةِ، وَحُدُوثُ الإِضَافَاتِ جَائِزٌ اِتِّفَاقًا؛ بَل لَّا بُدَّ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الِاسْتِوَاءُ إِضَافَةٌ مَحْضَةٌ، وَأَنَّهُ فَعَلَ [فِعْلًا] فِي الْعَرْشِ صَارَ بِهِ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ خَلَقَ العَرْشَ تَحْتَهُ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ فَوْقَهُ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ مِنَ الرَّبِّ، وَلَا تَحَوُّلٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ.
2- وَالجَوَابُ الثَّانِي: جَوَابُ مَنْ يُجَوِّزُ قِيَامَ الأَفْعَالِ الإِرَادِيَّةِ بِذَاتِهِ، كَمَا هُوَ المَفْهُومُ مِنَ النُّصُوصِ، وَهَؤُلَاءِ يَلْتَزِمُونَ مَا ذُكِرَ مِنْ مَعْنَى الِانْتِقَالِ وَالْحَرَكَةِ؛ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ؛ لِكَوْنِ الشَّرْعِ لَمْ يَرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الِاسْتِوَاءِ، وَالْمَجِيءِ، وَالنُّزُولِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِاللَّفْظِ أَيْضًا، وَيَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ، وَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ عَلَى الحُدُوثِ بَاطِلٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ حُجَّةُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ فَقَدْ أَبْطَلَ؛ بَلْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ)) [مُختصَر الفتاوى المصريَّة لابن تيميَّة (2/450-451)، تأليف البَعلي، ط. ركائز]، وَفي الطَّبعات الأخرى بدلَ: ((وَحَدَثَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَالَمِ إِضَافَةٌ كَمَا حَدَثَتْ إِضَافَةُ المَعِيَّةِ)) جَاءَ كَلامُه هكذا: ((وَحَدَثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَالَمِ إِضَافَةُ التَّحْتِيَّةِ)) [المُسْتَدرك عَلَى مَجمُوع فَتَاوى ابنِ تيميَّة (1/70)، ط. محمَّد بن عبد الرَّحمن بن قاسم] وَ[مُختصَر الفتاوى المصريَّة لابن تيميَّة (ص: 584)، تأليف البَعلي، ط. دار الكتب العلميَّة].

وفي هذا النَّص يُوَضِّح ابنُ تيميَّة مرَّةً أخرى مذهب القائلين بأنَّ الاستواء فِعلٌ فَعلَه الله في العرش وليس في ذاته، فخلق سبحانه العَرش تحت ذاته مُباشرة - كما في زعمه: ((خَلَقَ العَرْشَ تَحْتَهُ)) -، ولكن ألا يلزم هنا إثبات مُماسَّة ومُلاصقة الخالق للمخلوق؟!، ولا تغفل عن أنَّ ابن تيميَّة في النُّصوص السَّابقة، زعم تقريبه تعالى العرشَ إلى ذاته سبحانه!، ثمَّ يكمل: فلزم أن يكون هو نفسه تعالى فوق العَرش - كما في زعمه: ((فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ فَوْقَهُ)) وزعمه أيضاً: ((بَلْ خَلَقَهُ مُبَايِناً لَهُ)) -، مِن غير أن يُحرِّك تعالى ذاته أو يتغيَّر مِن حالٍ إلى حالٍ - كما تجده في زعمه: ((لَمَّا خَلَقَ العَالَمَ لَمْ يَنْتَقِلْ هُوَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ)) -، وهذا مذهب الفريق الأوَّل من أهل الإثبات كما يدَّعي ابنُ تيميَّة؛ فَهذا الفَريقُ: يُثبتون العلوَّ الحِسِّي، ولكنَّهم يَنفونَ قِيام الحوادث بالله تعالى، وهو المذهب الَّذي يحاول ابن تيميَّة جاهداً إلصاقه بأئمَّةِ الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة كما هو واضحٌ، ومع هذا فليس هذا هو المذهبُ الحقّ عند ابنِ تيميَّة.

بل الحقّ عنده مع مَن يربطون العُلوَّ الحِسِّي بقِيام الحركةِ والانتقالِ والتَّحوُّل من حالٍ إلى حالٍ في حقِّه تعالى، فالله تعالى حَرَّك نفسه ليَستويَ على العَرش، فانتقل مِن حالٍ = "غير مستوٍ على العرش" إلى آخر = "الاستواء على العرش"، وهذا يستلزم تحرُّكه تعالى من حيِّزٍ إلى آخر، وتَحَوُّله جلَّ وعلا من حالٍ كان عليه إلى آخر، فأحدثَ تعالى في ذاته تغيُّراً، وانفعالًا بمخلوقاته، هذه هي عقيدة ابن تيميَّة في الاستواء والفَوْقيَّةِ كما يعكسه قوله: ((جَوَابُ مَنْ يُجَوِّزُ قِيَامَ الأَفْعَالِ الإِرَادِيَّةِ بِذَاتِهِ، كَمَا هُوَ المَفْهُومُ مِنَ النُّصُوصِ، وَهَؤُلَاءِ يَلْتَزِمُونَ مَا ذُكِرَ مِنْ مَعْنَى الِانْتِقَالِ وَالْحَرَكَةِ))، فالنُّصوص دالَّةٌ عليه!، وتأمَّل أنَّ كلامَ الرَّجل هنا عن معاني الحركة والانتقال لا مُجرَّد الألفاظ فقط، فالاستواءُ والنُّزولُ وغيره مِن "الصِّفات الاختياريَّة" - كما يُطلق عليها ابنُ تيميَّة - لَا تنفكُّ عن معاني التَّغَيُّر والتَّحوُّل والحركة والانتقال، وغير هذا: تَعطيل ونفي لصفة الاستواءِ والعُلُوِّ، هذا حاصل تقرير ابن تيميَّة هنا.

وقال أيضاً: ((وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الْإِلْحَادِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: "وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ" قَصَدَ بِهَا الْمُتَكَلِّمَةُ الْمُتَجَهِّمَةُ: نَفْيَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ، مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ، وَنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالُوا:" كَانَ فِي الْأَزَلِ لَيْسَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ"، فَلَا يَكُونُ عَلَى الْعَرْشِ لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنَ التَّحَوُّلِ وَالتَّغَيُّرِ.
وَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ بِجَوَابَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ:
- أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرْشِ بِمَنْزِلَةِ الْمَعِيَّةِ، وَيُسَمِّيهَا ابْنُ عَقِيلٍ الْأَحْوَالَ، وَتَجَدُّدُ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ إذْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ تَغَيُّرًا، وَلَا اسْتِحَالَةً.
- وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ اقْتَضَى تَحَوُّلًا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، وَمِنْ شَأْنٍ إلَى شَأْنٍ، فَهُوَ مِثْلُ: مَجِيئِهِ، وَإِتْيَانِهِ، وَنُزُولِهِ، وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى، وَإِتْيَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَقَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ لَازِمٌ لِسَائِرِ الْفِرَقِ)) [مجموع الفتاوى (2/167-168)، ط. دار الوفاء] وَ[مجموعة الرَّسائل والمسائل (4/94-95)، ط. رشيد رضا] وأمَّا ما ذكرهُ في الجواب الأوَّل مِن نفي ارتباط الاستواء بحدوث الانتقال والتَّغيُّر والتَّحوُّل في ذات الرَّب، فهو ما ينسبه إلى قُدماء الأشعريَّة وأئمَّة الكُلَّابيَّة، وأمَّا ما ذَكره في الجواب الثَّاني من ربط الاستواء والنُّزول والمجيء والإتيان يوم القيامة في (صورة!)، وغيرها من الأفعال؛ أي: رَبطها: بالحركة والتَّحوُّل والتَّغيُّر في حقِّه تعالى؛ فهو المذهب الحقّ عند ابن تيميَّة؛ لأنَّه: ((دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَقَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ)) على حدِّ زعمه.

وإن كنتَ يا عبد الله لا زلتَ - ربَّما! - في شكٍّ من تَفسير كلام ابن تيميَّة على هذا النَّحو، فاستمع إليه وهو يقول صراحةً: ((لِلنَّاسِ فِي أَنَّ اللهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَالْعَالَمِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِعَامَّةِ الطَّوَائِفِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا:
- أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْخَالِقِ، وَبَيْنَ الْعَرْشِ وَالرَّبِّ، تَجَدَّدَتْ بِخَلْقِهِ لِلْعَرْشِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي نَفْسِهِ تَحَرَّكَ أَوْ تَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: يَمْتَنِعُ حُلُولُ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ، وَتَمْتَنِعُ الْحَرَكَةُ عَلَيْهِ.
- وَالْقَولُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِنْ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمِ: أَنَّهُ اِسْتَوَى عَلَيْهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ قَدْ اِسْتَوَى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ اِسْتِوَاؤُهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَمَجِيئُهُ، وَإِتْيَانُهُ؛ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ الصَّحِيحَةُ)) [بَيَانُ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ (3/237-238)، (3/802-803) وَ(4/236)، ط. المجمَّع] فالفَوقيَة والاستواء والإتيان والمجيء في حقِّه تعالى، معناه: أنَّ الله (يَتَصَرَّف!) في نفسه على حدِّ تعبير ابن تيميَّة هُنا، فَحَرَّك تعالى ذاته ليستوي على العرش أو إلى السَّماء أو يأتي أو يجيء، وعلى هذا مذهب السَّلف وأئمَّة الحديث، هكذا يقرِّر ابن تيميَّة كما ترى.

ولكن: إذا جوَّز ابنُ تيميَّة أن يؤثِّر الله في نفسه وينفعل بمخلوقاته ويتغيَّر، فما الَّذي يمنعه مِن أن يُجَوِّز أيضاً أن يُعدِم الله ذاته أو يَزيد ويُنقص في حَجْمِه - تعالى الله عن ذلك علُوًّا كثيراً -؛ فيلزم القول بانقلاب الذَّات، وهو كُفر باتِّفاق؟!.

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... RytWvaBSJl

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... TaJhJtvfVl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء إبريل 24, 2024 9:43 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (4)

- رابعاً: يَدَّعي ابنُ تيميَّة أنَّ أئمَّةَ الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة كانوا يُثبتون الفَوقِيَّة الحِسِّيَّة حتَّى مع نَفيِهم الحدود والنِّهايات والمُماسَّة وغيرها من معاني الجِسميَّة في حقِّه تعالى، ويدَّعي أيضاً: أنَّ الحقَّ في إثبات ما نفاهُ هؤلاءِ الأئمَّة، وأنَّهُ تعالى جسمٌ مَحدُودٌ مُتمَكِّنٌ فَوق العَرش بمُماسَّة ومُلَاصَقَةٍ، وله قَدْرٌ = حَجْمٌ لَا يعلمه غيره!!!:

قَالَ ابْن تَيْمِيَّة الحَرَّانِي: ((فَلَا جَرَمَ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِثُبُوتِ المُمَاسَّةِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ، وقَالَهُ أَئِمَّةُ السَّلَفِ، وَهُوَ نَظِيرُ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَسْأَلَةِ الْعَرْشِ، وَخَلْقِ آدَمَ بِيَدِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ نَفَاهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيرِهِمْ)) [بيانُ تَلبيس الجَهميَّة (4/343)، ط. المجمَّع] فاستواء الله على العرش كانَ بمُماسَّة وملاصقَة لسطح العرش!، وكذلك خلقَ الله تعالى آدم بيَده؛ فمسَّه بِها مَسيسًا!، فالله يَمَسُّ!!! ويُمَسُّ!!!، وهذه عقيدة أئمَّة السَّلف!!!، كذا زعم ابن تيميَّة كما ترى.

وهذه المسألة أعني: تعلُّق العُلُوّ الحِسِّي والاستواء المادِّي بإثبات المُماسَّة والحدود والحَجم والتَّحيُّز وغيره من معاني الجسميَّة في حقِّه تعالى، تُعَدُّ مِن أهمِّ المسائل الكاشفة عن حقيقة مذهب ابن تيميَّة في الذَّات والصِّفات، لأجل هذا تجده في كثيرٍ مِن النُّصوص الَّتي يتعرَّض فيها لهذه المسألة؛ يتحاشى التَّصريح مباشرة بالأخذ برأي المُثبتة فيها، ولكنَّه ينصر رأيهم بأسلوبه المعروف في التَّلبيس والتَّمويه والتَّشغيب والتَّقيَّة، كأن ينقل بإقرار وإمرار واستسمان معاني الجِسميَّةِ ولوازمها البَيِّنَةِ، ويدافع عنها بكلِّ قوَّة، بل ويجعلها مذهب العُقلاء والأذكياء وأصحاب الفِطرة السَّليمة، ثمَّ يتظاهر بتحاشي إطلاق الألفاظ الدَّالة على هذه المعاني في حقِّه تعالى، وكأنَّ المشكلة عنده في إطلاق الألفاظ فقط وليست في المعاني الباطلة التي تحملها هذه الألفاظ في حقِّه تعالى، ولكنَّه - وفي بعض النُّصوص الأخرى - لا يتوارى في الإفصاح عن حقيقة مُراده، خاصَّةً إذا تعلَّق الأمر بمُحاوَلاته المتكرِّرة للرَّدِّ على إلزامات الفَخر الرَّازي للمُجسَّمةِ باللَّوازم الشَّنيعة من وراء القول بمذهبهم الباطل، ومِن بين هذه النُّصوص الصَّريحة؛ هذا النَّص الَّذي سننقله عنه، والَّذي تعرَّض فيه الحَرَّاني لهذه المسألة رادًّا على الإمام الفَخر الرَّازي.

نعم؛ فقد ذكرَ ابنُ تيميَّةَ مذاهب النَّاس في مدى ارتباط العُلوّ الحِسِّي والاستواء المادِّي بإثبات معاني الجِسميَّة؛ فقالَ: ((النَّاسُ لَهُم فِي هذَا المَقَامِ أَقْوَالٌ:
- مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُو نَفْسُهُ فَوقَ ‌العَرْشِ غَيرُ ‌مُمَاسٍّ، وَلَا بَيْنَهُ وبَيْنَ ‌العَرْشِ فُرجَةٌ، وهَذَا قَوْلُ ابنِ كُلَّابٍ، وَالحَارِثِ المُحَاسِبِيِّ، وَأَبِي العَبَّاسِ القَلَانِسِيِّ، والأَشعَريِّ، وابْنِ البَاقِلَّانِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْنَافِ العُلَمَاءِ، مِنْ أَتْبَاعِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ، وَأَهْلِ الحَدِيثِ والصُّوفيَّةِ، وغَيرِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ ‌العَرْشِ، وَلَيسَ بِجِسْمٍ، وَلَا هُوَ مَحْدُودٌ وَلَا مُتَنَاهٍ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (6/288)، ط: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم] فَهَذَا مذهبُ الفَريق الأوَّل في المسألةِ، وهُم أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدماء الأشعريَّة، فهم حسبَ نصِّ ابن تيميَّة هنا:
1. يُثبتون العُلُوَّ (الحِسِّي!) في حقِّهِ تعالى، كما في قوله: ((يَقُولُونَ: إِنَّهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ ‌العَرْشِ))
2. وينفون عنه تعالى الاتِّصال الحِسِّي بالعالَمِ، كما في قوله: ((هُو نَفْسُهُ فَوقَ ‌العَرْشِ غَيرُ ‌مُمَاسٍّ))
3. وينفون عنه أيضاً الانفصال الحِسِّي، كما في قوله: ((وَلَا بَيْنَهُ وبَيْنَ ‌العَرْشِ فُرجَةٌ))، فلا مسافة بينَ الله وبين العالَمِ
4. وَينفون الحدود والأبعاد والحَجم والتَّناهي أي: معاني الجِسميَّة، كما في قوله: ((وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: وَلَيسَ بِجِسْمٍ، وَلَا هُوَ مَحْدُودٌ وَلَا مُتَنَاهٍ))

فتحصَّل من تحرير ابن تيميَّة لمذهب أئمَّة الكلَّابيَّة وقُدماء الأشعريَّة: أنَّ الله ليس بجِسمٍ، وهو فوق العَالَمِ فَوقِيَّةً (حِسِّيَّةً!)، بِلَا مُماسَّةٍ لِلعَالَمِ، ولَا فُرجَةٍ بَيَنَهُ وَبَيْنَ العالَمِ.

ثمَّ يذكر ابنُ تيميَّة القولَ الثَّاني في المسألة؛ فيقول: ((- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ نَفْسُهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفاً بِقَدْرٍ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ عَلَيْهِ مُماسَّةُ العَرْشِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الفِقْهِ، وَالصُّوفِيَّةِ وَالكَلَامِ غَيْر الكَرَّامِيَّةِ، فَأَمَّا أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالحَدِيثِ وَأَتْبَاعُهُمْ، فَلَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ "الجِسْمِ" نَفْياً وَلَا إِثْبَاتاً، وَأَمَّا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكَلَامِ فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ "الجِسْمِ"، ‌كَهِشَامِ ‌بْنِ ‌الْحَكَمِ، وَهِشَامِ بْنِ الْجَوَالِيقِيِّ وَأَتْبَاعِهِمَا)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (6/288-289)، ط: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم] فهذا القول الثَّاني جَعله ابنُ تيميَّة مُقابِلًا للقول الأوَّل فِي نَفي الجِسميَّةَ عن الله، وادَّعى أنَّهُ: ((قَوْلُ أَهْلِ الحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ))، فهو إذن: قولُه في المسألة؛ لأنَّه ما بَرح يُدندنُ أنَّه على عقيدة مَن يُسمِّيهم: "أهل الحديث".

إذن: فأهلُ الحديث والسُّنَّة حسبَ نَصِّ ابن تيميَّة هنا:
1. يُثبتون العُلُوَّ (الحِسِّي!) في حقِّهِ تعالى، كما تجده في قوله: ((هُوَ نَفْسُهُ فَوْقَ العَرْشِ))، فهذا القَدر من الإثبات يشتَركُ فيه أصحابُ القَول الأوَّل، وكذا هذا الثَّاني.
2. وَيُثبتون ما نفاه أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة من معاني الجِسميَّة، كما تجده في قوله: ((وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفاً بِقَدْرٍ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ))، وبهذا القدر من الإثبات يُبايِن أصحابُ هذا القولِ "الثَّاني" - مُثبتَة الجِسمِ - أصحابَ القَول "الأوَّل" - نُفاة الجِسمِ -، فأصحابُ القَول الأوَّل يقولُونَ أنَّه تعالى ((لَيسَ بِجِسْمٍ، وَلَا هُوَ مَحْدُودٌ وَلَا مُتَنَاهٍ))، وأمَّا أصحابُ هذا القول الثَّاني فيَصفُونَهُ تعالى - حسبَ ابن تيميَّة -: ((بِقَدْرٍ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ))، إذن: فالله تعالى عندَ أهل الحديث والسُّنَّة: مُتَنَاهٍ وَمَحدُودٌ وَلهُ قَدْرٌ حِسِّيٌّ أيْ: حَجْمٌ لا يعلمه إلَّا هو، فحَجْمُ الله عظيم لا يُدركه إلَّا هو، هكذا يقرِّر ابنُ تيميَّةَ، ولا يذهبنَّ بكَ الوَهم إلى أنَّ الرَّجل ربَّما يقصدُ القَدْر المَعنوي، إذ هذا القَدر لَا يُخالِفُ فيه أصحابُ القَولِ الأوَّل حتَّى يُخصِّصه ابنُ تيميَّة بأصحاب هذا القول الثَّاني أو يُمَيِّزهم به عنِ الأوَّل، بل ولا يوجد في مقالاتِ الإسلاميِّين - فضلًا عن مُتكلّمة الكُلَّابيَّة والأشعريَّة - مَن ينفي هذا النَّوع من القَدْرِ، إذ نفيهُ عن الباري كُفرٌ باتِّفاق، فتَنَبَّه.
3. وَ: ((مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ عَلَيْهِ مُماسَّةُ))، إذن: فقد ذهبَ بعض أهل الحديث والسُّنَّة إلى أنَّ االله جِسمٌ فَوق العرش، ولكن بلَا مُمَاسَّةٍ!، ولإثبات هذا الفريق الجسميَّة في حقِّ ربِّهم؛ لم يدرج ابن تيميَّة قَولهم هذا ضمن القَول الأوَّل.
4. ((وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ)) أي: المُماسَّة، ((وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ)) إذن: فمذهب خُلَّص أهلِ الحديث والسُّنَّة: أنَّ الله جِسمٌ - مَحدودٌ وَمُتَناهٍ - عَالٍ على العاَلَمِ عُلُوَّ مَكَانٍ بِمُماسَّةٍ للصَّفيحة العُليا مِن العرشِ!.
5. إلَّا أنَّهم مع إرادة معاني الفَوقِيَّة الحِسَّيَّةِ وَالجسميَّة والمُماسَّة؛ يتورَّعونَ عن إطلاقِ لفظ "الجسم" في حقِّه تعالى، فلا يطلقونه: لا نفيًا ولا إثباتًا، فلا يقولون: "الله جِسمٌ" ولا يقولون: "الله ليس بجسمٍ"، وهذا معنى قول ابن تيميَّة: ((فَأَمَّا أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالحَدِيثِ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَلَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ "الجِسْمِ" نَفْياً وَلَا إِثْبَاتاً))، إذن: فلا مُشكلة عندهُ في إرادة مَعنى الجِسمِ مع تحاشي إطلاق اللَّفظ عليه تعالى، وهذا مِن أساليبه الملتويَّة لأجل حشو التَّجسيم؛ وإلَّا فَالعِبرة بالمعاني لا المباني كما تقرَّر.

إذن: عقيدة أهلِ الحديث والسُّنَّة وكثيرٍ من أهلِ الفقه والصُّوفيَّةِ والمتكلِّمةِ: أنَّ الله جِسمٌ مَحدودٌ وَمُتناهٍ، وأمَّا مِن جانبه التَّحتاني فهو تعالى محدودٌ بالعالَمِ؛ لأجل هذا صحَّت مُماسَّته من هذه الجِهة للصَّفحة العُليا مِن العالَمِ، هكذا يزعم ابنُ تيميَّة. وهذا في الحقيقة مذهبه الَّذي طالما دندنَ حوله، وأراد حَشوه بأساليب مُلتويَّة، لا يفكُّ شِفرَتها إلَّا مَن سَبر غوار تواليفه، خاصَّة المطوَّلات منها.

ويُعدُّ هذا النَّص مِن المواطن القليلة الَّتي يُصرِّح فيها ابنُ تيميَّةَ بعقيدته في التَّجسيم هكذا؛ بِلَا مُوارَبةٍ ولا تَقِيَّةٍ ولا مُشاغبةٍ.

وهذا النَّص يتطلَّبُ بعض الوَقفات - وإن سبقت الإشارة إلى بعضها -:
1. زَعمَ ابنُ تيميَّة أنَّ عقيدةَ أئمَّةِ الكُلَابيَّة وقُدَماءِ الأشعريَّة؛ أنَّه تعالى: ((بِذَاتِهِ فَوْقَ ‌العَرْشِ، وَلَيسَ بِجِسْمٍ، وَلَا هُوَ مَحْدُودٌ وَلَا مُتَنَاهٍ)) فاللهُ فَوق العَرش الفَوقِيَّة (الحِسِّيَّة!) المعقولَة في الأجسامِ: "جِسم فوق جِسم"، أي: فَوقِيَّة مَسافةٍ وجِهةٍ ومكانٍ وتَحَيُّزٍ، ومع ذلك فهؤلاء الأئمَّة يُجرِّدون هذه الفَوقيَّة (الحِسِّيَّة!) من كلِّ معانيها الحِسِّيَّة، فينفون عنه تعالى الحُدود والنِّهايات والامتداد في الأبعاد وغيرها من المعاني الجِسميَّةِ، هذا حاصل كلام ابن تيميَّة في حقِّ هؤلاء الأئمَّة.
2. ثمَّ يدَّعي الحرَّاني أنَّهم: ((يَقُولُونَ: هُو نَفْسُهُ فَوقَ ‌العَرْشِ غَيرُ ‌مُمَاسٍّ، وَلَا بَيْنَهُ وبَيْنَ ‌العَرْشِ فُرجَةٌ)) أي: مع إثباتهم العُلُوَّ (الحِسِّي!) - على حدِّ زعمه -؛ إلَّا أنَّهم يَنفون المُماسَّة والملاصقة في حقِّ ربِّهم، كما ينفون وُجود فُرجةٍ أي: مسافة بينه وبين العرش، أي: ينفونَ البَينُونةَ الحِسِّيَّة بين الخالق والمخلوق = العرش، فلا هو تعالى مُتَّصل بالعَرش = ((فَوقَ ‌العَرْشِ غَيرُ ‌مُمَاسٍّ))، ولا هو مُنفصل عنه بمسافة = ((وَلَا بَيْنَهُ وبَيْنَ ‌العَرْشِ فُرجَةٌ)).

والآن: إذا كان الأمر كما هو حاصل تقرير ابن تيميَّة في هذا النَّصِّ - وهو حقٌّ -، أي: أنَّ مذهب أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدماء الأشعريَّة في العُلُوِّ والاستواء أنَّه: لا هو تعالى مُتَّصل بالعرش = بمُماسَّة، ولا هو منفصلٌ عنه بفُرجة = مسافة؛ وهذا لأنَّ المُماسَّة وَالمُباينة بمسافة لا تكون إلَّا بينَ الأجسام المحدودة، والله ليس جسماً ولا هو محدودٌ، فلا يقبلُ أصلًا الاتِّصال الحِسِّي ولَا الانفصال بمسافة.

أقول: إذا كان الأمر كذلك؛ فكان يَتوَجَّبُ على ابن تيميَّة أن يُبَيِّن لمُخالفيه كيفَ جَمَع - من جهة - بين ما قرَّرهُ هو نفسه على لسان قُدماء الكُلَّابيَّة والأشعريَّة في هذا النَّصِّ؛ مِن تجريد تامٍّ للعُلُوِّ الحِسِّي مِن كلِّ معانيه الحسِّيَّةِ اللَّازمة؛ وبالمقابل دعواه العريضة: على أنَّهم كانوا يُثبتون العُلوَّ الحِسِّي، بكلِّ ما يحمله هذا الإثبات مِن معاني؟! يعني: هل يجوز العلوّ الحسِّي في حقِّ مَن لا يقبل الاتِّصال بِالمُماسَّة ولا الانفصال بفُرجة؟!، وهل يُعقَل فوقيَّة حدودٍ بين: مَعبود لا يقبل أصلًا النِّهايات والحُدود، وَموجود مُتناهٍ مَحدود؟!، وإذَا قبلَ ابنُ تيميَّة مثل هذا التَّوجيه؛ فما الَّذي يمنع غيره من إثبات الجِهة الحسِّيَّة أو الإشارة الحسِّيَّة إلى ما هو من غير الأجسام أصلًا: كالحركة أو السُّكون مثلًا؟! أو إلى غيرها: كالغَضب والرَّحمةِ والحُزن والحُبِّ والبُغضِ والعِلمِ والإرادةِ والقُدرةِ وغيرها من المعاني الثَّابتة خارجاً؟!.

وَإذا كان الله قد خلق العرش تحتَه مُباشرة بالجِهةِ والحَيِّزِ كما يدَّعي هذا الرَّجل في حقِّ هؤلاء الأئمَّةِ، ألا يستدعي هذا إثبات المُماسَّة؟!، إذْ ما ثَمَّ إلَّا الخالق والمخلوق، فإذا خلق الخالق خلقا وجعله تحته مُباشرة، على المعنى الَّذي يقصده ابنُ تيميَّة، فيلزم إثبات مُماسَّة الخالق لهذا المخلوق ولَا بُدَّ، والسُّؤال هُنا: لماذا أَضرب ابن تيميَّة عن بيان كيفيَّة منع هذه الملازمة التي أَوقعها فيها فهمه المغلوط لمذهب أئمَّة الكلَّابيَّة والأشعريَّة؟!، يعني ببساطة: هل تُعقَّل فَوقيَّة جِهة ومَسافة ومَكان وحيِّزٍ بَين مَوجودين أحدهما فوق الآخر مُباشرة؛ مِن غير إثبات مُماسَّة ومُلاصقة أحدهما للآخر؟!.

ولتنظر يا عبد الله الآن إلى ما قرَّرهُ ابنُ تيميَّة نفسه عند حديثه عمَّا هو منسوب إلى الإمام عبد الله بن المبارك في مسألة الاستواء؛ حيث حاول تفسيره على مَشربه المعروف في التَّجسيم؛ فقال: ((فَبَيَّنَ ابنُ المُبَارَكِ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ مُبَايِنٌ لِخَلْقِهِ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَذَكَرَ الْحَدَّ لِأَنَّ الجَهْمِيَّةَ كَانُوا يَقُولُونَ: لَيْسَ لَهُ حَدٌّ، ‌وَمَا ‌لَا ‌حَدَّ ‌لَهُ: لَا يُبَايِنُ المخْلُوقَاتِ، وَلَا يَكُونُ فَوْقَ العَالَمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَدِّ، فَلَمَّا سَأَلُوا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ - فِي كُلِّ شَيْءٍ - عَبْدَ اللهِ بْنَ المُبَارَكِ بِمَاذَا نَعْرِفُهُ؟ قَالَ: "بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ". فَذَكَرُوا لَهُ لَازِمَ ذَلِكَ الَّذِي تَنْفِيهِ الجَهْمِيَّةُ، وَبِنَفْيِهِمْ لَهُ يَنْفُونَ مَلْزُومَهُ الَّذِي هُوَ مَوجُودٌ فَوْقَ العَرْشِ، وَمُبَايَنَتُهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ، فَقَالُوا لَهُ: بِحَدٍّ؟ قَالَ: بِحَدٍّ. وَهَذَا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ عَرَفَ مَا بَيْنَ قَولِ المُؤْمِنِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَبَيْنَ الجَهْمِيَّةِ المَلَاحِدَةِ، مِنَ الفَرْقِ)) [بَيَانُ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ (3/43-44)، ط. المجمَّع] فها هو ابنُ تيميَّة يُقرُّ بأنَّ كلَّ = ((مَنْ عَرَفَ مَا بَيْنَ قَولِ المُؤْمِنِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَبَيْنَ الجَهْمِيَّةِ المَلَاحِدَةِ، مِنَ الفَرْقِ)): يعلمُ أنَّ إثباتَ العُلوّ الحِسِّي لله تعالى، لا ينفكُّ عن إثباتِ الحَدِّ الحِسِّي في حقِّه تعالى، فَلا عُلُوّ بالمسافة إلَّا لمحدودٍ ومُتَناهٍ أي: الجسم، فنَفيُ الحدِّ عنِ الله تعالى يَستلزمُ نفي صفة العُلُوِّ كما صرَّح هو نفسه عندَ قولهِ: ((‌وَمَا ‌لَا ‌حَدَّ ‌لَهُ: لَا يُبَايِنُ المخْلُوقَاتِ، وَلَا يَكُونُ فَوْقَ العَالَمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَدِّ))، وأَئمَّةُ الكُلَّابيَّة وَقُدَماء الأشعريَّة ينفون الحدود والنِّهايات عنه جلَّا وعلا، وَيقولون على - حدِّ زعمِ ابنِ تيميَّةَ - أَنّهُ عزَّ وجلَّ ((بِذَاتِهِ فَوْقَ ‌العَرْشِ، وَلَيسَ بِجِسْمٍ، وَلَا هُوَ مَحْدُودٌ وَلَا مُتَنَاهٍ)) كما مرَّ معكَ كلامه، وعَلَيهِ: فما الَّذي جعلَ ابن تيميَّة يَحشرُ هؤلاءِ الأئمَّة في زُمرةِ المُثبتة للعُلُوِّ الحِسّي في حقِّه تعالى حتَّى مع نَفيِهم الصَّريح لما يقول ابن تيميَّة نفسه أنَّه من لَوازِم صفة العُلُوِّ كالحَدِّ والنِّهايات؟!.

وختاماً، هذه فذلكة بالدَّعاوى العريضة التي أطلقها ابن تيميَّة، قد تفيد الباحث في استيعاب ما هو آت إن شاء الله تعالى:
1. ادَّعى ابنُ تيميَّةَ أنَّ أئمَّة الكلَّابيَّة وقُدماء الأشعريَّة يُثبتون العُلوَّ الحِسِّي في حقِّه تعالى، مع نَفيِهم الحُدود والمُماسَّة والتَّغيُّر والتَّحَوُّل والانتقال وغيرها من معاني الجِسميَّة، وفَسَّر الحرَّاني الاستواءَ عند هؤلاء الأئمَّة: بأنَّ الله خلقَ العرش، ثُمَّ حرَّكه إلى ذاته ليَستويَ عليه، أو أنَّهُ تعالى خلقَه مباشرة تحتَه، فلزم أن يكون هو نفسه جل وعلَّا فَوقَ العرش، مِن غير أن تحُلّه الحوادث.
2. وادَّعى بالمقابل أنَّ مذهب أهل الحديث والسَّلف، أنَّه تعالى فوق العالَم الفَوقِيَّةَ المعروفة أي: "فوقيَّة محدود على محدود"، وأنَّ الله جِسمٌ مُتَناهٍ، مَحدودٌ مِن أسفله بسطح العَالَمِ، حرَّك تعالى نفسه حتَّى (يستويَ!) على العرش، بمُماسَّةٍ ومُلَاصقةٍ للصَّفيحة العُليا منَ العَرش.
3. وَادَّعى أنَّ نفيَ الحدّ الحِسِّي عنِ الله مُستلزم لنفي العُلوّ الحِسِّي، ثمَّ نسبَ العلوَّ الحِسِّي لأئمَّة الكلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة حتَّى مع اعترافه بأنَّهم ينفون لوازم هذا العُلُوِّ أي: ينفون الحدودِ والنِّهايات في حقِّه تعالى!، وهذا ما يضع علامات استفهام كبيرة على طريقة ابنِ تيميَّة في تقرير مذهب أئمَّة الكلَّابيَّة وقُدماء الأشعريَّة في مسألةِ العُلُوِّ.

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... CzQ6FyAtLl

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... f6ZCVCvZpl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس إبريل 25, 2024 10:06 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (5)

- طريقةُ ابن تيميَّة في تصوير (النِّزاع!) بين قُدماءِ الأشاعرة وخَلَفهم في مسألة العُلُوِّ

"ضرب أقوال الفِرق بعضها ببعض" يُعدُّ مِن (التَّكتيكات!) المفضَّلة التي يستعملها ابنُ تيميَّة لأجل نُصرة آرائه العَقديَّة، ومُدافعة حُجج مخالفيه، واستمع إليه وهو يقول: ((وَالْمُنَاظَرَةُ تَارَةً تَكُونُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتَارَةً بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْبَاطِلَيْنِ لِتَبْيِينِ بُطْلَانِهِمَا، أَوْ بُطْلَانِ أَحَدِهِمَا، أَوْ كَوْنِ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ بُطْلَانًا مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّ هَذَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَثِيرًا فِي أَقْوَالِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَأَمْثَالِهِمْ، مِمَّنْ يَقُولُ أَحَدُهُمُ الْقَوْلَ الْفَاسِدَ وَيُنْكِرُ عَلَى مُنَازِعِهِ مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الصَّوَابِ، فَيُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ مُنَازِعِهِ أَحَقُّ بِالصِّحَّةِ إِنْ كَانَ قَوْلُهُ صَحِيحًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ أَحَقُّ بِالْفَسَادِ إِنْ كَانَ قَوْلُ مُنَازِعِهِ فَاسِدًا، لِتَنْقَطِعَ بِذَلِكَ حُجَّةُ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مُهِمٌّ، إِذْ كَانَ الْمُبْطِلُونَ يُعَارِضُونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَقْوَالِهِمْ، فَإِنَّ بَيَانَ فَسَادِهَا أَحَدُ رُكْنَيِ الْحَقِّ وَأَحَدُ الْمَطْلُوبِينَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ تَرَكُوا نُصُوصَ الْأَنْبِيَاءِ لَهَدَتْ وَكَفَتْ، وَلَكِنْ صَالُوا عَلَيْهَا صَوْلَ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَإِذَا دُفِعَ صِيَالُهُمْ وَبُيِّنَ ضَلَالُهُمْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) [دَرءُ تَعَارض العقل والنَّقل (4/206)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة].

وعلى هذا؛ فردُّ الباطل الشَّديد بِالباطل الَّذي هو دونه في المرتبة، يُعدُّ من أساليب المناظرة عند ابن تيميَّة، لأجل هذا تراه في تواليفه يُكثر السِّجالات والمُنازعات والفَنقلَات الوَهميَّة = "فإن قيل: كذا، قيل: كذا"، فينتحلُّ ألسنةَ مَن لا يُسَمِّهم!، وما هي عند التَّحقيق إلَّا أقواله وتفريعاته هو لا غير، ينصبها بين المُثبتة (=المجسَّمة) والنُّفاة (=المنزِّهة) كما يحلو له أن يُلقِّبهم، فيضرب مثلًا قول أهل السُّنَّة الأشاعرة بقول المعتزلة، ويُقابل أقوال المنزِّهة بأقوال المشبِّهة، ويردُّ على الرَّوافض بكلام الخوارج، وهكذا.

ومَن درس تواليف ابنِ تيميَّةَ حقَّ الدِّراسة يعرفُ هذا الأمر جيِّداً، ويُدرك مِصداق ما قاله الإِمَام مُحمَّد العَرْبِي بْنُ التَّبَّانِي الجَزَائِرِي (ت : 1390 هـ) في أسلوب هذا الرَّجل: ((فَهُوَ [=ابْنُ تَيْمِيَّة الحَرَّانِي] فِي رَدِّهِ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ كَفَّرْتُم أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَالَ لَكُمْ الْخَوَارِجُ: وَعَلِيُّ "..." وَلَا تَسْتَطِيعُونَ إِثْبَاتَ إِيمَانِ عَلِيٍّ وَكُفْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَهَذَا الهَذَرُ دَأْبُهُ فِي "مِنْهَاجِهِ" وَغَيْرِهِ مِنْ تَآلِيفِهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى اللَّبِيبِ أَنَّ الهَذَرَ لَيْسَ مِنَ العِلْمِ وَأَدِلَّتِهِ فِي شَيْءٍ، فَاحْتِجَاجُهُ عَلَى الرَّافِضَةِ بِأَبَاطِيلِ الخَوَارِجِ إِنَّمَا هُوَ: مُقَابَلَةُ خَبَثٍ بِمِثْلِهِ)) [بَرَاءَةُ الْأَشْعَريِّينَ مِنْ عَقَائِدِ المُخَالِفِينَ (2/90)، دار المصطفى].

ولقد وظَّف ابن تيميَّة هذا (التَّكتيك!) مرَّات عديدة، خاصَّة في ثنايا كلامه حول صفة العُلُوِّ بين قُدماءِ الأشاعرة وخلَفهم مِن المتأخِّرين.

ولا بأس أن نذكِّر القارئ هنا بمزاعم الحرَّاني في هذا الموضوع:
1. يدَّعي أنَّ أئمَّة الكلَّابيَّة وقُدماء الأشاعرة أثبتوا العلوَّ الحِسِّي في حقِّه تعالى، ونَفَواْ الجِسميَّة.
2. وأنَّ خلَفهم بَدءًا مِن إِمام الحرَمين أبي المعالي الجويني (ت : 478 هـ) فمَن بعده: خالفوا أسلافهم هؤلاء في صفة العُلُوِّ، فَنفواْ العُلُوَّ الحِسِّي والجسميَّة معًا.

وعوَض أن يُبيِّن ابنُ تيميَّة كيف يَتعقَّل من له أدنى ‌مُسْكَة ‌عَقلٍ - فضلًا عن كبار قُدماء الأشاعرة - عُلُوَّ المكان والمحدوديَّة في حقِّ مَن هو مُنزَّهٌ أصلًا عن المكان والمحدوديَّة؟!، تراه يجهد نفسه في محاولة الاستثمار في هذا (التَّباين!) - المزعوم - بين قُدماء الأشاعرة وخلَفهم؛ فيختلق مُساجلات (وَهميَّة!) بَين الفريقين، ويضرب تَقرير هذا بذاك، وتقرير ذاك بهذا، ليَسدَّ الفراغ الَّذي يلاحقه من هذا الجانب، عِوَضَ أن يخوض غمار البحث العلمي في صلبِ الموضوع، ويُقابل الحُجَّة بالحُجَّة ويُناطح الدَّليل بالدَّليل.
والحقيقة هي أنَّ عقيدة الكُلَّابيَّة والأشاعرة الأوائل في مسألة العُلوِّ، لا تختلف عن عقيدة خلَفهم، وإنَّما المشكلة فقط في طريقة تصوير ابنِ تيميَّة لمذهب القوم.

نعم؛ فلمَّا بَيَّن الإمامُ الفَخر الرَّازي (ت : 606 هـ) بأنَّه يَلزمُ مِن إثباتِ العُلُوِّ الحِسِّي والاستواء المكاني لله تعالى؛ إثبات الحَدِّ والنِّهايةِ والحَجْمِ وَالمِساحةِ وغيرها من معاني الجِسميَّة في حقِّه جلَّ وعزَّ، اعترَض عليه ابنُ تيميَّة وذَكَر أنَّ الرَّدَّ على هذه الحُجَّة يكون فِي مَقَامَينِ: ((أَمَّا الأَوَّلُ: فَهُوَ قَولُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ ‌فَوْقَ ‌العَرْشِ ‌وَلَيْسَ ‌لَهُ ‌حَدٌّ وَلَا مِقْدَارٌ وَلَا هُوَ جِسْمٌ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الصِّفَاتِيَّةِ: مِنَ الكُلَّابِيَّةِ، وَأَئِمَّةِ الأَشْعَرِيَّةِ وَقُدَمَائِهِمْ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالطَّوَائِفِ الأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِم، وَأَهْلِ الحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ أُمَمٌ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللهُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ: ‌أَبُو ‌حَاتِمٍ ا‌بْنُ ‌حِبَّانَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الخَطَّابِيُّ؛ البُسْتِيَّانِ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (3/725)، ط. المجمَّع].

فأئمَّةُ الكُلَّابيَّةِ وقُدَماءُ الأشعَريَّةِ والإمامُ الحافظ ابنُ حِبَّان - صاحب "صَحيح ابنِ حبَّان" وغيرها من التَّواليف التي بلغت الآفاق -، والإمامُ الخَطَّابي - صاحب "مَعالم السُّنَن" وغيرها من التَّواليف المعروفة المشهورة -، وكذلك طوائف لا يحصيهم إلَّا الله تعالى - تأمَّل "لا يحصيهم إلَّا الله تعالى"! -: كلُّهم كانوا يُثبتون العُلُوَّ الحِسِّي للرَّبِّ!، ويَنفون عنه تعالى الحَدَّ والمقدار أي: الحَجم وغيرها من معاني الجِسميَّة، ويقولون: هو (بذاته!) تعالى فوق العَرش - فوقيَّةَ مسافةٍ ومكانٍ وجِهةٍ -، ومع ذلك فليس هو بجسمٍ!، هكذا يدَّعي ابن تيميَّة كما ترى.

ثُمَّ حكى الرَّجل مُناظرةً (وَهميَّة!)، حَبَك خيوطها بخياله (الواسع!)، ونصبها بَين مُتقدِّمي الأشعريَّة وَمُتأخِّريهم، بقصد تَوهين التَّلازم البَيِّنِ بين العُلُوِّ الحسِّي والجِسميَّة، فقالَ: ((وَالمقصُودُ: أَنَّ نُفَاةَ الحَدِّ وَالمِقْدَارِ وَالجِسْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إٍنَّهُ عَلَى العَرْشِ، يَقُولُونَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَوْقَ العَرْشِ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُوصَفَ بِتَنَاهِي المِقْدَارِ، كَمَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يُوصَفَ بِالانْقِسَامِ. وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يُوصَفَ عِنْدَهُمْ بِعَدَمِ التَّنَاهِي الَّذِي هُوَ بُعْدٌ لَا يَتَنَاهَى، كَمَا لَا يُوصَفُ عِنْدَهُمْ بِعَدَمِ الِانْقِسَامِ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ لَا يَنْقَسِمُ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنَ العَرْشِ ‌فِي ‌المِقْدَارِ ‌وَالمِسَاحَةِ، أَوْ أَصْغَرُ، أَوْ بِقَدْرِهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَذِهِ اللَّوازِمُ كُلُّهَا إِنَّمَا تَلْزمُ إِذَا فُرِضَ أَنَّ فَوْقَ العَرْشِ مَا هُوَ جِسْمٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ الَّذِي فَوْقَ العَرْشِ لَيْسَ بِجِسْمٍ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْتَلْزِمَ لَوَازِمَ الجِسْمِ، لِأَنَّ الانْقِسَامَ أَوِ التَّنَاهِي وَالتَّحْدِيدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هِيَ لَازِمَةٌ لِلْجِسْمِ وَمَلْزُومَةٌ لَهُ، فَلَا يَكُونُ مُتَنَاهِيًا مَحْدُودًا مَقْسُومًا إِلَّا مَا يَكُونُ جِسْمًا، وَلَا يَكُونُ جِسْمًا إِلَّا مَا جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِالِانْقِسَامِ أَوْ بِقَبُولِ التَّنَاهِي وَالتَّحْدِيدِ وَعَدَمِ ذَلِكَ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (3/737-738)، ط. المجمَّع].

وأضافَ مُنتحلًا لسان قُدماءِ الأشعريَّةِ وكأنَّهم يردُّون على المتأخِّرين - على عادته المعروفة - فقال: ((قَالُوا لِمُنَازِعِيهِم مِنَ النُّفَاةِ: فَإِذَا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، أَوْ إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَقَدْ عَلِمْنَا بِالْفِطْرَةِ والضَّرُورَةِ العَقْلِيَّةِ، وَالأَدِلَّةِ المُتَوَاتِرَةِ السَّمْعِيَّةِ، واتِّفَاقِ سَلَفِ الأُمَّةِ وَخَيْرِ البَرِيَّةِ: أَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ، كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّ الَّذِي فَوْقَ العَرْشِ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ القَائِلِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِياً أَوْ ذَاهِباً فِي الجِهَاتِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْقَسِمًا، أَوْ جَوْهَرًا فَرْدًا: كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّوَازِمُ إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَ الَّذِي عَلَى العَرْشِ جِسْمًا. أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ جِسْمٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ فَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ. وَقَالُوا: هَذَا اللُّزُومُ وَالتَّقْسِيمُ كُلُّهُ مِنْ حُكْمِ الوَهْمِ وَالخَيَالِ، وَبَابُ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِحُكْمِ الوَهْمِ وَالخَيَالِ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (3/738-739)، ط. المجمَّع].

وغرض الحرَّاني من افتعال هذه (المحاورة!) وبهذه الطَّريقة، هو الرَّدُّ على الفَخر الرَّازي، وكأنَّهُ يقول له: إذا كان إثبات العُلُوِّ الحِسِّي والجِهة لله تعالى، يستلزم - عند المتأخِّرين من الأشعريَّة - أن يكون جلَّ وعلا جِسمًا محدوداً وله حَجْمٌ ومِساحةٌ، فهاهم أئمَّتكم قُدماء الأشعريَّة والكلَّابيَّة - الَّذين تَدَّعون الانتساب إليهم -، يُثبتون العُلُوَّ الحِسِّي حتَّى مع نفيِهم الجسميَّة؟!، فإِمَّا أن تتَّهمونَهم: بالجمعِ بين المتناقضات والتَّجسيم!، وإمَّا أن تُقِرُّوا ببُطلان هذا اللُّزوم!، وفي كلا الحالَين يثبت القول بالعُلُوِّ الحِسِّي، ويبطل قولكم في نفي ذلك!.

والحقيقة هنا؛ هي أنَّ ابن تيميَّة يُسفسط ويُراوغ؛ لأنَّ القَول بأنَّ اللهَ فوق العَرش فوقيَّةَ مسافَةٍ، يستلزم القول بأنَّ ذات الرَّبِّ يبدأُ امتداده وانتشاره مِن جانبه التَّحتاني مُباشرةً بعد انتهاء امتداد وانتشار العالَمِ مِن جانبهِ الفَوقَاني، أي بالضَّرورة: إثبات محدوديَّة هذه الذَّات الإلهيَّة منَ الجِهة الَّتي تلي مباشرةً الصَّحيفة العُليا للعالَم أي: سطح العرش، فَعندَ نِهاية حَيِّز وحدود ومِساحة الذَّات التَّحتاني أي: العرش؛ ينطلقُ بعده مُباشرةً حيِّز وحدود ومِساحة الذَّات الفَوقاني أي: "الله" عند ابن تيميَّة، وهذا يقتضي إثبات المماسَّة والملاصقة ولا بُدَّ، إذ ليس هناك "فوق" إلَّا الخالق "واجب الوجود"، وليس تحته إلَّا المخلوق "العالَم الممكن"، ولا شيء يتوَسَّط ذلك، فالنِّسبة بينهما: فوقيَّة جهةٍ مُباشرة بمماسَّةٍ وملاصقةٍ.

إذن: فلا يُعقل عُلُوُّ المكانِ والجِهةِ والمسافةِ إلَّا بين الأجسامِ المحدودةِ المتَحَيِّزة، والعقلُ لا ينسب الجِهة والمكان والعلوَّ الحِسِّي لمن لا يوصف بالحدود والتَّحيُّز والنِّهايات والحجم والمساحة وغيرها من معاني الجِسميَّة، وهذا لأنَّ هذه المعاني شروط ضروريَّة في الوصف بالفَوقيَّة المكانيَّة، وعدَمها في ذاتٍ يعني استحالة وصف هذه الذَّات بالجِهة والمكانِ والعُلُوِّ الحِسِّي.

فمحاولة ابن تيميَّة انتحال لسان قُدماء الأشعريَّة لأجل تمرير هذا الزَّعم القائل: "إذا كان الله ليس بِجسم ولا محدودٍ ولا مُتحَيِّزٍ؛ فلا يُمتَنَع وصفه بالعُلُوِّ الحسِّي": ما هو عند التَّحقيق إلَّا قولٌ سَفسافٌ متناقضٌ، ولا يُتصوَّر صدوره من باقلٍ فضلًا عن عاقل فضلًا عن أئمَّة عباقرة أذكياء تَربَّعوا على عرش المعقول بل وأخذوا بناصية شتَّى العلوم والفنون والأصول، وهذا لأنَّ العُلُوَّ الحسِّي - كما مرَّ معك - لا ينفكُّ عن التَّحيُّز والحدود والمساحة والحجم وغيرها من معاني الجسميَّة، فكيف وقُدماء الأشعريَّة ينفون كلَّ هذه المعاني اللَّازمة في العُلُوِّ الحسِّي وباعتِرافِ ابنِ تَيميَّة نفسه؟!.

والحقُّ أنَّ ابنَ تيميَّة هنا يستعمل أساليبه المعروفة لأجل حشوِ التَّجسيم، فيعمدُ إلى بعض الإطلاقات في كلام هؤلاء الأئمَّةِ؛ فيفهمها بمعزل عن مُحكم أقوالهم، وهذه طريقة من يتَّبعون ما تشابه ابتغاء الفِتنة وابتغاء تكثير السَّواد = "سواد المجسِّمة"، ولقد أصاب في نسبة التَّنزيهِ لأئمَّة الأشعريَّة والكُلَّابيَّة، ولكنَّه افترى عليهم بِنسبتهم إلى مذهب الجِهويَّة.

ثمَّ زَعَمَ ابنُ تيميَّةَ أنَّ هذا القَول - الذي نسبه لقُدماء الأشعريَّة أي: إثبات العُلوِّ الحِسِّي مع نفي الجِسميَّة -: هوَ أصحُّ مِن قول مُتأخِّريهم - نُفاة العُلُوِّ الحِسّي والجِسميَّة معاً -، وفي ثنايا مزاعمه هذه أكمل المناظرة بذكر ردّ مُتأخِّري الأشعريَّة (النُّفاة!) على أئمَّتهم الأوائل في إثبات المباينة بين الخالق والمخلوق بالجهة، وكلّ هذا الأخذ والرَّدّ خيال في خيال!، قَالَ: ((وَلَا رَيْبَ أنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مُنَازِعِيهِمْ مِنَ النُّفَاةِ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَا [الله - العَالَم] مُتَبَايِنَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مُتَحَايِثَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِحَيْثُ الآخَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا عَنْهُ بِالجِهَةِ، فَقَالُوا: لَيْسَ بِكَذَا وَلَا كَذَا، فَنَفَواْ الطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَسَّ بِهِ وَلَا أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالْحِسِّ، فَقِيلَ لَهُمْ: هَذَا أَحْقَرُ مِنَ الجَوْهَرِ الفَرْدِ؟!، فَقَالُوا فِي جَوَابِ ذَلِكَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ جِسْمًا أَوْ لَوْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالحَيِّزِ وَالمِقْدَارِ، ‌وَقَالُوا ‌هَذَا ‌مِنْ ‌حُكْمِ ‌الوَهْمِ وَالخَيَالِ، أَوْ مِنْ حُكْمِ الحِسِّ وَالوَهْمِ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (3/339-340)، ط. المجمَّع].

وبعدها؛ جاء دور ابن تيميَّة ليدليَ بدَلوِه في هذه المناظرة التي اختلقها مِن كيسه، فقالَ: ((فَقَدْ بَيَّنَا فِيمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ كَلَامَ مُنَازِعِيهِم هَؤُلَاءِ أَبْعَدُ عَنِ الخَطَأِ فِي العَقْلِ وَالدِّينِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ: أَعْظَمُ مُخَالَفَةً لِمَا يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ العَقْلِ وَبَدِيهَتِهِ وَفِطْرَتِهِ مِنْ مُنَازِعِيهِم هَؤُلَاءِ، الْمُثْبِتِينَ لِأَنَّ اللهَ عَلَى العَرْشِ، الْمُوَافِقِينَ لَهُمْ عَلَى نَفْيِ الجِسْمِ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (3/340)، ط. المجمَّع]

إذن: فقول قُدَماء الأشعريَّة الَّذين يُثبتون العُلُوَّ الحِسِّي - بزعمه - مع نفيِهم الجسميَّة في حقِّه تعالى: فيه نوع (مُخالفة!) للضَّرورة العقليَّة، ولكن لا تصل مُخالفتهم إلى حدِّ (مُخالفة!) هؤلاء المتأخِّرين الَّذين ينفون العُلُوَّ الحِسِّي والجِسميَّةَ معاً، فمذهب قُدماءِ الأشاعرةِ ((أَبْعَدُ عَنِ الخَطَأِ فِي العَقْلِ وَالدِّينِ)) مُقارنةً بمذهب الأشاعرة المتأخِّرين، فهؤلاء مذهبهم أضلُّ مِن حيث المخالفة للعقل والدِّين، هذا حاصل كلام ابنِ تيميَّة هنا.

ولا تغفل عن أنَّ ابن تيميَّة هنا لم يجعل القول الذي نسبه لقدماء الأشاعرة: عين العقل والدِّين، بل جعله: ((أَبْعَد عَنِ الخَطَأِ فِي العَقْلِ وَالدِّينِ)) فقط، وهذا لأنَّه يعتقدُ أنَّ الله جِسمٌ عالٍ على العرش عُلُوَّ مَكانٍ وجِهةٍ، فهو إذن: يتَّفق معهم من حيثُ قولهم بالعلُوِّ الحسِّي - بزعمه -، ولكنَّه يُفارقهم من حيثُ نَفيهم الجسميَّة عنه تعالى.

ثمَّ إنَّهُ ليس أمام المُثبتة - عند ابن تيميَّةَ - إلَّا القول بالعُلُوِّ الحسِّي مع نفيِ الجسميَّة، أو القول بالعُلُوِّ الحسِّي والجسميَّة معاً، وهذه قسمة حاصرة كما لا يخفى، وبما أنَّه يجدُ نوع (مُخالفة!) للضَّرورة العقليَّة في القولِ بالعُلُوِّ الحسِّي مع نفي الجسميَّة، فلم يبقَ - بالحصر والاستقصاء - إلَّا أنَّهُ يعتقد العُلُوَّ الحسِّي والجسميَّةَ معاً، وهذا مذهبه كما بيَّناه سابقاً.

ثُمَّ قَالَ: ((وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَصْلِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ إِنْ كَان كَثِيراً مِمَّنْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى أَنَّ اللهَ عَلَى العَرْشِ، أَوْ عَلَى نَفْيِ الجِسْمِ، يَقُولُ: إِنَّ هَذَا القَوْلَ مُتَنَاقِضٌ، وَيَصِفُهُمْ بِالتَّنَاقُضِ فِي ذَلِكَ، فَالنُّفَاةُ أَعْظَمُ تَنَاقُضًا مِنْهُمْ، وَأَعْظَمُ مُخَالَفَةً لِمَا يُعْلَمُ بِالاِضطِّرَارِ فِي العَقْلِ وَالدِّينِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ مُخَالَفَةً لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (3/340)، ط. المجمَّع] إذن: فنُفَاةُ العُلُوِّ الحِسّي والجسميَّةِ معًا - وهم مُتأَخِّرو الأشعريَّةِ حسب تقسيم ابن تيميَّة -: هم أعظمُ مخالفةً للضَّرورة العقليَّة وصريح النُّصوص الشَّرعيَّةِ، من أُولئكَ الَّذين يُثبتون العُلُوَّ الحِسّي مع نفيِ الجِسميَّة - وهم متقدِّمو الأشعريَّة بزعمه -، وهذا من ابن تيميَّة إقرار ضمني بأنَّ مذهب قُدماء الأشعريَّةِ - كما صوَّرهُ هو -: فيه نوع تناقضٍ ومُصادمةٍ لصريح المعقول وصحيح المنقول!.
وإذا كان ابنُ تيميَّة راضٍ بنسبةِ العُلوِّ الحسِّي كمذهب لقُدماءِ الأشعريَّة، فلم يبق لرميه لهم بالتَّناقض - بعد فرض صحَّة هذه النِّسبة - إلَّا أنَّهُ غير راضٍ على نفيِهم الجسميَّة عنه تعالى، ومعنى هذا أنَّ ابن تيميَّة يرى العُلُوَّ الحسِّي يستلزمُ الجِسميَّة، وأنَّ إثبات الأوَّل مع نفي الثَّاني فيه: نوع تَناقضٍ، ولكنَّه أخفُّ من تناقض نُفاةِ العُلُوِّ الحِسِّي والجِسميَّةِ معاً، هذا حاصل كلام ابن تيميَّة.

ولتنظر إلى حكايته هذا التَّناقض على لسان غيره، مع أنَّ هذا قوله هو لا غير، وهذا من أساليبه المعروفة، حيثُ ينتحل لسان الغير ليُمرِّر ما يراه، ولتقارن صنيعه هنا بتقريره هو نفسه حين خاطب مُخالفيه قائلًا: ((وَمَنْ أَرَادَ أَنْ ‌يَنْقُلَ ‌مَقَالَةً ‌عَنْ ‌طَائِفَةٍ فَلْيُسَمِّ الْقَائِلَ وَالنَّاقِلَ، وَإِلَّا فَكُلُّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى الْكَذِبِ)) [مِنهاجُ السُّنَّة (2/518)، تحقيق: محمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جَامِعة محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة]، وهذا أصلٌ علميٌّ متينٌ في المنهجيَّة العِلميَّة، وليته التزمه في ردوده على أهلِ السُّنَّة الأشاعرة.

ثمَّ قال ابنُ تيميَّة: ((وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ فِيهِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مُثْبِتُو الحَدِّ وَالمِقْدَارِ وَالتَّحَيُّزِ وَالجِهَةِ، وَفِيهِ مَا يَحْتَجُّ بِهِ نُفَاةُ الجِسْمِ وَالتَّحَيُّزِ وَالجِهَةِ أَيْضًا، فَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ أَوْ أَنَّ لَهُمْ قَوْلَيْنِ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (3/340)، ط. المجمَّع] فها هو يُصرِّح الآن بأنَّ كلام قُدماء الأشعريَّة في إثبات العُلُوِّ الحِسِّي - بزعمه -: فيه حُجَّة لمُثبتةِ الجِسم في حقِّه تعالى، وهذا لأنَّ إثباتَهم الجِهة - بزعمه - كان ينبغي أن يستلزم عندهم إثبات الجِسميَّة أيضاً، وَأنَّ - بالمقابل -: كلامهم في نفيِ الجسميَّة عن الله: فيه حُجَّة لنُفَاةِ العُلُوِّ الحِسِّي، لأنَّ نفيَهم للجِسميَّة يستلزم القول بنَفيِ الجِهة، لأجل هذا فقد قيل عن قُدَماء الأشعريَّة في مسألة العُلُوِّ: ((إِنَّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ أَوْ أَنَّ لَهُمْ قَوْلَيْنِ))، هذا حاصل كلام ابن تيميَّة هنا.

وفي الحقيقة هذا (التَّناقض!) الَّذي نسبه ابن تيميَّة إلى قُدماء الأشعريَّة، كان يكون له معنًى؛ لو أنَّه صَحَّ ما زعمه في حقِّهم من إثبات العُلُوِّ الحِسِّي، ولكنَّ زعمه غير صحيحٍ، والتَّناقص - المزعوم - ليس لو من وُجود إلَّا في الدَّعاوى العريضة الَّتي أطلقها هو في حقِّ القوم، ولا وجود له في الحقيقة وعند التَّحقيق.

ثمَّ أخذَ ابنُ تيميَّة يدلِّل على ما ذهب إليه هنا، بذكر بعض كلام الإمام أبي الحسن الأشعري في إثبات صفة العُلُوِّ بنقل نصوص من كتابه "الإبانة"، وادَّعى أنَّ هذه النُّصوص التي احتجَّ بها الإمام في هذه المسألة؛ هي نفسها النُّصوص التي تدلُّ على إثبات الحدود والحيِّز وغيرها من معاني الجسميَّة في حقِّه تعالى [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (3/341 إلى 751)، ط. المجمَّع]، وهذا فيه اتِّهام مُبطن للإمام الأشعري بالتَّناقُص عند إثبات العُلُوّ الحسِّي - بزعمه - مع نفيِ لازمه أي: معاني الجسميَّة، وهذا لأنَّ العلوَّ عندَ ابنِ تيميَّة لا ينفكُّ عن معاني الجِسمِيَّة.

إلى حدِّ هنا؛ انتهى ابن تيميَّة في ردِّه على الفخر الرَّازي، مِن الكلام على هذا "المقام الأوَّل"، الَّذي يمثِّله هذا "الفريق الأوَّل"، أي: قُدماء الأشاعرة الَّذين يُثبتون العُلُوَّ الحسِّي - بزعمه - وينفون الجسميَّة في حقِّه تعالى.
ثمَّ جاء الدَّور للكلام عن "المقام الثَّاني"، ويمثِّله "الفريق الثَّاني"، أي: الَّذين يُثبتون العُلُوَّ الحِسِّي أيضاً كهؤلَاءِ، ولكنَّهم يُخالفونَهم مِن حيثُ أنَّهم لَا يَنفونَ الحَدَّ والحَجم والمساحة والنِّهاية والأبعاد وأصل الجسميَّة عن ربِّهم، لأجل هذا جَعلَ ابنُ تيميَّة هذا "الفريق الثَّاني" - مثبتة الجسميَّة - مُقابل "الفريق الأوَّل" - نُفاة الجسميَّة -:
قال ابنُ تيميَّةَ: ((وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: فَكَلَامُ مَنْ لَا يَنْفِي هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْهِ نُفَاةُ الْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ، لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ بَلْ قَدْ يُثْبِتُهَا أَوْ يُثْبِتُ بَعْضَهَا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، أَوْ لَا يَتَعَرَّضُ لَهَا بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَهَذَا الْمَقَامُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ أَسَدُّ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ، حَيْثُ ائْتَمُّوا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقَرُّوا بِفِطْرَةِ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ، فَلَمْ يُغَيِّرُوا، وَجَعَلُوا كُتُبَ اللَّهِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا رُسُلَهُ هِيَ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ الْمُجْمَلُ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ النُّفَاةُ فَفَصَّلُوا مُجْمَلَهُ، وَلَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَى لَفْظٍ مُجْمَلٍ قَدْ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ مَعْنًى حَقٍّ، وَلَا وَافَقُوهُمْ أَيْضًا عَلَى نَفْيِ الْمَعَانِي الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ وَالْعَقْلُ، وَإِنْ شَنَّعَ النُّفَاةُ عَلَى مَنْ يُثْبِتُ ذَلِكَ، أَوْ عَزَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي أَدِلَّتِهِمْ وَأُصُولِهِمْ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (3/751)، ط. المجمَّع].

إذن: هذا "الفريق الثَّاني" - وهم السَّلف عند ابن تيميَّة -، لا يوافقون "الفريق الأوَّل" - نُفاة الجِسم "الأشاعرة" - على ((نَفْيِ الْمَعَانِي الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ وَالْعَقْلُ)) أي: لا يوافقوهم على نفي الحجم والمساحة والجسم والحيِّز والحدود عنه تعالى، فهي معاني دلَّ عليها العقل والنَّقل!، فنفيها ((لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)) بتعبير ابن تيميَّة!.

وتأمَّل هُنا أنَّ ابن تيميَّة يتكلَّم عن المعاني المندرجة تحت هذه الألفاظ، ولا يتكلَّم عن إطلاق الألفاظ مُجرَّدة كما لا يخفى، فهو يقصد المعاني لا المباني.
إذن: عقيدة سَلف الأمَّة وأئمَّتها وَجَمَاهِير أَهْلِ الْحَدِيثِ: أنَّ الله بذاته فوق العرشِ؛ فوقيَّةَ: جسمٍ على جسمٍ!، ومحدودٍ على محدودٍ!، ومُتحيِّزٍ على مُتحيِّزٍ!، وذي حَجمٍ على ذي حَجمٍ!، ومُتناهٍ على مُتناهٍ!، وذِي مِساحةٍ على ذِي مِساحةٍ!، هذا حاصل تقرير ابن تيميَّة هنا.

هكذا عرض ابنُ تيميَّة ردَّه على الإمام الرَّازي في مسألة استلزام الجِهة للجسميَّة، والخلاصة أنَّه جعل ردَّه في مقامين:
- المقام الأوَّل: ادَّعى أنَّ إثبات الجِهة مع نفي الجسميَّة هو مذهب قُدماء الأشاعرة!، وعليه: أين سيذهب الرَّازي بهذا الاستلزام وفيه مُصادمة صريحة لمذهب أئمَّته؟!.
- المقام الثَّاني: جعلَ التزام مَعاني الجسميَّة والجهة معاً هو مذهب السَّلف وأهل الحديث!، وحاشاهم من هذا الاعتقاد الفاسد، ولكنَّه مذهبه هو الذي يقول به وينصره.

فتحصَّل مِن هذا أنَّ الرَّجل حاول دفع صولة باطل - بزعمه - بباطل يحسبه - بزعمه - أقلّ منه، كما تجده في نصِّه أعلاه، مع أنَّهُ هو نفسه قال: ((وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَدْفَعَ الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ، مِنْ أَقْوَالِ الْكٌفَّارِ وَغَيْرِهَا، بِالْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ؛ بَلْ أَمَرَنَا أَنْ نَكُونَ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَدَاءَ لِلَّهِ، وَأَن لَّا نَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَلَا نَقْفُوا مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ... وَلَيْسَ مِنَ الْأَحْسَنِ أَنْ يُدْفَعَ الْبَاطِلُ بِالْبَاطِلِ... وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّ بِهِ السَّلَفُ، وَالْأَئِمَّةُ، أَهْلَ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ - وَإِنْ جَادَلُوا الْكُفَّارَ وَأَهْلَ الْبِدَعِ - أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ فِي الْحُجَجِ وَفِي الْأَحْكَامِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا، وَاحْتَرِسْ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَوَقَّاهُ تَخَلَّصَتْ لَهُ السُّنَّةُ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَالْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْحُجَجُ الصَّحِيحَةُ مِنَ الْفَاسِدَةِ، وَنَجَا مِنْ ضَلَالِ الْمُتَفَلْسِفِينَ، وَحَيْرَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (1/394-395)، ط. المجمَّع].

وقالَ: ((وَالَّذِينَ نَاظَرُوا هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ رُبَّمَا زَادُوا فِي الْمُنَاظَرَةِ نَوْعًا مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْأَكْثَرِ عَلَى الْحَقِّ، فَكَثِيرًا مَا يَرُدُّ مَنَاظِرُ الْمُبْتَدِعِ بَاطِلًا عَظِيمًا بِبَاطِلٍ دُونَهُ، وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ، وَيَأْمُرُونَ بِالِاقْتِصَادِ وَلُزُومِ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ، وَأَن لَّا يُرَدَّ بَاطِلٌ بِبَاطِلٍ دُونَهُ)) [جَامِعُ الرَّسائِل (8/237)، دار عالَم الفوائد].

وقال: ((كَانَ السَّلَفُ وَالأَئِمَّةُ يَذُمُّونَ أَهْلَ الكَلَامِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِمِثْلِ هَذَا الكَلَامِ المُشْتَمِلِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ البَاطِلِ، وَيَمْنَعُونَ أَنْ تُرَدَّ بِدْعَةٌ بِبِدْعَةٍ، وَيُقَابَلَ ‌البَاطِلُ ‌بِالبَاطِلِ، وَيُرَدَّ الفَاسِدُ بِالفَاسِدِ)) [الصَّفَديَّة (1/163)، تحقيق: الدُّكتور محمَّد رَشاد سالم، مكتبة ابنِ تيميَّة].

وقال: ((مَنِ اسْتَدَلَّ بِالْبَاطِلِ فَهُوَ مُبْطِلٌ، وَمَنْ رَدَّ ‌البَاطِلَ ‌بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الدَّلِيلَ بَاطِلٌ فَهُوَ مُبْطِلٌ، وَمَنْ أَجَابَ عَنِ البَاطِلِ بِبَاطِلٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ السُّؤَالَ بَاطِلٌ فَهُوَ مُبْطِلٌ، وَكُلُّ مُبْطِلٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنْقَطِعًا إِذَا بُيِّنَ بُطْلَانُهُ)) [تنبيه الرَّجل العاقِل على تمويه الجدل الباطل (1/210)، ط. دار عالَم الفوائد].

وما ذكره ابن تيميَّة في هذه النُّصوص الأخيرة، هو المنهج العلمي الَّذي ينبغي أن يلتزمه كلّ مُناظر وباحث عن الحقِّ، وليته استمسك به في ردوده على أهل السُّنَّة الأشاعرة، ولكنَّه - وللأسف - أخذه التَّحامل إلى ما ترى وإلى ما سوف ترى، نسأل الله السَّلامة والعافية.

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... XF6YevCYXl

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... 5RZpNvRoBl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء إبريل 30, 2024 11:12 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (6)

- مناقشة ما نسبه ابنُ تيميَّةَ لأئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة في مَسألةِ العُلُوِّ الحِسِّي

1) سيفُ السُّنَّة ولِسانُ الأمَّة أبو بَكرٍ بْنُ الطَّيِّبِ البَاقِلَّانِي (ت : 403 هـ):

يُكثر ابنُ تيميَّةَ وأتباعه مِن الاستشهاد بكلام الإمام الباقلَّاني في إثبات صِفة العُلُوِّ، ويعتمدون على نصٍّ ذكره الإمامُ في كلٍّ من كتابَيه: "التَّمهيد" و"الإبانة"، ويستنبطون منه أنَّه كان على عقيدتهم في إثبات العُلُوِّ الحِسِّي والجِهة لله!.

والغريب؛ أنَّه لا يُعرف قبل ابن تيميَّة مَن نسب للقاضي الباقلَّاني هذه العقيدة المتناقضة؛ أعني: "إثبات العُلُوِّ الحِسِّي لله مع نفي الجِسميَّة عنه تعالى"، بل تواليف الرَّجل الَّتي بين أيدينا، وتلامذته - وهم أعرف النَّاس بمذهب شيخهم -؛ على نقيض مزاعم ابن تيميَّة.

- أَوَّلًا: كتاب "الإبانة" و "التَّمهيد" للقاضي الباقَّلاني:
أمَّا عن "الإبانة"؛ فالظَّاهر أنَّه من تواليف القاضي المفقودة، وليس في مُتناول الفقير معلومات أكثر حوله، وقد رجَّح بعضهم أنَّ يكون الأمر قد التبس على ابن تيميَّة، وأنَّ المراد به كتاب "الإبانة" لأبي الحَسن الأشعري، وهذا الأمر مستبعد، والله أعلم بالحال.

وأمَّا عن "التَّمهيد"؛ فقد طُبعَ عدَّة طبعاتٍ:
1. طبعه محمود محمَّد الخضيري ومحمَّد عبد الهادي أبو ريدة - نشرة دار الفكر العربي بالقاهرة: 1947م، وفي هذه الطَّبعة نقص كبير نظرا لفقر الأصول الخطِّيَّة المعتمدة.
2. طبعه الأب رتشرد يُوسف مكارثي اليَسُوعي - المكتبة الشَّرفيَّة ببيروت: 1957م، وقد اعتمد على أصول خطِّيَّة أكمل على ما يبدو، وتُعدُّ هذه الطَّبعة من أحسن الطَّبعات بالنِّسبة لغيرها.
3. طبعه عِماد الدِّين أحمد حيدَر- مؤسَّسة الكُتب الثَّقافيَّة ببيروت: 1987م، وفي الطَّبعة حذف لا ينبغي حسب ما ذكره الأستاذ الحبيب بن طاهر.
والنَّصُّ الَّذي اعتمد عليه ابن تيميَّة موجود في طبعة "الأب مكارثي" دون باقي الطَّبعات.

ولقد فرح الوَهَّابيَّة أيُّما فرحٍ بهذا النَّقل، وراحوا يتَّهمون مخالفيهم بالتَّزوير وغيرها من الأمور، وصبُّوا جام غضبهم على الإمامِ الكوثري؛ كونه نفى قطعاً ما نسبه ابن تيميَّة للإمام الباقلَّاني في هذا الكتاب، ولقد سأل المحقِّقان الخضيري وأبو ريدة الإمامَ الكوثري عن هذا العزو التَّيمي؛ فأجاب بقوله: ((لَا وُجودَ لشيءٍ مِمَّا عَزاه ابنُ القيِّم إلى كِتابِ "التَّمهِيد" في كِتابِ "التَّمهِيد" هَذَا، وَلَا أَدْرِي مَا إِذَا كَانَ ابنُ القَيِّم عَزَا إِليهِ مَا لَيسَ فِيه زُوراً ‌ليُخادِع ‌المسلمينَ ‌في ‌ِنحلَتِهِ، أم ظَنَّ بِكتابٍ آخَر أنَّه كِتاب "التَّمهِيد" للبَاقلَّاني)) [التَّمهيد (ص: 265)، تحقيق: الخضيري وأبو ريدة، دار الفكر العربي]، وقد يكون الإمام الكوثري تسرَّع في حكمه هذا؛ إذ عدم وجود النَّص في النُّسخة التي بين يديه؛ لا يستلزم بالضَّرورة عدم وجوده في الأصول الخطيَّة الأخرى كما لا يخفى، وليُراجع للمزيد في الموضوع [نَشأةُ الأشعريَّة وتطوُّرُها للدُّكتور جلال محمَّد موسى (ص: 331 فما بعد)، ط. دار الكتاب اللُّبناني: بيروت] وكذلك طبعة الحبيب بن طاهر لكتاب [الإنصاف للباقلَّاني (ص: 107)، ط. دار مكتبة المعارف: بيروت].

لأجل هذا؛ سنعتمد في هذه المباحثة على طبعة الأب "مكارثي" لكتاب "التَّمهيد"، وكذلك "الإنصاف فِيما يَجبُ اعتِقادُه ولَا يَجوزُ الجَهلُ به" للإمام أيضاً، وهو المعروف باسم "الرِّسالةِ الحُرَّة"؛ وهذا بقصد استجلاء عقيدة القاضي أبي بكرٍ الباقلَّاني في هذه المسألة.

- ثانياً: سبب تأليفه كتاب "تَمْهِيد الأَوَائِلِ وتَلخِيص الدَّلَائِلِ":
ذَكَرَ الحافِظُ ابنُ عساكِر نقلًا عنِ الإمامِ أبي عبدِ الله الكَلَاعي المَايُرْقِيِّ أنَّ المَلِكَ دَفع ابْنَهُ للقاضي الباقِلَّاني: ((يُعَلِّمُهُ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَلَّفَ لَهُ كِتَابَ "التَّمهِيدِ"، فَتَعَلَّقَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِهِ تَعَلُّقًا شَدِيداً)) [تَبِيينُ كَذِب المُفتَري (ص: 268-269)، ط. دار التَّقوى] فالكتاب إذن جارٍ على أصول أهل السُّنَّة والجماعة السَّادة الأشاعرة، في تنزيه الله عن الجِهة والمكان وغيرها من سمات المُحدثات، لأجل هذا تعلَّقوا به ودرَّسوه وشرحوه، ومن هؤلاء الذين شرحوه: الإمامُ القاضي عبدُ الجَليلِ الرَّبَعي القَيرَوانِي المالِكي الأشعري (كان حيًّا عام 478 هـ)، وشرحه سمِّي بـ: "التَّسديد في شرحِ التَّمهيد"، وقد طُبع مؤخَّرا.

- ثالثًا: نسبة ابن تيميَّة وتلامذته عقيدة العُلُوِّ الحِسِّي والجِهَة للقاضي أبي بَكْرٍ الباقلَّاني:
قالَ ابنُ تيميَّةَ الحرَّانيُّ: ((قَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ البَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ "التَّمْهِيدِ" وَفِي "الإِبَانَةِ": "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟ قِيلَ لَهُ: مَعَاذَ اللَّهِ !؛ بَلْ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى﴾ [طه : 5]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فَاطر : 10]، وَقَالَ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ [الملك : 16]". وَقَالَ: "وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَكَانَ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ وَفَمِهِ وَالْحُشُوشِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا، وَلَوَجَبَ أَنْ ‌يَزِيدَ ‌بِزِيَادَةِ ‌الْأَمْكِنَةِ إذَا خَلَقَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا إذَا بَطَلَ مِنْهَا مَا كَانَ، وَاحْتِيجَ أَنْ يُرْغَبَ إلَيْهِ نَحْوَ الْأَرْضِ وَإِلَى خَلْفِنَا وَإِلَى يَمِينِنَا وَإِلَى شِمَالِنَا، وَهَذَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ")) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (4/486-487)، ط. المجمَّع] وتجدُ نصَّ الإمام الباقلَّاني في كتابه [التَّمهيد (ص: 260)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة].

ثمَّ قال ابنُ تيميَّة بعد هذا النَّقل: ((وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْأَيْدِيَ إِنَّمَا تُرْفَعُ إِلَى اللَّهِ نَفْسُهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ رَفْعُهَا إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا اخْتُصَّ رَفْعُهَا بِجِهَةِ الْعُلُوِّ لِأَنَّ اللَّهَ هُنَاكَ، إِذْ لَوْ لَمْ تَجِبْ صِحَّةُ رَفْعِهَا إِلَى جِهَتِهِ لَمْ يَجِبْ إِذَا كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَصِحَّ أَنْ يُرْغَبَ إِلَيْهِ إِلَى نَحْوِ الْأَرْضِ وَإِلَى خَلْفِنَا وَأَيْمَانِنَا وَشَمَائِلِنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا لَزِمَ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبْلَغُ مِنْ جَوَازِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (4/487-488)، ط. المجمَّع] إذن: فالأيدي تُرفع إلى جِهة السَّماء عند الدُّعاء؛ لأنَّ الله هناك فوق العالَمِ فوقيَّةَ جِهَةٍ ومسافَةٍ، بحيثُ يصحُّ أن يُشارَ إلى جِهَتهِ تعالى إشارة حِسِّيَّة!. هكذا يفسِّر ابنُ تيميَّة كلام القاضي الباقلَّاني هنا كما ترى.

وَقَالَ ابنُ تيميَّة في موضِعٍ آخر بعدَ أن ساق النَّقل نفسه: ((فَقَدْ وَافَقَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ [=الباقلَّانِيِّ] لِأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَجَعَلَ مُقَابِلَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ، لَمْ يَجْعَلْ مُقَابِلَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، فَإِنَّ الْأَقْسَامَ أَرْبَعَةٌ لَيْسَ لَهَا خَامِسٌ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُدَاخِلًا لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا وَمُدَاخِلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا مُبَايِنًا وَلَا مُدَاخِلًا.

فَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا مُقَابَلَةَ الْمُدَاخَلَةِ: الْمُبَايَنَةَ، وَلَمْ يَقُولُوا: لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ طَوَائِفِهِمْ)) [درءُ تعارض العقل والنَّقل (6/207)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية] فالإمامُ الباقلَّاني جَعل الاتِّصال الحِسِّي في حقِّه تعالى يُقابل الانفصال بالمسافة عن المخلوقات، فأثبت هذا الثَّاني ونفى الأوَّل، فأثبتَ بينونة الجِهة والمسافة، أي: ‌البَيْنُونَة بِالْعُزْلَةِ، فتعالى أن يكون بذاته في كلِّ مكانٍ داخل العالَم، بل (مكانه!) تعالى هناك = "على العرش"، هذا حاصل الدَّعوى التي أطلقها ابنُ تيميَّة في حقِّ القاضي الباقلَّاني الأشعري وشيخ مذهبه الإمام أبي الحَسن الأشعري كما تجده في كلامه هنا!.

وَلقد كرَّر ابنُ تيميَّة الاحتجاج بهذا النَّقل في [بيان تلبيس الجَهميَّة (5/71 فما بعد)، ط. المجمَّع]، وَكذلكَ في الفَتوى الحَمَوِيَّة حيثُ قَالَ: ((وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ ‌الْبَاقِلَانِي الْمُتَكَلِّمُ - وَهُوَ أَفْضَلُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ؛ لَيْسَ فِيهِمْ مِثْلُهُ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ - قَالَ فِي كِتَابِ "‌الْإِبَانَةِ " تَصْنِيفُهُ)) [الفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرى ضمن مَجموع الفتاوى (5/65)، ط. دار الوَفاء] ثمَّ ذكر قوله في الصِّفات، وأعقبه بقوله هذا في العُلُوِّ، ثمَّ قال: ((وَقَالَ فِي كِتَابِ "التَّمْهِيدِ" كَلَامًا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، لَكِنْ لَيْسَتْ النُّسْخَةُ حَاضِرَةً عِنْدِي، وَكَلَامُهُ وَكَلَامُ غَيْرِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ لِمَنْ يَطْلُبُهُ، وَإِنْ كُنَّا مُسْتَغْنِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ)) [الفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرى ضمن مَجموع الفتاوى (5/66)، ط. دار الوَفاء] وعلى هذا التَّصريح؛ فيفترض مِن ابن تيميَّة أنَّه كان على إلمامٍ تامٍّ بكتاب "التَّمهيد" للقاضي الباقِلَّاني، بل ويفترض منه أيضًا أنَّه قد استخلص الدَّعوى العريضة الَّتي أطلقها في حقِّه؛ بعد استقراءٍ تامٍّ وبحثٍ وتقصٍّ لنُصوص الرَّجل في المسألة، على الأقل في كتاب "التَّمهيد" الَّذي نقل منه النَّص أعلاه!.

وَبنَفس الطَّريقة زَعَم تلامذة الحرَّاني؛ على غرار ابن القيِّم كما تجده فِي العديد من تواليفه، ومنها قوله: ((قَالَ فِي كِتَابِ "التَّمْهِيد فِي أُصُولِ الدِّينِ" - وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ كُتُبِهِ -...الخ)) [اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 459) فما بعد - ط. دار عطاءات العلم] وَذكر نصَّ الباقلَّاني أعلاه، وَقال أيضا: ((وَقَالَ لِسَانُ المُتَكَلِّمِينَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنِ ‌البَاقِلَّانِيِّ فِي كِتَابِ "الإِبَانَةِ" وَ "التَّمْهِيدِ" وَغَيْرِهِمَا...الخ)) [الصَّواعقُ المُرسلة (2/846)، ط. دار عطاءات العلم] وَذكره أيضاً؛ بل وزَعَمَ فِي نُونِيَّتِهِ قَائِلًا:
وَكَذَلِكَ القَاضِي أبُو بَكْرٍ هُوَ ابْـ *** ـنُ ‌البَاقِلَّانِيُّ قَائِدُ الفُرسَانِ
قَدْ قَالَ فِي "تَمْهِيدِهِ" وَرَسَائِلٍ *** وَالشَّرحِ ما فِيهِ جَلِيُّ بَيَانِ
فِي بَعْضِهَا حَقًّا عَلَى العَرشِ ‌اسْتَوى *** لَكِنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى الأكْوَانِ
وأتَى بِتَقْرِيرِ العُلُوِّ وَأَبْطَلَ "الـ *** ـلَّام" الَّتي زِيدَتْ عَلَى القُرْآنِ
مِنْ أوْجُهٍ شَتَّى وَذَا فِي كُتْبِهِ *** بَادٍ لمَنْ كَانَتْ لَهُ عَيْنَانِ
[الكَافِية الشَّافِية (2/397 إلى 399) الأبيات: من 1444 إلى 1448، ط. دار عطاءات العلم] وعلى كلام ابن القيِّم هُنا، يفترض أن يكون القاضي الباقلَّاني مُوافقًا لعقيدة التَّيميَّة في إثبات العُلُوّ الحِسِّي والاستواء المادِّي في حقِّه جلَّ وعزَّ، وإلَّا فما معنى احتجاجه بمذهب الرَّجل إذا كان يجري على خلاف مشربه المعروف؟!.

ومقصود ابنُ القيِّم بقوله: ((وَأَبْطَلَ "اللَّام" الَّتي زِيدَتْ عَلَى القُرْآنِ)): نفي تفسير الاستواء بالاستيلاء، وقد نقل ابنُ القيِّم نصَّ القاضي الباقلَّاني في هذا الشَّأن، وهو قوله: ((وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ *** مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقَهْرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى ‌لَمْ ‌يَزَلْ ‌قَادِرًا ‌قَاهِرًا عَزِيزًا مُقْتَدِرًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف : 54] يَقْتَضِي اسْتِفْتَاحَ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ)) [اجتماعُ الجيوش الإسلاميَّة (ص: 461-462) - ط. دار عطاءات العلم]، ونَّصُّ الباقلَّاني هذا - الَّذي يحتفي به ابن القيِّم - موجود في كتابه [تَمهيد الأوائِل (ص: 262)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة]، وقد تناقله بعده بعض أيمَّة الإسلام من السَّادة الأشاعرة وأخذوا بمضمونه، على غرار الإمام ابن بطَّال المَالِكِي (ت : 449 هـ) في [شَرح صحِيح البخارِي (10/447-448)، مكتبة الرُّشد]، والقاضي أبو الوَليد ابن رُشد الجدّ المَالِكِي (ت : 520 هـ) في [البَيان وَالتَّحصيل (16/369)، ط. دَارُ الغَرب الإسلامي]، وغيرهما.

وكلام القاضي هنا ظاهر في التَّفويض، وقد يبدو مِنه أنَّه كان أميَل إلى اعتبار الاستواء صفة ذاتٍ لا فِعلٍ، ولكنَّه جرى في كتابه "الإنصاف" على غير هذه الطَّريقة، كما سيأتي معنا.

ونقل أيضاً الحافظُ الذَّهبي عن القاضي الباقلَّاني في كتابه "الإبانة" أنَّه قال: (("فَإِن قِيْلَ: فَهَلْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَان؟ قِيْلَ: مَعَاذَ اللهِ !؛ بَلْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ". إِلَى أَنْ قَالَ: "وَصِفَاتُ ذَاتِهِ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يزَالُ مَوْصُوفاً بِهَا: الحَيَاةُ وَالعِلْمُ وَالقُدرَةُ وَالسَّمْعُ وَالبَصَرُ وَالكَلَامُ وَالإِرَادَةُ وَالوَجْهُ وَاليدَانِ وَالعَيْنَانِ وَالغَضَبُ وَالرِّضَى")) [سِيَر أعلام النُّبلاء (17/558-559)، ط. الرِّسالة] ثُمَّ قالَ الذَّهبيُّ: ((فَهَذَا نَصُّ كَلَامِهِ. وَقَالَ نَحْوَهُ فِي كِتَاب "التَّمْهِيدِ" لَهُ، وَفِي كِتَاب "الذَّبِّ عَنِ الأَشْعَرِيِّ". وَقَالَ: "قَدْ بَيَّنَّا دِينَ الأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تُمَرُّ كَمَا جَاءت بِغَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تحَدِيدٍ وَلَا تجْنِيسٍ وَلَا تَصْوِيرٍ")) [سِيَر أعلام النُّبلاء (17/559)، ط. الرِّسالة] وهذا ظاهرٌ في نفيِه الجِسمِيَّة، ثمَّ قَالَ الحافظُ الذَّهبي: ((قُلْتُ: فَهَذَا المَنْهَجُ هُوَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ، وَهُوَ الَّذِي أَوضَحَهُ أَبُو الحَسَنِ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ التَسْلِيمُ لنُصُوصِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ البَاقِلَّانِيّ، وَابْنُ فُوْرَكَ، وَالكِبَارُ إِلَى زَمَن أَبِي المعَالِي، ثُمَّ زَمَنِ الشَّيْخ أَبِي حَامِدٍ، فَوَقَعَ اختلَافٌ وَأَلْوَانٌ، نَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ)) [سِيَر أعلام النُّبلاء (17/559)، ط. الرِّسالة] ولا يخفى أنَّ الحافظ الذَّهبي هنا؛ يردِّد - بشكلٍ ما - نفس كلام شيخه ابن تيميَّة في حقِّ الإمام أبي المعالي الجويني، حيث قال: ((فَإِنَّهُ غَيَّرَ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقَوَاعِدِ، وَمَالَ إِلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ لِكُتُبِ أَبِي هَاشِمِ بْنِ الْجُبَّائِيِّ، وَكَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِمَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَعَ بَرَاعَتِهِ وَذَكَائِهِ فِي فَنِّهِ)) [بيانُ تلبيس الجهميَّة (5/507-508)، ط. المجمَّع]، وهو اتِّهامٌ باطلٌ لا يقوم على ساق عند عرضه على المحكِّ العلمي.

- رابعًا: نصوص صريحة للقاضي الباقلَّاني في نفي الجِهة والمُجاورة والمقابلة وغيرها من معاني الجِسميَّة في حقِّه تعالى:

قال القَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الطَّيِّبِ البَاقِلَّانِيُّ الأَشْعَرِيُّ المَالِكِيُّ: ((فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيفَ هُوَ؟ قِيلَ لَهُ: إِنْ أَرَدتَّ بِالْكَيْفِيَّةِ: التَّرْكِيبَ وَالصُّورَةَ وَالجِنْسِيَّةَ، فَلَا صُورَةَ لَهُ وَلَا جِنْسَ فَنُخْبِرُكَ عَنْهُ. وَإِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ " كَيْفَ هُوَ" أَيْ: عَلَى أَيِّ صِفَةٍ هُوَ؟ فَهُوَ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصيرٌ. وَإِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ " كَيْفَ هُوَ" أَيْ: كَيْفَ صُنْعُهُ إِلَى خَلْقِهِ؟ فَصُنْعُهُ إِلَيْهِم: العَدْلُ وَالإِحْسَانُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَيْنَ هُوَ؟ قِيلَ لَهُ: الْأَيْنُ سُؤَالٌ عَنْ الْمَكَانِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَحْوِيَهِ مَكَانٌ وَلَا تُحيطُ بِهِ أَقْطَارٌ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ، لَا عَلَى مَعْنَى كَوْنِ الجِسْمِ بِالْمُلَاصَقَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيراً. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَتَى كَانَ؟ قِيلَ لَهُ: سُؤَالُكَ عَنْ هَذَا يَقْتَضِي كَونَهُ فِي زَمَانٍ لَّمْ يَكُنْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ "مَتَى" سُؤَالٌ عَنْ الزَّمَانِ، وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أَنَّهُ قَدِيمٌ كَائِنٌ قَبْلَ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَمَوجُودٌ قَبْلَهُمَا(( [التَّمهيد (ص: 264-265)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة] وهذا نصٌّ صريح من الإمام الباقلَّاني في تنزيه الله عن مقولة "الأين" والزَّمان والمكان والمجاورة للمخلوقات وغيرها من لوازم الجهة في حقِّه تعالى، وهذا النَّصُّ من نفس كتاب "التَّمهيد" الَّذي احتفى به ابنُ تيميَّة وتلامذته، وهو موجود بَعد صفحاتٍ قليلة عن موضع النَّصِّ الذي تناقلوه واستسمنوه!.

وقال الإمامُ في مسألةِ الرُّؤيَّة: ((وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ وَجْهُ التَّمَدُّحِ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام : 103] أَنَّهَا لَا تُدْرِكُهُ ‌جِسْمًا ‌مُصَوَّراً ‌مُتَحَيِّزاً، وَلَا حَالًّا فِي شَيْءٍ عَلَى مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى، وَلَا مُشْبِهاً لِشَيْءٍ عَلَى مَا يَقُولُهُ أَهْلُ التَّشْبِيهِ)) [التَّمهيد (ص: 270)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة] بينَمَا جاءت عبارته في "الإنصاف" هكذا: ((جَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام : 103] عَلَى أَنَّهَا لَا تُدْرِكُهُ فِي جِهَةٍ، وَلَا تُدْرِكُهُ جِسْماً، وَلَا صُورَةً، وَلَا مُتَحَيِّزاً، وَلَا حَالًّا فِي شَيْءٍ، ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام : 103] عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَتَكُونُ الحِكْمَةُ فِيهِ الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى وَأَهْلِ التَّشْبِيهِ وَمَنْ يَقُولُ بِالجِهَةِ والحَيِّزِ وَالصُّورَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)) [الإنصافُ (ص: 298)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] وهذا نصٌّ صريح في نفي الجِهةِ والحيِّز والعلُوِّ الحسِّي والمقابلة بالجهةِ في حقِّه تعالى.
وقالَ أيضاً: ((وَاللهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالْجِهَاتِ، وَلَا أَنَّهُ فِي جِهَةٍ)) [الإنصافُ (ص: 297)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] وهذا أيضا صريح في نفي مُطلق الجهة.

وَقالَ أيضاً القَاضِي البَاقِلَّانِيُّ فيما يجبُ على المُسلم أن يعلَمه من تنزيه في حقِّه تعالى: ((أنَّهُ تَعَالَى مُتَقَدِّسٌ عَنِ الاخْتِصَاصِ بِالْجِهَاتِ، والاتِّصَافِ بِصِفَاتِ المُحْدَثَاتِ، وَكَذَلِكَ لَا يُوصَفُ بِالتَّحَوُّلِ، وَالانْتِقَالِ، وَلَا القِيَامِ، وَالقُعُودِ. لِقَوِلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشُّورى : 11]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإِخلَاص : 4]. وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَدُلُّ عَلَى الحُدُوثِ، وَاللهُ تَعَالَى يَتَقَدَّسُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ)) [الإنصافُ (ص: 149)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] إذن: فوصف الله بالجهة يستلزم وصفه بالحدوث، هكذا يقرِّر القاضي الباقلَّاني كما ترى.

وبَعد هذا التَّنزيه أخذ الإمامُ يُنَاقش ما تشابه من النُّصوص؛ فقال: ((فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ: ﴿الرَّحْمَن عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى﴾ [طه : 5]؟ قُلْنَا: بَلَى، قَدْ قَالَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نُطْلِقُ ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَكِنْ نَنْفِي عَنْهُ أَمَارَةَ الحُدُوثِ، وَنَقُولُ: اسْتِوَاؤُهُ لَا يَشْبَهُ اسْتِوَاءَ الخَلْقِ، وَلَا نَقُولُ: إنَّ العَرْشَ لَهُ قَرَارٌ، وَلَا مَكَانٌ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ وَلَا مَكَانَ، فَلَمَّا خَلَقَ الْمَكَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَمَّا كَانَ)) [الإنصاف (ص: 149-150)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] فمذهب القاضي: إطلاق ما أطلقته النُّصوص في الاستواء، مع نفي المكان والجِهة والاستقرار والتَّغيُّر عنه تعالى.

ثمَّ قالَ القاضي الباقلَّاني: ((وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ المَغْرِبِيُّ يَوْمًا لِخَادِمِهِ مُحَمَّدَ [بْنِ] المَحْبُوبِ: "لَوْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: ‌أَيْنَ ‌مَعْبُودُكَ؟ مَاذَا كُنْتَ تَقُولُ لَهُ؟" فَقَالَ: "أَقُولُ: حَيْثُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ". قَالَ: "فَإِنْ قَالَ: فَأَيْنَ كَانَ فِي الْأَزَلِ؟ مَاذَا تَقُولُ؟" فَقَالَ: "أَقُولُ: حَيْثُ هُوَ الآنَ". يَعْنِي: إِنَّهُ كَمَا كَانَ وَلَا مَكَانَ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ:" كُنْتُ أَعْتَقِدُ شَيْئاً مِنْ حَدِيثِ الْجِهَةِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ بَغْدَادَ وَزَالَ ذَلِكَ عَنْ قَلْيِي، فَكَتَبْتُ إِلَى أَصْحَابِنَا: إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ جَدِيداً")) [الإنصاف (ص: 150)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] وذكر هذه القصَّة أيضاً الإمام القُشيري في رسالته المعروفة في التَّصوُّف، وهي أصرح في نَفي الإمام الباقلَّاني الجِهة عن الله.

والعجيب محاولة ابن تيميَّة إنكار صريح المفهوم من هذه الحكاية، ومحاولته البائسة تفسير ما جاء فيها بمماحكات كلاميَّة بعيدة جدًّا، ولا تمتُّ لروح الحكاية نفسها بصلةٍ؛ كما تجده في كتابه "الاستقامة" الَّذي ألَّفه - في الحقيقة - كردٍّ على عقيدة أصحاب الرِّسالة القُشيريَّة، حيثُ أخذ يلفُّ ويدور لأجل الإغارة على مضمون الحكاية، إلى أن قال: ((وَأمَّا الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدُهُ [=أَبُو عُثْمَانَ المَغْرِبِيُّ] فِي الجِهَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنهُ، فَهُوَ أَمْرٌ مُجْمَلٌ لَمْ يَذكُرهُ، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ مِنَ التَّجْسِيمِ والتَّمْثِيلِ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الضَّلَالِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَالمُجَسِّمَةِ فَرَجَعَ عَن ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مُمْكِنٌ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ البَارِي تَعَالَى مَحْصُورٌ فِي السَّمَوَاتِ تَظِلُّهُ وَتقرُّهُ، وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى عَرْشٍ يَحْمِلُهُ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ)) [الاستقامة (1/163)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود] وتفريعات ابن تيميَّة هنا لا تقوم على ساق، لأنَّ أبا عثمان المغربي نفى الجِهةَ عن الله بإطلاق، وليس في كلامه إثبات الجِهة لله بقيد أو نفيها عنه بقيد، فدعوى ابن تيميَّة أنَّ في الأمر ما هو مُجملٌ، دعوى مردودة وتحريف للأقوال. والأغرب من هذا دعواه التي قال فيها: ((لَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ البَارِي تَعَالَى مَحْصُورٌ فِي السَّمَوَاتِ)) مع أنَّ ابن تيميَّة قائل هذا، هو نفسه ابن تيميَّة القائل: ((مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ كَوْنَ "اللَّهِ فِي السَّمَاءِ"، بِمَعْنَى: أَنَّ ‌السَّمَاءَ ‌تُحِيطُ بِهِ وَتَحْوِيهِ، فَهُوَ كَاذِبٌ - إن نَّقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ - وَضَالٌّ - إنِ اِعْتَقَدَهُ فِي رَبِّهِ -، وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا يَفْهَمُ هَذَا مِنْ اللَّفْظِ، وَلَا رَأْيَنَا أَحَدًا نَقَلَهُ عَنْ وَاحِدٍ، وَلَوْ سُئِلَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ: هَلْ تَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: "إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ": إنَّ السَّمَاءَ تَحْوِيهِ؟، لَبَادَرَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَى أَنْ يَقُولَ: هَذَا شَيْءٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِنَا)) ["الفَتاوى الحمَوَيَّة الكُبرى" ضِمن: مَجمُوع الفتاوى (5/70)، ط. دار الوَفاء] فإذا كان هذا الاعتقاد الفاسد لا يخطر ببال سائر المسلمين؛ فكيف يخطر ببال إمام كبير كأبي عُثمان المغربي وهو من هو؟!، ثُمَّ: مَن الكاذب هُنا؟!.

وانتهى المطاف بابن تيميَّة إلى أن يقول: ((فَأَمَّا أَن يُقَال: إِنَّ أَبَا عُثْمَانَ رَجَعَ عَنِ اعْتِقَادِ عُلُوِّ الله على خلقِهِ، وَأَنَّه سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَن مَخلوقاتِه، عَالٍ عَلَيْهِم، فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يُفهَم مِنْهُ ذَلِك بِحَالٍ. ثُمَّ لَو فُرضَ أَنَّ أَبَا عُثْمَانَ قَالَ قَولًا فِيهِ غَلَطٌ لَم يَصلُح أَن يُجْعَلَ ذَلِك أَصلًا لِاعتقادِ القَوْمِ. فَإِنَّ كَلَام أَئِمَّةِ المَشَايِخِ المُصَرِّح بِأَنَّ الله فَوقَ العَرْشِ كَثِيرٌ مُنتَشرٌ، فَإِذَا وُجدَ عَن بَعضِهم مَا يُخَالفُ ذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ خِلَافاً لَهُمْ)) [الاستقامة (1/163)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود]، وفي الحقيقة لا أجد ما يعكس صنيع ابن تيميَّة هنا سوى مقولة: "معزة ولو طارَت!!!".

ثمَّ قال الإمامُ القاضي الباقلَّاني: ((وَقَدْ سُئِلَ ‌الشِّبْلِيُّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَن عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى﴾ [طه : 5]، فَقَالَ: الرَّحْمَنُ لَمْ يَزَلْ، وَلَا يَزُولُ، وَالْعَرْشُ مُحْدَثٌ، وَالْعَرْشُ بِالرَّحْمَنِ اسْتَوَى)) [الإنصاف (ص: 150)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] وذكر قولَ الشِّبلي أيضاً الإمامُ القُشيري في رسالته.

ولمَّا كان هذا التَّنزيه ينسف العقيدة التَّيميَّة في التَّجسيم، سارع ابن تيميَّة للاعتراض على الإمام القُشيري في نقله؛ فقال: ((هَذَا الكَلَامُ أَيْضاً لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ عَنِ الشَّبْلِي، وَهُوَ يتَضَمَّنُ مِنَ البَاطِلِ مَا هُوَ تَحْرِيفٌ لِلْقُرْآنِ...الخ)) [الاستقامة (1/189)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود] ومن المعلوم أنَّ الأئِمَّةَ في مثل هذا المقام، يستحسنون مثل هذه الأقوال من حيثُ موافقتها للحقِّ ودلالتها على أصل التَّوحيد، وهذا بغضِّ النَّظر عن صحَّة نسبتها لقائليها، وعليه: فالقاضي الباقلَّاني وكلّ من وافقه على استحسان هذا القول مِن الإمام الشِّبلي، قد حرَّفُوا ما جاء في القرآن في صِفة الاستواء!، هذا لازم كلام ابن تيميَّة هنا.

ثمَّ قال القاضي الباقلَّاني: ((وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "مَنْ زعمَ أنَّ اللهَ تَعَالَى فِي شَيْءٍ، أَوْ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ عَلَى شَيْءٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى شَيْءٍ لَكَانَ مَحْمُولًا، وَلَوْ كَانَ فِي شَيْءٍ لَكَانَ مَحْصُوراً، وَلَوْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ لَكَانَ مُحْدثاً، واللهُ يَتَعَالَى عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ")) [الإنصاف (ص: 150)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] وذكره أيضاً الإمام القُشيري في رسالته، وقوله: ((أَوْ عَلَى شَيْءٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى شَيْءٍ لَكَانَ مَحْمُولًا)) صريحٌ في نفي القاضي الباقلَّاني أن يكون تعالى فوق العرش بالمعنى الَّذي يريده ابن تيميَّة، لأجل هذا سارع ابن تيميَّة للاعتراض على هذا القول في ردِّه على عقائد الرِّسالة القُشَيريَّة؛ فقال: ((هَذَا الكَلَامُ وأَشبَاهُهُ مِمَّا اتَّفَقَ أَهْل المَعْرِفَةِ عَلى أَنَّهُ مَكْذُوبٌ علَى جَعْفَرٍ، مِثل كَثيرٍ مِنَ الإشَاراتِ الَّتِي ذَكَرَهَا عَنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَن فِي "حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ"، وَالكَذِبُ عَلَى جَعْفَرٍ كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ. وَالَّذِي نَقَلَه العُلَمَاءُ الثِّقَاتُ عَنهُ مَعْرُوفٌ، يُخَالِفُ رِوَايَةَ المُفْتَرِينَ عَلَيْهِ)) [الاستقامة (1/191)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود] هكذا: دفعاً بالصَّدر! كما يُقال، ولم يذكر من هم أهل المعرفة هؤلاء الذين حكموا على القول بأنَّه مَكْذُوبٌ!، ولا ساق الآثار التي ادَّعى كونها (صريحة!) في إثبات سيِّدنا جَعْفَر الصَّادِق العُلُوّ الحِسِّي!.

ثمَّ قال القاضي الباقِلَّاني: ((وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ: أَلْزِمِ الكُلَّ الْحَدَثَ؛ لِأَنَّ القِدَمَ لَهُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُظِلُّهُ فَوْقٌ، وَلَا [يُقِلُّهُ] تَحْتٌ، وَلَا يُقَابِلُهُ حَدٌّ، وَلَا يُزَاحِمُهُ [عِنْدٌ]، وَلَا يَأْخُذُهُ خَلْفٌ، وَلَا يَحُدُّهُ أَمَامٌ، وَلَا يُظْهِرْهُ قَبْلٌ، وَلَا يَفْنيهِ بَعْدٌ، وَلَمْ يَجْمَعْهُ كُلٌّ، وَلَا يُوجِدْهُ كَانَ، وَلَا يُفْقِدْهُ لَيْسَ، بَايَنَهُمْ بِقِدَمِهِ كَمَا بَايَنُوهُ بِحُدُوثِهِمْ.
إِنْ قُلْتَ: مَتَى؟ فَقَدْ سَبَقَ الوَقْتَ كَوْنُهُ، وَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ؟ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَكَانَ وُجُودُهُ، فَوُجُودُهُ إِثْبَاتُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ تَوْحِيدُهُ، [وَتَوْحِيدُهُ: تَمْيِيزُهُ] مِنْ خَلْقِهِ، مَا تُصُوِّرَ فِي الأَوْهَامِ فَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ. كَيْفَ يَحُلُّ بِهِ مَا مِنْهُ بَدْؤُهُ؟، أَوْ يَتَّصِفُ بِمَا هُوَ إِنْشَاؤُهُ، لَا [تُمَاقِلُهُ] العُيُونُ، وَلَا تُقَابِلُهُ الظُّنُونُ، قُرْبُهُ كَرَامَتُهُ، وَبُعْدُهُ إِهَانَتُهُ، عُلُوُّهُ مِنْ غَيْرِ تَرَقٍّ، وَمَجِيئُهُ مِنْ غَيْرِ تَنَقُّلٍ، هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، والظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ، وَالقَرِيبُ البَعِيدُ، الَّذِي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشُّورى : 11])) [الإنصاف (ص: 150)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] وذكر هذا القول أيضاً الإمام القُشيري في رسالته مع اختلاف بسيط في بعض الألفاظ، وهذا القول الَّذي نسبه الإمام الباقلَّاني إلى بعض أهل التَّحقيق؛ هو قول الحُسَين بنِ منصورٍ الحلَّاج، الصُّوفي المعروف، ولا يزال أيمَّة الإسلام يتناقلونه كابراً عن كابرٍ، وهو كلام عظيمٌ ينضح بعقيدة التَّنزيه.
ولَمَّا كان هذا القول الَّذي استحسنه القاضي الباقلَّاني جارٍ على عقيدة التَّنزيه، وفيه ما ينسف العقيدة التَّيميَّة من جذورها، سارع ابنُ تيميَّة للاعتراض على الإمام القُشيري في نقله، فقال: ((وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَا يُقِلُّهُ تَحْتٌ": فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللهَ لَيْسَ فَوقَ الخَلْقِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ. وَالنَّبِيّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسلَّمَ لَمَّا قَالَ: "أَنْت الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ" لَمْ يَقُلْ: لَسْتَ فَوْقَ شَيءٍ، بَلْ قَالَ: "أَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ ‌دُونَكَ شَيْءٌ"، وَلَم يَقُل لَيْسَ لَكَ دُونٌ)) [الاستقامة (1/129)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود] فللَّهِ "دُون" وفق فهم ابن تيميَّة للحديث!.

ثمَّ أكمل نقده قائِلًا: ((وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلَا يُقَابِلُهُ حَدٌّ، وَلَا يُزَاحِمُهُ [عِنْدٌ]" فَظَاهِرُهُ بَاطِلٌ. إِذْ ظَاهِرُهُ أَنَّ اللهَ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، وَلَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ المَحْدُودَات، وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ المَخْلُوقَاتِ. وَهَذَا خِلَافُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الأُمَّةِ)) [الاستقامة (1/130)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود] فالقاضي الباقلَّاني ينفي الاتِّصال أو الانفصال الحسِّي في حقِّه تعالى، وينفي المقابلة بمعنى وجود فُرجة بين الخالق والمخلوق، وابن تيميَّة يُثبت انفصال الرَّبِّ عن خلقه بمسافة، ويصحِّح مقابلة الخالق للمخلوق ببينونة مسافة، ويصحِّح أيضاً أن تقطع المخلوقات مسافة معيَّنة حتَّى تصل إلى حدود ذات ربِّها، بل ويدَّعي أنَّ هذا التَّجسيم قد أجمع عليه السَّلف!.

وقال ابن تيميَّة أيضاً معترضاً على ما جاء في هذا القول للحلَّاج: ((وَقَوْلُهُ: "لَا يَأْخُذُهُ خَلْفٌ، وَلَا يَحُدُّهُ أَمَامٌ" كَلَامٌ مُجْمَلٌ. وَاللهُ مَوْصُوفٌ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الأُمَّةِ بِأَنَّ المَخْلُوقَ يَكُونُ أَمَامَهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ مَوضِعٍ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ ذَلِك عَنْهُ)) [الاستقامة (1/131)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود] فلله جانبٌ أمامي بحيث يُقابل به المخلوق، وتكون بينه تعالى وبين خلقه مسافة ومساحة وفُرجة!، هذا حاصل مزاعم ابن تيميَّة كما ترى.

وقال أيضاً: ((وَأمَّا قَولُهُ: "إِنْ قُلْتَ: أَيْنَ؟ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَكَانَ وُجُودُهُ": فَحُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ. لِأَنَّ وُجُودَهُ قَبْلَ [المُمْكِنَاتِ - المَكانِ] لَا يَمْنَعُ بَعْدَ خَلْقِ المَكَانِ أَنْ يُقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟، فَإِنَّ الأَيْنَ نِسبةٌ وَإِضَافَةٌ لَا تَكونُ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ المُضَافِ إِلَيْهِ...وَأمَّا جَوَابُ "أَيْنَ" فَهُوَ يَقْتَضِي عُلُوَّهُ)) [الاستقامة (1/135-136)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود] فعند الإمام الباقلَّاني: السُّؤال بـ: "أين" عن (مكان!) الله: ممنوع؛ لأنَّه تعالى منزَّهٌ عن المكان، وقد كان تعالى بلا مكان، ولكنَّ هذا السُّؤال: توحيد عند ابن تيميَّة، لأنَّ الله عنده مُتمكِّنٌ على العرش.

وقال ابن تيميَّة أيضاً معترضاً على هذ القول: ((وَقَوْلُهُ: "قُرْبُهُ كَرَامَتُهُ، وَبُعْدُهُ إِهَانَتُهُ": فَمَرْدُودٌ)) [الاستقامة (1/137)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود].

وقالَ أيضاً: ((وَأَمَّا قَوْلُهُ: "عُلُوُّهُ مِنْ غَيْرِ [تَوَقُّلٍ]، وَمَجِيئُهُ مِنْ غَيْرِ تَنَقُّلٍ": فَكَلَامٌ مُجْمَلٌ، هُوَ إِلَى البِدْعَةِ أَقْرَبُ. فَإِنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فَوْقَ خَلْقِهِ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ نَفْيُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ وَصْفِهِ بِالاستِوَاءِ وَالمَجِيءِ والإِتْيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذِه المَسْأَلَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا كَبِيرَتَانِ)) [الاستقامة (1/139)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود].

وَقال الإمام الباقلَّاني أيضاً: ((وَقِيلَ: سُئِلَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: إلَهٌ وَاحِدٌ. فَقِيلَ لَهُ كَيْفَ هُوَ؟ فَقَالَ: مَلِكٌ قَادِرٌ، فَقِيلَ: ‌أَيْنَ ‌هُوَ؟ فَقَالَ: ‌بِالْمِرْصَادِ. فَقَالَ السَّائِلُ: لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْ هَذَا؛ أَسْأَلُكَ...؟ فَقَالَ: الَّذي أَجَبْتُكَ بِهِ هُوَ صِفَةُ الحَقِّ، فَأَمَّا غَيرهُ فَصِفَةُ الخَلْقِ)) ثمَّ شَرح الإمام الباقِلَّاني مُراد السَّائِل من سؤاله فَقال: ((أَرادَ بِذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنِ التَّكْيِيفِ، وَالتَّحْدِيدِ، والتَّمْثِيلِ، وَذَلِكَ صِفَةُ المَخْلُوقِ لَا صِفَة الخَالِقِ)) [الإنصافُ (ص: 137)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] فَالجِهة تستلزم إثبات الحدود والكيفيَّة والتَّمثيل، وهذه المعاني من صفات الخلق لا الخالق، هكذا يقرِّر الإمام الباقلَّاني كما ترى، والمسؤول هنا هو العَارف يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ الصُّوفي المعروف كما جاء في الرِّسالة القُشيريَّة وغيرها.

وَأَمَّا ابن تيميَّة فلا يعجبه هذا التَّنزيه، لأجل ذلك سارع للاعتراض، وادَّعى أنَّ جواب الإمام يحيى بن معاذٍ الرَّازي عن سؤال "أين هُوَ"، هو: ((‌خلَافُ الجَوابِ الَّذِي رَضِيَه رَسُول الله - صلَّى الله عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسلَّم - وَأَقَرَّهُ وَحَكَمَ بِإِيمَانِ قَائِلِهِ، وَخِلَافُ مَا أجَابَ بِهِ هُوَ سَائِلهُ، فَإِنَّهُ لَمَا قَالَ: "أَيْنَ الله؟" فَقِيل لَهُ: فِي السَّمَاء، رَضِيَ بِهَذَا وَأَقَرَّ صَاحِبهُ وَلَم يَقُل: هَذَا صِفَة المَخْلُوقِ)) [الاستقامة (1/186)، تحقيق: د. محمَّد رَشاد سالم، جامعة محمَّد بن سعود] وشكَّك - كعادته - في ثبوت هذا القول عن الإمام يحيى بنِ معاذٍ الرَّازي، وادَّعى عليه بأنَّه يتَكَلَّم فِي الرَّجَاء بِكَلَامٍ يُشبه كَلَام ‌سفلَةِ ‌المرجِئة!...الخ، ويقصد ابن تيميَّة هنا حديث الجارية، و"أين" في الحديث منصرف للسُّؤال عن المكانة لا المكان، وبهذا فلا وجه لاعتراض ابن تيميَّة، ثمَّ إنَّ هذا الحديث مضطرب كما نصَّ بعض الحفَّاظ ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني وغيره، وقد روي بألفاظ فيها اختلاف كبير، وفي بعضها كما في الموطَّأ وغيره: قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: (("‌أَتَشْهَدِينَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟" قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: "‌أَتَشْهَدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" قَالَتْ: نَعَمْ))، وهذه الرِّواية أصحُّ وأوفق مع الأصول، ولم يكن صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ولا الصَّحابة الكرام يمتحنون غير المسلمين بالسُّؤال عن جِهةِ الله، بل كانوا يدعونَهم لشهادةِ التَّوحيد.

وبالجُملة: فما هو من عقائد أهل التَّحقيق عند القاضي الباقلَّاني كتنزيه الله عن الأَيْنِيَّة والمكان والانفصال بالمسافة والمقابلة بالجِهة وغيره من معاني الجِسميَّة؛ هو معدود عند ابن تيميَّة مِن العقائد المردودة المخالفة لإجماع السَّلف!.

يُتبع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... PnLheb6zbl

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... 4Z2WrFrh9l

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء إبريل 30, 2024 4:19 pm 
غير متصل

اشترك في: الأربعاء فبراير 03, 2010 12:20 am
مشاركات: 7870
هذه : ( عُقْدَة ابن تيمية في تقرير بدعته )
ـــــــــــــــــــــــــ
جزى الله عنا العلامة يا سين بن ربيع والبدوي وكل من يدافع عن عقيدة الحق ضد عُقدة الباطل
اللهم توفنا على ملة سيدنا النور صلى الله عليه وآله وسلم

_________________
صلوات الله تعالى تترى دوما تتوالى ترضي طه والآلا مع صحب رسول الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت مايو 04, 2024 11:25 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (7)

وقال الإمام الباقلَّاني أيضاً: ((وَأمَّا قَولُ مَنْ قَالَ: "إِنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ حُلُولُ الْكَلِمَةِ فِي النَّاسُوتِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ لَهُ، وَأَنَّهُ كَحُلُولِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاءِ، وَكَحُلُولِهِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ لَهُمَا، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ وَلَا هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى حُلُولِهِ عَلَى الْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ حَالًّا فِي أَحَدِهِمَا وَمُسْتَوِياً عَلَى الآخَر بِمَعْنَى الْحُلُولِ؛ ‌لَوَجَبَ ‌أَنْ ‌يَكُونَ ‌مُمَاسًّا لَهُمَا لَا مَحَالَةَ)) [التَّمهيد (ص: 90)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة] وهذا النَّصُّ من نفس كتاب "التَّمهيد" الَّذي اعتمده ابن تيميَّة، فالله ليس على العرش بمعنى أنَّهُ متمكِّنٌ فيه كما يدَّعي ابن تيميَّة، وهذا النَّصُّ فيه ردٌّ صريحٌ على دعوى ابن تيميَّة بأنَّ قُدماء الأشعريَّة ومنهم الإمام الباقلَّاني، كانوا يُثبتون العُلُوَّ الحسِّي في حقِّه تعالى حتَّى مع نفي الجسميَّة والحدود والتَّحيُّز والمُماسَّة، وهذا لأنَّ الإمام الباقلَّاني هنا جعل نسبة الفوقيَّة المكانيَّة لله مع نفي المُماسَّة: من جُملةِ الأقوال الباطلة غير المعقولة كما في قوله: ((وَأَنَّهُ كَحُلُولِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاءِ، وَكَحُلُولِهِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ لَهُمَا، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ))، فالفوقيَّة المكانيَّة تستلزم إثبات المُماسَّة وغيرها من معاني الجسميَّة ولا بُدَّ، وهو ما يهدم دعوى ابن تيميَّة من أساسها.

وقَالَ القَاضِي البَاقِلَّانِي أيضاً فِي "رِسَالةِ الحُرَّة": ((وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَمُسْتَوْلٍ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْش اِسْتَوَى﴾ [طه : 5]، بِغَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ وَلَا مُجَاوَرَةٍ)) [الإنصافُ (ص: 133)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] ويظهر هنا أنَّ القاضي الباقلَّاني قد جعل الاستيلاء من ضمن المعاني الجائزة للاستواء = ((وَمُسْتَوْلٍ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْش اِسْتَوَى﴾ [طه : 5]))، وهو هنا أميَل إلى طريقة التَّأويل، ولكنَّه في "التَّمهيد" قد جرى على منع نفسير الاستواء بالاستيلاء كما مرَّ معك، وهذا من الإمام اختلاف في طريقة الإثبات قد أدَّاه إليه اجتهاده، وهو بَين الطَّريقين، ولا يخرج عن أصول المذهب كما لا يخفى.

والسُّؤال هنا: كيف يكون القاضي الباقلَّاني قائلًا بالجِهة والعُلُوِّ الحِسِّي - كما يدَّعي ابن تيميَّة - وهو أصلًا يَنفي عن ربِّه الكيفيَّة والمماسَّة والمجاورة؛ لا للعرش ولا لغيره؟!.

والعجيب أنَّ ابن القيِّم - وفي مقام الاحتجاج على مخالفيه الأشاعرة - ذكرَ هذا الكلام الصَّريح في التَّنزيه للباقلَّاني كما تجده في حاشيته على سنن أبي داود [تهذيب سُنن أبي داود (3/249)، ط. دار عطاءات العلم] مع أنَّ فيه مناقضة صريحة للعقيدة التَّيميَّة في الاستواء والعُلوِّ، بل وفيه تكذيب صريحٌ لما ادَّعاه هو في نُونيَّته في حقِّ الإمام الباقلَّاني، وقد مرَّ معك كلامه.
وَقَال القاضي الباقلَّاني: ((فَإِنْ قَالُوا: مَا أَنْكَرْتُمْ مِنْ أَنَّهُ لَوْ رُئِي بِالأَبْصَارِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ جَوْهَراً أَوْ عَرَضًا أَوْ مَحْدُوداً أَو حَالًّا فِي مَحْدُودٍ أَوْ مُقَابِلًا لِلْمَكَانِ أَو مُبَايِناً لِلْمَكَانِ ‌أَوْ ‌مُتَّصِلًا ‌بِهِ ‌الشُّعَاعُ أَوْ مُتَّصِلًا بِمَكَانِهِ أَوْ مُتَخَيَّلًا مُتَمَثَّلًا مُتَصَوَّراً بِالقُلُوبِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ المَرْئِيَّاتِ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَعْقِلْ مَرْئِيًّا بِالبَصَرِ إِلَّا كَذَلِكَ؟ يُقَالُ لَهُم: لَوْ وَجَبَ هَذَا؛ لَوَجَبَ إِذَا كَانَ مَعْلُوماً بِالقُلُوبِ وَمَوجُوداً أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ جَوهراً أَوْ عَرَضًا، وَفِي العَالَمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَمَاكِنِ أَوْ مَا يُقَدَّرُ تَقْدِيرَ الْأَمَاكِنِ، لأَنَّنَا لَمْ نَعْقِل مَعْلُومًا إِلَّا كَذَلِكَ...الخ، فَإِنْ مَرُّوا عَلَى ذَلِكَ تَرَكُوا التَّوْحِيدَ، وَإِنْ أَبَوهُ أَبْطَلُوا مَا سَأَلُوا عَنْهُ)) [التَّمهيد (ص: 277)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة] بينَمَا جَاءَتْ عِبَارَتهُ فِي رِسالَةِ الحُرَّةِ هَكَذَا: ((فَإِنْ احْتَجُّوا فَقَالُوا: لَوْ جَازَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرُّؤْيَةُ بِالأبْصَارِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جِسْماً، أَوْ جَوْهَراً، أَوْ مَحْدُوداً، أَوْ حَالًّا فِي مَكَانٍ، أَوْ مُقَابِلًا أَوْ خَلْفاً، أَوْ عَنْ يَمِينٍ، أَوْ عَنْ شِمَالٍ، أَوْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ المَرْئِيَّاتِ...الخ)) [الإنصافُ (ص: 300)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] فالإمام الباقلَّاني يجرِّد رؤيَّة الله يوم القيامة مِن المحدوديَّة والأمام والخلف واليمين والشِّمال والمكان والمقابلة بالجهة واتِّصال شعاعٍ وغيرها من المعاني الباطلة، بل ويجعل إثبات هذه المعاني في الرُّؤية مُنافيًا للتَّوحيد كما تجده في قوله: ((فَإِنْ مَرُّوا عَلَى ذَلِكَ تَرَكُوا التَّوْحِيدَ)).

بينما زعم ابنُ تيميَّة أنَّ الإمام ابن كلَّاب والإمام الأَشعري وقُدَماء الأشعريَّة قد وَافَقُوا: ((أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى الْمُبَايَنَةِ وَالْعُلُوِّ، الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ. وَهَذَا أَوْلَى بِأَتْبَاعِ الْأَشْعَرِيِّ، لِأَنَّهُ قَوْلُ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِمْ كَابْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِ، بَلْ وَقَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ أَيْضًا وَغَيْرِهِ مِنْ قُدَمَاءَ الْأَصْحَابِ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (7/239)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة] فتأمَّل كيف يحكي موافقتهم على إثبات العُلُوِّ الحِسِّي والمباينة بالجِهة؛ المتضمنة لرؤية الله يوم القيامة: مُقابلةً ومُواجهةً أي: بِفُرجةٍ ومسافةٍ بينه تعالى وبين الرَّائي!.

وهنا يقال لابن تيميَّة: ليس هناك إلَّا الخالق والمخلوق، فهذه الفُرجة - المزعومة - الَّتي تدَّعون أنَّها بين الخالق والمخلوق، هل هي مخلوقة أم لا؟، والجواب طبعاً: نعم مخلوقة، إذن: فالخالق يُماسّها ولا بُدَّ، وإنكار ذلك مُكابرة، فكيف والإمام الباقلَّاني ينفي المُماسَّة؟!.

وادَّعى ابنُ تيميَّة أيضاً أنَّ: ((قَوْلَ هَؤُلَاءِ: "إنَّ اللَّهَ يُرَى مِنْ غَيْرِ مُعَايَنَةٍ وَمُوَاجَهَةٍ"؛ قَوْلٌ انْفَرَدُوا بِهِ دُونَ سَائِرِ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ، وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ)) [مَجموع الفتاوى (16/58)، ط. دار الوَفاء] ذكر هذا في ثنايا تعقيبه على رسالة بعثَ بها الإمامُ ابن فُورَك إلى الأستاذ رُكن الدِّين أبي إسحاق الإسفَرَايِنِي، يحكي له فيها ما جرى له مع الكرَّاميَّة في مجلس السُّلطان مَحْمُودِ بْنِ ‌سُبُكْتِكِينَ.

وعلى هذا؛ فمذهب الإمام الباقلَّاني في الرُّؤية مُصادم للعقل!، وفساده معلوم بالضَّرورة!، هكذا هو الأمر وفق تقرير ابن تيميَّة كما ترى.

ولتقارن أيضا صريح كلام القاضي في تجريد الرُّؤية من المقابلة والجهة؛ بمزاعم ابن تيميَّة حيث ادَّعى: ((أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: "إِنَّ اللَّهَ يُرَى بِلَا مُقَابَلَةٍ" هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: "إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ"، فَلَمَّا كَانُوا مُثْبِتِينَ لِلرُّؤْيَةِ نَافِينَ لِلْعُلُوِّ احْتَاجُوا إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُلَّابِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ قَوْلَهُمْ كُلِّهِمْ؛ بَلْ وَلَا قَوْلَ أَئِمَّتِهِمْ، بَلْ أَئِمَّةُ الْقَوْمِ يَقُولُونَ: "إِنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ"، وَمَنْ نَفَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا نَفَاهُ لِمُوَافَقَتِهِ الْمُعْتَزِلَةَ فِي نَفْيِ ذَلِكَ وَنَفْيِ مَلْزُومَاتِهِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا وَافَقُوهُمْ عَلَى صِحَّةِ الدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلَّتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَهُوَ أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَمَا لَا يَخْلُو عَنْهُمَا فَهُوَ حَادِثٌ، لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا. قَالُوا: فَيَلْزَمُ حُدُوثُ كُلِّ جِسْمٍ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ جِسْمًا لِأَنَّهُ قَدِيمٌ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْجِهَةِ إِلَّا جِسْمٌ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِلرَّائِي، لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ جِسْمَيْنِ)) ثمَّ حكم على هذه المقالة بقوله: ((وَلَا رَيْبَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ مِنْ مُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ وَنُفَاتِهَا يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَعْلُومٌ الْفَسَادَ بِالضَّرُورَةِ)) [مِنهاجُ السُّنَّة (3/342-343)، تحقيق: محمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جَامِعة محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة].
وقال أيضاً قاصداً أهل السُّنَّة الأشاعرة - المتأخِّرين منهم بزعمه -: ((وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّهُ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ، لَا أَمَامَ الرَّائِي وَلَا خَلْفَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ، وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا مَبْنِيٌ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي كَوْنِ الْبَارِئِ تَعَالَى فَوْقِ الْعَرْشِ. فَالْأَشْعَرِيُّ وَقُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِجِسْمٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَالْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ كَانُوا يَقُولُونَ بِذَلِكَ)) [مِنهاجُ السُّنَّة (2/326-327)، تحقيق: محمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جَامِعة محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة] إلى أن قال: ((وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ فِي السَّمَاءِ. وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ، فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ وَأَئِمَّةَ أَصْحَابِهِ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ يَنْفُونَهَا، فَنَفَوْا هَذِهِ الصِّفَةَ لِأَنَّهَا - عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ - مِنَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصِّفَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ عَقْلِيَّةً قَالُوا: "إِنَّهُ يُرَى لَا فِي جِهَةٍ". وَجُمْهُورُ النَّاسِ مِنْ مُثْبِتَةِ الرُّؤْيَةِ وَنُفَاتِهَا يَقُولُونَ: إِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ)) [مِنهاجُ السُّنَّة (2/328-329)، تحقيق: محمَّد رَشاد سالم، النَّاشر: جَامِعة محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة: السُّعوديَّة].

وبهذا تعلم ما في دعوى الباحث الوَهَّابي الدُّكتور عبدُ الرَّحمن المحمود حيث قال: ((والباقلَّانيُّ وإن كان يُثبتُ الاستواءَ والعُلُوَّ؛ إلَّا أَنَّهُ يَرى عدم إطلاق الجِهة على الله تعالى)) [موقف ابن تيميَّة من الأشاعرة (2/540)، نشرة: مكتبة الرشد] ولا أدري كيف رضي عقله بنِسبة عقيدة العُلُوّ الحِسِّي إلى مَن هو أصلا ينفي الجهة في حقِّ ربِّه؟!، اللَّهمَّ إلَّا إن كان يقصد هذا المحمود إثبات القاضي لمعاني العُلُوِّ الحِسِّي - بزعمه - مع نفيه فقط إطلاق (لفظ!) الجِهة في حقِّه تعالى!، ولهذا قال هذا المحمود بعد أن ذكر بعض نصوص القاضي الباقلَّاني في نفي الجِهة: ((ولفظُ الجِهة لفظٌ مٌجملٌ)) [موقف ابن تيميَّة من الأشاعرة (2/540)، نشرة: مكتبة الرشد]، وفي الحقيقة هذا كذب على الإمام الباقلَّاني، لأنَّ الإمام نفى الجِهة والمكان عن الله صراحةً، ونفى المقابلة بجهة كما مرَّ معك، وهذا الباحث الوَهَّابي يدَّعي أنَّ الرَّجل نفى فقط إطلاق (لفظ!) الجِهة على الله!، فالإمام الباقلَّاني ينفي المعاني الباطلة، والوَهَّابي يزعم أنَّه لا يرى إطلاق اللَّفظ فقط!، وكأنَّ مشكلة الرَّجل مع الإمام الباقلَّاني؛ فقط في نفيه إطلاق (لفظ!) الجِهة في حقِّه جلَّ وعلا!، ولا أدري أين ذهب بالمعاني التي نفاها الإمام؟!.

وفي الحقيقة هذا حال هؤلاء القوم، يتظاهرون بذمِّ التّعصُّب المذهبي، وحقيقتهم أنَّهم تَيميَّة مُتعصِّبة بدرجة أُولى، ولا يخرجون البتَّة من حدود القفص الَّذي وضعهم فيه شيخهم ابن تيميَّة، حتَّى وإن أنكر الحرَّاني الشَّمس في رابعة النَّهار.
نسأل الله السَّلامة والعافية.

- خامسًا: جواب ما نسبه ابن تيميَّة للقاضي الباقِلَّاني في مسألة العُلُوِّ:
فإن قُلتَ: ماذا يقصد القاضي الباقلَّاني بالعُلُوِّ في حقِّه تعالى؟؛ فالجواب:
1- في محاولة فهم النَّص الَّذي اعتمد عليه ابن تيميَّة في ضوء صريح كلام القاضي الباقلَّاني في التَّنزيه:
قال القَاضِي أَبِي بَكْرٍ البَاقِلَّانِي في النَّصِّ الَّذي اعتمد عليه ابنُ تيميَّة: ((فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ تَقُولُونَ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟ قِيلَ لَهُ: مَعَاذَ اللَّهِ !؛ بَلْ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى﴾ [طه : 5]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فَاطر : 10]، وَقَالَ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ [الملك : 16]")) [التَّمهيد (ص: 260)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة] فالقاضي هنا يردُّ على الحُلوليَّة، وهو يُقابل قولهم الشَّنيع في أنَّ "الله بذاته في كلِّ مكان"، بتقرير أنَّ الله فوق العرش وفي السَّماء؛ بمعنى: تعاليه جلَّ وعلا عن المكان والمكانيَّات، والزَّمان والزَّمانيَّات، فهو سبحانه مُتعالٍ عن كلِّ معاني العالَم مِن الفَرشِ إلىَ العَرشِ، وأنَّه فوق ما نتصوَّر من صِفات الجمال والجلال والكمال.

فلم يقصد القاضي: أنَّه تعالى فوق العَرش فوقيَّة مكان كما يدَّعي ابن تيميَّة؛ لأنَّ هذه الدَّعوى تستلزم أن يكون تعالى - عند القاضي الباقلَّاني - في مكانٍ دون مكانٍ؛ لأنَّ "فوق العرشِ" بالمفهوم الحِسِّي = مكانٌ أيضاً، وقد جاء في الحديث الصَّحيح عند البُخاريِّ (3022) وغيره: عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ ‌عِنْدَهُ ‌فَوْقَ ‌الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي"؛ فهذا الكِتاب فوق العرش فوقيَّة مكانٍ، فهو إذن في مكان وجودي قطعاً، وهذا يهدم دعوى ابن تيميَّة في أنَّ الله هناك "فوق العرش" وحده في مكانٍ (عَدَميٍّ!)، بل ويلزم منه أن يُشارك هذا الكتاب الرَّب في عُلُوِّ الجهةِ المزعوم!.
ولا تغفل هنا عن أنَّ الفوقيَّة المزعومة لا تُعقل إلَّا بين الأجسام المحدودة المتمكنَّة في مكان، فكيف والقاضي مُصرِّحٌ بنفي المكان والجسميَّة في حقِّه تعالى؟!.

ثمَّ قال الإمامُ الباقلَّانيُّ: ((وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَكَانَ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ وَفَمِهِ وَالْحُشُوشِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا، وَلَوَجَبَ أَنْ ‌يَزِيدَ ‌بِزِيَادَةِ ‌الْأَمْكِنَةِ إذَا خَلَقَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا إذَا بَطَلَ مِنْهَا مَا كَانَ)) [التَّمهيد (ص: 260)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة] وعلى هذا يمكن أن يُقال لابن تيميَّة: وماذا لو أراد الله أن يخلق عوالم أخرى مِن الجهة الفَوقانيَّة التي تلي مُباشرة سطح العرش، من دون أن يُحرِّك هذا العالَم؟ فإن قال: لا يمكن ذلك؛ فيلزمُ منه تعجيز القُدرة الإلهيَّة، وهو كُفرٌ بِاتِّفاقٍ. وإن قال: بالإمكان؛ فمن المستحيل أن يخلق الله هذه العوالم الجديدة بداخل ذاته تعالى وإلَّا لزم المحظور، فلم يبقَ إلَّا أن يُحرِّك تعالى ذاته إلى "فوق" ليخلق هذه العوالم الجديدة خارج ذاته أي: في الجهة التَّحتانيَّة منه، فيلزمُ من هذا وصفه تعالى بالعُلُوِّ النِّسبي، لأنَّ العُلُوَّ اللَّاحق جاء أعلى مَسافةً منَ العُلُوِّ السَّابق، وهكذا دواليك؛ فيَتسلسل العُلُوُّ النِّسبي ولا يتحصَّل العُلُوُّ المطلق - المزعوم -، إذ ما مِن عُلُوٍّ آت إلَّا وهو أكمل من الَّذي فات، فيلزم نسبة النَّقص للباري، وهو كُفرٌ باتِّفاق؛ بل ويلزم القول بانتقال الرَّبِّ في أحيازٍ وُجوديَّة، وتبطل خرافة الجِهة "العَدميَّة"؛ لأَنَّ خلق هذه العوالم الجديدة لا يكون إلَّا في جِهةٍ وُجوديَّة كان المفترض أنَّها جِهة عَدَمِيَّة للرَّبِ وحده!.

2- معنى الرَّغبة إلى الله نحو السَّماء عند القاضي الباقلَّاني:
ثمَّ قال الإمامُ الباقلَّانيُّ: ((وَاحْتِيجَ أَنْ يُرْغَبَ إلَيْهِ نَحْوَ الْأَرْضِ وَإِلَى خَلْفِنَا وَإِلَى يَمِينِنَا وَإِلَى شِمَالِنَا، وَهَذَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ)) [التَّمهيد (ص: 260)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة] وحاصل كلام القاضي هنا هو أنَّ الرَّغبةَ إلى الله تكون بالتَّوجُّه إلى السَّماء؛ لأنَّها قبلة الدُّعاء بتوقِيف من الشَّارع، كما أنَّ الكعبة قِبلة المصلِّين بتوقيف من الشَّارع، وليس لأنَّ الله هناك، والسَّماء جِهة استنزال البركات واستمطار الخيرات، وقد بيَّن الإِمامُ القاضي الباقِلَّانيُّ نفسه هذا الأمر، وفي نفس كتاب "التَّمهيد" الَّذي احتفى به ابن تيميَّة، فقالَ: ((فَإِنْ قَالُوا: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:
‌وُجُوهٌ ‌نَاظِرَاتٌ ‌يَوْمَ ‌بَدْرٍ *** إِلَى الرَّحْمَنِ يَأْتِيَ بِالْفَلَاحِ
قِيلَ لَهُمْ: أَرَادَ نَظَرَ الْأَبْصَارِ إِلَى سَمَاءِ الرَّحْمَنِ، وَتَرَقُّبَ النَّصْرِ عِنْدَ رَمْيِهِمْ بِالأَبْصَارِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي مِنْهَا يُرْجَى النَّصْرُ، وَقَولُهُ: "إِلَى الرَّحْمَنِ" يَعْنِي بِهِ: إِلَى سَمَاءِ الرَّحْمَنِ وَجِهَةِ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ)) [التَّمهيد (ص: 275)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة].

وَقَد أجاد العلَّامة مُرْتَضَى الزَّبِيدِي الحُسَيْنِي الأَشْعَرِي (ت : 1205 هـ) في بيان هذا المعنى نقلًا عن الإمام أبي بكرٍ الطُّرطُوشي المالكي (ت : 520 هـ) فقال: ((فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الحَقُّ سُبْحَانَهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ، فَمَا مَعْنَى رَفْعُ الأَيْدِي بِالدُّعَاءِ نَحْوَ السَّمَاءِ؟، فَالجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الطُّرْطُوشِيُّ:
- أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحَلُّ تَعَبُّدٍ كَاسْتِقْبَالِ الكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلْصَاقِ الجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ فِي السُّجُودِ، مَعَ تَنَزُّهِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ مَحَلِّ البَيْتِ وَمَحَلِّ السُّجُودِ، فَكَأَنَّ السَّمَاءَ قِبْلَة الدُّعَاءِ.
- وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا لَمَّا كَانَت مَهْبَطَ الرِّزْقِ وَالوَحيِ وَمَوْضِعَ الرَّحْمَةِ وَالبَرَكَةِ؛ عَلَى مَعْنَى أَنَّ المَطَرَ يَنْـزِلُ مِنْهَا إِلَى الأَرْضِ فَيَخْرُجُ نَبَاتًا، وَهِيَ مَسْكَنُ المَلَأِ الأَعْلَى؛ فَإِذَا قَضَى اللهُ أَمْراً أَلْقَاهُ إِلَيْهِم فَيُلْقُونَهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الأَعْمَالُ تُرْفَعُ، وَفِيهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَفِيهَا الجَنَّةُ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الأَمَانِي، فَلَمَّا كَانَتْ مَعْدِنًا لِهَذِهِ الأُمُورِ العِظَّامِ، وَمَعْرِفَةِ القَضَاءِ وَالقَدَرِ، انْصَرَفَتْ الهِمَمُ إِلَيْهَا، وَتَوَفَّرَت الدَّوَاعِي عَلَيْهَا)) [إِتْحَافُ السَّادَةِ المُتَّقِينَ (5/34-35)، مُؤَسَّسَة التَّارِيخ العَرَبِي].

وحتَّى الإمامُ أبو القاسِم عبدُ الجَليلِ الرَّبَعَيُّ القَيرَوانِيُّ المالِكيُّ الأشعَرِيُّ (كان حيًّا عام 478 هـ)؛ لم يستشكل هذا الموضع عند شرحه على كتاب "التَّمهيد" للقاضي الباقلَّاني؛ بل جاء كلامه موافقاً لصريح عقيدة القاضي في التَّنزيه، فقال: ((أَجْمَعَ المُسلِمُونَ عَلَى مَنْعِ الدَّاعِي إِذَا دَعَا مِنْ أَنْ يَقْصِدَ بِدُعَائِهِ وَنَظَرِهِ الأَرْضَ، أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَدْعُوَ نَاظِراً إِلَى السَّمَاءِ وَمُبْتَهِلًا نَحْوَهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ حَالٌّ فِي السَّمَاءِ، وَلَا مَوْجُودٌ بِهَا كَوُجُودِ الأَجْسَامِ بِأَمَاكِنِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَارَ لَهُ إِلَّا أَشْرَفُ العِبَادَاتِ، فَإِذَا أَشَارَ الدَّاعِي بِدُعَائِهِ نَحْوَ السَّمَاءِ كَانَ أَشْرَفَ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يُشِيرَ نَحْوَ الأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأَنعام : 18]، وَكَوْنُهُ تَعَالَى فَوْقَهُمْ لَيْسَ هُوَ كَوْنَ السَّمَاءِ فَوْقَ الأَرْضِ جِسْمَانِ مِنَ الأَجْسَامِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى وَصْفِ اللهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ: أَنَّهُ قَاهِرٌ لَهُمْ وَغَالِبٌ لَهُمْ وَحَاكِمٌ فِيهِمْ، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَهُمْ بِمَكَانٍ أَعْلَى مِنْ مَكَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ مُحْدِثُ الكُلِّ وَخَالِقُهُ، فَكَيْفَ يَفْتَقِرُ إِلَى المَكَانٍ مَنْ لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ المَكَانُ، وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فَاطر : 10] عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الفَوْقِيَّةِ)) [التَّسْدِيدُ فِي شَرْحِ التَّمْهِيد (ص: 267)، ط. دار الفتح].

3- تأويل القاضي الباقِّلَّاني لنصوص الكون العلوي في نفس سياق النَّصِّ الذي اعتمده ابن تيميَّة:

ثمَّ قال القاضي: ((فإنْ قَالُوا: أَفَلَيْسَ قَدْ قَالَ الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزُّخرف : 84]؛ فأَخبرَ أنَّهُ فِي السَّمَاءِ وفِي الأَرْضِ؟، وَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النَّحل : 128]، وَقَالَ: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه : 20]، وَقَالَ: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ﴾ [المجادلة : 7] فِي نَظَائِر لهذهِ الآياتِ. فمَا أَنكَرْتُم أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟
يُقَالُ لَهُم: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزُّخرف : 84] الْمُرَادُ بِهِ: أَنَّهُ إِلَهٌ عِنْدَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَإِلَهٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: "‌فُلَانٌ ‌نَبِيلٌ ‌مُطَاعٌ بِالعِرَاقِ وَنَبِيلٌ مُطَاعٌ بِالحِجَازِ" يَعْنُونَ بِذَلِكَ أنَّهُ مُطَاعٌ فِي الْمِصْرَيْنِ وَعِنْدَ أَهْلِهِمَا، وَلَيْسَ يَعْنُونَ أَنَّ ذَاتَ الْمَذْكُورِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ مَوْجُودَةٌ)) [التَّمهيد (ص: 261)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة] وهذا تأويل صريحٌ من القاضي الباقلَّاني، وصرفٌ للنَّصِّ عن ظاهره، والقاضي الباقلَّاني الَّذي احتجَّ بقوله تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك : 16] كما في نصِّ العُلُوِّ الَّذي احتفى به ابنُ تيميَّة، هو نفسه القاضي الباقلَّاني الَّذي تأوَّل هنا الكون العلوي في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ﴾ [الزُّخرف : 84].

4- الفَوقيَّة من كلامِ القاضي الباقلَّاني:
قال القَاضِي البَاقِلَّانِيُّ: ((فَإِن قِيلَ: إِذَا كَانَ مَرْئِيّاً فَأَيْنَ هُوَ؟ قِيلَ لَهُمْ: إِنْ أَرَدْتُمْ أَيْنَ هُوَ فِي وَصْفِ المَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالجَلَالِ؛ فَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأَنْعَام : 18]، وَبِقَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَن عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى﴾ [طه : 5]، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ﴾ [الزُّخْرُف : 84:]، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفَجر : 14]. قِيلَ لَهُمْ: الأَيْنُ سُؤَالٌ عَنِ المَكَانِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَحْوِيهِ مَكَانٌ)) [الإنصاف (ص: 305)، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط. دار مكتبة المعارف] إذن: فقد يُطلقُ "أَيْنَ" ويُراد به: السُّؤال عن المكان، وهذا ممنوع في حقِّه تعالى. وقد يراد به: السُّؤال عن المكانة؛ بمعنى أنَّ علُوَّه تعالى مُطلقٌ غير مقيَّد بالزَّمان والمكان والمعاني الأرضيَّة السُّفليَّة، على نحوِ ما ذكر الإمام القرطبي: ((فَعُلُوُّ اللَّه تَعَالَى وَارْتِفَاعُهُ عِبَارَةٌ عَنْ عُلُوِّ مَجْدِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَكُوتِهِ. أَيْ: لَيْسَ فَوْقَهُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ مَعَانِي الْجَلَالِ أَحَدٌ، وَلَا مَعَهُ مَنْ يَكُونُ الْعُلُوُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؛ لَكِنَّهُ الْعَلِيُّ بِالْإِطْلَاقِ سُبْحَانَهُ)) [الجَامِع لِأَحْكَامِ القُرْآن (7/220)، ط. دَار عَالَـم الكُتُب]، وهذا مراد القاضي الباقلَّاني كما ترى.

وقد عبَّر عن هذه الفَوقيَّة الإمامُ القاضي أَبُو بَكرٍ بنُ العَرَبي المالكيُّ الإشبيليُّ (ت : 543 هـ) فقالَ: ((فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: "إِنَّهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ": لَيْسَ مَعْنَاهُ فَوْقِيَّةَ المَكَانِ، وَأَنَّ المُرَادَ بِهِ فَوْقِيَّةُ المَكَانَةِ وَالمَنْزِلَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ السَّمَاوَاتِ مَحْدُودَةٌ، واللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَالسَّمَاوَاتُ مُؤَلَّفَةٌ، وَاللهُ فَوْقَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَلَّفٍ، وَالسَّمَاوَاتُ فِي جِهَةٍ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ فِي غَيْرِ جِهَةٍ، وَالسَّمَاوَاتُ يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُقَابِلُ وَلَا يُقَابَلُ، وَهَكَذَا، فِي كُلِّ صِفَةٍ مَخْلُوقَةٍ قَدَّرْنَاهَا فِي السَّمَاوَاتِ؛ فَاللهُ مُنَزَّهٌ عَنْهَا، فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى رِفْعَةِ الصِّفَاتِ)) [الأَمَدُ الأقصى (1/439)، ط. دار الحديث الكَتَّانيَّة].

وبعد هذا؛ فماذا عسى الباحث أن يقوله في طريقة ابن تيميَّة هذه، حيثُ عمدَ إلى نصٍّ في كتاب "التَّمهيد" للإمام الباقلَّاني، وحسبه في صالحه، في حين تغاضى عن مُحكمات أقوال الرَّجل الكثيرة، وبعضها في نفس الكتاب، إلَّا أنَّها لمَّا كانت تناقض فهمه لمذهب القاضي بمائة وثمانين درجة؛ أعرض عنها؟!، لِمَ لَم يذكر ابن تيميَّة هذه النُّصوص وقد كانت في متناوله؟!، أوليس هو نفسه مَن خاطب مخالفيه - السَّادة الأشاعرة - قائلًا: ((أَهْلُ العِلْمِ يَكْتُبُونَ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الأَهْوَاءِ لَا يَكْتُبُونَ إِلَّا مَا لَهُمْ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (5/511)، ط. المجمَّع]؟!.

يُتبع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... hnYLBSTVLl

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... 3ZxWoWsUtl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء مايو 07, 2024 12:09 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة ( 8 )

- تذليل:

وَقد ذَكَرَ الإمامُ المُفَسِّرُ أَبُو عَبْدِ الله شمسُ الدِّين الأنصَارِيُّ القُرْطُبِيُّ (ت : 671 هـ) الأَقْوَالَ المأثورة عن الإمام أبي الحسن الأشعري في مسألة "الاستواء" فقالَ: ((قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ: أُثْبِتُهُ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، وَأَنْفِي عَنْهُ اسْتِوَاءً يُوجِبُ حُدُوثَهُ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ فَعَلَ فِي العَرْشِ فِعْلًا سَمَّى بِهِ [نَفْسَهُ] مُسْتَوِيًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَبِقَوْلِهِ الأَوَّلِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَعَبْدُ الوَهَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الفِقْهِ وَالحَدِيثِ.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ البَلْخِيُّ، وَمِنَ المُتَأَخِّرِينَ: أَبُو سُلَيْمَانَ الخَطَّابِيُّ)) [الأَسْنَى فِي شَرحِ أسماءِ الله الحُسنى وصفاتِه (ص: 168)، ط. المكتبة العصريَّة] فإثبات الاستواء صفة ذات مع التَّنزيه يُعدُّ أَحد قَولي الإمام الأشعري، وهو قول الإمام الطَّبري وابنِ أبي زيد القيرواني والقاضي عبد الوهَّاب البغدادي والخَطَّابي وغيرهم، هكذا ينقل هنا - بإقرارٍ وإمرارٍ - الإمامُ القرطبيُّ عن العلماء.

ثمَّ قال الإمامُ القُرطُبيُّ: ((قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُ القَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ "تَمْهِيدِ الأَوَّائِلِ" وَالأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرٍ بْنِ فُورَكَ فِي "شَرْحِ أَوَائِلِ الأَدِلَّةِ".
قَالَ القَاضِي: بَابٌ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قِيلَ لَهُ: الأَيْنُ سُؤَالٌ عَنِ المَكَانِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يَحْوِيهِ مَكَانٌ وَلَا تُحِيطُ بِهِ أَقْطَارٌ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ، لَا عَلَى مَعْنَى كَوْنِ الجِسْمِ عَلَى الجِسْمِ بِمُلَاصَقَةٍ وَمُجَاوَرَةٍ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا)) [الأَسْنَى فِي شَرحِ أسماءِ الله الحُسنى وصفاتِه (ص: 168-169)، ط. المكتبة العصريَّة] إذن: فالقاضي الباقلَّاني قد جرى في كتابه "التَّمهيد" على هذا القول أيضًا، أي: إثبات الاستواء صفة ذات مع نفي كلّ معاني الجسميَّة كالمجاورة والملاصقة والمكان والجهة، هكذا فهم الإمام القرطبي كلام القاضي الباقلَّاني في "الاستواء" في كتاب "التَّمهيد"، وهو ما سبق بيانه ولله الحمد.

ثمَّ قالَ الإمامُ القُرطُبيُّ: ((قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِّ وَأَبِي عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ [الأَنْدَلُسِيِّينَ]، فَمَنْ تَأَوَّلَ عَلَى أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِّ وَفَهِمَ مِنْ كَلَامِهِ فِي كِتَابِ "التَّمْهِيدِ" وَ"الاسْتِذْكَارِ" أَنَّ: اللهَ تَعَالَى مُسْتَقِرٌّ عَلَى عَرْشِهِ اسْتِقْرَارَ الجِسْمِ عَلَى الجِسْمِ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ وَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَ[حَسِيبُهُ] اللهُ)) [الأَسْنَى فِي شَرحِ أسماءِ الله الحُسنى وصفاتِه (ص: 169)، ط. المكتبة العصريَّة] وعلى هذا المذهب أيضا الحافظ ابن عبد البرِّ وغيره من الأندلسِيِّين، ويشير الإمامُ القرطبي هنا إلى وجوب فهم ما تشابه من كلام الحافظ ابن عبد البرِّ وغيره في مسألة الاستواء؛ بما لا يتناقض مع المُحكم من تقريراتهم، أي: رَدُّ المتشابهات إلى المُحكمات، وهو منهج علميٌّ سليمٌ درج عليه أيمَّة الإسلام.

يُتبع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... VkCgEGYSxl

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... oZLcsyVHnl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة مايو 24, 2024 2:37 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (9)

2) الإِمَامُ العَلَّامَةُ الصَّالِحُ شَيْخُ المُتَكَلِّمِينَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ فُورَكَ الأَنْصَارِيُّ الأَصْبَهَانِيُّ الشَّافعيُّ الأشعريُّ (ت : 406 هـ)

كان الإمامُ ابنُ فُورَك مُعاصِراً للإمام البَاقِلَّاني، وكِلَاهُما تَلمَذَا للإمامِ ‌أَبِي ‌الحَسَنِ ‌البَاهِلِيِّ تِلميذ الإمامِ أَبِي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، وقد كان الإمامُ ابنُ فُورَك مع تمكُّنه من ناصيةِ الكلام؛ يميل أيضاً إلى الحديث، ويكفي أنَّه كان شيخ الحافظ البَيهقي، وهو مَن هو في علم الحديث رِوايةً ودِرايةً، بينما كان الإمامُ الباقِلَّاني أميَل إلى علمِ الكلَام.

ورغم هذا السَّند المسلسل بالمنزِّهة؛ إلَّا أنَّ ابنَ تيميَّةَ يرى - كما في بعض كلامِه -: أنَّ الإمامَ ابنَ فُورَك كان مِن مُثْبَتَةِ الجِهَةِ الحِسِّيَّةِ فِي حقِّ ربِّه، بينما فِي نصوصٍ أخرى تجدُ الحرَّاني يُلوِّحُ إلى أنَّ الإمامَ كان لَا يَثبتُ على رأيٍ، فتارةً يُثبت - بزعمه -، وفي أخرى ينفي!، وعِوَض أن يفسِّر ابن تيميَّة ما أشكَل عليه من كلام الإمامِ ابنِ فُورَك، وهذا بردِّ المتشابهات إلى المُحكمات وفق منصوص المنهجيَّة العِلميَّة، تراه يُوظِّف رأيَه الأوَّل هذا في الإثبات لأجل مُواجهة مُتأخِّري الأشعريَّة، نُفاةِ العُلُوِّ الحِسِّي - وفق تقريره -، وغرضه - بطبيعة الحال - مُحاولة إلزامهم برأي قُدَمائِهم!، وهذا مِن أساليبه المعروفة كما سبق التَّنبيه إليه، ولا أدري إن نسيَ الرَّجل أو تناسى أنَّ التَّقليدَ في الأصول العَقَديَّة لا يجوز في حقِّ أئمَّة السَّادة الأشاعرة، وهذا مذهبهم: سَلَفاً وخَلَفاً، ونحن نقول هذا مِن باب التَّنزُّل مع مزاعم ابنِ تيميَّة، وإلَّا فالحقُّ غير الَّذي يقول.

- أوَّلًا: دعوى ابنِ تيميَّةَ أنَّ الإمامَ ابنَ فُورَك كان مِن مُثبتَةِ العُلُوِّ الحِسِّي:
زَعَمَ ابنُ تيميَّةَ: ((أَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكَ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ مِنْ إِثْبَاتِ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مَنْ كُتُبِهِ، وَحَكَاهُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ كُلَّابٍ وَارْتَضَاهُ)) وعزَّز رأيَه هذا في نسبة عقيدة الجِهة للإمامِ ابنِ فُورَك، بذكر ما نقله عنه تلميذه الحافظ البيهقيُّ؛ فقال: ((وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي كِتَابِ "الصِّفَاتِ" أَنَّهُ قَالَ: (اسْتَوَى) بِمَعْنَى: عَلَا، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الْمُلْكِ: 16] أَيْ: مَنْ فَوْقَ السَّمَاءِ، وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ حِينَ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ: "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ". وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى كُرْسِيِّهِ سَبْعَةَ آلَافِ نُورٍ وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (4/276 إلى 278)، ط. المجمَّع].

ومَن يطالع طريقة ابنِ تيميَّةَ في النَّقل هنا، يُخيَّل إليه أنَّ الإمامَ ابنَ فُورَك كان على عقيدة الجِهَويَّةِ!، وأنَّ هذا مذهبه الَّذي نقلَه تلميذُه الحافظُ البَيهقِيُّ!.

ولا بأس أن نسوق للقارئ كلام الحافظ البَيهقيِّ الَّذي استشهد به ابنُ تيميَّة، ومِن نفس الكتاب الَّذي أحال هو إليه، لينظر العاقل كيف كان تصرُّف الرَّجل في النَّقل!:
قال الحافظُ البَيهَقِيُّ (ت : 458 هـ): ((‌وَحَكَى ‌الْأُسْتَاذُ ‌أَبُو ‌بَكْرِ ‌بْنُ ‌فُورَكٍ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا؛ أَنَّهُ قَالَ: "اسْتَوَى" بِمَعْنَى: "عَلَا"، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ عُلُوًّا بِالْمَسَافَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْكَوْنِ فِي مَكَانٍ مُتَمَكِّنًا فِيهِ، وَلَكِنْ يُرِيدُ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [المُلْك: 16] أَيْ: مَنْ فَوْقَهَا عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَحْوِيهِ طَبَقٌ أَوْ يُحِيطُ بِهِ قُطْرٌ، وَوَصْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذَلِكَ طَرِيقَةُ الْخَبَرِ، فَلَا نَتَعَدَّى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ)) ثمَّ قال الحافظُ البيهقيُّ: ((قُلْتُ: وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ)) [الأسماءُ والصِّفات (ص: 381)، تحقيق: الأستاذ العلَّامة محمَّد زاهد الكَوثري، المكتبة الأزهريَّة للتُّراث].

فأنتَ ترى كيف بتر ابنُ تيميَّةَ من سياق النَّقل ما ينسف دعواه العريضة في حقِّ الإمامِ ابنِ فُورَك من جذورها، وهو قول الإمام في الاستواء: ((وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ عُلُوًّا بِالْمَسَافَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْكَوْنِ فِي مَكَانٍ مُتَمَكِّنًا فِيهِ))، كما حذف من الاستدلال بآية سورة الملك قوله: ((مَنْ فَوْقَهَا عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ))، ومَن نفى صراحةً الحدَّ والحَيِّزَ والمكانَ وعُلُوَّ المسافةِ عن ربِّهِ كيف يُقال إِنَّه مِن مُثبِتَةِ العُلُوِّ الحِسِّي؟!.

وفي الحقيقة، هذا الصَّنيع من ابنِ تيميَّةَ يُصادم الأمانة العِلميَّة بالمرَّة، ويضع اسمه في خانة المتلاعبين بالنُّصوص نُصرةً للمَشرب، وهو ما يؤكِّد بمكان شهادة التَّقِي السُّبْكِي (ت : 756 هـ) في هذا الرَّجل، ونسوقها كاملة نظرا لتعلُّقها الوطيد بأصل هذا البحث، قال: ((وَهَذَا الرَّجُلُ [=ابْنُ تَيْمِيَّةَ] كُنْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ فِي إنْكَارِهِ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ -، وَفِي إنْكَارِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا حُلِفَ بِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي مِنْ حَالِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي نَقْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ لِمُسَارَعَتِهِ إلَى النَّقْلِ لِفَهْمِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَا فِي بَحْثٍ يُنْشِئُهُ لِخَلْطِهِ الْمَقْصُودَ بِغَيْرِهِ، وَخُرُوجِهِ عَنْ الْحَدِّ جِدًّا، وَهُوَ كَانَ مُكْثِرًا مِنْ الْحِفْظِ، وَلَمْ يَتَهَذَّبْ بِشَيْخٍ وَلَمْ يُرْتَضْ فِي الْعُلُومِ؛ بَلْ يَأْخُذْهَا بِذِهْنِهِ مَعَ جَسَارَتِهِ وَاتِّسَاعِ خَيَالٍ وَشَغَبٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ بَلَغَنِي مِنْ حَالِهِ مَا يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْ النَّظَرِ فِي كَلَامِهِ جُمْلَةً. وَكَانَ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِ اُبْتُلُوا بِالْكَلَامِ مَعَهُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ وَحُبِسَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ. وَلَمْ يَكُنْ لَنَا غَرَضٌ فِي ذِكْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، وَلَكِنْ لَهُ أَتْبَاعٌ يَنْعَقُونَ وَلَا يَعُونَ وَنَحْنُ نَتَبَرَّمُ بِالْكَلَامِ مَعَهُمْ وَمَعَ أَمْثَالِهِمْ، وَلَكِنَّ لِلنَّاسِ ضَرُورَاتٍ إلَى الْجَوَابِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ)) [فَتَاوَى التَّقِي السُّبْكِي (2/210)، دَارُ المعرفة: بيروت].

بل هذا التَّصرُّف يستوجب من كلِّ الباحِثين التَّحقُّق مِن كلِّ ما يعزوه ابن تيميَّة - نفياً أو إثباتاً - لمخالفيه، خاصَّة فيما يتعلَّق بالمسائل العَقَديَّة الَّتي شذَّ من خلالها عن عقيدة أهلِ السُّنَّة والجماعة.

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... jomjcQAnLl

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... SXEGJKWnpl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد مايو 26, 2024 11:03 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (10)

- ثانياً: دعوى ابن تيميَّة (اختلاف!) اجتهاد الإمام ابنِ فُورَك في مسألة العُلُوِّ الحسِّي:

ذكر ابنُ تيميَّةَ أَنَّه وَقفَ على نصٍّ في تصنيفٍ للإمامِ ابنِ فُورَك في أصولِ الدِّين، يُثبتُ فيه الإمامُ - بزعمه - العُلُوَّ الحِسِّي في حقِّ ربِّهِ، وهو قوله: ((وَإِنْ سَأَلْتَ فَقُلْتَ: أَيْنَ هُوَ؟، فَجَوَابُنَا: إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ، كَمَا أَخْبَرَ فِي التَّنْزِيلِ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [المُلْك : 16]، وَإِشَارَةُ الْمُسْلِمِينَ بِأَيْدِيهِمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي رَفْعِهَا إلَيْهِ. وَأَنَّكَ لَوْ سَأَلْتَ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ فَقُلْتَ: أَيْنَ اللَّهُ؟ لَقَالُوا: إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ، وَلَمْ يُنْكِرُوا لَفْظَ السُّؤَالِ بِـ: "أَيْنَ"؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ سَأَلَ الْجَارِيَةَ الَّتِي عُرِضَتْ لِلْعِتْقِ فَقَالَ: أَيْنَ اللَّهُ؟، فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ مُشِيرَةً بِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ: اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا مُنْكَرًا لَمْ يَحْكُمْ بِإِيمَانِهَا، وَلَأَنْكَرَهُ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ "فِي" بِمَعْنَى: "فَوْقُ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [التَّوبة: 2] أَيْ: فَوْقَهَا)) [مجموع الفتاوى (16/61)، ط. دار الوَفاء] وتأمَّل أنَّ هذا النَّصَّ الَّذي نَقلَه ابنُ تيميَّةَ عن الإمامِ ابنِ فُورَك في مسألة العُلُوِّ، يكاد يكون نفس نصِّ الإمام البَاقِلَّاني الَّذي استشهدَ به ابنُ تيميَّةَ نُصرةً لمشربه، كما مرَّ معنا، ثمَّ تبيَّنَ لنا بعد استقراء نصوص الإمام الباقلَّاني أنَّ العُلُوَّ الَّذي يقصده القاضي مُنَافٍ تماماً للعُلُوِّ الَّذي يذهب إليه ابنُ تيميَّة، وأنَّ هذه طريقة كثير مِن قُدَماء الأشاعرة، يُطلقون نُصوص العُلُوِّ والاستواء في حقِّه تعالى، ويجرِّدونها مِن كلِّ معاني الجِسميَّة، وينفون عنها جميع لوازم العُلُوِّ الحِسِّي والجِهَة والمكان كالحَدِّ والحَيِّزِ والمسافَةِ، ولكنَّ ابن تيميَّة يفضِّل أن يأخذ منهم - غالبًا - هذا الإطلاق، ويفهمه بطريقته، ولا يكلِّف نفسه عناء بحثه في ضوء المحكمات، بل ولا يكترث حتَّى إذا جاءت نتائج مزاعمه تناقض بمائة وثمانين درجة صريح كلام القوم في التَّنزيه!، وكأنَّ البيت القصيد عنده: تكثير سواد القائلين بالجِهة، وإن استدعى الأمر منه التَّشبُّث بسراب وخيط من بيت العنكبوت.

وقَالَ الإمَامُ ابنُ فُورَك أيضاً وفق ما نقله ابنُ تَيميَّةَ: ((وَإِنْ سَأَلْتَ: كَيْفَ هُوَ؟، قُلْنَا لَهُ: "كَيْفَ" سُؤَالٌ عَنْ صِفَتِهِ، وَهُوَ ذُو الصِّفَاتِ الْعُلَى، هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي لَهُ الْعِلْمُ، وَالْقَادِرُ الَّذِي لَهُ الْقُدْرَةُ، وَالْحَيُّ الَّذِي لَهُ الْحَيَاةُ، الَّذِي لَمْ يَزَلْ مُنْفَرِدًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا، وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ)) [مجموع الفتاوى (16/61)، ط. دار الوَفاء] وظاهر جدًّا أنَّ الإمام ابنَ فُورَك هنا، قد فسَّر السُّؤال عن الكيفيَّة في حقِّه تعالى، بمعنى السُّؤال عن ثبوت صِفات الكمال والجلال والجمال، وأنَّ لها حقيقة في الخارج، ولم يُرد بالكيفيَّة معنى الجِسميَّة.

ثمَّ جاء دور ابنُ تيميَّة ليُدلِيَ برأيه في هذا النَّصِّ الَّذي نقله عن الإمامِ ابنِ فُورَك؛ فقال: ((قُلْتُ: فَهَذَا الْكَلَامُ هُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ "الْإِبَانَةِ"، وَلِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كُلَّابٍ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ فُورَك، لَكِنَّ ابْنَ كُلَّابٍ يَقُولُ: إنَّ الْعُلُوَّ وَالْمُبَايَنَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ. وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَقُولُونَ: كَوْنُهُ فِي السَّمَاءِ صِفَةٌ خَبَرِيَّةٌ كَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ، وَيُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَذَلِكَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ عِنْدَهُمْ)) [مجموع الفتاوى (16/61)، ط. دار الوَفاء] إذن: فابنُ تيميَّة يزعمُ أنَّ نَصَّ ابنِ فُورك السَّابق في إثباتِ العُلُوِّ، مُوافقٌ لِنَصِّ الإمام الأشعريِّ في إثباتِ العُلُوِّ الحِسِّي - بزعمه - كما في كتابه "الإبانة".

ولكنَّ ابن تيميَّةَ على ما يبدو يكون قد وَقَف على كلامٍ آخر للإمامِ ابنِ فُورَك في مسألةِ العُلُوِّ، لأجل هذا وبعد عرض طريقة الإثبات عند الإمامِ ابنِ فُورَك، شرع الحرَّاني مباشرةً في بيان معالم هذا الطَّريق الثَّاني للإمامِ، مُستشهداً بكلامِ الإمامِ ابنِ فُورَك نفسه مِن مصنَّفٍ آخَر وقف عليه، فنَقَل عنه أنَّه قال: ((فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَيْنَ هُوَ؟ قِيلَ: لَيْسَ بِذِي كَيْفِيَّةٍ فَنُخْبِرُ عَنْهَا إلَّا أَنْ يَقُولَ: " كَيْفَ صُنْعُهُ؟"، فَمَنْ صُنْعِهِ أَنَّهُ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الصَّانِعُ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا)) [مجموع الفتاوى (16/62)، ط. دار الوَفاء] وعلَّقَ ابنُ تيميَّة قائِلًا: ((فَهُنَا أَبْطَلَ السُّؤَالَ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَهُنَاكَ: جَوَّزَهُ، وَقَالَ: الْكَيْفِيَّةُ هِيَ الصِّفَةُ، وَهُوَ ذُو الصِّفَاتِ، وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، قَالَ فِي ذَلِكَ الْمُصَنَّفِ: وَإِنْ سَأَلَتْ الْجَهْمِيَّةُ فَقَالَتْ: مَا هُوَ؟، يُقَالُ لَهُمْ: "مَا" يَكُونُ اسْتِفْهَامًا عَنْ جِنْسٍ أَوْ صِفَةٍ فِي ذَاتِ الْمُسْتَفْهِمِ. فَإِنْ أَرَدْتَ بِذَلِكَ سُؤَالًا عَنْ صِفَتِهِ فَهُوَ الْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْكَلَامُ، وَالْعِزَّةُ، وَالْعَظَمَةُ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: حَدِّثُونَا عَنْ الْوَاحِدِ الَّذِي تَعْبُدُونَهُ مَا هُوَ؟ قِيلَ: إنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ: مَا جِنْسُهُ؟ فَلَيْسَ بِذِي جِنْسٍ، وَإِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِك: مَا هُوَ؟ أَيْ: أَشِيرُوا إلَيْهِ حَتَّى أُدْرِكَهُ بِحَوَاسِّي، فَلَيْسَ بِحَاضِرٍ لِلْحَوَاسِّ، وَإِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ: مَا هُوَ؟ أَيْ: دُلُّونِي عَلَيْهِ بِعَجَائِبِ صُنْعَتِهِ وَآثَارِ حِكْمَتِهِ، فَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِ قَائِمَةٌ. وَإِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ: مَا اسْمُهُ؟ فَنَقُولُ: هُوَ اللَّهُ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، الْقَادِرُ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ)) [مجموع الفتاوى (16/62)، ط. دار الوَفاء] وإشارة ابن تيميَّة هنا إلى اضطراب رأي الإمام ابن فُورَك في مسألة إثبات "الكيفيَّة" في حقِّه تعالى: لا يستقيم؛ لأنَّ "الكيف" يُطلق وقد يُراد به:

1. حَقِيقَة وَكُنْه الشَّيْءِ، وهذا غير منفي عن الله، فلا يعلم حقيقة الله وصفاته إلَّا الله وحده، ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه : 110]، وعلى هذا يتنزَّل كلام الإمام في الإثبات، ومن هذا القبيل قول الحَافِظ ابْنِ حَجَر العَسْقَلاَنِي (ت : 852 هـ) في طريقة الصَّحَابَةِ الكرام في مسألة الصِّفات: ((بَلْ نَهَوْا عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا لِعِلْمِهِم بِأَنَّهُ بَحْثٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ مَا لَا تُعْلَمُ كَيْفِيَّتُهُ بِالْعَقْلِ، لِكَوْنِ الْعُقُولِ لَهَا حَدٌّ تَقِفُ عِنْدَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَحْثِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ وَكَيْفِيَّةِ الصِّفَاتِ، وَمَنْ تَوَقَّفَ فِي هَذَا فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ حُجِبَ عَنْ كَيْفِيَّةِ نَفْسِهِ مَعَ وُجُودِهَا، وَعَنْ كَيْفِيَّةِ إِدْرَاكِ مَا يُدْرِكُ بِهِ فَهُوَ عَنْ إِدْرَاكِ غَيْرِهِ أَعْجَزُ)) [فَتْح البَارِي (13/350)، المكتبة السَّلفيَّة]، فَالكيفُ المثبت هنا بمعنى: الحَقِيقَة كَمَا هو وَاضِحٌ، فَلاَ يَعْلَم حَقِيقَة الله إلَّا الله.

2. الهيئة والشَّكل والتَّشخُّص والأحوال وغيره من معاني الجِسميَّة، وهذا منفي عن الله، لأنَّه تعالى ليس بجسمٍ، وعلى هذا يتنزَّل كلام الإمام في النَّفي، ومن هذا القبيل قول الحَافِظ ابْنِ حَجَر العَسْقَلَانِي (ت : 852 هـ) في شَرْحِ حَدِيثِ "النُّزُول": ((وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى مَا وَرَدَ مُؤْمِنًا بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ مُنَزِّهًا اللَّهَ تَعَالَى عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ وَهُمْ جُمْهُورُ السَّلَفِ، وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالسُّفْيَانَيْنِ وَالْحَمَّادَيْنِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَغَيْرِهِمْ)) [فَتْحُ البَارِي (3/30). المكتبة السَّلفيَّة]، فَالكيفُ المنفي هنا بمعنى: الهَيْئَة وَالشَّكْل وَالتَّشَخُّص وَغَيْرهَا مِنْ مَعَانِي الجِسمِيَّة كَالحَرَكَةِ وَالاِنتِقَالِ، فَالسَّلَفُ والأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ يُنَزِّهُونَ اللهَ عَن الْكَيْفِيَّةِ الجِسْمِيَّةِ.

وما استشكله ابن تيميَّة هنا من تقرير الإمام ابنِ فورك في مسألة "الكيفيَّة"؛ هو بعينه ما قرَّره الإمامُ الباقلَّاني بقوله - وقد مرَّ معنا -: ((فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيفَ هُوَ؟ قِيلَ لَهُ: إِنْ أَرَدتَّ بِالْكَيْفِيَّةِ: التَّرْكِيبَ وَالصُّورَةَ وَالجِنْسِيَّةَ، فَلَا صُورَةَ لَهُ وَلَا جِنْسَ فَنُخْبِرُكَ عَنْهُ. وَإِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ " كَيْفَ هُوَ" أَيْ: عَلَى أَيِّ صِفَةٍ هُوَ؟ فَهُوَ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصيرٌ. وَإِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ " كَيْفَ هُوَ" أَيْ: كَيْفَ صُنْعُهُ إِلَى خَلْقِهِ؟ فَصُنْعُهُ إِلَيْهِم: العَدْلُ وَالإِحْسَانُ)) [التَّمهيد (ص: 264)، تحقيق: مكارثي، المكتبة الشَّرقيَّة] إذن: فالكيفُ بمعنى التَّرْكِيبِ وَالصُّورَةِ وَالجِنْسِيَّةِ وغيرها من لوازم الجِسميَّة: منفي عن الله، والثَّابتُ: الكيف بمعنى وجود الصِّفات، وأنَّ لها حقيقة في الخارج، الله أعلم بها.

ثمَّ نصَّ ابنُ تيميَّة أيضًا على أنَّ الإمامَ ابنَ فُورَك ((فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ أَثْبَتَ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَرْشِ)) [مجموع الفتاوى (16/62)، ط. دار الوَفاء] ثمَّ ذكر نصَّ الإمامِ ابنِ فُورَك وفيه قوله: ((فَإِنْ قَالَ: فَحَدِّثُونَا عَنْهُ أَيْنَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ؟ قِيلَ: "أَيْنَ؟" تَقْتَضِي مَكَانًا، وَالْأَمْكِنَةُ مَخْلُوقَاتٌ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَزَلْ قَبْلَ الْخَلْقِ وَالْأَمَاكِن، لَا فِي مَكَانٍ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ وَقْتٌ وَلَا زَمَانٌ. فَإِنْ قَالَ: فَعَلَى مَا هُوَ الْيَوْمَ؟ قِيلَ لَهُ: مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوَى﴾ [طه : 5])) [مجموع الفتاوى (16/62)، ط. دار الوَفاء] وواضحٌ جدًّا أنَّ الإمامَ ابن فُورَك قد جمعَ بين: إثباتِ الاستواء ونفيِ العُلُوِّ الحِسِّي في نفس النَّصِّ، فتراه يحتجُّ بآية الاستواء في مقام الجواب عن سؤال: ((عَلَى مَا هُوَ الْيَوْمَ؟))، فيطلق النُّصوص الواردة في المسألة، ويُجرِّدها من جميع المعاني الجِسميَّة كالمكان والجِهة كما في جوابه عن سؤال: ((أين الله؟))، وهذا معنى "الأين" المنفي في كلامه، أي: نفي "الأين" بمعنى السُّؤال عن المكان، وأمَّا "الأين" المثبت في كلامه - على فرض ثبوته -؛ فالمراد به السَّماء مِن السُّمُوِّ والرِّفعَةِ والعَظمةِ، وأنَّه تعالى فوق المكان، أي: عُلُوّ الرُّتْبَةِ والقَدْرِ والجَبروتِ والعَظَمةِ، العُلُوّ المطلق عن الزَّمان والمكان، فـ: "الأين" على هذا بمعنى السُّؤال عن المكانة.

وعلى هذا؛ فلا اضطراب ولا تناقض في كلام الإمام ابن فُورَك؛ لأنَّه يُثبتُ الاستواءَ والعُلُوَّ لا على معنى وجود مَسافة بين الخالق والمخلوق أو الانفصال الحِسِّي، ولكنَّ ابن تيميَّة يُصرُّ على فَهم بعض كلام الرَّجل بمعزل عن نُصوصه المحكمات.

لأجل هذا؛ زعم ابنُ تيميَّة (اختلاف!) اجتهاد الإمام ابن فُورَك في مسألةِ العُلُوِّ الحِسِّي، فمرَّة يُثبتُ - بزعمه - وفي أخرى: ينفي، واستمع إليه قائِلًا: ((فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ مُخْتَلِفًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَمَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ غَيْرِهِ. فَأَبُو الْمَعَالِي كَانَ يَقُولُ بِالتَّأْوِيلِ، ثُمَّ حَرَّمَهُ، وَحَكَى إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَابْنُ عَقِيلٍ لَهُ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَذَلِكَ لِأَبِي حَامِدٍ، وَالرَّازِيِّ، وَغَيْرِهِمْ)) [مجموع الفتاوى (16/62)، ط. دار الوَفاء] ويُشير ابنُ تيميَّة هنا إلى تهمة لطالما حاول إلصاقها بمتكلِّمة أهل السُّنَّة، ولقَد تلقَّفها منه أتباعه التَّيميَّة؛ وفهموا الرِّسالة الَّتي يوَدُّ شيخهم ابن تيميَّة إرسالها من خلال هذا النَّصِّ وأمثاله، فقال أحد الباحثين مِنَ الوَهَّابيَّة: ((وهذا يدُلُّ على تَناقُضِ "ابنِ فُورَك" واضطرابِه وعَدَم ثَباتِه على مَبدأٍ مُعَيَّن، وذلكَ لتأثُّره بعلمِ الكَلَام، وما تلقَّاه فيهِ منَ الشُّبهاتِ الَّتي تتنافَى مع ما جاء في كتابِ الله - عزَّ وجلَّ - وسُنَّةِ المصطفى - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام -، وحين تغلب عليه النَّزعة الإيمانيَّة يُثبت النُّصوص على ما دلَّت عليه بظاهرِها، وحين تغلب عليه تلكَ الشُّبُهات الَّتي تأَصَّلَت في قلبِهِ وعَقلِهِ يَلجَأُ إلى التَّأويلِ للنُّصوصِ لتَسلَمَ له تِلكَ الشُّبُهاتِ، ويُحاوِل التَّوفيق بينها وبينَ النُّصوص، وتلكَ مُحاوَلةٌ باطِلَةٌ)) [آراء ابن فُورَك الاعتقاديَّة (ص: 974-975) - رسالة مقدَّمة لنيل درجة الدُّكتوراة في العقيدة، إعداد: عائشة الخوتاني، جامعة أم القرى: السُّعوديَّة] وقال أيضا: ((وهذا يُوَضِّح لنا تذَبذُب "ابن فُورَك" وتناقضه في موقفه من أخبار الصِّفاتِ، وعدم ثبوته على مَوقِفٍ واحِدٍ. وقد يكون - والله تعالى أعلم - لِابنِ فُورَك مَرحلَتَان؛ إحداهما: التَّأويل، والأخرى: الإثبات، والمصادر الَّتي بينَ أيدينا لا تُفيدنا بشيءٍ في ذلكَ)) [نفسه (ص: 976)] هكذا وَبكلِّ بساطة!، وكأنَّ الإمام ابن فُورَك يُعاني من انفصام الشَّخصيَّة!، والحقيقة هي أنَّ الاضطراب والتَّناقض يكمن في طريقة هؤلاء الشُّذَّاذ في فهم كلام الأئمَّة لا غير.

وقال الإمام ابنُ فُورَك وفق نقل ابن تيميَّة: ((فَإِنْ قِيلَ: إذَا قُلْتُمْ إنَّهُ الْآنَ خَالِقٌ فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا؟ قِيلَ لَهُ: لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ الْآنَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، فَكَذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ يُنَاسِبُهُ. فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِوَاءُ مِنْهُ فِعْلٌ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ لَمْ يَزَلْ؟)) قَالَ: ((قِيلَ: وَالْخَلْقُ مِنْهُ فِعْلٌ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لَمْ يَزَلْ)) [مجموع الفتاوى (16/62)، ط. دار الوَفاء] فعلَّق ابنُ تيميَّة قائلًا: ((فَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ إلَّا بِبَيَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ...وَهَذَا جَوَابٌ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ عِنْدَهُ أَنَّهُ اسْتَوَى بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا قَدْ بَحَثَهُ مَعَ السُّلْطَانِ، بَلْ هُوَ الْآنَ كَمَا كَانَ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ...الخ)) [مجموع الفتاوى (16/62)، ط. دار الوَفاء] فابنُ تيميَّةَ يرى أنَّ الإمامَ ابنَ فُورَك كان يُثبت الاستواء صفة ذاتٍ لا فِعلٍ، وأنَّ هذا ما قرَّره الإمام في مُناظرة الكرَّاميَّة بمجلس السُّلطان مَحمُود بن سُبْكْتِكِينَ، وعلى هذا فلا يستقيم أن يبني عليه رَدّه على مُخالفيه.

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... U3RDd1vaTl

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... iyiiF7DkYl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 200 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 9, 10, 11, 12, 13, 14  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 4 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط