س10: من أول من صنف الحديث الصحيح؟
أول من عني بجمع الصحيح الإمام البخاري وتلاه تلميذه الإمام مسلم، فصحيح البخاري وصحيح مسلم هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.
وقد رُوي عن الإمام الشافعي أنه قال:( ما أعلم في الأرض كتاباً في العلم أكثر صواباً من كتاب مالك).
ورُوي عن بعض العلماء أن (الموطأ) هو أول كتاب صُنف في الصحيح.
وقد أجيب عن قول الإمام الشافعي السابق بأنه إنما قال هذا قبل وجود كتابي الإمام البخاري ومسلم.
وأجيب عن قول بعض العلماء بأن الموطأ هو أول مصنف في الصحيح بأن الإمام مالك لم يخص كتابه بالصحيح فحسب، بل إنه قد أضاف المرسل والمنقطع والبلاغات.
ولئن أجيب على ذلك بأن المرسل والمنقطع والبلاغات في الموطأ قد تبين اتصالها، فإن اعتبار آخر يتميز به صحيح البخاري ويقدمه إلى درجة الأولية، وهو أن كتاب البخاري قد اختص بتدوين الحديث الصحيح المرفوع، وأنه قد ميز أقوال الصحابة والتابعين وجعلها فقط في تراجم الأبواب.
أما الموطأ فترى فيه الحديث ممزوجاً بأقوال الصحابة والتابعين وجميع ذلك مسوق سياقاً واحداً.
أما عن مطلق الجمع للحديث الصحيح دون اعتبار لتمييزه من غيره، فإننا لا نَغْمَطُ الموطأ في ذلك، فهو بحق أول كتاب ضم بين دفتيه الحديث الصحيح.
وهنا أضع مشاركة قديمة لي بعنوان: حكاية كتاب.
وهي: https://www.msobieh.com/akhtaa/viewtopi ... A8#p360386
حكاية كتاب:
اعتنت أمة الإسلام منذ العهد النبوي بالحديث الشريف حفظاً وتطبيقاً وروايةً وتدويناً؛ لمعرفتها قدره, ووعيها أهميته لبيان وفهم القرآن الكريم.
ورغم الجهود المضنية التي قدمها الصحابة والتابعون وتابعوهم لخدمة سُنة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم خلال قرنين كاملين من الزمان إلا أن صحيح الإمام البخاري سيظل علامة فارقة في تاريخ تدوين السنة كله, وسيظل الإمام البخاري هو دٌرة أهل الحديث وأميرهُم وإن تباعد زمانه؛ لا لشئ سوي ما مَنَّ الله به عليه من جودة الحفظ, ودقة الفهم, وسرعة البديهة, واتقاد الهمة, وما وٌفق إليه من تأسيس مدرسة البحث العلمي الأولي في الأستقصاء والاستدلال والعزو.
ومع أن (الصحيح) لم يكن مُؤلفه الوحيد – فقد تجاوزت مؤلفاته الثلاثين كتاباً – إلا أنه كان أبرزها وأقيمها , بل إن شئت قلت: كان صحيح الإمام البخاري مشروع حياة متكامل .
بدأ البخاري رحلة تأليفه مع طلبه للعلم منذ نعومه أظفاره , وأنهاها في مجالس حديثه التي طاف بها البلاد, وأسمع فيها صحيحه نحو 90000 إنسان إلي ان وافته المنية رحمه الله..
وبين البداية والنهاية كانت حياة مفعمة بالنشاط في تحصيل العلوم , والتجرد في تبليغها, والتطواف والترحال بين الأمصار, والدراسة والتمحيص لتراجم آلاف الرُواة, والتلقي والكتابة عن 1080 شيخاً, هم أئمة الحديث الشريف في زمانه.
وكانت – خلالها – أيضاً – المرحلة المضنية لتدوين (الصحيح), التي بدأها وهو ابن ثمانية عشر عاماً؛ وختمها بعد أن بلغ الرابعة والثلاثين, وأودعها زهرة شبابه.
ستة عشر عاماً كاملة عمد خلالها هذا الإمام العظيم إلي تلال المرويات الحديثية المتراكمة, واستخراج مابين الركام صحيحها, ثم انتقي من بين الصحاح نفيسها؛ مقرراً للحكم علي الرواه معايير دقيقة, ومعتمدا لقبول المرويات شروطاً صارمة لم تعهدها حقول البحث التاريخي قبله, وهي اشتراط : اتصال السند , وعدالة الرواة, وتمام ضبطهم , وعدم الشذوذ , وعدم العلة , مع أمانة بالغة في إيراد المتن شهد بها القاصي والداني؛ كل هذا في المروية الواحدة.
فقد كان معياره الرئيسي في تصحيح الحديث هو : التثبت من هوية كافة رواته, والتحقق من نزاهتهم وتقواهم, وخلوهم من التحيزات المذهبية, والتوجهات الحزبية, والأهواء الشخصية؛ فإن ثبت إلي جوار عدالة الرواة هذه ضبطهم, واتصالهم الزمني باللقيا والمعاصرة معاً اعتُبر الحديث صحيحاً لديه.
ويكفي للتدليل علي عظيم بذله في تدوين (الصحيح) نه رحمه الله انتقي أحاديثه البالغة 2761 حديثاً بدون المكرر من بين 600000 حديث, وصنفه ثلاث مرات في كل مرة يهذب وينقح إلي ن أخرجه للنور تحت عنوان (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلي الله عليه وسلم وسننه وأيامه) ثم قال: ما أدخلت في هذا الكتاب إلا ما صح , وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب.
ومع اهتمام البخاري باتصال السند وصحته ؛ فقد طلب إلي جوارهما عٌلوه كذلك, حتي أُحصي له في الصحيح أكثر من 20 حديثاً لم يكن بينه وبين النبي صلي الله عليه وسلم فيها إلا ثلاثة رجال فقط, وهي المعروفة ب (ثُلاثيات البخاري).
بالإضافة لما احتف به تدوين (الصحيح) من النفحات والقربات؛ فقد بدأ البخاري تصنيفه في المسجد الحرام, وكتب تراجمه في روضة المسجد النبوي الشريف بين قبره صلي الله عليه وسلم ومنبره, وكان يصلي لكل ترجمه ركعتين, ولم يُدخل إليه حديثاً إلا إذا اغتسل وصلي لله تعالي ركعتين كذلك, ولا عجب.. فقد كان الإمام البخاري آية في الإخلاص والورع والعبادة رحمه الله تعالي.
وبعد ان اتم البخاري تدوينه عرضه علي أكابر علماء عصره من اساتذة الحديث وجهابذته شيوخاً وأقراناً, أمثال الإمام أحمد بن خنبل والإمام أبي زٌرعة الرازي؛ فاستحسنوه , ومدحوه , وشهدوا له بالصحة, ثم تلقته الأمه علي مر العصور بالقبول؛ معتبرهً إياه أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل.
كما حرص علماء الأمة علي خدمته ؛ نسخاً,وشرحاً ودراسة لأسانيده ورجاله وتراجمه وفقهها , ودفعاً لما أثير حوله من الأوهام والشبهات؛ حتي بلغت الأعمال العلمية المفردة له نحو 500 مؤلف, ناهيك عن المؤلفات التي تناولته عرضاً من غير إفراد؛ فهذه أكثر من ن تُحصي.
ولم يعرف خلال تاريخ أمة الإسلام كتاب بعد القرآن الكريم له مكانة كمكانة (الصحيح) أو هيبة كهيبته ؛ فقد قُدر عدد مخطوطاته في مكتبات العالم بأكثر من 25000 قطعة منه؛ مما يؤكد تغلغله في وجدان هذه الأمة وضميرها ؛ ولم لا وقد استمد مكانته لدي المسلمين من مكانة السثنة, ومكانة صاحبها عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ذاك هو (الصحيح) الذي لن يكف المسلمون عن توقيره وتبجيله ما بقيت أمتهم.
وتلك هي حكايته التي لن تنتهي ما دام في الناس نفعه, وفي الأجيال المتعاقبة عطاؤه .. أما ما بين يديك الآن منها فلا يعدو إلا أن يكون أهم فصولها فقط.
المصدر: من إصدارت الازهر الشريف بمعرض الكتاب في دورته الثانية والخمسين.