حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة (2/ 304-306)
أثر متصل الإسناد في أمر النيل:
أخبرني أبو الطيب الأنصاري إجازة، عن الحافظ أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، عن أبي الفتح محمد بن محمد الميدومي، أخبرتنا أمة الحق شامية بنت الحافظ صدر الدين الحسن بن محمد بن محمد سماعا، أخبرنا أبو حفص عمر بن طبرزد سماعًا، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي، وغيره سماعا، قالوا: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن القنور سماعا، أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحيم المخلص سماعًا، أخبرنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن عيسى السكري، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي، وأبو بكر محمد بن صالح بن عبد الرحمن الحافظ الأنماطي، قالا: حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح بن محمد، كاتب الليث، قال: حدثني الليث بن سعد، قال: بلغني أنه كان رجل من بني العيص يقال له: حائد بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، خرج هاربًا من ملك من ملوكهم؛ حتى دخل أرض مصر، فأقام بها سنين، فلما رأى أعاجيب نيلها وما يأتي به، جعل الله تعالى عليه ألَّا يفارق ساحلها حتى يبلغ منتهاه؛ من حيث يخرج أو يموت قبل ذلك، فسار عليه -قال بعضهم: سار ثلاثين سنة في الناس وثلاثين في غير الناس. وقال بعضهم: خمسة عشر كذا، وخمسة عشر كذا- حتى انتهى إلى بحر أخضر، فنظر إلى النيل ينشق مقبلًا، فصعد على البحر، فإذا رجل قائم يصلي تحت شجرة من تفاح، فلما رآه استأنس به، وسلم عليه، فسأله الرجل صاحب الشجرة، فقال له: من أنت؟ قال: أنا حامد بن أبي شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فمن أنت؟ قال: أنا عمران بن فلان بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، قال: فما الذي جاء بك إلى هنا يا عمران؟ قال: جاء بي الذي جاء بك، حتى انتهيت إلى هذا الموضع؛ فأوحى الله إلي أن أقف في هذا الموضع، حتى يأتيني أمره، قال له حامد: أخبرني يا عمران، ما انتهى إليك من أمر هذا النيل؟ وهل بلغك في الكتب أن أحدًا من بني آدم يبلغه؟ قال له عمران: نعم، بلغني أن رجلا من بني العيص يبلغه، ولا أظنه غيرك يا حامد، قال له حائد: يا عمران، أخبرني كيف الطريق إليه؟ قال له عمران: لست أخبرك بشيء إلا أن تجعل لي ما أسألك! قال: وما ذاك يا عمران؟ قال: إذا رجعت إلي وأنا حي أقمت عندي حتى يوحي الله تعالى إلي بأمره، أو يتوفاني فتدفنني؛ فإن وجدتني ميتًا دفنتني وذهبت، قال: ذلك لك علي، قال له: سر كما أنت على هذا البحر؛ فإنك تأتي دابة ترى آخرها ولا ترى أولها، فلا يهولنك أمرها، اركبها؛ فإنها دابة معادية للشمس، إذا طلعت أهوت إليها لتلتقمها حتى يحول بينها وبينها حجبتها، وإذا غربت أهوت إليها لتلتقمها؛ فتذهب بك إلى جانب البحر، فسر عليها راجعًا حتى تنتهي إلى النيل، فسر عليه، فإنك ستبلغ أرضًا من حديد، جبالها وأشجارها وسهولها من نحاس، فإن أنت جزتها وقعت في أرض من فضة؛ جبالها وأشجارها وسهولها من فضة، فإن أنت جزتها وقعت في أرض من ذهب جبالها وأشجارها وسهولها من ذهب، فيها ينتهي إليك علم النيل.
فسار حتى انتهى إلى أرض الذهب، فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب شرفة من ذهب، وقبة من ذهب، لها أربعة أبواب؛ فنظر إلى ما ينحدر من فوق ذلك السور حتى يستقر في القبة ثم ينصرف في الأبواب الأربعة؛ فأما ثلاثة فتغيض في الأرض، وأما واحد فيسير على وجه الأرض؛ وهو النيل. فشرب منه واستراح، وأهوى إلى السور ليصعد، فأتاه ملك فقال له: يا حامد قف مكانك، فقد انتهى إليك علم هذا النيل؛ وهذه الجنة؛ وإنما ينزل من الجنة، فقال: أريد أن أنظر إلى الجنة، فقال: إنك لن تستطيع دخولها اليوم يا حامد، قال: فأي شيء هذا الذي أرى؟ قال: هذا الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر، وهو شبه الرحا، قال: إني أريد ان اركبه فأدور فيه- فقال بعض العلماء: إنه قد ركبته؛ حتى دار الدنيا وقال بعضهم: لم يركبه- فقال له يا حامد: إنه سيأتيك من الجنة رزق، فلا تؤثر عليه شيئًا من الدنيا، فإنه لا ينبغي لشيء من الجنة أن يؤثر عليه شيء من الدنيا عن لم تؤثر عليه شيئًا من الدنيا بقي ما بقيت.
قال: فبينا هو كذلك واقف، إذ نزل عليه عنقود من عنب فيه ثلاثة أصناف لون كالزبرجد الأخضر، ولون كالياقوت الأحمر، ولون كاللؤلؤ الأبيض، ثم قال له: يا حامد، أما إن هذا من حصرم الجنة، وليس من طيب عنبها، فارجع يا حامد، فقد انتهى إليك علم النيل، فقال: هذه الثلاثة التي تغيض في الأرض، ما هي؟ قال: أحدهما الفرات، والآخر دجلة، والآخر جيحان، فارجع.
فرجع حتى انتهى إلى الدابة التي ركبها، فركبها، فلما أهوت الشمس لتغرب قذفت به من جانب البحر، فأقبل حتى انتهى إلى عمران، فوجده ميتًا فدفنه، وأقام على قبره ثلاثا، فأقبل شيخ متشبه بالناس أغر من السجود، ثم أقبل إلى حامد، فسلم عليه، ثم قال له: يا حامد، ما انتهى إليك من علم هذا النيل؟ فأخبره، فلما أخبره، قال له: هكذا نجده في الكتب، ثم أطرى (1) ذلك التفاح في عينيه، وقال: ألا تأكل منه؟ قال: معي رزقي، قد أعطيته من الجنة ونهيت أن أوثر شيئًا من الدنيا، قال: صدقت يا حامد، هل ينبغي لشيء من الجنة أن يؤثر بشيء من الدنيا، وهل رأيت في الدنيا مثل هذا التفاح؟ إنما أنبتت له في الأرض ليس من الدنيا، وإنما هذه الشجرة من الجنة، أخرجها الله لعمران يأكل منها، وما تركها إلا لك، ولو قد وليت عنها رفعت، فلم يزل يطريها في عينيه، حتى أخذ منها تفاحة، فعضها، فلما عضها عض يده، ثم قال: أتعرفه؟ هو الذي أخرج أباك من الجنة؛ أما إنك لو سلمت بهذا الذي كان معك لأكل منه أهل الدنيا قبل أن ينفد، وهو مجهودك إن تبلغه فكان مجهوده أن بلغه.
وأقبل حامد حتى دخل أرض مصر، فأخبرهم بهذا؛ فمات حامد بأرض مصر.
الهامش:
(1): اطرى التفاح: أحسن الثناء عليه.
يتبع بمشيئة الله