الدرة الثمينة في أخبار المدينة (ص: 135 - 137)
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، فإنه غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات!
قالوا: وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها، فيمم رسول الله وهو مسجى بثوب حبرةٍ، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي وأمي أنت، والله لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها ثم لن يصيبك بعدها موتة أبداً. ثم رد البرد على وجهه، وخرج وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر أنصت، فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه، أقبلوا عليه وتركوا عمر.
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت قال: ثم تلا هذه الآية: {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبية فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} .
قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: وأخذها الناس عن أبي بكر رضي الله عنه فهي في أفواههم.
قال عمر: فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض، ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله لا يدفن وما مات، وإنه ليوحى إليه، فأخروه حتى أصبحوا من يوم الثلاثاء، وقال العباس رضي الله عنه: إنه قد مات وإني لأعرف منه موت بني عبد المطلب.
وقال القاسم بن محمد: ما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الموت في أظفاره.
قالت عائشة رضي الله عنها: لما أرادوا غسل رسول الله اختلفوا فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا؟ أو نغسله وعليه ثياب؟!
قالت: فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلمٌ من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه.
قالت: فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص دون أيديهم، وغسله علي رضي الله عنه، أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه، لا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه معه، وأسامة بن زيد وشقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم يصبان الماء عليه وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وميتاً، ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما يرى من الميت، فلما فرغوا من غسله كفن.
روى البخاري في ((الصحيح)) من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسفٍ ليس فيها قميص ولا عمامة)) .
فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس يصلون عليه أرسالاً، الرجال ثم النساء ثم الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
يتبع بمشيئة الله...