الدرة الثمينة في أخبار المدينة (ص: 85 - 87)
الباب الثاني عشر في ذكر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفضله
قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، فنزل في علو المدينة في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم، فمكث عندهم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، فأخذ مربد كلثوم فعمله مسجداً وأسسه، وصلى فيه إلى بيت المقدس.
وخرج من عندهم يوم الجمعة عند ارتفاع النهار، فركب ناقته القصواء وحشد المسلمون ولبسوا السلاح عن يمينه وشماله، وخلفه منهم الماشي والراكب، واعترضه الأنصار فما يمر بدار من دورهم إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة والثروة، فيقول لهم خيراً ويدعو لهم، ويقول عن ناقته: إنها مأمورة خلوا سبيلها، فمر ببني سالم فأتى مسجدهم الذي في الوادي -وادي رانوناء- وأدركته صلاة الجمعة فصلى بهم هنالك، وكانوا مائة رجل، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.
ثم ركب راحلته وأرخى لها زمامها، وسار حتى انتهت به إلى زقاق الحبشي ببني النجار، فبركت على باب دار أبي أيوب الأنصاري، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم، ينزل عليه القرآن ويأتيه جبريل حتى ابتنى مسجده ومساكنه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل سفل بيت أبي أيوب، وذكر أبو أيوب أنه فوق النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل ساهراً حتى أصبح، فأتاه فقال: يا رسول الله إني أخشى أن أكون ظلمت نفسي أن أبيت فوق رأسك، فقال عليه الصلاة والسلام: السفل أرفق بنا وبمن يغشانا.
فلم يزل أبو أيوب رضي الله عنه يتضرع إليه حتى انتقل إلى العلو، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب سبعة أشهر. وكان بنو مالك بن النجار يحملون كل يوم قصاع الثريد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتناوبون ذلك بينهم إلا سعد بن عبادة، فإنه ما كان يقطع جفنته في كل ليلة إلى دار أبي أيوب، فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيأكلون.
وروى البخاري ومسلم في ((الصحيحين)) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ المربد من بني النجار، كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت.
قال: فصفوا النخل قبلة له وجعلوا عضادتيه حجارة. قال: وكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم:
اللهم إن الخير خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
وجعلوا ينقلون الصخر، وطفق النبي صلى الله عليه وسلم ينقل اللبن معهم في ثيابه ويقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
وبنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده مربعاً وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وطوله سبعون ذراعاً أو يزيد، وجعل له ثلاثة أبواب: باباً في مؤخره، وباب عاتكة -وهو باب الرحمة-، والباب الذي كان يدخل منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو باب عثمان.
ولما صرفت القبلة إلى الكعبة سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان خلفه، وفتح الباب الآخر حذاءه، فكان المسجد له ثلاثة أبواب: باب خلفه، وباب عن يمين المصلى، وباب عن يساره، وجعلوا أساس المسجد من الحجارة وبنوا باقيه من اللبن.
وفي ((الصحيحين)) كان جدار المسجد عند المنبر ما كانت الشاة تجوزه، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان طول جدار المسجد بسطة، وكان عرض الحائط لبنة لبنة، ثم إن المسلمين كثروا فبنوه لبنة ونصفاً، ثم قالوا: يا رسول الله، لو أمرت فزيد فيه؟. قال: صلى الله عليه وسلم: نعم، فأمر به فزيد فيه وبنى جداره لبنتين مختلفتين، ثم اشتد عليهم الحر فقالوا: يا رسول الله، لو أمرت بالمسجد فظلل، قال: نعم، فأمر به فأقيم له سواري من جذوع النخل شقة ثم شقة، ثم طرحت عليها العوارض والخصف والإذخر، وجعل وسطه رحبة، فأصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف عليهم فقالوا: يا رسول الله، لو أمرت بالمسجد يعمر فطين، فقال لهم: ((عريش كعريش موسى ثمام وخشيبات والأمر أعجل من ذلك)) .
فلم يزل كذلك حتى قبض صلى الله عليه وسلم.
ويقال: إن عريش موسى عليه السلام كان إذا قام أصاب رأسه السقف.
قال أهل السير: بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده مرتين، بناه حين قدم أقل من مائة في مائة، فلما فتح الله عليه خيبر، بناه وزاد عليه في الدور مثله، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه متوجهاً إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم أمر بالتحول إلى الكعبة، فأقام رهطاً على زوايا المسجد ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله، ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده هكذا، فأماط كل جبل بينه وبينهما، فوضع القبلة وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء، فلما فرغ قال جبريل هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها وصارت قبلته إلى الميزاب.
أخبرنا أبو القاسم المظفري والأزجي في كتابيهما عن أبي علي الأصفهاني، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي محمد الخلدي، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الحسن بن زبالة، حدثني عبد العزيز بن أبي حازم، عن هشام بن سعد بن أبي هلال، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت قبلة النبي صلى الله عليه وسلم الشام، وكان مصلاه الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده موضع الأسطوانة المخلقة اليوم خلف ظهرك، ثم تمشي إلى الشام، حتى إذا كنت بيمنى باب آل عثمان، كانت قبلته في ذلك الموضع.