التاريخ والقصص
كيف كانت الدعوة إلى الإسلام ؟
هذا المقال الأول فى السنة الأولى لمجلةهدى الإسلام 28 رجب سنة 1353 هـ - 5 نوفمبر سنة 1934م
موضوعنا هذا الذى نتحدث به إلى القراء موضوع طريف جدير بالاهتمام ، خليق بأن لا يثير جدلا بين طائفة من الغربيين وفربق من المسلمين ، وقد نفضنا أقلامنا عنه منذ درسنا التاريخ السلامى وتمكنت فينا دعائمة على أقوم الأسس ، فلم يدر بخلدنا أن نلهج بما لهجت به ضعاف العقول بعد أن عالجنا الثقافة الإسلامية بكل ما فيها من مظهر وعظمة ، واحسب أنالذين استحوذت عليهم وساوس صدورهم ورموا الإسلام بتلك الأسطورة قد أندفعوا بدافع الجهالة إذ لو كان اندفاعهم على ضوء العلم الصحيح لما نالوا من الإسلام بما جنت أيديهم – ولعلك قد تتوق نفسك إلى تقهم المعنى بأكثر وضوحا ، يلهج معظم الغربيين وضعاف العقول من المسلمين بأن الإسلام لم ينتشر ولم ترسخ له قدم فى عالم الوجود إلا لأنه سعى والسيوف أمامه تمهد له السبيل وتذلل له بين يديه العظماء وتلجىء المستضعفين إلى اعتناقه حقنا لدمائهم وصيانة لأملاكهم ، وقد ضربوا الأمثال لتلك الأساطير بما اقام النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى سراياه (1) ومغازيه ثم بما عمل خلفاؤه من بعده ولعمر الحق لو قرأوا القرآن أو درسوا التاريخ الإسلامى وتركوا التعص ظهريا لما استحوذت عليهم تلك الوساوس *
وعلى أثر ما دار من نقاش حول هذا الموضوع بينى وبين صديق لى من الشباب المتقد حمية وغيره قد طغت عليه المدنية الزائفة لا لشىء ، سوى أنه استهوته تلك الأضواء الساحرة التى انبعثت من ارجاء عاصمة النور والسرور على زعمهم وملكت فؤاده عاداتهم الحسان وجناتها الرائعة ومرت بمخيلته قصورها وقناطرها التى تناولتها يد التجميل والابداع فأنست تراث أسلافه ومجد آبائه وأحسبه لم تلهه تلك المناظر الزئفة فراح يجنى ثمراته فى باريس السوربون (2) التى مننها يمتد النور ومنها يستقى العلم وفيها يقول المرحوم شوقى بك :
تلدين أعلام البيان كأنهم أصحاب تيجان ملوك أربك
فيعود الطالب إلى بلاده عالما حقا – لعمرك ياليت قومى يعلمون – على أثر ما دار بينى وبينه من نقاش ثار فيه ثائرته أفضت إلى رجوعه للحق والرجوع إلى الحق فضيلة بدرت لى بادرة استعراض هذا الموضوع لما فيه من طلاوة . ----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) السرايا : جمع اسرية وهى كل غزاة لم يكن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والغزوات ما كان فيها
(2) السوربون : اسم لجامعة بباريس من أقدم جامعات الغرب تعد فى مصاف الجامعات الشرقية وقد كان لها فضل عظيم فى تكوين فئات من المصريين منذ بعوث محمد على باشا العلمية .
ولا حاجة لى أن أذكر هنا ما كان عليه صلى الله عليه وآله وسلم فى بدء الدعوة من الانفراد وما أصابه من أهله وأقاربه وكان النصر حليفه فى كل موطن وما أوتيه من الثبات والتأييد اللذين هما أساس كل نجاح وفلاح .
--------------------------------------------------------------------------------------------
وقد كتب فى هذا الموضوع كثير من الكتاب البارزين وعالجوه أيما معالجة فلم يدع كاتب منهم لناقد نقدا ويجدر بنا أن نمر مر الكرام حول هذا الموضوع مقتبسين منه قبسا يستضىء بنوره كل من كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد وما يذكر إلا أولو الألباب .
أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق فجعل النبى يسار بدعوته من يثق بتوقد فكره وتمكن الأنصاف من قلبه فلم يسل لتأييد رسالته إلا سيف الهدى والحجة الدامغة فآمن به من آمن على بصيرة بعد أناة واختبار ، قال كتاب السيرة ، جاء خالد بن العاص إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له : إلى م تدعو يا محمد ؟ فقا ل : أدعوك إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن تخلع ما أنت عليه من عبادة مالا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع والاحسان إلى والديك ، وأن لا تقتل ولدك خشية الفقر ، وأن لا تقرب الفاحشة ما ظهر منها وما بطن ، وان لا تقتل نفسا حرم الله قتلها إلا بالحق ، وأن لا تقرب مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده ، وأن توفى الكيل والميزان بالقسط ، وأن تعدل فى قولك ولو كان على ذوى قرباك ، وأن توفى لما عاهدت : سمع خالد هذه الوصية الجامعة والدواء الناجع للمجتمع الانسانى فأسلم طائعا مختارا ، وليتأمل المنصف فى قصة إسلام الفاروق عمر - وذلك أن رجلا من قريش لقيه فى بعض طرق مكة فقال اين تذهب ؟ إنك الصلب القوى فى دينك وقد دخل عليك هذا الأمر ( يريد ضوء الدعوة إلى دين الإسلام ) قال وما ذاك ؟ قال : أختك قد صبأت ( أى خرجت من دينها ) فرجع مغضبا فقرع الباب على أخته فدخل عليها وقال يا عدوة نفسها قد بلغنى عنك أنك صبأت ثم لطمها لطمة شج بها وجهها وامسك بلحية زوجها سعيد بن زيد وضرب به الأرض ولما رأت أخته الدم بكت وغضبت وقال أتضربنى يا عدو الله على أن أوحد الله ، لقد أسلمنا على رغم أنفك يا ابن الخطاب فما كنت فاعلا فافعل ، قال عمر ك فاستحييت حين رأيت الدم فقمت وجلست على السير وأنا مغضب فنظرت فاذا صحيفة فى ناحية البيت فقلت أعطونى هذه الصحيفة ، فأبت أخته أن تعطيه إياها ، وقالت إنك رجس فانطلق فأغتسل فانه كتاب لا يمسه إلا المطهرون ، قال فانطلقت فاغتسلت فناولتنى الصحيفة فاذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم ( سبح لله ما فى السموات والأرض وهو العزيز الحكيم – إلى قوله – إن كنتم مؤمنين ) – وغذا فيها ( طه ما انزلنا عليك القرآن لتشقى ) – فزعرت ورميت الصفحة من يدى ثم رجعت إلى نفسى وأخذتها فما قلبت فيها طرفى حين عظمت فى صدرى وقلت من هذا فرت قريش ، فلما بلغت قوله ( إننى أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدنى واقم الصلاة لذكرى ) قلت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ما ينبغة لمن يقول هذا أن يعبد غيره ، يا قوم دلونى على محمد .
ثم ليتأمل فيما وقع لفروق بن عمروسيد بنى شيبان لما عرفه أبو بكر شأن محمد صل الله عليه وىله وسلم ، فتقدم إليه مفروق فقال إلى م تدعو؟ قال أدعو إلى شهادة أن لا آله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله ، فقال له ثانية إلى ما تدعو يا أخا قريش ؟ فتلا عليه القرآن ، فما كاد يكرر الثالثة حتى ثال : دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم صرفوا عن الحق وكذبوك وظاهرواعليك : هذه مثل عليا من حال القوم إبان الدعوة . فهكذا كان هدى النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى الدعوة حين أنبلد فجر الاسلام وشاع سناه ، فأخرج العرب من الظلمات إلى النور وجعل منهم أمة متحدة وبذلك حجزوا عن النار التى إقتحموها وفى ذلك يقول الرسول الكريم : ( إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التى تقع فى النار فجعل ينزعهن ويغلبنه فيفتحمن فيها ، فأنا ىخذ فحجزكم عن النار وأنتم تفتحمون فيها .
[b]بعده
[/b]