التفكير الغربى فى حد العبقرية
فما ذكرنا يظهر أن العبقرة فى التفكير الغربى ليست محدودة وأنها لا تمتد إلا لأفراد مخصوصين ، فلا بد إذن من أن نعرف أن هناك شيئا آخر غير الوراثة المجردة إن العبقرية يظهر فى الأسرة فى لحظة معينة ولا يمكن أن يظهر قبل ذلك كذلك قد يتبعه وقد لا يتبعه عباقرة آخرون – والأب العبقرى قد يكون له ابن عادى – وقد يكون هذا الآبن غبيا – وإذا استمرت السرة فى إنتاج عباقرة كثيرين فان هذه الظاهرة تقف بعد بضعة أجيال كأن الطبيعة قد نالها الرهق والضنى ، وأخيرا كثيرا ما يحدث أن يحل الجنون محل العبقرية ويكون ذلك راجعا إلى نوع خاص من الوراثة متأثر بعوامل غير وراثية
تعاون الوراثة والبيئة
وقد قال البعض : إن الوراثة والبيئة ينهاونان معا بنشاط على إيجاد العبقرية ، إذ أن ( الوراثة ) لا تنتج فى الرجل إلا 0 ما يمكن أن يكون ) وليس ما سيكون ، أما آثار الوسط وحدها فهى قادرة على تحويل الاحتمال إلى أمر واقع . على أن ( الوسط ) لا يكون تأثيره بعد الولادة فقط ، بل إنه يؤثر فى الشخصية المستقبلة قبل الولادة ، وذلك بطرق مختلفة
ولقد عملت أبحاث فى جلاسجو عن علاقة عدد المواليد بالذكاء فظهر ان عدد المواليد يزيد عند الرجال الأقل ذكاء كذلك الأسر يتكاثر عددها كلما قلت الكفاءة العقلية عند أعضائها .
العبقرية وارتباطها بالوراثة
إن العبقرية شذوذ وشرود عن الحالة العادية ، وهى بلا شك اضطراب أكيد ، هى حادث فجائى وكذلك الجنون ، وهذا الحادث الفجائى قد يرجع إلى حالة الوالدين قبل الحمل أو إلى اضطراب يصيب الجنين ، فما يحدث للوالدين قد ينتج عند الطفل نوعا من الشذوذ النافع ، وقد ينتج تشويها فى خلقته ، أو يؤدى إلى التحام الجنينين ببعضها إذا كانت الأم تحمل : اثنين وهذا الشذوذ قد ينتقل بدروهبالوراثة . على أن انتقاله يكون بدرجة محدودة ولبعض أجيال فقط ، والاضطراب الذى يحدث فى حالة عدم استمرار التحام الجنينين قد يكون أثره فيما بعد إما أن ينتج عبقرية وإما جنونا ، أو اضطرابا فى الأعصاب ، وقد تجتمع الحالتان معا ، وأخيرا قد تتبع كل منهما الأخرى ، أى أن يجمع الشخص أحيانا صفات العبقري ومواهبه ، وأحيانا أخرى اضطرابا فى الأعصاب يجعله أشبه ما يكون بمجنون حقيقى
وهناك أنواع من الشذوذ تنتقل أحيانا بالوارثة ؛ وأحيانا لا تنتقل ، مثل الحول ، وقصر النظر ، وصغر أحد أعضاء الجسم أو كبره أكثر من الحد الطبيعى ، واحيانا يكون هناك اتجاه نحو مصادر الأنسان الأولى ، وقد تكلم عن ذلك ريبو فى كتابه عن ( الوراثة ) إذ ذكر أن أسرة كليورن كان بها شذوذ الست أصابع ( أى زيادة أصبح فى اليد أو فى القدم ) وقد استمر هذا الشذوذ فى السرة مدة أربعة أجيال
والآن ، أليس هناك تشابه بين الشذوذ الجثمانى والشذوذ العقلى الذى يسمى العبقرية والذى تكون فيه الوراثة أيضا محدودة ?
ذكرت مدام ناجوت ولبوكفتش أن سيدة كانت تتبع عبثا وسائل لاجهاض نفسها ، فعندما وضعت فى ميعاده المعتاد كان هذا الطفل قوى البنية ولكنه كان أبله ، وكانت والدة ( كاردان ) قد حاولت إجهاض نفسها أيضا عدة مرات دون جدوى ، وكانت النتيجة أن أصبح الطفل الذى ولدته وهو ( كاردان ) عبقريا فذا ؛ وقد تكون محاولة السيدتين كلتيهما إجهاض نفسيهما ليس هو السبب الحقيقى ، لكن هذا التشابه كاف لأن يرينا كيف تنتج حالات الشذوذ التى تسمى بالعبقرية والتى هى وراثية ولكن إلى درجة محدودة
محاولة علماء الغرب
فى ايجاد الطرق العمليى للعبقرية
إذن ماذا عسى أن يكون قانون هذا الشذوذ ؟ ذلك ما لا يعلمه أحد : ومنذ بضعة اعوام قال الأستاذ جيوهكسلى إنه قد يمكن فى المستقبل أن يجعلى كل طفل عبقريا بتغير بعض عدده ، وقد يكون ذلك حلما خياليا : على أن مجموع الحقائق المعروفة تثبت أن فى تكوين العبقرية قانونا ينتج ( شذوذا ) خاص – فمن يدرى ؟ قد يستطيع الانسان فى حالة فهم هذا القانون ودراسته أن يصنع العبقرية
القرآن الكريم وعلم الفراسة
هذه خلاصة ما يقال عن علم الفراسة فى الغرب وفيها من تضارب الأفكار وتغاير الآراء ما قد علمته فاذا نحن ذكرنا ذلك فلنذكر أن القرآن الكريم الذى قد أحاط بكل شىء علما والذى لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها ، قد جاء فيه ذكر الفراسة صريحا بالمعنى الذى يفهم من هذا العلم . قال الله تعالى ( إن فى ذلك لآيات للمتوسمين ) قرأها خضرة النبى صلى الله عليه وسلم للمتفرسين
حضرة النبى صلى الله عليه وسلم يضع قواعد ثابته
لوصول علم الفراسة فى الاسلام
وقد وضع حضرة النبى صلى الله عليه وسلم قواعد لهذا العلم ثابتة الأساس فجاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله ( اتقوا فراسة المؤمن فأنه ينظر بنور الله ) أخرجه الهروى والطبرانى فى الكبير وأبو نعيم فى الطب النبوى والحكيم فى النوادر وسموية فى الفوائد وابن عدى فى الكامل والقضاعى فى المسند من طريق عبد الله بن صالح – معوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبى أمامة عن النبى صلى الله عليه وسلم وفى هذا السند عبد الله بن صالح وقد ضعفه بعضهم وروى عن ابن معين أنه كان يوثقه ، وقال أبو زرعة حسن الحديث ، ولهذا مع ماله من الشواهد والمتابعات : حسنة الحافظان نور الدين الهيثمى فى الزوائد والجلال السيوطى فى الجامع ، ومن طرقه ما رواه البخارى فى التاريخ والترمذى فى التفسير مت جامعه والعسكرى فى الأمثال وابن عرفة فى جزئه وان مردوية فى التفسير من طرق ترجع إلىعمرو بن قيس الملائى عن عطية العوفى عن أبى سعيد الخدرى مرفوعا به ورواه أبو نعيم فى الطب النبوى من طريق ابن أبى ليلى عن عطية به ورواه ابن جرير وأبو نعيم من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر به ورواه ابن الجوزى من طريق أبى معاذ الصائغ عن الحسن عن ابى هريرة ، وقال ابن الجوززى أبو معاذ هو سليمان بن أرثم متروك ، قال الخطيب والمحفوظ منه ما رواه العقبلى عن سفيان عن عمرو بن قيس الملائى قال كان يقول ( اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله ) ورواه ابن جرير والطبرانى وابو نعيم والعسكرى من طريق وهب بن م عن طاوس بن كيسان عن ثوبان به مرفوعا بلفظ ( إحذر دعوة المسلم وفراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله وينظر بتوفيق الله ) ولقظ ابن جرير ( إحذرو فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله ) ومن شواهد حديث البزاز وابن جرير والطبرانى وأبو نعيم وابن السنى فى الطب النبوى من رواية أبى بشر بن المزلق عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم ) وإسناده حسن ولم يصب ابن الجوزى حيث حكم على حديث الأصصل بالوضع
عبقرية عمر بن الخطاب وفراسته
ومن أمثلة فراسة عمر بن الخطاب وعبقريته ما أخرده البخارى فى صحيحه : حدثنا يحيى بن قزعه حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فان يكن فى أمتى أحد فانه عمر ) زاد زكريا بن أبى زائدة عن سعد عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال النبى صلى الله عليه وسلم ( لقد كان فيمن كان قبلكم من بنى اسرائيل رجال يتكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فان يكن فى أمتى منهم أحد فعمر ) قال ابن عباس رضى الله عنه من نبى ولا محدث : قال الحافظ بن حجر فى شرحه ك قوله محدثون – بفتح الدال جمع محدث واختلف فى تأويله ، فقيل ملهم قاله الأكثر قالوا المحدث بالفتح هو الرجل الصادق الظن وهو من ألقى فى روعه شىء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذى غيره به وبهذا جزم أبو أحمد السكرى وقيل من يجرى الصواب على لسانه من غير قصد ، وقيل مكلم أى تكلمه الملائكة بغير نبوة وهذا ورد من حديث أبى سعيد الخدرى مرفوعا ولفظه قيل يا رسول الله وكيف يحدث ؟ قال تتكلم الملائكة على لسانه رويناه فى فوائد الجوهرى وحكاه القابسى وآهرون ويؤيده ما ثبت فى الرواية المعلقة ويحتمل رده إلى المعنى الأول أىتكلمه فى نفسه وغن لم ير مكلما فى الحقيقة فيرجع إلى الالهام ، وفسره ابن التين وبالتفرس ووقع فى مسند الحميدى عقب حديث عائشة المحدث الملهم بالصواب الذى يلقى على فيه وعند مسلم من رواية ابن وهب ملهمون وهى الأصابة بغير نبوة ، وفى رواية الترمذى عن بعض أصحاب ابن عيينة محدثون يعنى مفهمون وفى الرواية الاسماعيلى قال إبراهيم يعنى ابن سعد رواية قوله محدث أى يلى فى روعه ويؤيده حديث إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه أخرجه الترمذى من حديث ابن عمر وأحمد من حديث أبى هريرة والطبرانى من حديث بلاب وأخرجه فى الأوسط من حديث معاوية ومن حديث أبى ذر عند أحمد ، انتهى بنقل بعض أصحابنا من تخريج أحاديث الشهاب للقضاعى .
ويعجبنى عنا قول الأستاذ فريد وجدى فى مقال له عن عمر بن الخطب فى تعريف العبقرية وفيه الاشارة إلى عبقرية عمر
العبقرية بين الاسلام وأوروبا
العبقرية فى العرف الأخير تعنى بلوغ درجة ممتازة فى الذكاء ، ومكانه عالية من العقل ولكنها فى الاصطلاح الفلسفى تعنى موهبة لا يمكن اكتسابها بالعلم ولا بالتجرية ؛ تؤهل صاحبها لأن يلهم إلهاما فيما هو بصدده حتى يبلغ درجة الا بداع فيه ، بدون أن يعمل فيه فكرا ، أو يبذلك للوصل إليه جهدا .
هذه حالة استثنائية يمنحها بعض الأفراد منحا ؛ ولا يستطيع أحد الوصول اليها بالاستكثار من العلم ، ولا بالتبحر فى المعرفة ، قالت دائرة معارف ( بريتكانيا ) لسنة 1929 : ( العبقرية شىء خارق للعادة على وجه الاطلاق ، وأرقى حتى من المقدرة العلمية الفائقة . وإنها لتختلف فى النوع اختلافا بينا عن الألمعية الممتازة ، فهذا تعتبر درجة عقلية سامية ، ولكن ينقصها تلك الموهبة الفذة التى لا تقبل التفسير المحصورة فى كلمة عبقرية )