النساء والطب والتمريض
فى صدر الإسلام
هذا المقال فى مجلة هدى الإسلام فى 29 يوليو عام 1935 لحسن قاسم
حضرة الأستاذ المحترم ، الكاتب التاريخى الفذ رضى – وما ذكرت ذلك إلا } حسن أفندى قاسم { بعد التحية : سترى فى عضون مقالى أننى ذكرت : أن من نساء الأسلام من كن يعللن الجرحى ، ويداوين المرضى – وما ذكرت ذلك إلا بالتقى من السماع ، فأرجوا أن تحوم لنا حول هذا البحث ، وتبين لنا النساء اللواتى كن فى صدر الأسلام يشتغلن كممرضات .
وتقبل تحيتى مع قبول فائف الأحترام ،
المخلصة
ن ح الحسينى
*********************
يجدر بى قبل الجواب على هذا السؤال الموجه الى من تلكم الآنسة الفاضلة أن أقدم بين يدى هذا البحث صورة من محاسن الدين الإسلامى ، وانه الدين العام الخالد الذى تكفل لكل من اتبعه ، وسلك طريقه على هدى وبصيرة حياة طيبة وسعادة فى الحياة الدنيا والآخرة ، لا تعادلها سعادة ،
لا جرم أن لتلك الحضارة التى جاء بها جين الأسلام ، والتى وضع أصولها وأسس قواعدها ، واقام دعائمها ، وبذر بذورها فى العالم ، حضرة النبى صلى الله عليه وسلم – شأنا كبيرا فى تطور العالم ، وبلوغه فى الارتقاء مبلغا لم تبلغه أية أمة من أكبر ألأمم التى تقدمها حتى إن أمة الرومان عندما بزغت الحضارة الإسلامية وشاع سناها فى ربوع العالم ، اعترفت بانحطاطها ، وتبين لها البون الشاسع بين حضارتها والحضارة الأسلامية – وقد كانت عاقبة الأمم التى اقتبست حضارتها من أساليب الأسلام ما نشاهده اليوم من رقى إلى معارج سامية ، وفضائل نامية – وحقا ما أسرع عدوى الفضائل ، كما يقول أبو تمام :
ولو لم يزعنى عنكم غير وازع *** لأعديتنى بالحلم إن العلا تعدى
ولقد كانت الأمة العربية قبل بزوغ تلك الحضارة فى رباها أمة مفككة العرى لا شعار لها ولا دثار ، ولا حرية ولا مساواة ، ولا عدلولا مؤاخاة – يأكل القوى منها الضعيف ، فلما بذرت بذور الحضارة الأسلامية فى ربوعها نفضت عنها دثار الخمول ودخلت فى طور جديد ألبسها لبسا آخر من حياتها ، فانبهر العالم أجمعه من ذلك التطور السريع ، وإنى لاذكر حادثة يهتز لها القلب طربا ويثلج لها الصدر إعجابا وجزلا .
ارمانوسة ابنة البطريرك قيرس الذى تولى الحكومة المصرية فى القرن السابع الميلادى لعهد هرقل الأكبر وهو المعروف عند مؤرخى العرب بالمقوقس ، كانت أمرأة عاقلة قد أوتيت مسحة من الذكاء وكان أبوها كثيرا ما يتجاذب معها أخبار العرب وأحاديث الدعوة المحمدية ، وكانت هى بنوع خاص تتبع سير خطوات العرب ، وتعنى بالوقوف على أخبار النبى صلى الله عليه وسلم وصحبه ومبلغ تقدمهم المضطرد ، فلا تدع أية فرصة تمر عليها مر السحاب ، إلا وتستقصى تلك الأخبار فى إبانها ، وكان مبلغ همها من ذلك ميويلها الى اكتساب الفضائل ، فإنها لما رأت محمدا نشأ فى قوم لا خلاق لهم أولى بأس وقوة واستطاع بمفرده بما أوتيه من أمانة وذكاء ومواهب تسامت عن أن توصف – أن يهد أكبر صرح للظلم ويؤسس للعالم أكبر دولة أعز الله بها الأمم التى سلكت على منهجها القويم وصراطها المستقيم ، نذرت على نفسها ألا يكون حديثها فى غير محمد صلى الله عليه وسلم واخلاق محمد صلى الله عليه وسلم ، وفضائل محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، وما أحدث ظهوره فى قلب نظام العالم وانصاره فى بوثقة الأسلام والسلام – ففى ذات يوم أتتها كبيرة وصيفاتها مارية بجريدة أسبوعية ، كانت تصدر بالأرضى الشامية ، تحمل ملخص أخبار العالم فى أسبوع ، فناولتها إياها ، وما كان أسرع دهشتها عندما رأت جل أنهار الصحيفة قد ملئت بما أحدثه محمد صلى الله عليه وسلم من التطور السريع الذى أحيى المجتمع وجعله يستنشى نسيم السعادة بحث ، وقد راعها من نشرات تلك الصحيفة حديث لفتيين يسأل أحدهما الآخر ما رواءك يا أخى ؟؟
ألم يبلغك تطور الأمة العربية ذلك التطور الذى أحدث أعظم أنقلاب فى العالم لم يأت التاريخ بمثله .
اجل : بلغنى . وإن وايم الحق أعتقد أن الله تقدس فى علاه لما خلق العالم وخلق له سمات التقديس من حضارة الى مدينة ، الى رقى الى علوم ومعارف وآداب . الى غير ذلك :
أراد أن يودعها قلوب الخلق ليتميز الخبيث من الطيب ، فنظر الى قلوبهم ، فلم يجد فيها ما يصلح لحملها ، فأودعها فى قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، ذلك النبى العربى الذى ظهر من أرض تهامة وامده بقوة لا تعادلها قوة ، تمكن بواسطتها أن يبث تلك المواهب فى نفوس العرب ، حتى استملت قلوبهم اليه بغير ما حرب ولا قتال ، وبذلك أضحوا أمة تفاخر بها الأمم على كر الدهور والأعوام وأنا لا يخامرنى شك فى أن هذه الأمة المحمدية ، إن قدر لها أن تفقد جزءا من منعتها وعزتها يوما ما ، شأن الأمم الغابرة ، فانها لا تفقد تلك الآثار الحميدة والذكريات الخالدة ، وستظل ما شاء الله موضع إعجاب الأمم .
وحادثة أخرى أذكرها ، يتخاصم الفاروق عمر مع أبى الحسن على بن أبى طالب ، فيتولد من خصامهما ، دعامة هى أس حياة المجتمع – تلك هى المساواة فى القضاء بين الأمم .
كان الفارووق أميا للمؤمنين وقاضيهم ومفتيهم فدخل عليه الإمام ومعه يهودى ، وأراد أن يفعا إليه قضيتهما ، فوجداه يفصل فى قضية اخرى ن فانتظراه حتى وقع الفصل بها ، فالتفت أبو حفص ونادى اليهودى } تقدم يا يهودى ما حاجتك ؟ { فرفعها إليه فما أن سمعها حتى نادى أبا الحسن ( تقدم يا أبا الحسن ) * قرع هذا النداء سمع الإمام أبى الحسن فتلون وتلعثم وأخذ كل مأخذ ، وتقدم إلى الفاروق وقال ألست أمير المؤمنين وشيخ الإسلام ودعامة عزه ؟ بك أعز الله الإسلام وأصلح ثمه على يديك ، كيف يا أمير المؤمنين تنادينى بكنيتى وقد علمت أن النداء بالكنية تكريم فكيف تكرمنى وأنا فى مقام لا يقتضى التكريم ؟ فبكى عمر حتى أخضلت لحيته وقال ثكلتك أمك يا عمر ، لقد ذكرتنا يا أبا الحسن ألا فحياك الله وبباك وأعز بك شعائر الدين وأنار بك الطريق القويم .
بربك دين هذه آثار وهذا دثاره وشعاره ، أفليس حقيقا به أن يكون أصلا لسائر ما تفرع من العلوم على اختلاف معانيها ومبانيها ؟ وكيف لا يكون مذلك وبين يديه كتاب كريم لم يفرط فيه بشىء قال تعالى ( ما فرضنا فى الكتاب من شىء ) لا يغادر صغيره ولا كبيرة إلا أحصاها ( سنريهم آياتنا فى الآفاق ) وفى انفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق * يقول بعض من يدعى التجديد وبينهما أمد بعيد ، إن تقدم الطب هذا التقدم المضطرد الذى نشاهده بين الفينة والفينة يشعرنا بأنه كان متقهقر فى العصور المتقدمة وأشده تقهقرا عند المسلمين ، وإن الفضل لتقدمه إنما هو لعلماء الفرنجة ، خسىء هذا القول وخسىء ( قائله ) علم الله سبحانه ما لعلم الطب من حاجة ماسة لحياة المجتمع ، الأمر الذى شرفه على سائر العلوم علم الله هذا وهو وحده العليم بكل شىء سبحانه ، فلم يختر أن يعلم لنبيه ومصطفاه أول ما يعلمه من العلوم سواه ، فقال : ( اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الإنسان من علق ) فكان صلى الله عليه وسلم بسر ما فى هذا الخطاب من معان سامية وحكم دقيقة ، أعظم طبيب أظلته السماء منذ خلق الله الأرض ومن عليها ، واليك :
الشمردل بن قباب الكعبى النصرانى ، أبرز طبيب فى العصر النبوى فى الجزيرة العربية من نطس أطباء أهالى نجران ، طبيب متزن قبل أن يضرب بمبضع الداء عين العلة يزن العلاج بمخبار ريثه وأناته ، فلا يخطو قبل أن يعرف موضع القدم ويقدر موطئها وكذلك كل حكيم وتلك عين الحكمة ، طبيب له فى الطب من كل مناحيه من أمراض باطنية وظاهرية الى عمليات جراحية الى تشريح إلى غير ذلك ، قدم راسخه ومع ذلك فقد كان شيخا محنكا يزن الأمور بموازينها ، قد قار عنه الخطوب والتجارب وقارعها ، وكانت الدعوة قد بلغته فلم يسلم لحاجا ، فذكر له نبوغ محمد عليه الصلاة والسلام فى علم الطب ، فقال لاتينه فأتاه ليقف على مقدار ما بلغه من ذلك ، فصار يسأله عن الطب علما علما حتى أفرع ما فى حظيرته ، فسأله النبى صلى الله عليه وسلم عن مرض من الأمراض وطالبه بدواء له ناجع فبهت الذى كفر ولم يحر جوابا ، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم دواؤه كذا وكذا ونعته له ، فبهت الطبيب من سطوة الحق وجلال المعرفة التى تنزهت عن أن يكون لها معرفا سوء بارئه سبحانه ، فلما تحقق صدق ما بلغه قال يا محمد ، والذى بعثك بالحق لأنت أعلم بالطب منى ثم أسلم وعد فى مصاف الأصحاب ، وتأمل رد النبى صلى الله عليه وسمل الطبيب الذى أهداه اليه قيرس رئيس الحكوة المصرية وقوله للرسول حاطب بن أبى بلتعة قل له نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع فمن أين يأتينا المرضى ؟ وبدهى أن ليس يخفىء فى الإفراط من المأكل والمشرب من الأمراض العديدة التى منها تمدد المعدة وارتخاؤها وضعفها وإجهاد الكبد وغير ذلك ، ثم أنظر أمره بالاستياك بعود الأراك ، ولم يأمر بغيره لما فيه من الخواص ، وفيه معرفة علم خواص الأعشاب النافع منها والضار ، وما ينطوى تحت ذلك من علم طب الأسنان وانظر الحكمة فى أمره الاكتحال بالإثمد لعلاج الماء النازل من العين وتفرسه الوباء فى المرأة الغفارية التى كان قد تزوجها فلما دخل بها استكشفها فرأى بياضا بين ثدييها فقال لها الحقى بأهلك ، وهذا مما يلحق بعلم الوراثة ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استعمل فى تداويه ( المشقص ) وهو آلة من ألات الجراحة التى سبق العرب الأفرنج إلى استعمالها من ثلاثة عشر قرنا مضت وهى التى سماها أبوالقاسم (1) خلف بن عباس الزهراوى شيخ جراحى الأندلس فى عهد الدولة الأموية ( بمكواة ) ورسمها على شكل قطيب من المعدن فى طرفه قطعة هلالية وهذه الآلة تستعمل لمنع النزيف بواسطة الكى بها قال أبو القاسم المذكور هى آلة نافعة جدا من أنفع الآلات واجودها تستعمل لربط الشريان كيا عند حاله النزيف وقد استعملها النبى صلى الله عليه وسلم فى سعد (2) بن معاذ ونعت صلى الله عليه وسلم للفتوق الأحتزام والكى والاحتقان لمن به رخو ومن بجوفه غشاوة ، وبالجملة فنبينا سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان طبيبا لا يجارى ولا يبارى ، طبيبا بعلم الأمراض وعلم وظائف الأعضاء والتشريح والجراحة وغير ذلك ، وكان إذا بلغه مرض أحد من المسلمين أتاه بعوده فربما استكشفه فيضع يده الكريمة بين ثندأتيه ثم يصف له الدواء فيبرأ داؤه ، وجاءته فاطمة بنت أبى حبيش وقالت يا رسول الله إنى امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال : لا ذلك عرق وليست استحاضة ( الحديث المروى فى الصحيحين وأبى داود والنسائى عن عائشة ) فتأمل قوة بداهته صلى الله عليه وسلم وسرعتها فى تشخيص الداء وتحليل المرض وتفريق المحيض عن النزيف وهو ما لا يعرفه إلا الأطباء الخصائيون ، وبينما نراه طبيبا قد عالج جميع نواحى الطب ، إذا به صيدليا قد حذق فمن الصيدلة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسللم يتفقعد الأطعمة وطبائعها فما كان منها يحتاج الىتحسين وتعديل فى الحراراة والبرودة فعله ، كأكله صلى الله عليه وسلم الرطب (3) بالقثاء وبالبطيخ ويقول يدفع حر هذا وبرد هذا حر هذا ، ولقد كان فى زمنه صلى الله عليه وسلم بالمدينة بله الجزيرة بأسرها مشافى وبيمارستانات وصيدليات ، وفى كل منها من يديرهما من أطباء وغيرهم .
وقد لا يمكننى أن استوعب هذا الموضوع من كل مناحيه وسأحاول ما استطعت معالجة هذه الناحية وآمل أن أوفق لسد هذه الثمة .
وحسبى ما ذكرته كتصدير للبحث الذى عنيت به دحضا لتلك القرية وبيانا للحق بالحق وسأتى معنا فى البحث ما يصح أن يضاف إلى ذلك وإذن ( فحقت كلمة ربك ) وما أرسلناك إلا حمة للعالمين .
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) التصريف لمن عجر عن التأليف طبع ما وجد من أجزائه عدة مرات بأوربا
(2) روى حديثه مسلم وابن ماجة وأورده الحافظ الكتانى فى نظام الحكومة النبوية
(3) حديثه فى الصحيحين ومسند أحمد ورواه أصحاب السنن والمعاجم والشافعى فى فوائده عن عبد الله بن جعفر وأنس
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
بعده