بعد أن دارت بعض المناقشات بيني وبين بعض الخوارج في الفترة الأخيرة عن مسألة السماع وجدت أن أكثر دليلين يتمسكون بهم لإثبات رأيهم الباطل في تحريم السماع هما: قول الحق عز وجل : " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) " (لقمان:6)
والدليل الثاني هو الحديث الذي رواه البخاري ط الشعب(7/138) وهو: «وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثنا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثنا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الكِلاَبِيُّ، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ، أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ، وَاللهِ مَا كَذَبَنِي: سَمِعَ النَّبِيَّ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ يَقُولُ: لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ، يَعْنِي الفَقِيرَ، لِحَاجَةٍ، فَيَقُولُوا: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.»
وبمشيئة الله أعرض في السطور التالية أقوال لكثير من علماء الأمة المحمدية في بيان الفهم الصائب للآية الكريمة والحديث الشريف ولبيان سقم فهم الخوارج وعقم منهجهم وبعدهم عن جمهور الأمة المحمدية شكلاً ومعنى وبيان أن موضوع السماع هو من جنس المباح طالما لم يكن فيه ما هو منهي عنه من ذكر لمفاتن النساء أو هجاء أو غير ذلك من الكلام الفاحش البذيء.
فأقول وبالله التوفيق:
أقوال علماء التفسير في تفسير قول الله عز وجل: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) " (لقمان:6)
تفسير الخازن(3/396):« قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية قيل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة وكان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشا ويقول إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن. فأنزل الله هذه الآية وقيل هو شراء القينات والمغنين، ومعنى الآية ومن الناس من يشتري ذات لهو أو ذا لهو الحديث وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام» وفي مثل ذلك نزلت هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله له شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت أخرجه الترمذي وهذا لفظه عن أبي أسامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام» وفي مثل هذا نزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية وعن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ثمن الكلب وكسب المزمار» وقال مكحول من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيما عليه حتى يموت لم أصل عليه إن الله تعالى يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية وعن ابن مسعود وابن عباس والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا لهو الحديث هو الغناء والآية نزلت فيه ومعنى يشتري يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن. وقال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث مرات وقال إبراهيم النخعي الغناء ينبت النفاق وقيل: هو كل لهو ولعب وقيل: هو الشرك لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني عن دين الإسلام وسماع القرآن بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني يفعله عن جهل وحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق وَيَتَّخِذَها هُزُواً أي يتخذ آيات الله مزحا أُولئِكَ يعني الذين هذه صفتهم لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.»أهـ
فانظروا إلى قوله:"ومعنى يشتري يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن".
وبهذا نخرج مما سبق بأن السماع المنهي عنه هو ما كان فيه إلهاء عن كتاب الله عز وجل أما خلاف ذلك فلا شيء فيه فهو من جنس المباح كما وضحنا وكما سنوضح في الأدلة القادمة أيضاً إن شاء الله.
تفسير مقاتل(3/432-433):« ومن الناس يعني النضر بن الحارث من يشتري لهو الحديث يعني باطل الحديث يقول باع القرآن بالحديث الباطل حديث رستم وأسفندباز، وزعم أن القرآن مثل حديث الأولين حديث رستم وأسفندباز... ثم أخبر عن النضر فقال- عز وجل-: وإذا تتلى عليه آياتنا يعني وإذا قرئ عليه القرآن ولى مستكبرا يقول أعرض متكبرا عن الإيمان بالقرآن»أهـ
إذاً فالآيه كما قال مقاتل-مقاتل توفى سنة 150هـ- نزلت في النضر بن الحارث وكذلك الآيه التي تليها وهي قوله عز وجل" وإذا تتلى عليه آياتنا" فسبب نزول الآيه أصلاً أنها نزلت في النضر بن الحارث المشرك فانظروا أحباب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخوارج وأفعالهم وكيف هي عاداتهم دائماً في أخذهم للآيات التي أنزلت في المشركين وحملها على المسلمين, فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, حتى من فسر الآيه بالغناء فالواضح أن المقصود هو الغناء الماجن الذي يعرض لذكر النساء وذكر مفاتنهن وما يثير الشهوة كما كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا سمع الحادي قال:"لا تعرض بذكر النساء" سنن البيهقي (5/108), ويؤيد ذلك النقل التالي للعالم الجليل ابن عطيه, والمعنى أيضاً أنه يختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن كما قال الخازن وغيره وسيأتي معنا إن شاء الله.
تفسير ابن عطيه(4/345):« وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ روي أنها نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء محمد صلى الله عليه وسلم وسبه فنزلت الآية في ذلك، وقيل إنه ابن خطل وروي عن أبي أمامة الباهلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شراء المغنيات وبيعهن حرام» وقرأ هذه الآية، وقال في هذا المعنى أنزلت علي هذه الآية، وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد، وقال الحسن لَهْوَ الْحَدِيثِ المعازف والغناء، وقال بعض الناس نزلت في النضر بن الحارث لأنه اشترى كتب رستم واسبندياد وكان يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحدثهم بتلك الأباطيل ويقول أنا أحسن حديثا من محمد، وقال قتادة: الشراء في هذه الآية مستعار، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الأباطيل.»أهـ
قلت: انظروا إلى كلام الإمام الجليل ابن عطيه والذي كان أحد المجاهدين في جيوش الملثمين انظروا ماذا قال:" روي أنها نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء محمد صلى الله عليه وسلم وسبه فنزلت الآية في ذلك، وقيل إنه ابن خطل وروي عن أبي أمامة الباهلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شراء المغنيات وبيعهن حرام» وقرأ هذه الآية، وقال في هذا المعنى أنزلت علي هذه الآية، وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد"
فهذا هو الغناء المجمع على تحريمه أو أحد أنواعه لا هذا الذي يحرك الوجدان نحو غاية سامية في السماع، ولا يبعث فيها الهوى والمجون، ولا يكون مصحوبا بشىء محرّم فهذا لا بأس به وهذا هو ما عليه الجمهور كما وضحنا وكما سنوضح إن شاء الله.
تفسير يحي بن سلام(2/669):« قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] ، يَعْنِي: الشِّرْكَ.»أهـ
يحي بن سلام توفي سنة (200هـ) قال الزركلي عنه في الأعلام:" أدرك نحو عشرين من التابعين, قال ابن الجزري: «سكن إفريقية دهرا، وسمع الناس بها كتابه في تفسير القرآن،وليس لأحد من المتقدمين مثله»"
تفسير التستري(1/123):«قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ [6] قال: هو الجدال في الدين والخوض في الباطل.»أهـ
تفسير ابن أبي حاتم(9/3096):« عَنْ قَتَادَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال: شراؤه استحبابه وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق وفي قوله: ويتخذها هزوا قال: يستهزئ بها ويكذبها»أهـ
تفسير الماتريدي(8/297-298):« اختلف في قوله: (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على حقيقة الاشتراء نفسه؛ ولكن على الإيثار والاختيار؛ لأن الاشتراء هو مبادلة أخذ وإعطاء، ولكن آثروا واختاروا الضلال مع قبحه عندهم على الهدى مع حسنه؛ فعلى ذلك آثروا لهو الحديث واختاروه على الحق وحكمة الحديث، واختاروا الفاني على الباقي؛ فسماه: شراء لذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على حقيقة الاشتراء. لكنهم اختلفوا: فمنهم من يقول: إنه على اشتراء المغنية والمغني كانوا يشترونهم؛ ليتلهوا بهم ويلعبوا.
ومنهم من قال: كان أحدهم يشتري ويكتب عن لهو الحديث وباطله من حديث الأعاجم، فيحدث بها قريشًا، ويقول: إن محمدا يحدثكم بأحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بأحاديث فارس والروم؛ فذلك اشتراؤه لهو الحديث وإضلاله الناس عن سبيل اللَّه فأعرضوا عن القرآن والإيمان بمحيد.»أهـ
تفسير الثعلبي(7/310):« وقال آخرون: معناه يستبدل ويختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن وقال: سبيل الله:القرآن.»أهـ
تفسير القشيري(3/128):« لَهْوَ الْحَدِيثِ» : ما يشغل عن ذكر الله ، ويحجب عن الله سماعه. ويقال: هو لغو الظاهر الموجب سهو الضمائر، وهو ما يكون خوضا في الباطل، وأخذا بما لا يعنيك.»أهـ
التفسير الوسيط للواحدي(3/440):« نزلت في النضر بن الحارث»أهـ
زاد المسير لابن الجوزي(3/429-430):« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية مغنّيةً..... وفي معنى «يشتري» قولان: أحدهما: يشتري بماله وحديث النضر يعضده. والثاني: يختار ويستحبّ، قاله قتادة، ومطر. وإِنما قيل لهذه الأشياء: لهو الحديث، لأنها تُلهي عن ذِكْر الله تعالى.»أهـ
تفسير الرازي(15/123-124):« لما بين أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكمية بين من حال الكفار أنهم يتركون ذلك ويشتغلون بغيره ثم إن فيه ما يبين سوء صنيعهم من وجوه الأول أن ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح الثاني هو أن الحديث إذا كان لهواً لا فائدة فيه كان أقبح الثالث هو أن اللهو قد يقصد به الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا ونقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( روحوا القلوب ساعة فساعة ) رواه الديلمي عن أنس مرفوعاً ويشهد له ما في مسلم ( يا حنظلة ساعة وساعة ) والعوام يفهمون منه الأمر بما يجوز من المطايبة والخواص يقولون هو أمر بالنظر إلى جانب الحق فإن الترويح به لا غير فلما لم يكن قصدهم إلا الإضلال لقوله لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كان فعله أدخل في القبح.»أهـ
تفسير القرطبي(14/51-54):قال في بداية تفسيره للآية : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ... ثم قال في نقله لأحد الآراء في المسألة الثانية:« قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: ضُرِبَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَهَمَّ أَبُو بَكْرٍ بِالزَّجْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعْهُنَّ يَا أَبَا بَكْرٍ حَتَّى تَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ دِينَنَا فَسِيحٌ) فَكُنَّ يَضْرِبْنَ وَيَقُلْنَ: نَحْنُ بَنَاتُ النَّجَّارِ، حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الطَّبْلَ فِي النِّكَاحِ كَالدُّفِّ، وَكَذَلِكَ الْآلَاتُ الْمُشْهِرَةُ لِلنِّكَاحِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ بِمَا يَحْسُنُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَمْ يكن فيه رفث.»أهـ
قلت: وهذا هو المتفق عليه ولا خلاف فيه.
تفسير البيضاوي(4/212):« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ما يلهي عما يعني كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار بها والمضاحك وفضول الكلام، والإِضافة بمعنى من وهي تبيينية إن أراد بالحديث المنكر وتبعيضية إن أراد به الأعم منه. وقيل نزلت في النضر بن الحرث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشاً ويقول:
إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار والأكاسرة. وقيل كان يشتري القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الإِسلام ومنعه عنه. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه أو قراءة كتابه.»أهـ
تفسير النسفي(2/711):« نزلت في النضر بن الحرث وكان يشتري أخبار الاكاسرة من فارس.....»أهـ
تفسير الخازن (5/214):«ومن الناس من يشتري لهو الحديث... الآية, وعن أبي مسعود وابن عباس والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا لهو الحديث هو الغناء والآية نزلت فيه ومعنى تشتري يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن.»أهـ
يعني حتى لو أن المقصود بلهو الحديث الغناء فمعناه كما وضحه الإمام الخازن وهو أن يختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن لا تحريم الغناء على إطلاقه.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي(8/409):«ونزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، كان يتجر إلى فارس، ويشتري كتب الأعاجم، فيحدث قريشان بحديث رستم واسفندار ويقول: أنا أحسن حديثا. وقيل: في ابن خطل، اشترى جارية تغني بالسب، وبهذا فُسِّرَ لهو الحديث: المعازف والغناء.»أهـ
أي أن لهو الحديث فُسِّرَ بالمعازف والغناء لأجل هذا النوع من الغناء الذي فيه سب وشتم, فهل من كلام بعد ذلك؟!
أما من قال أن الآيه نزلت في المغنيات واستدل بالحديث الآتي" عن عبيد الله بن زحر عَن عَلّي بن يزِيد عَن الْقَاسِم أبي عبد الرَّحْمَن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « «لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، ولا التجارة فيهن، وأثمانهن حرام، والاستمتاع إليهن»الطبراني(8/198)."
نقول له لننظر ماذا قال السادة العلماء في هذا الحديث:
-قال أمير المؤمنين في علم الحديث ابن حجر العسقلاني في فتح الباري(11/91):« وقوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية كذا في رواية أبي ذر والأكثر وفي رواية الأصيلي وكريمة ليضل عن سبيل الله الآية وذكر ابن بطال أن البخاري استنبط تقييد اللهو في الترجمة من مفهوم قوله تعالى ليضل عن سبيل الله فإن مفهومه أنه إذا اشتراه لا ليضل لا يكون مذموما وكذا مفهوم الترجمة أنه إذا لم يشغله اللهو عن طاعة الله لا يكون باطلا لكن عموم هذا المفهوم يخص بالمنطوق فكل شيء نص على تحريمه مما يلهي يكون باطلا سواء شغل أو لم يشغل وكأنه رمز إلى ضعف ما ورد في تفسير اللهو في هذه الآية بالغناء وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة رفعه لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن الحديث وفيه وفيهن أنزل الله ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية وسنده ضعيف واخرج الطبراني عن ابن مسعود موقوفا أنه فسر اللهو في هذه الآية بالغناء وفي سنده ضعف أيضاً»أهـ
فانظروا إلى ما هو مظلل بالأصفر من كلام ابن حجر ففيه الكفاية لمن أراد الله به العناية.
-مجمع الزوائد للهيثمي(8/122) قال بعد أن ذكر رواية الطبراني:«رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الْأَلْهَانِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.»
-إتحاف الخيرة للبوصيري(3/278) قال بعد أن ذكر أكثر من رواية للحديث:« قلت: رواه الترمذي من طريق علي بن يزيد، عن القاسم، وابن ماجه من طريق عبيد الله الإفريقي، كلاهما عن أبي أمامة فقط مرفوعا، ولم يذكرا ما قاله مجاهد.»أهـ
-جامع الأحاديث للسيوطي(7/487):« قال الهيثمى (5/69) : فيه على بن يزيد، وهو ضعيف.»أهـ
أي أن الإمام السيوطي يؤيد تضعيف الهيثمي لأحد الرواة.
-كنز العمال للمتقي الهندي(4/39):« "لا تبتاعوا المغنيات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام". "ق وضعفه عن أبي هريرة"»أهـ
- تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للزبيدي(3/1332):« قال ابن السبكي: (6/ 321) لم أجد له إسناداً.»أهـ أي لهذا الحديث.
-العلل الواردة للدارقطني(12/267):« وعبيد الله بن زحر لم يسمعه من القاسم؛ بينهما: علي بن يزيد، وهو إسناد ضعيف.»أهـ
والدارقطني من القلائل في الأمة المحمدية الذين نالوا لقب أمير المؤمنين في علم الحديث وهو أعلى لقب ممكن أن يحصل عليه عالم في علم الحديث.
-تفسير ابن كثير (6/296):« عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن وأكل أثمانهن حرام، وفيهن أنزل الله عز وجل علي ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله» وهكذا رواه الترمذي وابن جرير من حديث عبيد الله بن زحر بنحوه، ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب، وضعف علي بن يزيد المذكور.
(قلت) علي وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء، والله أعلم.»أهـ
ثم انظروا ماذا قال العلماء في اثنين من رجال السند وهما عن عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد:
تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي:( 3/68)
" وذكره عبد الحق في أحكامه في البيوع من جهة الترمذي ثم قال وعلي ابن يزيد ضعفه أحمد والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم وقال النسائي متروك وأحسن ما وجدنا فيه قول ابن عدي وقال هو صالح في نفسه إلا أن يروي عنه ضعيف وهذا قد روى عنه ابن زحر وقد ضعفه أبو حاتم وابن معين وابن المديني ووثقه البخاري"أهـ
تفسير الثعالبي(4/318):« وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ/ رُوِيَ: أن الآيةَ نَزَلَتْ فِي شأن رجلٍ من قريش اشترى جاريةً مغنيةً لِتغنِّي له بهجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
وقيل: إنه ابن خطل.
وقيل: نَزَلَتْ في النضر بن الحارث، وقيل غيرُ هذا، والذي يترجح أن الآية نَزَلَتْ في لَهْوِ حَدِيثٍ مُضَافٍ إلى كُفْر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية، ولَهْوَ الْحَدِيثِ كل ما يُلهى من غناءٍ وخِناء. ونحوه»أهـ
التفسير الوسيط للقرآن الكريم(8/80-81):
«وفي أسباب النزول للواحدي، عن الكلبي ومُقَاتِل: أن النضر بن الحارث كان يخرج تاجرا إلى فارس فيشترى أخبار الأعاجم - وفي بعض الروايات: كتب الأعاجم - فيرويها ويُحَدِّث بها قريشا ويقول لهم: إن محمدا يحدِّثكم بحديث عاد وثمود وأنا أُحَدِّثكم بحديث رُستم وأخبار الأكاسرة، فيستحلون حديثه ويتركون استماع القرآن فنزلت.
والمعنى: ومن الناس من اهْتَدَى وهَدَى، ومنهم من ضل وأضل، فكان يشترى باطل الحديث وما لا خير فيه من الكلام، ويقصه على الناس وينشره بينهم، ويدعوهم إليه ويحسِّنه عندهم؛ ليصرفهم ويصدهم عن دين الله، أو عن الاستماع إلى كتابه الهادي إليه.»أهـ
وفي نفس المصدر وبعدها بقليل(8/81-83):« حكم الغناء: أخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه: عن أبن عباس أنه قال: {لَهْوَ الْحَدِيثِ}: هو الغناء وأشباهه ولقد عرض المفسِّرون لحكم الغناء وأطالوا فيه الكلام وبخاصة العلامة الآلوسي، وإليك نبذه مختصرة في هذا الموضوع:
الغناء الذي يُحرك النفوس ويبعث على إثارة الشهوة لما فيه من شعر يُشَبَّب-النسيب بالنساء وذكر محاسنهن- فيه بالنِّساء ويحث على الفجور بذكر الخمور والمحرمات، لا يُختلف في تحريمه، لأنه اللهو المذموم باتفاق. بل حكى بعضهم الإجماع علي حرمته في جميع الأديان.
أخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وغيرهم، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال "لا تبيعوا القِيان ولا تشتروهنَّ ولا تُعلِّموهن، ولا خير في تجارة فيهنَّ، وثمنهنَّ حرام" في مثل هذا أُنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ... } إلخ ذكر ذلك الآلوسي والكشاف.
أمّا من سَلِم من ذلك، ففي "الدر المختار": التغنِّي لنفسه لدفع الوحشة لا بأْس به عند العامة على ما في "العناية" وصحّحه العيْني وغيره، وإليه ذهب شمس الدين السّرخسي، قال: ولو كان فيه وعظ وحكمة فجائز اتفاقا، ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدُّفِّ فيه، ومنهم من أباحه مطلقا، ومنهم من كرهه مطلقا. انتهى كلام الدّر - ذكر ذلك الآلوسي، قال: الآلوسي: ومثل الاختلاف في الغناء الاختلاف في السَّماع، فأباحه قوم كما أباحوا الغناء واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري عن عائشة قالت: "دخل عَليَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاريتان تُغَنِّيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، وفي رواية لمسلم تسجَّى بثوبه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارةُ الشيطان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟. فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد. والحق أنَّ الغناء الذي لا يُحرِّك الشَّهوة، ولا يحثُّ على الفجور وشرب الخمور، يجوز في المناسبات كالعيدين، كما ورد في حديث البخاري السابق عن عائشة، وكالعرس؛ لما ورد أن الرسول حينما علم بزواج فتاة قال: "هلا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيُّونا نُحَيِّيكم
فلولا الحبة السمرا ء ... لم نحلل بواديكم"
وعند التنشيط على القيام بالأعمال الشَّاقَّة كغناء وأناشيد أصحاب الحرف والصناعات، وكحداء الإبل للصبر على قطع المفاوز واجتياز الصحراء، كما يجوز سماع ذلك، والله أعلم.» أهـ.
انظر أيضاً: تفسير السمرقندي(3/21), تفسير البغوي(6/280),تفسير الزمخشري(3/496),تفسير العز بن عبد السلام (2/536),تفسير النيسابوري(5/423),تفسير الجلالين(1/540).
يتبع بمشيئة الله