موقع د. محمود صبيح

مما لا يخفى على أحد أن الأزهر الشريف بعدما أعيد افتتاحه صار أحد ‏المدارس التعليمية على مذهب أهل السنة والجماعة أصحاب‎ ‎المذاهب‎ ‎الأربعة‎ ‎في‎ ‎الفروع‎ ‎،‎ ‎بعقيدة‎ ‎السلف‎ ‎الغير‎ ‎مشوهة‎ - ‎بعيداً‎ ‎عن‎ ‎شذوذات‎ ‎ابن‎ ‎تيمية‎ ‎وبعقيدة‎ ‎الخلف‎ ‎من‎ ‎السادة‎ ‎الأشاعرة‎ ‎والماتريدية ‏السائرين‎ ‎إلى‎ ‎الله‎ ‎على‎ ‎طريقة‎ ‎خواص‎ ‎عُبّاد‎ ‎أهل‎ ‎السنة‎ ‎من‎ ‎السادة‎ ‎الصوفية .

ثم بعدما انفرد الأزهر الشريف بهذه المكانة وصار هو معهد العلم ‏الرئيسي في مصر بل والعالم الإسلامي أجمع ورث ذات المنهجية التي ‏كانت سائدة في مدارس أهل السنة والجماعة في مصر عندما كان هو ‏أحدها قبل أن يصير أوحدها مكانةً وأبرزها أثراً.‏

لذا فإننا عندما نقول بأن الأزهر الشريف وابن تيمية نقيضان لا ‏يجتمعان فإن ذلك مرجعه لأن وراثة الأزهر الشريف لمنهجية علماء ‏مصر من أهل السنة والجماعة تأبى عليه إلا ذلك.‏

ودلالةً على ذلك أعرض فيما يلي إن شاء الله لموقف علماء أهل مصر ‏بلد الأزهر الشريف كممثل لمنهجية الأزهر الشريف - قبل النخر ‏والهدم الذي أشرت إليه فيما سبق من مشاركات - منذ عصر ابن ‏تيمية وإلى الآن.‏

ولاحظ أخي القارئ أن هذا العرض سيقتصر على علماء مصر فقط ‏مولداً أو إقامةً ولا يعرض لمن حملوا ومثلوا منهجية الأزهر الشريف ‏من بقية الأمصار ، إذ لو توسعت في ذلك لطال بنا المقام في ذلك. ‏

وهذا العرض سيكون على الوجه التالي :‏

أولاً : استدعاء علماء مصر له من معاصريه ومحاكمته واستتابته ‏وحبسه في قلعة الجبل وفي الإسكندرية.‏

ثانياً : ما أصدره علماء مصر في حقه ومتبعيه ومقلديه من فتاوى.‏

ثالثاً : نقول وتحريرات لعلماء مصر منذ عصر ابن تيمية وللآن - على ‏قدر المتاح من مصادر - تظهر لكل ذي عينين حقيقة هذا الشخص ، ‏وتضم هذه القائمة من الأئمة الفضلاء والسادة الإجلاء كل من :‏

‏- الإمام صفي الدين الهندي.
- الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي.‏
‏- الإمام العلامة شيخ الإسلام التاج السبكي.‏
‏- الحافظ ابن حجر العسقلاني.‏
‏- الإمام الحافظ العلامة أحمد بن حجر الهيتمي.‏
‏- الإمام الحافظ العلامة عبد الرءوف‎ ‎المناوي.‏
‏- الإمام العلامة سيدي أحمد الدردير الملقب بـ (مالك الصغير).‏
‏- الإمام العلامة محمد بن محمد بن أحمد الشهير بالأمير.‏
‏- الإمام الشهاب الخفاجي.‏
‏- الإمام ملاً علي القاري.‏
‏- الإمام السمنودي.‏
‏- الإمام العلامة الزرقاني.‏
‏- الإمام العلامة مفتي الديار المصرية محمد بخيت المطيعي.‏
‏- الإمام العلامة يوسف الدجوي عضو‎ ‎هيئة كبار العلماء.‏
‏- الإمام العلامة محمد أمين الكردي.‏
‏- الإمام محمد زاهد الكوثري.
- الشيخ محمود خطاب السبكي مؤسس الجمعية الشرعية.‏
‏- الإمام الشيخ مصطفى الحمامي.‏
‏- الإمام العلامة عبد ربه سليمان.‏
‏- الشيخ منصور عويس.‏
‏- الأستاذ الدكتور طه حبيشي.‏
‏- الأستاذ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي رئيس جامعة الأزهر ‏الأسبق.‏

ولأنه يحلو للبعض - على خلاف الوقائع والحقائق المثبتة - تشبيه ابن ‏تيمية بالإمام أحمد وعقد مقارنة بين ما حدث للإمام أحمد في محنة خلق ‏القرآن وبين ما لاقاه ابن تيمية نتيجة لما جنت يداه فسأختم هذا ‏الموضوع إن شاء الله بمقارنة موثقة تثبت ألا شبه بين هذا وذاك وأن ‏هذا التشابه المزعوم والمقارنة المتوهمة ما هما إلا محض افتراء.‏

فاللهم يسر وأعن.‏

يتبع إن شاء الله.

السادة والأحباب الأفاضل :

هارون - أبو بكر - يا نور سيدنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - عاشق أهل البيت (رضي الله عنهم وعنا بهم) :

أعزكم الله وجزاكم الله خيراً ويسعدني دائماً مروركم الكريم وكذا متابعتكم بارك الله فيكم.

‏* تمهيد.‏

يحلو للخوارج المتمسلفة وأتباع ابن تيمية و ‏المستغفَلين و المستغفِلين للغير أن يصوروا ما حدث ‏معه من وقائع وما دار بينه وبين أئمة الأمة - منذ ‏عصره إلى وقتنا هذا - وولاة الأمر في عصره على أنه ‏مجرد محض خصومات علمية مدفوعة بالحقد والغيرة ‏من قبل خصومه ، أو نتاج لتعارض مصالحهم الدنيوية ‏مع نهج الحق الذي ينادي به ابن تيمية على حد ‏زعمهم ، أو خصومات سياسية مع ولاة الأمر نتيجة ‏لمواقفه تجاه ظلمهم ومفاسدهم.‏

بل في أحسن أحوالهم يدعون بأن السبب في تلك ‏الوقائع مع ابن تيمية هي نتاج خلافات علمية في ‏الرأي ورأيه راجح وآرائهم مرجوحة.‏

بل تجد في بعض الأحيان أخي في الله من صور الأمة في ‏وقت ابن تيمية وكأنها كانت تحيا في بحر لجي من ‏الجهل والظلمة والاضمحلال العلمي ، مع إلباس ابن ‏تيمية وما أتى به من مستبشعات ثياب التجديد ‏واعتماده وفكره البغيض كطوق النجاة للأمة من تلك ‏المهالك.‏

وعلى الرغم من مباينة ما سبق للحقيقة إلا أن هذا ‏الكلام قد نفق في سوق الغفلة والملاينة والميوعة ‏والجهل في زماننا هذا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي ‏العظيم.‏

وعلى التحقيق أخي الفاضل فإن ما سبق من صورة ‏رسمت لهذا الإبن تيمية ما هي إلا محض تدليس ‏وتلبيس وافتراء.‏

وفي هذا التمهيد وكشفاً لتلك الصورة الزائفة أعرض ‏إن شاء الله لما يلي :‏

أ- الحالة العلمية للأمة في تلك الفترة وسوابقها ‏ولواحقها.‏

ب - علاقة ابن تيمية بعلماء عصره قبل خروجه على ‏الأمة بتلكم المستبشعات.‏

جـ - علاقة ابن تيمية بولاة الأمر في عصره.‏

وبعد الانتهاء بفضل الله من هذا التمهيد سننظر هل ‏بالفعل ما تم مع ابن تيمية كان نتاج لغيرة وحسد ‏علماء زمانه منه ومنافرة ولاة الأمر له لصدعه بالحق ، ‏وللتردي العلمي للأمة وقتها ؟ ‏

أم أنه كان نتاج ومحصلة ما جنت يداه وسودت به ‏صحائفه إلى يوم القيامة ؟

يتبع إن شاء الله.‏

وأكرمكم الله شيخنا الفاضل (فراج يعقوب).

ويسعدني دائماً مروركم الكريم.

أ- الحالة العلمية للأمة في تلك الفترة وسوابقها ‏ولواحقها.‏

وخير توضيح لذلك هذا العرض المختصر للنهضة العلمية من أوائل القرن السابع إلى أواخر القرن التاسع - وهي فترة تغطي ما قبل ابن تيمية وما بعده بنسبة كافية -.

تعد الفترة من أوائل القرن السابع إلى أواسط القرن التاسع أو أواخره من أزخر القرون الإسلامية الزاهرة بالعلم والعلماء في مختلف المجالات العلمية.[1]

فتجد في الفقهاء :

من الحنفية أمثال الأئمة : الاسروشني ، والجمال الحصيري، وأبى العباس السروجي، والفخر ابن التركماني، وعبد العزيز البخاري ، والفخر الزيلعي وصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود، والنجم الطرطوسي ، ومن بعدهم كأكمل الدين البابرتي ، وابن الهمام، والبدر العيني، ومحي الدين الكافيجي ، وغيرهم.

وفي المالكية نجد أمثال الأئمة : الشهاب القرافي ، وابن الحاجب ، وابن الشاط ، و سيدي خليل الجندي ، وابن فرحون ، وابن عبد السلام قاضي الجماعة بتونس وشيخ المالكية - وهو غير سلطان العلماء العز بن عبد السلام- وابن الحاج وابن عرفة ،وغيرهم.

ومن الشافعية أمثال الأئمة : الرافعي، والعز بن عبد السلام، والنووي، وابن الرفعة، و السبكي، و الاسنوي، والزركشي، والاذرعي، والبلقيني، وابن الملقن ، والتقي الحصني وغيرهم .

ومن الحنابلة أمثال : الموفق ابن قدامة ، والنجم بن حمدان ، والنجم الطوفي، والشمس ابن مفلح ، والشمس الزركشي ، ومن بعدهم كابن اللحام البعلي ، والمحب ابن نصر الله البغدادي، والمرداوي ، وغيرهم.

وتجد في الحفاظ أمثال الأئمة : ابن النجار ، و المنذري ، وابن الصلاح ، والشرف الدمياطي ،و العلاني ، وابن رجب ، وابن رافع ، ومن بعدهم كالجمال الزيعلي ، و الزين العراقي ، والنور الهيثمي ، وابن الحجر العسقلاني، وآخرين حتى الجلال السيوطي.

وفي المؤرخين: العز بن الأثير، وابن خلكان، وابن الفوطي ، و أبا شامة ، والذهبي، و الصفدي ، و ابن شاكر الكتبي، وكابن خلدون، ومن بعده كالمقريزي حتى السخاوي.

وفي التفسير تجد أمثال الأئمة : القرطبي، والبيضاوي ، والموفق الكواشي ، وناصر الدين ابن المنير، و أبا البركات النسفي ، وعلاء الدين الخازن، وابن عادل الحنبلي، وابن النقيب الحنفي، والبرهان البقاعي، وغيرهم.

ويطالعك في الكلام والأصول والمنطق والحكمة وضروب المعقولات أعلام:

كالجربردي ، والشمس الخسرو شاهي ، و الأثير الابهري، والشريف التلمساني ، و أبى الثناء الاصفهاني ، والعضد الايجي، والصفي الهندي ، والعلاء الباجي ، والقطب الشيرازي ، والسيف الآمدي ، و الشاطبي ، وعبد العزيز البخاري ، والتاج السبكي ، ومن بعدهم: الشريف الجرجاني، و السعد التفتازاني ، والحلال الدواني، والشمس الفناري ، و أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي، وغيرهم من فحول الأئمة.

وفي علوم اللغة والنحو والبلاغة : ابن مالك، والجلال القزويني ،و أبا حيان الأندلسي، وابن عقيل، وابن آجروم الصنهاجي ، و البهاء السبكي، وابن المنظور والسمين الحلبي وغيرهم.

ومبدعي الأدباء والشعراء : كيحيى الصرصري ، والشرف البوصيري، والشهاب محمود، وابن الحبيب، وابن الوردي، والصلاح الصفدي، وابن نباته، وابن الخطيب، والشمس النواجي ، وابن حجة الحموي، والفيروزآبادي ، و غيرهم.

وفي القراء أمثال: العلم السخاوي، والكمال الضرير، وابن وثيق الأندلسي، والتقي ابن الصائغ ، والبرهان الجعبري ، وابن الجزري ، وابن الفاصح ، وابي القاسم النويري، وغيرهم.

وتجد كبار المربين من السادة الصوفيه أمثال : أبى النجيب السهروردي ، وابن أخيه شهاب الدين السهروردي، والإمام أبى الحسن الشاذلي ، والسيد البدوي ، وسيدي إبراهيم الدسوقي ، والشيخ أرسلان الدمشقي، و أبى العباس المرسي ،والتاج ابن عطاء الله السكندري، وأحمد بن موسى بن عجيل، وعفيف الدين اليافعي، والسيد يجيى الشرواني، وأحمد بن عقبة الحضرمي، وتلميذه الشهير الإمام أحمد زروق، وغيرهم.

ووجد في ضروب الفنون -كالهندسة والجغرافية والطب والفلك والرياضيات وغيرها- أعلام: كالنجم بن اللبودي ، و ابن أبي اصيبعة ، وياقوت الحموي ، والملك المؤيد صاحب حماة ، وابن فضل الله العمري ، وابن الشاطر، وابن الهائم، وغيرهم.

وكثرت الأسر العلمية في ذلك الوقت بشكل يعكس تماماً ماذا كان يعني العلم لأهل ذلك العصر ومنها:

آل جماعة، وآل السبكي، وآل قدامة ، و أبناء الفخر التركماني، وآل البلقيني ، إلى غيرها من العائلات المشهورة.

وفي ذلك العصر وضعت الكتب الكبار والمؤلفات الموسوعية في الفقه والحديث والتاريخ والتراجم والطبقات وغيرها من العلوم كالتفسير والأصول والأدب والعربية وغيرها.

وعلى تراث أولئك العظام بني من جاء بعدهم إلى يومنا هذا علومهم ومعارفهم، واستمدوا منهم من الذخائر ما أوقفهم على ضخامة الحصيلة العلمية والحضارية التي وصل إليها أسلافهم.

قلت وبالله التوفيق :

وفيمن سبق ذكرهم من أعلام وأكابر الأئمة الأجلة ما يدحض ما يعتقده أو يتصوره البعض أو يعمل على تأصيله كذباً وبهتاناً من أن الأمة في ‏وقت ابن تيمية وقبله وكأنها كانت تحيا في بحر لجي من ‏الجهل والظلمة والاضمحلال العلمي ، مع إلباس ابن ‏تيمية وما أتى به من مستبشعات ثياب التجديد ‏واعتماده وفكره البغيض كطوق النجاة للأمة من تلك ‏المهالك.

كما يتضح أيضاً مدى القامات العلمية الكبيرة التي واجهت فكر ابن تيمية فيما بعد لا كما يتصور الدهماء ويلبس الكذبة على الناس.

يتبع إن شاء الله.

ب - علاقة ابن تيمية بعلماء عصره قبل خروجه على الأمة بتلكم المستبشعات.

هل كانت العلاقة بين ابن تيمية وعلماء عصره ومصره سيئة ؟

وهل كانت هناك بينه وبينهم خالة من الاختصام والاختلاف قبل أن تظهر منه هذه المستبشعات ؟

هل كانوا في حالة من التربص به ؟

هل كانت بينهم وبينه حالة من الغيرة والحقد والاحتقان ؟

كلا وألف كلا ، بل كانت العلاقة بينهم على خير ما يرام قبل أن يخرج بمستبشعاته تلك ، ولم يكن من أحد منهم تربص به أو حقد عليه.

هذا ما قاله التاريخ وأعرضه اختصاراً كما يلي :

- قال ابن أبيك الصفدي:[ابن تيمية:الشيخ الإمام العالم العلامة المفسر الفقيه المجتهد الحافظ المحدث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التصانيف والذكاء والحافظة المفرطة.]اهـ [1].

- وقال في ترجمته من كتابه"أعيان العصر وأعوان النصر":[وعلى الجملة: فكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية أحد الذين عاصرتهم ولم يكن في الزمان مثلهم، بل ولا قبل مائة سنة، وهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ ابن دقيق العيد، وشيخنا العلامة تقي الدين السبكي]اهـ [2].

- وقال عنه الذهبي :[ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد ومن علماء الأثر، مع التدين والتأله والذكر والصيانة والنزاهة عن حطام هذه الدار، والكرم الزائد، ثم انه أقبل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه ، ونظر في أدلته وقواعده وحججه، والإجماع والاختلاف، حتى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من الخلاف، واستدل ورجح واجتهد.. وصنف في فنون العلم، ولعل تواليفه وفتاويه في الأصول والفروع والزهد واليقين والتوكل والإخلاص وغير ذلك تبلغ ثلاث مائة مجلدة]اهـ [3].

-وقال شيخ الإسلام كمال الدين ابن الزملكاني فيه: [كان إذا سأل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدا لا يعرف مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف ذلك أنه ناظر أحدا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم –سواء كان من علوم الشرع أو غيرها- إلا فاق فيه المنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولي في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبين.]اهـ

وله فيه مدائح أخرى، منها قوله في أبيات:

ماذا يقول الواصفون له وصفاته جلت عن الحصر
وهو حجة لله قاهرة هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة أنوارها أربت على الفجر. [4]

- وحضر عند ابن تيمية مرة الإمام أبو حيان الأندلسي -أستاذ النحاة في زمانه- فقال: [ما رأت عيناي مثل ابن تيمية، ثم مدحه بقصيدة رائعة، من أبياتها:

لما أتينا تقي الدين لاح لنا داع إلي الله فرد ماله وزر

ومنها

قام ابن تيمية في النصر شرعتنا مقام سيد تيم إذ عصت مضر
فأظهر الحق إذ آثاره درست وأخمد الشر إذ طارت له شرر.[5].

- ونقل ابن كثير عن العلامة قاضي القضاة شمس الدين محمد بن الحريري الأنصاري الحنفي انه كان يقول : إ[ن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن؟ ، وقال لبعض أصحابه: أتحب الشيخ تقي الدين ؟ قال: نعم . قال: والله لقد أحببت شيئا مليحاً.]اهـ [6].

وأثنى الحافظ الكبير صلاح الدين العلائي على الشيخ تقي الدين ثناءً بالغاً، ومدحه جداً، كما قرأ ذلك بخطة الحافظ ابن حجر العسقلاني [7].

‏قلت وبالله التوفيق :

نخرج مما سبق بما يلي :

- علاقة ابن تيمية بعلماء عصره ومصره كانت على خير ما يرام قبل أن تصدر منه تلك المستبشعات.

- إذن لا شبهة لما يثيره البعض من أن ما جرى بين ابن تيمية وعلماء عصره ومصره مرجعه للغيرة والحقد منهم عليه . فها هم قد أثنوا عليه خيراً وامتدحوه طالما لم تكن قد ظهرت منه أو عليه تلك المستبشعات التي حصلت منه فيما بعد ، كما أن هؤلاء الأئمة قامات عالية لا أنصاف علماء حتى يشعروا نحوه بغيرة وحقد ، بل البون بينه وبين الكثيرين منهم شاسع لصالحهم كما سيتضح فيما بعد.

- لما خالف ابن تيمية النهج القويم لأهل السنة والجماعة وظهرت من إمارات وعلامات ذلك لم يجد أئمة الأمة وقتها حرجاً ولم يمنعهم ما سبق منهم من مدحه من الصدع فيه بقولة الحق وفق ما عنّ لكل منهم حسب ما وصل إليه علمه من مصائب ابن تيمية فمنهم من قال بكفره ومنهم من قال بابتداعه ومنهم من ظل يلعنه حتى مات كالإمام أبي حيان الأندلسي ، فلم يقل هو عالم نأخذ منه الصواب وندع الخطأ – كما يردد البعض هذه الأيام - وقد سبق أن امتدحته ، فطالما طرأ عليه طارئ أسقط عنه ما سبق قال فيه قولاً واحداً.

- واختصاراً أقول وبالله التوفيق :كان انقلاب علماء المسلمين على ابن تيمية مرجعه ما أظهره من فاسد الاعتقاد وخرق الإجماع والبدع التي لم يسبق بمثلها ، كان هذا هو السبب ، أما من يروج بأن مرجع ذلك للحقد والحسد من قبل معاصريه فهذا كلام لا محل له من الإعراب.

فما سبق من نقول يقر على تلك الدعوى بالبطلان.

يتبع إن شاء الله.

جـ - علاقة ابن تيمية بولاة الأمر في عصره.‏

ادعى المفتونين بابن تيمية بأن ما وقع له من محاكمات ‏ووقائع كان في جزء منه على حد زعمهم جراء ‏مواقفه الساسية ووثباته الثورية !!!!‏

وكالعادة فوقائع التاريخ تكذب تلك الترهات وتثبت ‏بأن ولاة الأمر في عصر ابن تيمية لطالما تدخلوا في ‏محاولات منهم لإنقاذه مما أوقع نفسه فيه ، بل وبسبب ‏تدخلاتهم في بعض المواقف أنقذوا رقبته من حد ‏السيف - كما سنرى لاحقاً فيما سيلي - .‏

وكانت علاقة ابن تيمية بولاة الأمر في عصره على ‏خير ما يرام وما جرى عليه من وقائع ومحاكمات كما ‏هي مسجلة كانت كلها في أمور دينية شذ بها ، وإلا ‏فأين هي المحاكمات التي سيق إليها بسبب أرائه ‏السياسية ؟!!!!!‏

لن تجد وقائع تلك المحاكمات المتوهمة إلا في عقول ‏المفتونين بابن تيمية.‏

كما أنه يجب أن ننتبه إلى أن من قام على محاكمات ‏ابن تيمية من أئمة أعلام - سنأتي بإذن الله على ‏ذكرهم وقتها - ليسوا هم من يمكن أن يستعملهم ‏ولاة الأمر كمطية لإنفاذ أحكام وفق أهواء سياسية.‏

وفي العجالة القادمة نعرض بفضل الله ما يدحض ‏توهمات المفتونين بابن تيمية عن سوء علاقته بولاة ‏الأمر أو أن ما حدث له من وقائع ومحاكمات كان بسبب مواقفه الساسية ووقوفه في وجه ظلم ولاة الأمر على حسب توهماتهم ، ونعرض ذلك من خلال لمحات مختصرة من ‏محاكماته العديدة أمام القضاة والعلماء.‏

‏1- في شهر ربيع الأول من سنة 698هـ قام على ‏ابن تيمية جماعة من الفقهاء، بسبب فتواه الحموية ، ‏وردوا عليه فيها، وعقدوا له مجلساً، وبحثوا معه،‏فدافع عنه الأمير جمال الدين الأفرم ، ولم يبلغهم فيه ‏أرباً، ونودي في دمشق بإبطال العقيدة الحموية، ‏فانتصر له الأمير سيف الدين جاغان المشد.[8].‏

قلت وبالله التوفيق :‏

فها هم ولاة الأمر يتدخلون لصالح ابن تيمية لا ‏العكس ويدافعون عنه ويقفون في صفه ضد العلماء.‏

‏2- فلما حضر الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ‏عند الشيخ نصر على عادته أجرى له ذكر ابن تيمية ‏أمر عقيدته، وأنه أفسد عقول جماعة كبيرة، ومن ‏جملتهم نائب الشام وأكبر الأمراء الشاميين.[9].‏

قلت وبالله التوفيق :‏

يعني المسألة لم تتوقف فقط عند التدخل من ولاة الأمر ‏لصالح ابن تيمية والوقوف معه ضد العلماء بل نجد من ‏ولاة الأمر من تأثر بابن تيمية وأفكاره.‏

فأين هذا من دعاوى المفتونين بابن تيمية حول ‏مظلوميته نتيجة لمواقف سياسية ؟!!!!!!‏

‏3- ثم بلغ القاضي أن جماعة من الأمراء يترددون إليه ‏وينفذون له المآكل الطيبة، فطلع القاضي واجتمع ‏بالأمير ركن الدين في قضيته وقال:هذا يجب عليه ‏التضييق إذا لم يقتل، وإلا فقد ثبت كفره فنقل هو ‏وإخوته ليلة عيد الفطر إلى الجب بالقلعة.[10].‏

قلت وبالله التوفيق : ‏

ما ورد في النص السابق نخرج منه بالكثير أقله أن ابن ‏تيمية عند أئمة الشرع الشريف قد ثبت كفره ، ‏وعلى الرغم من ذلك ولقوة العلاقة بين ابن تيمية ‏وولاة الأمر نرى أمراء من ولاة الأمر حريصين على ‏الإحسان إليه بل وزيارته وهو في هذا الموقف ، بل لم ‏يكتفوا بذلك وسعوا ونجحوا وأفلحوا في إنقاذ رقبته ‏قبل أن يقتطفها سيف الشرع الشريف من فوق ‏كتفيه. ‏

فأين هذا من دعاوى المفتونين بابن تيمية حول ‏مظلوميته نتيجة لمواقف سياسية ؟!!!!!!‏

‏4- في سنة 706هـ:"في آخر يوم من شهر رمضان ‏المعظم أحضر الأمير سيف الدين سلار القضاة الثلاثة ‏الشافعي والمالكي والحنفي ومن الفقهاء الباجي و ‏الجزري والنمراوي، وتكلم معهم في إخراج الشيخ ‏تقي الدين ابن تيمية، فاتفقوا على أن يشترط عليه ‏أمور ويلزم بالرجوع عن العقيدة. فأرسلوا إليه من ‏يحضره ليتكلموا معه في ذلكفلم يجب إلى الحضور ‏وتكرر إليه الرسول ست دفعات، وهو مصمم على ‏عدم الحضور، وطال عليهم المجلس فانصرفوا على غير ‏شيء.[11].‏

قلت وبالله التوفيق :‏

ولاة الأمر يتدخلون لدى السادة العلماء للتشفع في ‏ابن تيمية لديهم للإفراج عنه ، وهو يتمنع ويتدلل ويا ‏‏... يواد يتئيل ؟!!!!!!!!‏

ثم بعد ذلك نرى دعاوى المفتونين بابن تيمية حول ‏مظلوميته نتيجة لمواقف سياسية ؟!!!!!!‏

فأين أنتِ يا حمرة الخجل.‏

‏5- ولم يزل ابن تيمية في الجب إلى أن شفع فيه مهنا ‏أمير آل فضل، فاخرج في ربيع الأول في الثالث ‏والعشرين منه سنة 707 هـ ، وكان يوم جمعة، ‏فاحضر إلى الدار النيابة بالقلعة بحضور الأمير سيف ‏الدين سلار ، وأحضر بعض الفقهاء، وحصلت بينهم ‏بحوث إلى أن قربت صلاة الجمعة فافترقوا.[12].‏

قلت وبالله التوفيق :‏

ومازالت شفاعات الأمراء في ابن تيمية مستمرة ولا ‏عزاء للكذابين أو المغفلين.‏

‏6- وكان سفره صحبة أمير مقدم ، ولم يمكن أحداً ‏من جهته من السفر معه، وحبس ببرج شرقي ، ثم ‏توجه إليه بعض فلم يمنعوا منه، فتوجهت طائفة منهم ‏بعد طائفة، وكان موضعه فسيحاً فصار الناس يدخلون ‏إليه ويقرؤون عليه ويبحثون معه. فلم يزل إلي إن عاد ‏الناصر إلى السلطنة، فشفع فيه عنده [13] ، فأمر ‏بإحضاره فاجتمع به في 18 من شوال هذه ‏السنة709هـ ، فأكرمه وجمع القضاة ، وأصلح بينه ‏وبين القاضي المالكي، فاشترط المالكي أن لا يعود، ‏فقال له السلطان : قد تاب. وسكن بالقاهرة، وتردد ‏الناس إليه [14]، إلى أن توجه صحبة الناصر إلى ‏الشام بنية الغزاة في سنة712هـ ، وذلك في شوال، ‏فوصل دمشق في مستهل ذي القعدة ، فكانت مدة ‏غيبته عنها اكثر من سبع سنين.[15].‏

قلت وبالله التوفيق :‏

ما أوقح من يقول بعد ما سبق في الفقرة السابقة بأن ‏ما جرى مع ابن تيمية بسبب مواقفه السياسية.‏

يصحبه أمير في سفره ويوسع عليه في إقامته ، ويتدخل ‏السلطان للصلح بينه وبين العلماء ويتوسط له عندهم ‏، بل ويصحب السلطان ابن تيمية معه في سفره ثم ‏نرى بعدها دعاوى المفتونين بابن تيمية حول مظلوميته ‏نتيجة لمواقف سياسية ؟!!!!!!‏

فأين أنتِ يا حمرة الخجل !!!!!!!‏

قلت وبالله التوفيق :‏

نخلص مما سبق بأن من حاول إلباس متاعب ابن تيمية ‏ووقائعه الثوب السياسي ومعارضة الحكام فقد أخطأ ‏وأتى بما لا سند له. ‏

إنما كانت وقائع ابن تيمية مع كبار العلماء والفقهاء ‏في عصره لا غير، هذا ما تشهد به كتب التاريخ، ‏وكان الكثير من تدخلات ولاة الأمر تتم لصالحه ‏ولاستنقاذ رقبته من حد السيف ، وهذا أيضاً مما ‏تشهد به كتب التاريخ. ‏

وما قامت به الدولة معه بعد ذلك فإنما هو بسبب ‏مواقف العلماء منه.‏

ونخلص أيضاً مما سبق بأن :‏

هذا الابن تيمية كان مستحقاً للقتل لدى أئمة الشرع ‏الشريف ولكن تدخلات ولاة الأمر وعلى رأسهم ‏السلطان الناصر بن قلاوون في وقت ما وتحت مزاعم ‏توبته أنقذت رقبته من حد السيف.‏

يعني باختصار لم يكن من منقذ لرقبة ابن تيمية من ‏سيف الشرع الشريف سوى :‏

الادعاء بتوبته ، ومن قبلها ومعها وبعدها شفاعات ‏ولاة الأمر ، لا كما يروج الكذابين ويتوهم المغفلين ‏من كونه كان على الحق المبين.‏

وأخيراً أقول :‏

هل بعد ما سبق نجد من سوف يتبجح بأن ما حصل ‏لابن تيمية جزء منه يرجع لمواقفه السياسية وسوء ‏العلاقة بينه وبين ولاة الأمر؟!!!!!!!‏

أعتقد بأننا سنجد من يفعل ذلك فالوقاحة والغفلة والملاينة ‏صارت سمة للكثيرين في أيامنا هذه.‏

يتبع إن شاء الله.‏

أعزكم الله أخي الفاضل الحبيب (البخاري) وبارك الله فيكم ، ويسعدني متابعتكم وكذا مروركم الكريم.