اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm مشاركات: 2717
|
حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (28)
5) رُكْنُ الدِّينِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ الْأُصُولِيُّ الشَّافِعِيُّ (ت: 418 هـ)
ذكره الحافظ ابنُ عساكر في الطَّبقة الثَّانية من طبقاتِ السَّادة الأشاعرة، وقد تَلمذَ الأستاذ للإمامِ أَبِي الحَسَنِ البَاهِلِيِّ تِلميذ الإمامِ أَبِي الحَسَنِ الأشْعَريِّ.
ويُعدُّ الأستاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ أَحد أساطين أئمَّة الأشاعرة الَّذين نصروا عقيدة أهل الحديثِ والسُّنَّة بالطَّرائق الكلَاميَّة كما ذكر الإِمَامُ النَّوَوِيُّ (ت: 676 هـ) وهذا نصُّه: ((كَانَ الْأُسْتَاذُ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ عَلَى نَصْرِ مَذْهَبِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ، الْقَائِمِينَ بِنُصْرَةِ مَذْهَبِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُمْ: الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ فُورَكَ)) [تَهذِيبُ الأسماءِ وَاللُّغاتِ (2/170)، إِدارة الطِّباعة المنيريَّة].
ومع شُهرة الأستاذ بأشعريَّته إلَّا أنَّ ابنَ تيميَّةَ قد شَذَّ - كما هي عادته في تكثير سواد الجِهَوِيَّة - فادَّعى في حقِّ هذا الأستاذ نفس الدَّعوى العريضة الَّتي أطلقها في حقِّ قُدَماء الأشاعرة، ألا وهي: إثبات العُلُوِّ الحِسِّي!
قال ابنُ تيميَّةَ: ((وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ، وَطَبَقَتِهِ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ وَنَحْوِهِ، وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّتِهِ كَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ، كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ شَيْخِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْبَاهِلِيِّ شَيْخِ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ، وَكَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ صَاحِبِ التَّأْلِيفُ فِي تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ الْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ بِالصِّفَاتِ وَنَحْوِهِمْ.
وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَخَذَتْ عَنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ إمَامِ الطَّائِفَةِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ: إثْبَاتُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ، كَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَمَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ رَأَيْت كَلَامَ كُلِّ مَنْ ذَكَرْتُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَمَنْ لَمْ أَذْكُرْهُ أَيْضًا، وَكُتُبُهُمْ وَكُتُبُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ مَمْلُوءَةٌ بِذَلِكَ وَبِالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ بِأَنَّ تَأْوِيلَهَا طَرِيقُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ)) [التِّسعِينِيَّة (3/1036-1037)، مَكتَبةُ المَعارِف: الرِّياض] وَ[الفَتَاوى الكُبرى (6/664)، ط. دارُ الكُتُب العِلمِيَّة].
وقالَ أيضاً: ((وَأَيْضًا فَأَئِمَّةُ الصِّفَاتِيَّةِ الْمُتَقَدِّمُونَ؛ كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الطَّبَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الإِسْفَرَايِينِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ ابْنِ فُورَكَ، وَغَيْرِهِمْ - يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ: الَّتِي ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ طَوَائِفِ الْإِثْبَاتِ؛ كَالسَّالِمِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ)) [شرحُ الأَصْبَهانِيَّة (ص: 32-33)، مكتبةُ دار المِنهاج: الرِّياض].
فأنتَ ترى الحرَّاني يزعمُ ما حاصله: 1. أنَّ أئمَّة الكُلَّابيَّة والإمام الأشعري وتلامذته من الطَّبقتين: الأولى والثَّانية؛ كلّهم كانوا يُثبتون الصِّفات الخَبَريَّة في حقِّه تعالى كالاستواء على العرش والوَجه واليَد والمجيء يوم القيامة، ويردُّون على من تأوَّلها، وأنَّ هذا هو مذهب السَّلف والأئمَّة! وهو يقصد - طبعاً - هنا: المذهب الَّذي نَسبهُ هو - زُوراً وبُهتاناً - للسَّلف حاشاهم. 2. أنَّ ابن تَيميَّة وقف بنَفسه على نُصوصهم الدَّالة على هذا الإثبات من كُتبهم.
هذا وقد سبق بيان فساد دعواه الباطلة في حقِّ الإمامِ أبي الحَسَن علي بنِ مهديٍّ الطَّبري والإمامِ أبي بكرٍ بنِ الطَّيِّب الباقلَّاني والإمامِ أبِي بَكر بنِ فُورَكَ، وسيأتي الكلام فيما نَسبه لغيرهم من الأئمَّة.
وما يهمُّنا في هذا التَّقرير، هو احتفاؤه بما نَسبه للأستاذ من إثبات عقيدة الجِهة وغيرها منَ الصِّفات الخَبَريَّة، وطبعاً يقصد الحرَّاني هُنا: الإثبات على الظَّاهر اللُّغوي المعروف كما هو صريح مَذهبه، وإلَّا فما مَعنى قوله ((وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ)) في سياق احتِجاجه واستِشهاده بِمَذهب الإثبات عند قُدَماء الأشاعرة؟!
هذه دعوى ابن تيميَّة في مذهب الإثبات عند الأستاذِ أبي إسحاقَ الإِسفَرَايِني. والآن؛ فلتنظر يا عبد الله في هذه النُّصوص لابنِ تَيميَّة نفسه، والَّتي يُقرِّرُ فيها نَقيض ما قرَّره سابقاً في حقِّ الأُستاذ أبي إسحاق الإسفَرايِني!:
قال ابنُ تيميَّةَ: ((وَهَذِهِ الْحُجَّةُ - وَهِيَ الِاحْتِجَاجُ بِكَوْنِ الرَّبِّ قَائِمًا بِنَفْسِهِ عَلَى كَوْنِهِ مُشَارًا إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ - لَمَّا كَانَتْ حُجَّةً عَقْلِيَّةً لَا يُمْكِنُ مُدَافَعَتُهَا، وَكَانَتْ مِمَّا نَاظَرَ بِهِ الْكَرَّامِيَّةُ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، فَرَّ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ إِلَى إِنْكَارِ كَوْنِ الرَّبِّ قَائِمًا بِنَفْسِهِ بِالْمَعْنَى الْمَعْقُولِ، وَقَالَ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْمَحَلِّ، فَجَعَلَ قِيَامَهُ بِنَفْسِهِ: وَصْفًا عَدَمِيًّا لَا ثُبُوتِيًّا!!!، وَهَذَا لَازِمٌ لِسَائِرِهِمْ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (6/350-351)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية].
فهُنا ينسبُ ابنُ تَيميَّةَ للأستاذ أبي إسحاق الإسفَرايني تَفسير "القيام بالنَّفس" في حقِّه تعالى بمعنى استغنائه جلَّ وعلا عنِ المحلِّ؛ لا أن يكون سُبحانه فَوق العالَم فَوقيَّة مكانٍ بحيثُ تصحُّ الإشارة الحِسِّيَّة إلى جِهتِه.
وأوضح هذا أيضاً ابنُ القيِّم - تِلميذ ابنِ تَيميَّة - فقال: ((الطَّرِيقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْقَطْعِيَّةَ - وَهِيَ الاحْتِجاجُ بِكَوْنِ الرَّبِّ قَائِمًا بِنَفْسِهِ عَلَى كَوْنِهِ مُبايِنًا لِلْعَالَمِ، وَذَلِكَ مَلْزُومٌ لِكَوْنِهِ فَوْقَهُ عَالِيًا عَلَيْهِ بِالذَّاتِ - لَمَّا كانَتْ حُجَّةً صَحِيحَةً لَا يُمْكِنُ مُدافَعَتُها وَكانَتْ مِمَّا ناظَرَ بِها الْكِرَّامِيَّةُ لِأَبِي إِسْحاقَ الإِسْفَراييْنِيِّ، فَرَّ أَبُو إِسْحاقَ...الخ)) [الصَّواعق المُرسَلة (2/911-912)، دارُ عطاءات العِلم: الرِّياض - دارُ ابن حزم: بَيروت] وكرَّر كعادته كلام شيخه الحرَّاني السَّابق.
فهؤلاء التَّيميَّة يَرونَ أنَّ القِيامَ بالنَّفس في حقِّه تعالى معناه أن يكونَ جلَّ وعلا مُباينًا للعالَم بَينونَةَ الجِهةِ والمسافَةِ، وأنَّ الأُستاذ قد (فرَّ!) مِن نِسبة هذا المعنى لله، وأنَّ في صنيعه هذا مُناقضة للحُجَّة العَقليَّة القَطعيَّة!
وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضاً: ((وَهَذِهِ عَادَةُ ابْنِ فُورَكَ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا نُوظِرَ قُدَّامَ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتُكِينَ أَمِيرِ الْمَشْرِقِ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ وُصِفَ الْمَعْدُومُ لَمْ يُوصَفْ إلَّا بِمَا وَصَفْت بِهِ الرَّبَّ مِنْ كَوْنِهِ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، كَتَبَ إلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمَا إلَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا. فَأَجَابُوا لِمَنْ عَارَضَهُمْ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ بِدَعْوَى الْحُجَّةِ!!!)) [التِّسعِينِيَّة (2/710-711)، مَكتَبةُ المَعارِف: الرِّياض] وَكذلك: [الفَتَاوى الكُبرى (6/531-532)، ط. دارُ الكُتُب العِلمِيَّة].
وهذا فيه اعترافٌ مِن ابنِ تيميَّة بأنَّ عقيدة "لَا داخل العالَم ولا خارِجه" هي هي عقيدة الإمامِ ابنِ فُورَك والأستاذِ أبي إسحاق الإسفَرايِني.
وبهذا يكون ابنُ تيميَّة قد كذَّب نَفسه بنَفسه في دعواه العريضة الَّتي أطلقها في حقِّ الرَّجل!
وكم له من مثل هذه الأساليب والتَّكتيكات المصادمة للنَّزاهة العِلميَّة!
والآن؛ نذكر للباحثين بعض تقريرات الإمام أبي إسحاق الإسفَرايني العَقَديَّة، فنقول:
قام المستشرق ريتشارد فرانك "Richard M. Frank" بتحقيق عقيدة الإمامِ أبي إسحاق الإسفَرايني، ونشرها في كتابه الَّذي يتناول دِراسة تاريخ وتطوُّر عِلم الكلام عند الأشاعرة [ص: 133 إلى 142]، وهذا عنوان كتابه باللُّغة الإنجليزيَّة: ]Classical Islamic Theology: The Ash`arites Texts and Studies on the Development and History of Kalam, Vol. III.[
وقد جاءت عقيدة الإمام مُقرِّرة ستَّة وعشرين أصلًا، جعلها الأستاذ من الأصول الواجبة في عقيدة الإسلام.
وقام الباحث "مُحمَّد أمين السقال" بتقديم ونَشر هذه العقيدة، وكتب حولها مقالًا في غاية البيان والإتقان، نشره على الموقع الإلكتروني للرَّابطة المُحمَّديَّة للعُلماء بالمملكة المغربيَّة، تحتَ عُنوان: "عقيدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفَرايِيني (ت: 418 هـ) - تقديم ونشر -".
وممَّا جاء في مقاله: ((و"عقيدة الأستاذ" التي حقَّقها الدُّكتور "فرانك" بالكاد نَجد لها ذكراً في كُتب المذهَب؛ إذ غالباً ما ينقُل المتكلِّمون أَقوالَ الأستاذ ـ على كثرَتِها ـ دون الإحالةِ على أسماءِ الكتُب المنقول مِنها، وإذا ذُكِرت فلا تَكاد تَخرُج عن كتابَيه "الجامع" و"المختَصر"، أمَّا عقيدَته فلم أَقف على مَن نَقلَ منها منَ المتكلِّمين الأشاعرة الكِبار، وإنَّما نصَّ عليها "حاجي خَليفة" في كتابهِ المشهور باسم "عقيدةُ الأستاذِ أبي إسحاقَ"، وقد عثَرتُ بعد تَبييض هذه الورقةِ على اسمٍ لشرحٍ على هذه العقيدةِ بعنوان: "المسالِك السَّديدَة والمعانِي الوَحيدَة في شرح كلامِ الأستاذِ أبي إِسحاقَ رحمه الله في العَقيدَة" لصاحِبه أبي عَبد الله مُحمَّد بنِ جَعفَر ابنِ يحيى بنِ هارونَ الصَّنهاجي)) [راجع: https://www.arrabita.ma/blog/%D8%B9%D9% ... -%D8%AA-4/] فجزاه الله خيرا.
وفيما يلي نستعرض بعض الأصول المذكورة في تلك العقيدة:
- جاء في مستهلِّ النَّص المحقَّق قول الأستاذِ أبي إسحاقَ الإسفَراييني: ((وَلَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِ، وَرَأَيْتُ الْفَتاوَى فِي الْأَحْكامِ عَلَى غَايَةِ الاخْتِلَالِ عِنْدَ السُّؤالِ، رَتَّبْتُ فِي أَقَلِّ مَا يُحْتاجُ إِلَيْهِ عَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَأَتْبَعْتُهُ مَا يُعْطِيهِ عِنْدَ الْكَافَّةِ لِيَقِفَ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي عِلْمَ الشَّرِيعَةِ، وَيُزِيلَ عَنْ نَفْسِهِ تَغْيِيرَ أَهْلِ الدِّرايَةِ، وَيُجَوِّزَ فَتْواهُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَيَسْتَحِقَّ اسْمَ الْإِيمَانِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ وَالْعُقُولِ، وَيُلَقِّنَ الصِّبْيانَ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَيَكُونُوا مُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْخِطَابِ. وَلَوْلَا وُجُوبُهُ عَلَيَّ بِالشَّرِيعَةِ لَكُنْتُ لَا أَجْمَعُهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ مَعَ مَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَهالَةِ وَمَا اسْتَشْعَرُوهُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْعَدَاوَةِ لِقُصُورِهِمْ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ)) [مرجع سابق - عقيدة الأستاذ أبي إِسحاقَ الإِسفَرائِني (ص: 133)] فهذه أصول أهلِ الحقِّ، كتَبها الأستاذ أبو إسحاق الإسفَرايني تمييزاً لعقيدة أهل السُّنَّة والجماعة عن عقيدة طائفة مُعادية لَهم، غلب عليهم الجهالة والقصور.
ومن المحتمل جدًّا أن تكون هذه الطَّائفة من مُجسِّمةِ الكَرَّاميَّة والهَيصَمِيَّة، فقد اشتُهر مُناظرة الأستاذ أبي إسحاق لهم في مَسألةِ العُلوِّ.
- ثمَّ شرع الأستاذ في ذكر الأصول الَّتي لا بُدَّ منها عندَ أهلِ الإسلامِ؛ فقال في تنزيه الله عنِ الجِهةِ والمكانيَّة والجِسميَّة ولوازمها: 6. الاعْتِقَادُ بِاسْتِحَالَةِ الْحَدِّ وَالنِّهَايَةِ عَلَيْهِ. 7. ثُمَّ الاعْتِقَادُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا جِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ. 8. ثمُّ الاعْتِقَادُ بِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الأَغْيَارِ. وَعَبَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْخَطَابَةِ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الِاعْتِقَادُ بِنَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ وَالْأَيْنِيَّةِ وَاللِّمِّيَّةِ. [مرجع سابق - عقيدة الأستاذ أبي إِسحاقَ الإِسفَرائِني (ص: 133)].
- وقال أيضاً: 12. ثُمَّ الاعْتِقَادُ بِأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ فِي الْوَهْمِ وَلَا يَتَجَزَّأُ فِي الْعَقْلِ؛ وَهُوَ تَفْسِيرُ "الْأَحَدُ الصَّمَدُ". 13. ثُمَّ الاعْتِقادُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا جازَ عَلَى الْمُحْدَثاتِ فَدَلَّ عَلَى حُدُوثِهَا؛ وَمَعْناهُ أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالاجْتِمَاعُ وَالافْتِرَاقُ، وَلَا الْمُحَاذَاةُ وَلَا الْمُقابَلَةُ وَلَا الْمُمَاسَّةُ وَلَا الْمُجَاوَرَةُ، وَلَا قِيَامُ شَيْءٍ حَادِثٍ بِهِ، وَلَا بُطْلَانُ صِفَةٍ أَزَلِيَّةٍ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ الْعَدَمُ عَلَيْهِ. 14. ثُمَّ الاعْتِقادُ بِأَنَّهُ قائِمٌ بِنَفْسِهِ، مُسْتَغْنٍ عَنْ مَكانٍ يُقِلُّهُ أَوْ جِسْمٍ يَحُلُّهُ، لَيْسَ لَهُ تَحْتُ فَيَكُونَ تَحْتَهُ ما يَسْنِدُهُ، وَلَا فَوْقُ فَيَكُونَ فَوْقَهُ ما يُمْسِكُهُ، وَلَا جانِبٌ فَيَكُونَ إِلَى جانِبِهِ مَا يَعْضُدُهُ أَوْ يُزَاحِمُهُ. 15. ثُمَّ الِاعْتِقَادُ بِجَوَازِ الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ مَعَ نَفْيِ هَذِهِ الأَوْصَافِ عَنْهُ. [مرجع سابق - عقيدة الأستاذ أبي إِسحاقَ الإِسفَرائِني (ص: 134)].
وفي هذا نَفي صَريح للاتِّصال أو الانفصال في حقِّه جلَّ وعلا.
- وفي حديثه عن أدلَّة هذه الأصول، ذكر ما يلي: 5. وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحالَةِ الْحَدِّ وَالنِّهايَةِ عَلَيْهِ؛ أَنَّ النِّهايَةَ تُوجِبُ مِقْدارَ الْجُزْءِ فَمَا فَوْقَهُ، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَلَى مِقْدارٍ يَصِحُّ فِي الْوَهْمِ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ إِلَّا عَنْ قاصِدٍ يَخُصُّهُ بِقُدْرَةٍ، كَالْفِعْلِ الْمُحْكَمِ يَصِحُّ فِي الْوَهْمِ وُقُوعُهُ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا يَجُوزُ اخْتِصَاصُهُ بِوَصْفِهِ إِلَّا عَنْ قاصِدٍ عَالِمٍ يَخُصُّهُ بِهِ. 6. وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحالَةِ كَوْنِهِ جِسْماً؛ أَنَّ الْجِسْمَ فِي وُجُودِهِ يَشْغَلُ الْحَيِّزَ وَالْمَكَانَ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَشْغَلَ الشَّيْءُ الْحَيِّزَ وَالْمَكَانَ الْمَعْلُومَ عَلَى الاخْتِصَاصِ مَعَ صِحَّةِ اخْتِصاصِهِ بِغَيْرِهِ فِي الْوَهْمِ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حُدُوثَ الْكَوْنِ أَوِ النَّفْسِ عَلَى اخْتِصاصِهِ بِالْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ، وَهَذِهِ دَلَالَةُ الْحُدُوثِ كَما بَيَّنَّاهُ. [مرجع سابق - عقيدة الأستاذ أبي إِسحاقَ الإِسفَرائِني (ص: 137)].
- وقال: 20. وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْقَوْلِ بِالْمُجَاوَرَةِ؛ أَنَّها تَقْتَضِي الْمُمَاسَّةَ وَالْمُحَاذاةَ وَالْمُقارَنَةَ فِي الْمَكانِ وَالْحَيِّزِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ. 27. وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالاجْتِمَاعِ وَالافْتِرَاقِ وَالْمُحَاذَاةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُمَاسَّةِ وَالْمُجَاوَرَةِ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَصْفَ لَهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْمَعانِي بَعْدَ الْوَصْفِ لَهُ بِضِدِّهِ يُوجِبُ حُدُوثَ مَعْنًى فِيهِ ثُمَّ يَسْتَحِيلُ تَعَرِّيهِ عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ وَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُهُ عَلَى جِنْسِهِ. [مرجع سابق - عقيدة الأستاذ أبي إِسحاقَ الإِسفَرائِني (ص: 139)].
هذا بعض ما جاء في عقيدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفَرايِني، وفيه تكذيبٌ قاطعٌ للدَّعوى العريضة الَّتي أطلقها ابنُ تيميَّة في حقِّ الرَّجل، ولفَّقها أيضاً - زوراً وبُهتاناً - لِقُدَماء السَّادة الأشاعرة.
- ولنذكر مِن باب الفائدة أيضاً، بعض أقوال الأستاذ أبي إسحاق في التَّنزيه، كما نقلها العُلماء من كُتبه:
قال الأُستاذُ أبُو إِسحاقَ الإِسفَرايِينِيُّ: ((قَالَ أَهْلُ الحَقِّ: إِنَّ اللهَ مَوْجُودٌ حَيٌّ، قَادِرٌ عَالِمٌ مُرِيدٌ، سَمِيعٌ بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ، لَيْسَ بِجْسِمٍ، وَلَا جَوْهَرٍ، وَلَا يَشْغَلُ حَيِّزاً، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَلَا جَانِبٌ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ المُجَاوَرَةُ وَالمُحَاذَاةُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْوَهْمِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَعْرَاضِ، لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ بِهَذِهِ الأَوْصَافِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ عَنْهَا، وَلَا شَيْءَ يُشَارِكُهُ فِيهَا)) نقله الإمامُ أبو القاسم الأنصاريُّ النِّيسابوريُّ (ت: 512 هـ) في كتابه [الغُنْيَة (1/345)، ط. دار السَّلام: مصر] و[شَرح الإرشاد (1/270)، ط. دار الضِّياء: الكويت].
ونقل عنه أيضاً قوله: ((الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، مُتَعَالٍ عَنِ الِافِتِقَارِ إِلَى مَحَلٍّ يَحُلُّهُ، أَوْ مَكَانٍ يُقِلُّهُ، أَوْ غَيْرٍ يَسْتَعِينُ بِهِ، لَكِنَّ قِوَامَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ أَوْصَافُهُ فِي نَفْسِهِ بِفِعْلِهِ وَتَرْكِهِ)) [الغُنْيَة (1/352)، ط. دار السَّلام: مصر] بينما جاء نقله في شرحه على الإرشاد هكذا: ((القَائِمُ بِالنَّفْسِ: هُوَ الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْمَحَلِّ وَالْمُخَصِّصِ)) [شَرح الإرشاد (1/282-283)، ط. دار الضِّياء: الكويت].
وَذَكرَ أيضاً: ((مِنْ مَذْهَبِ الأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَثْبَتَ للهِ صِفَةً تُوجِبُ لَهُ التَّقَدُّسَ عَنِ الْأَحْيَازِ وَالْجِهَاتِ، وَالتَّفَرُّدَ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُحِيطُ بِهِ الْوَهْمُ مِنْ ذَوِي الْحُدُودِ وَالنِّهَايَاتِ وَالْأَعْرَاضِ)) ثمَّ أردف الإمامُ شارحًا مذهب الأستاذ فقال: ((وَلَسْنَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا: إِنَّهُ "لَيْسَ فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ" نَفْيَ وُجُودِهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ إِثْباتَ مَوْجُودٍ مُخَالِفٍ لِمَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ غَيْرِ مَحْدُودٍ، وَمَنْ أَثْبَتَ للهِ تَعَالَى نِهَايَةً وَحَدًّا مِنْ وَجْهٍ؛ [فَيَلْزَمُهُ] إِثْبَاتُ النِّهَايَةِ فِي سَائِرِ الْجِهَاتِ)) [الغُنْيَة (2/741-742)، ط. دار السَّلام: مصر] وَكذلك في [شَرح الإرشاد (2/249)، ط. دار الضِّياء: الكويت]، وزاد في "شرح الإرشاد" فَقالَ: ((وَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "إِنَّهُ فِي الْعَالَمِ أَوْ خَارِجَ الْعَالَمِ" يَقْتَضِي حَدًّا وَنِهَايَةً يَصِحُّ لِأَجْلِهَا عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي الْعَالَمِ أَوِ الْخُرُوجُ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: أَخَصُّ وَصْفِهِ وُجُوبُ وُجُودِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَخَصُّ وَصْفِهِ قِيَامُهُ بِنَفْسِهِ، مَعَ انْتِفَاءِ النِّهَايَةِ وَالْحَجْمِيَّةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الأُسْتَاذِ)) [شَرح الإرشاد (2/249)، ط. دار الضِّياء: الكويت]. ونقل عنه أيضاً: ((استِحَالَة وُجُودِهِ [=تَعَالَى] فِي الْجِهَةِ وَالْمَحَلِّ)) [شَرح الإرشاد (2/298)، ط. دار الضِّياء: الكويت].
ونقل عنه قوله في "العين" مُضافة لله: ((أَمَّا الْعَيْنُ فَعِبَارَةٌ عَنِ الْبَصَرِ، وَكَانَ فِي العَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ)) [الغُنْيَة (2/711)، ط. دار السَّلام: مصر] وهذا تأويل تفصيلي.
ونقل عنه إثبات "اليَد" صفة يقع بها الاصطفاء بالخلقِ، والوَجه أيضاً، وهذا مِن غير مُباشرة ولا مُحاذاة ثمَّ ناقشه في هذا الإثباتِ [الغُنْيَة (2/711 فما بعد)، ط. دار السَّلام: مصر].
ونقل عنه أيضاً تأويل الإصبع في حقِّه تعالى [شَرح الإرشاد (2/207)، ط. دار الضِّياء: الكويت].
يُتبع..
السَّابق: https://web.facebook.com/share/p/1BVmYej6Dq/
_________________ أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما (ﷺ)
|
|