موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 200 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 10, 11, 12, 13, 14
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء سبتمبر 04, 2024 9:14 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (24)

3) شَيخُ المشايِخِ أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ الدَّيْلَمِيُّ الشِّيرَازِيُّ الشَّافِعِيُّ الصُّوفِيُّ (ت: 371 هـ)

ذكره الحافظ ابن عساكر في الطَّبقة الأولى من تلامذة الإمام أبي الحسن الأشعري [تبيين كذب المفتري (ص: 369)، ط. دار التَّقوى]، وقد ذكر في لقائه مع الإمام قصَّة ظريفة [تبيين كذب المفتري (ص: 219)، ط. دار التَّقوى].
ادَّعى ابنُ تيميَّة - كما هي عادته لسدِّ الفراغ - أنَّ هذا الإمام قائلٌ بعقيدة الجِهة، وأنَّه معدود مِن شيوخ التَّصوُّف الأوائل الَّذين لهم قَدَم صِدق في إثبات الصِّفات، والرَّدِّ على نُفاةِ العُلُوِّ الحِسِّي...الخ تخرُّصاته في حقِّ قُدماء الأشاعرة.

وسنبدأ بتوثيق كلام ابن تيميَّة في عقيدة الإمام ابن خفيفٍ، ثمَّ نردفه بنقل عقيدة الإمامِ نفسه كما في رسالته "المعتقد الصَّغير"، وليقارن الألبَّاء بين هذا وهذا حتَّى يقفوا بأنفسهم على مدى مِصداقيَّة الحرَّاني في نقل عقيدة الأئمَّة.

قال ابنُ تيميَّة: ((وَلِلشُّيُوخِ الْمَشْهُورِينَ بِالْخَيْرِ، كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ...وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَفِيفٍ الشِّيرَازِيِّ...وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَالذَّمِّ لِلْجَهْمِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ، مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِعُشْرِهِ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (5/4-5) تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية] فابنُ خفيفٍ يُعدُّ مِن مشايخ التَّصوُّف الأوائل المشهورين بالرَّدِّ على الجهميَّة، وإثبات الصِّفات، طبعاً يقصد ابن تيميَّة هنا طريقته هو في الإثبات.

وقال أيضاً في مسألةِ العُلُوِّ الحِسِّي: ((وَأَوَّلُ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ قَوْلُ النُّفَاةِ هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، وَكَانَا فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَقَتَلَهُمَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَمَّا سَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ مَالِكٍ...فَالْكُتُبُ مَمْلُوءَةٌ بِالنَّقْلِ عَنْهُمْ لِمَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ.
وَكَذَلِكَ شُيُوخُ أَهْلِ الدِّينِ، مِثْلَ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ...وَمُحَمَّدِ بْنِ [خَفِيفٍ] الشِّيرَازِيِّ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ. وَكُتُبُ أَهْلِ الْآثَارِ مَمْلُوءَةٌ بِالنَّقْلِ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِمَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ صَحِيحٌ يُوَافِقُ قَوْلَ النُّفَاةِ. فَإِذَا كَانَ سَلَفُ الْأَئِمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَأَفْضَلُ قُرُونِهَا مُتَّفِقِينَ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: لَيْسَ هَذَا إِلَّا قَوْلَ الْكَرَّامِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ؟)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (6/266) تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية] في المطبوع "حنيف" بدل "خفيف" وهو تصحيف كما هو ظاهر.

إذن: فالكتب تعجُّ بتوافق عقيدة الصُّوفيَّة - من أمثال ابنِ خفِيفٍ الشِّيرازي - مع عقيدة الكرَّاميَّة ومُجسِّمة الحنابلة، في القول بِالعُلُوِّ الحِسِّي والجِهَةِ في حقِّه تعالى! هكذا يزعم ابن تيميَّة هنا.

هذا؛ وقد نقل ابنُ تيميَّة - في مقام الاحتجاج - فصولًا طويلة من عقيدة الإمام ابن خفيفٍ من كتابه "‌اعْتِقَادُ ‌التَّوْحِيدِ ‌بِإِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ"، ونحن نذكر بعض ما نقله ممَّا له صلة بموضوع البحث:

قال ابنُ تيميَّة: ((ثُمَّ ذَكَرَ [=ابنُ خَفِيفٍ] الْأَحَادِيثَ فِي إثْبَاتِ الْوَجْهِ، وَفِي إثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَالْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: "ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَرَّفَ إلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ قَالَ: لَهُ يَدَانِ قَدْ بَسَطَهُمَا بِالرَّحْمَةِ"...ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ: "يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رِجْلَهُ"...ثُمَّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ وَأَنَّ الْعَرْشَ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ...ثُمَّ قَالَ: "فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ قَدْ رُوِيَتْ عَنْ هَؤُلَاءِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مُوَافَقَةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ... وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِهِمْ، نَقَلَتْهَا الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، إلَى أَنْ حَدَثَ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ مَنْ قَلَّلَ اللَّهُ عَدَدَهُمْ، مِمَّنْ حَذَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ، وَأُمِرْنَا أَنْ لَا نَعُودَ مَرْضَاهُمْ، وَلَا نُشَيِّعَ جَنَائِزَهُمْ، فَقَصَدَ هَؤُلَاءِ إلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَضَرَبُوهَا بِالتَّشْبِيهِ، وَعَمَدُوا إلَى الْأَخْبَارِ فَعَمِلُوا فِي دَفْعِهَا إلَى أَحْكَامِ الْمَقَايِيسِ...وَأَنْكَرُوا عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَرَدُّوا عَلَى الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ، فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)) [الفتوى الحَمَويَّة الكبرى ضمن مجموع الفتاوى (5/50-51)، ط. دار الوَفاء] وفي هذا إيهام من ابنِ تيميَّة على أنَّ طريقَ الإمام ابن خفيفٍ في إثبات الصِّفات الخبريَّة التي ظاهرها الأعضاء والجوارح، فيه موافقة لطريقته هو في الإثبات، أي: إثباتها صفات أعيانٍ مُتحيِّزة في جِهة من الذَّات، لا صفات معاني تقوم بالذَّات!

ونقل ابنُ تيميَّة أيضاً من كتاب "‌اعْتِقَادُ ‌التَّوْحِيدِ ‌بِإِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ" لابن خفيفٍ، مذهب الرَّجل في "الرُّؤية" فذكر قوله: ((قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا فِيمَا نَعْتَقِدُ: إِنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْقِيَامَةِ)) [الفتوى الحَمَويَّة الكبرى ضمن مجموع الفتاوى (5/51)، ط. دار الوَفاء].

ونقل عنه أيضا قوله: ((وَإِنَّهُ تَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ، وَذَكَرَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ. هَذَا قَوْلُنَا وَقَوْلُ أَئِمَّتِنَا، دُونَ الْجُهَّالِ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ فِينَا)) [الفتوى الحَمَويَّة الكبرى ضمن مجموع الفتاوى (5/53)، ط. دار الوَفاء] وهذا من ابن تيميَّة كسابقه؛ يوهم بأنَّ ابن خفيفٍ جارٍ على طريقته في لزوم إثبات المقابلة والجِهة عند "الرُّؤية"!

ونقل ابنُ تيميَّة كلام الإمام ابن خفيفٍ في "الاستواء" وذكر منه قوله: ((نَقُولُ وَنَعْتَقِدُ: إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ عَرْشٌ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ بِكُلِّ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ كَمَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ﴾ [السَّجدة: 5]، وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ فِي الْأَرْضِ كَمَا هُوَ فِي السَّمَاءِ عَلَى عَرْشِهِ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَجْرِي عَلَى عِبَادِهِ: ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ﴾ [السَّجدة: 5])) [الفتوى الحَمَويَّة الكبرى ضمن مجموع الفتاوى (5/51)، ط. دار الوَفاء] وهذا أيضاً فيه نفي للكون الأرضي بمعنى نفي حلول ذاته تعالى في العالَم، فإذا لم يكن تعالى بذاته في الأرض فليس هو كذلك بذاته في السَّماء، ولا هو متمكِّنٌ في العرش، وهذا لأنَّه جلَّ وعلا فوق المكان والمكانيات أصلًا؛ بمعنى أنَّه يتنزَّه عنها، لا أنَّه بذاته في مكانٍ دون مَكانٍ، وقد يفهم من استدلاله بآية تدبير الأمر أنَّ المقصود من الاستواء عنده تمام التَّدبير والملك كما ذكره بعضهم.

ونقل عنه أيضًا في "الاستواء" قوله: ((وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُهُ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَحِلُّ فِي الْمَرْئِيَّاتِ، وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ)) [الفتوى الحَمَويَّة الكبرى ضمن مجموع الفتاوى (5/54)، ط. دار الوَفاء] والمُباينةُ هنا: المخالفة والمغايرة، بمعنى أنَّ حقيقة ذاته تعالى مُخالفٌ تماماً للخلق، فباين تعالى الخلقَ بالقِدَم والكمال والغنى الذَّاتي، وباينوه بالحدوث والنَّقص والافتقار إليه جلَّ وعَلَا، وهكذا، وأمَّا المباينةُ بمعنى الانفصال عن الخلق بالمسافة أي: بينونة العُزلة، فهذا يستلزم إثبات الجِسميَّة، وهو ما ينفيه الإمام كما سترى.

قال الإمامُ الأصوليُّ المُتكلِّمُ الأستاذُ أبو مَنصورٍ عبدُ القاهِر البغداديُّ الشَّافعيُّ (ت: 428 هـ): ((اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُبَايِنِ فِي أَوْصَافِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:
فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى مُبَايِنٌ لِخَلْقِهِ"؛ وَأَرَادَ بِهِ: الْمُبَايَنَةَ الَّتِي ضِدُّ الْمُمَاسَّةِ، وَقَالَ أَيْضاً: "إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَايَنَ خَلْقَهُ لَا بِمَسَافَةٍ وَلَا بِتَحُيُّزٍ".
وكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: لَا يُطْلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُبَايِنِ إِلَّا عَلَى مَعْنَى الْمُخَالِفِ؛ فَإِذَا قَالَ: إِنَّهُ مُبَايِنٌ لِخَلْقِهِ، أَوْ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِخَلْقِهِ فِي الصِّفَاتِ؛ كَمَا يُقَالُ فِي العَرَضَيْنِ: إِنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ بِالْوَصْفِ وَالْحَقِيقَةِ)) [الأَسماءُ والصِّفَات (1/330-331)، ط. دار التَّقوى] وفي هذا النَّقل نصٌّ نفيس في معنى المُباينة عند الإمام عبد الله بن سعيدٍ بن كُلَّاب، وهو ما يؤكِّد بُطلان القول باعتقاده المُباينة الحِسِّيَّة في حقِّه تعالى، وبالتَّالي تكذيب مزاعم ابن تيميَّة في نسبته إلى الجِهَويَّة!

ونقل ابنُ تيميَّة كلام الإمام ابن خفيفٍ في "النُّزول" وذكر منه قوله: ((وَمِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخَرِ؛ فَيَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقُولُ: "أَلَا هَلْ مِنْ سَائِلٍ" الْحَدِيثَ، وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي ذَلِكَ)) [الفتوى الحَمَويَّة الكبرى ضمن مجموع الفتاوى (5/52)، ط. دار الوَفاء] وهذا من ابن تيميَّة كسابقه؛ يوهم أيضا بأنَّ ابنَ خفيفٍ جارٍ على طريقته في إثبات النُّزول على ظاهره اللُّغوي المعروف أي: الحركة والانتقال!

وبعد عرض طريقة ابن تيميَّة في توظيف بعض نصوص الإمامِ ابنِ خفيفٍ في العقيدة، نُصرةً منه لمشربه المعروف، نذكر للباحث بعض كلام الإمام ابن خفيفٍ الموجود في عقيدته الصَّغيرة المسمَّاة: "المُعتقد الصَّغير"، وهي العقيدة الَّتي نقلها تلميذه أبو الحَسَنِ الدَّيلَمِيُّ في كتابه "سيرةُ الشَّيخ الكبير".

استهلَّ الإمامُ ابنُ خَفِيفٍ "المعتقد الصَّغير" بقوله: ((هَذَا مُعْتَقَدِي، وَمُعْتَقَدُ الأَئِمَّةِ السَّادَةِ، وَالعُلَمَاءِ الصِّيدِ القَادَةِ، الَّذِينَ قَبْلِي وَفِي زَمَانِي، مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ)) [المُعْتَقَدُ الصَّغِيرُ (ص: 257)، ط. دار الإمام الرَّازي: مصر] وهذا ظاهر في أنَّ عقيدته هذه هي عقيدة أسلافه كشيخه الإمام أبي الحسن الأشعري، وهي أيضاً عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في زمانه.

وقال ابنُ خَفِيفٍ: ((فأَوَّلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ العَبْدُ اعْتِقَادُهُ: التَّوْحِيد؛ لِتَتِمَ بِهِ سَائِرُ الأَعْمَالِ. فَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ لَا مِنْ حَيْثُ العَدَدِ وَلَا كَالآحَادِ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ لَا كَالأَشْيَاءِ، وَأَنَّهُ لَا شَبَهَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا ضِدَّ لَهُ فِي مُلْكِهِ، وَلَا نِدَّ لَهُ فِي صُنْعِهِ، وَلَا هُوَ جِسْمٌ وَلَا عَرَضٌ وَلَا جَوْهَرٌ، ولَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحَوَادِثِ وَلَا الحَوَادِثُ مَحَلٌّ لَهٌ، وَلَا حَالٌّ فِي الأَشْيَاءِ، وَلَا الأَشْيَاءُ حَالَّةٌ فِيهِ، وَلَا يَتَجَلَّى فِي شَيْءٍ، وَلَا اسْتَتَر بِالْحَدَثِ)) [المُعْتَقَدُ الصَّغِيرُ (ص: 261 إلى 266)، ط. دار الإمام الرَّازي: مصر] وهذه عقيدة تنضح بتنزيه الله عن الجسميَّة ولوازمها.

وقالَ أيضاً: ((وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَأَنَّهُ عَالِمٌ وَلَا مَعْلُومَ، وَقَادِرٌ وَلَا مَقْدُورَ، وَرَاءٍ وَلَا مَرْئِيَّ، وَرَازِقٌ وَلَا مَرْزُوقَ، وَخَالِقٌ وَلَا مَخْلُوقَ)) [المُعْتَقَدُ الصَّغِيرُ (ص: 268 إلى 270)، ط. دار الإمام الرَّازي: مصر] وهو نفس معتقد أهل السُّنَّة والجماعة كما نقله الإمام الطَّحاوي في عقيدته المشهورة، وهذا فيه نفي عقيدة قِدم العالَم بالنَّوع والأفراد، وفيه أيضاً: قِدَم صفاته تعالى، فلا شيء منها حادث أو مُحدث، على نقيض عقيدة ابن تيميَّة.

وقال في "الاستواء": ((وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا عِنْدَ الأَسْحَارِ بِمَعْنَى الصِّفَةِ لَا بِمَعْنَى الانْتِقالِ)) [المُعْتَقَدُ الصَّغِيرُ (ص: 276)، ط. دار الإمام الرَّازي: مصر] أي: إثبات الاستواء والنُّزول مع نفي المعنى الظَّاهر المتبادر منه كالحركة والزَّوال، وهو ما ينسف دعوى ابن تيميَّة في حقِّ هذا الرَّجل من جذورها.

وقال في الصِّفات الخبريَّة: ((وَأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِيَدِهِ لَا بِيَدِ قُدْرَتِهِ؛ بَلْ بِيَدِ صِفَتِهِ، وَهَكَذَا جَمِيعُ الأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي الصِّفَاتِ، يَعْتَقِدُهُ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً لَا مُقَايَسَةً وَلَا مُفَاتَشَةً)) [المُعْتَقَدُ الصَّغِيرُ (ص: 276-277)، ط. دار الإمام الرَّازي: مصر] وهذا واضح في إثبات اليد صفة معنى - مع التَّفويض - لا صفة عينٍ كما يدَّعي ابن تيميَّة.

وقال في "الرُّؤية": ((وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَعَالَى يَرَاهُ المُؤْمِنُونَ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ كَمَا يَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ لَا يُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا تَحْدِيد إِلَى حَدٍّ، مُسْتَقْبلٍ أَوْ مُسْتَدْبرَ، أَوْ فَوْقَ أَوْ تَحْتَ، أَوْ يُمْنَةً أَوْ يُسْرَةً)) [المُعْتَقَدُ الصَّغِيرُ (ص: 279)، ط. دار الإمام الرَّازي: مصر] وهذا صريح جدًّا في نفيه الإحاطة والحدود والمقابلة والمكان والجهة عند الرُّؤية، وهذا النَّص وحده يكذِّب كلَّ الدَّعاوى العريضة الَّتي أطلقها الحرَّاني في حقِّ ابنِ خفيفٍ، ويُبيِّن بمكان أنَّ ابن تيميَّة غير مؤتمن في نقل مذاهب العلماء، كما نصَّ التَّقي السُّبكي وغيره.

وقال ابنُ خَفيفٍ أيضاً: ((وَأنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، بِلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَصْوِيرٍ وَلَا مُقَايَسَةٍ وَلاَ مُخَايَلَةٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يُشَبَّهُ وَلَا يُوصَفُ بِالأَعْضَاءِ المُفَصَّلَاتِ وَلَا بِالتَّرَاكِيبِ المُخْتَرَعَاتِ، وَلَا يُوصَفُ بِالأَلْسِنَةِ وَاللَّهَوَاتِ، وَلَا يُوصَفُ بِالسُّكُونِ وَالحَرَكَاتِ، وَلَا بِالزَّوَالِ وَالتَّنْقِيلَاتِ)) نقلًا من مخطوط كتاب "الاقتصاد" لابن خفيفٍ [المُعْتَقَدُ الصَّغِيرُ (هامش على ص: 277)، ط. دار الإمام الرَّازي: مصر] والقول بأنَّ الله في جِهة يستلزم وصفه تعالى إمَّا بالسُّكون في تلك الجِهة أو الحَرَكَة، والإمام كما ترى ينفي كلّ ذلك، وينفي الأعضاء والصُّورة والشَّكل عن ربِّه، وكلّ هذه المعاني المنفيَّة هي أسُّ عقائد ابن تيميَّة كما لا يخفى.

والغريب أن يحتجَّ ابنُ تيميَّة بكلام ابنِ خفيفٍ وهو عليه لا له، ومن هذا القبيل قول ابن خفيفٍ: ((وَالْخُلَّةُ وَالْمَحَبَّةُ صِفَتَانِ لِلَّهِ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِمَا، وَلَا تَدْخُلُ أَوْصَافُهُ تَحْتَ التَّكْيِيفِ وَالتَّشْبِيهِ، وَصِفَاتُ الْخَلْقِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْخُلَّةِ جَائِزٌ عَلَيْهَا الْكَيْفُ؛ فَأَمَّا صِفَاتُهُ تَعَالَى فَمَعْلُومَةٌ فِي الْعِلْمِ، وَمَوْجُودَةٌ فِي التَّعْرِيفِ، قَدْ انْتَفَى عَنْهُمَا التَّشْبِيهُ، فَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَاسْمُ الْكَيْفِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ سَاقِطٌ)) [الفتوى الحَمَويَّة الكبرى ضمن مجموع الفتاوى (5/54)، ط. دار الوَفاء] وهذا صريحٌ في نفي مطلق التَّشبيه في حقِّه تعالى عكس عقيدة ابن تيمَّية الَّذي يعتقد وجود نوع مُشابهة بين الخالق والمخلوق، وفيه أيضاً نفي الكيفيَّة في حقِّه تعالى، على نقيض عقيدة ابن تيميَّة الَّذي يُثبت الكيفيَّة في نفس الأمر بمعنى الشَّكل والهيئة، ثمَّ يتظاهر بتفويض العلم بها!

ومن هذا القبيل أيضاً قول ابن خفيف كما نقله ابن تيميَّة: ((وَمَنْ قَالَ: إنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْعَبْدِ؛ أَوْ قَالَ بِالتَّبْعِيضِ عَلَى اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ)) [الفتوى الحَمَويَّة الكبرى ضمن مجموع الفتاوى (5/55)، ط. دار الوَفاء] وابن تيميَّة يُثبت التَّبعيض بمعنى أنَّ أبعاضه تعالى مُتَّصلة بذاته ولا تقبل الانفصال!

يُتبع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... 1uwo4JFfal

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... GHVqrJFDel

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة سبتمبر 06, 2024 6:46 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (25)

4) أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ‌مَهْدِيٍّ ‌الطَّبَرِيُّ (ت: 380 هـ)

ذكره الحافظ ابن عساكر في الطَّبقة الأولى من تلامذة الإمام أبي الحسن الأشعري فقال: ((صَحِبَ أَبَا الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْبَصْرَةِ مُدَّةً، وَأَخَذَ عَنْهُ وَتَخَرَّجَ بِهِ وَاقْتَبَسَ مِنْهُ، وَصَنَّفَ تَصَانِيفَ عِدَّةً تَدُلُّ عَلَى عِلْمٍ وَاسِعٍ، وَفَضْلٍ بَارِعٍ، وَهُوَ الَّذِي أَلَّفَ الْكِتَابَ الْمَشْهُورَ فِي "تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَالْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ")) [تبيين كذب المفتري (ص: 379)، ط. دار التَّقوى].
وقد اعتمد ابنُ تيميَّة - نُصرةً لمذهبه المعروف - على بعض كلام الإمام في مسألة "الاستواء"، وادَّعى أنَّه قائل بعقيدة الجِهةِ في حقِّه تعالى! فنقل عنه - بطريقته المعهودة في التَّلبيس - بعض كلامه، ولكنَّه بتر من السِّياق، صريح قول الرَّجل في نفي البينونة الحِسِّيَّة في حقِّه جلَّ وعلَا؛ كما ستقف عليه بنفسك في هذا البحث إن شاء الله! وهذا الصَّنيع مِن ابن تيميَّة يعدُّ من الخيانة العلميَّة الَّتي لا يغسلها ماء البحر.

ولنبدأ بعرض ما قرَّره ابن تيميَّة في عقيدة الإمام أبِي الحَسَنِ بْنِ ‌مَهْدِيٍّ ‌الطَّبَرِيِّ:

زَعمَ ابنُ تيميَّة: ((أَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مَنْ أَتْبَاعِ ابْنِ كُلَّابٍ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ، أَقْرُبُ إِلَى السُّنَّةِ وَأَتْبَعُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ؛ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ الْمَائِلِينَ إِلَى طَرِيقَةِ ابْنِ كُلَّابِ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (1/270)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية] إذن: فقد كان الإمامُ أبو الحسنِ بنُ مهديٍّ الطَّبريُّ على عقيدة كُلَّابيَّة أهل العراق، وهؤلاء (أقرب!) إلى السُّنَّة مِن كُلَّابيَّة وأشاعرة أهل خُراسان، هكذا يزعم الحرَّاني، وإنَّما قال ((أقرب إلى السُّنَّة)) لأنَّه يعتبرهم ليسوا مِن خُلَّص أهلِ السُّنَّة!

وقال ابنُ تيميَّة أيضاً مُعبِّراً عن رأيه في كتاب "تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَالْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ" للإمام ابنِ مهديٍّ الطَّبَريِّ: ((وَأَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ جَمَعَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَأْوِيلَاتِ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ مَا يُنَاسِبُ كِتَابَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُمَاثِلِينَ لِبِشْرٍ، بَلْ هُوَ يُثْبِتُ مِنَ الصِّفَاتِ مَا لَا يُثْبِتُهُ بِشْرٌ، وَكَانَ قَدْ سَبَقَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ إِلَى كِتَابٍ لَطِيفٍ فِي التَّأْوِيلِ، وَطَرِيقَتُهُ أَجْوَدُ مِنْ طَرِيقَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكَ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (7/153-154)، ط. المجمَّع] وعلى هذا فكتاب الإمام ابن مهديٍّ الطَّبري كتاب لطيف في التَّأويل، وهو أجوَد - من حيث الموضوع الَّذي يعالجه - مِن كتاب "مُشْكِل الحديثِ وبيانه" لابن فُورَك، وإن كان في كلٍّ من هذا وذاك بعض تأويلات بشر المريسي، هذا حاصل تقرير ابن تيميَّة في هذا النَّص.

ويُستفاد منه أنَّ الحرَّاني كان على إلمام تام بمادة هذه الكتب، وإلَّا لما تجرَّأ للمقارنة بينها.

بينما قال تلميذُه ابنُ القيِّم: ((وأمَّا المُعْتَزِلَةُ والجَهْمِيَّةُ وَغَيرُهُم مِن فِرَقِ المُتَكَلِّمينَ فَمُرَادُهُم بالتَّأْويلِ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَن ظاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ وَمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ...وهذَا التَّأْوِيلُ هُو الَّذِي صُنِّفَ فِي تَسْويغِهِ وَإبْطَالِهِ مِنَ الجَانِبَيْنِ، فصَنَّفَ جَمَاعَةٌ فِي تَأْوِيلِ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَخْبَارِهَا، كأَبِي بَكْرٍ بْنِ فُورَكَ وابْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَعَارَضَهُم آخَرُونَ فَصَنَّفُوا فِي إِبْطَالِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ، كَالقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ ابْنِ قُدَامَةَ. وَهُو الَّذِي حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى عَدَمِ القَوْلِ بِهِ)) [الصَّواعقُ المُرسلة (1/25-26)، ط. دار عطاءات العلم] إذن: فالإمامُ أبُو الحسنِ بن مَهديٍّ الطَّبريُّ قد خالف إجماع السَّلف بتصنيفه كتاب "تَأْوِيل الْأَحَادِيثِ وَالْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ"! هذا حاصل كلام ابن القيِّم هنا.

- أوَّلًا: التَّحقيق في دعوى ابنِ تيميَّةَ أنَّ الإمامَ ابنَ مَهديٍّ الطَّبَرِيَّ كان على عقيدةِ الجِهَوِيَّة:

قال ابنُ تيميَّة: ((فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ، وَالْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيِّ الطَّبَرِيُّ، وَعَامَّةُ قُدَمَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَيَرُدُّونَ عَلَى النُّفَاةِ غَايَةَ الرَّدِّ، وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (6/267)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية] هنا يؤكِّد ابنُ تيميَّة أنَّ الإمامَ ابنَ مَهديٍّ الطَّبريَّ قائل بالعُلُوِّ الحِسِّي في حقِّه تعالى! وأنَّ كلامه كثير في الرَّدِّ على من نَفى ذلك!

وقال ابنُ تيميَّةَ رادًّا على الإمام الفخر الرَّازي في تنزيه الله عنِ الجِهةِ والمكان وغيرها مِن معاني الجِسميَّة، ما نصُّه: ((فَلَا رَيْبَ أَنَّ الكُتُبَ المَوجُودَةَ بِأَيْدِي النَّاسِ، تَشْهَد بِأنَّ جَميعَ السَّلَفِ مِنَ القُرُونِ الثَّلَاثَةِ كانُوا عَلَى خِلَافِ مَا ذَكرَهُ [=الرَّازيُّ]، وأَنَّ الأَئِمَّةَ المَتْبُوعِينَ عِندَ النَّاسِ والمَشَايِخَ المُقتَدَى بِهِم، كَانُوا عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ، وَهَذِهِ أَئِمَّةُ المَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، والحَنَفِيَّةِ، وأَهْلِ الحَدِيثِ، وَالصُّوفِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، بَل أَئِمَّةُ الصِّفَاتِيَّةِ مِنَ الكُلَّابِيَّةِ وَالكَرَّامِيَّةِ وَالأَشْعَرِيَّةِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ، فَهَذِهِ كُتُبُ ابْنِ كُلَّابٍ إِمَامِ طَائِفَتِهِ، ثُمَّ الحَارِثِ المُحَاسِبِيِّ ونَحْوِهِ، ثُمَّ أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ، وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ مِثْل ‌أَبِي ‌عَبْدِ ‌اللَّهِ ‌بْنِ ‌مُجَاهِدٍ وأَبِي الحَسَنِ الطَّبَرِيِّ، وَ‌أَبِي ‌الْعَبَّاسِ ‌الْقَلَانِسِيِّ، وَغَيْرِهِ...وَالقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ البَاقِلَّانِيِّ، وَ‌أَبِي ‌عَلِيِّ ‌بْنِ ‌شَاذَانَ وَغَيْرِهِم، كُلُّهُم يَقُولُونَ: بِإِثْبَاتِ العُلُوِّ للهِ عَلَى العَرْشِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَيُضَلِّلُونَ مَنْ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِالاسْتِيلَاءِ وَالقَهْرِ وَنَحْوِهِ...فَكَيْفَ يَزْعُمُ [=الرَّازِيُّ] أَنَّ خُصُومَهُ إِنَّمَا هُمُ الْكَرَّامِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ! بَلْ لَمْ يُوَافِقْهُ إِلَّا فَرِيقٌ قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. حَتَّى حُذَّاقُ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُمْ مِنْ خُصُومِهِ فِي هَذَا الْبَابِ)) [بيانُ تلبيس الجَهميَّة (1/232 إلى 235)، ط. المجمَّع].

إذن: فالإمامُ عليُّ بنُ مهديٍّ الطَّبريُّ يُثبت العُلُوَّ الحِسِّي! بل ويُضلِّل مَن يُفسِّر الاستواءَ على معنى القَهر والاستيلاء ونحوه من المعاني غير الحِسِّيَّة! وعلى هذا مذهب السَّلف وأئمَّة المذاهب الأربعة السُّنِّيَّة وقُدماء الأشعريَّة وأئمَّة الكُلَّابيَّة! بل وحتَّى الكرَّاميَّةُ المجسِّمة و(حُذَّاقُ!) الفلاسفة؛ فمذهبهم مُوافق لهؤلاء! ولَم يخالف في هذا إلَّا شرذمة قليلة مِن المُتأخِّرين الأشعريَّة كالفخر الرَّازي وأضرابه! هذا حاصل كلام ابن تيميَّة كما ترى.

وَذكر ابنُ تيميَّة كلام الإمام عليِّ بنِ مهديٍّ الطَّبري في مسألة "الاستواء" والعُلُوِّ الحِسِّي - بزعمه - فقال: ((وَلِشُهْرَةِ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ - الْمُتَكَلِّمُ صَاحِبُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ - فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي "مُشْكِلِ الْآيَاتِ" فِي بَابِ قَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]: "اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي السَّمَاءِ، فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، عَلَى عَرْشِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاعْتِلَاءُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى السَّطْحِ. بِمَعْنَى: عَلَوْتُهُ. وَاسْتَوَى الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي، وَاسْتَوَى الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي. بِمَعْنَى: عَلَا فِي الْجَوِّ فَوُجِدَ فَوْقَ رَأْسِي. فَالْقَدِيمُ جَلَّ جَلَالُهُ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ، قَوْلُهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الْمُلْكِ: 16] وَقَوْلُهُ: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 55] وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فَاطِرٍ: 10] وَقَوْلُهُ: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السَّجْدَةِ: 5]")) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/287-288)، ط. المجمَّع] بهذه الطَّريقة نقل ابن تيميَّة كلام الإمام علي بنِ مهديٍّ الطَّبريِّ في "الاستواء"، بحيثُ يُخيَّل للقارئ أنَّ الإمامَ جارٍ على عقيدة الجِهة الَّتي يُنافح عنها هذا الحرَّاني هو وأسلافه المجسِّمة!

وإليك يا عبد الله نَصّ الإمام أبي الحسن علي بن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ بسياقه، كما جاء في كتابه الَّذي نقل منه ابن تيميَّة كلامه السَّابق، وقد طُبِع الكتاب بعنوان "تأويلُ الآياتِ المشكَّلةِ الموَضَّحةِ وبيانُها بالحُججِ والبُرهان":

قالَ الإمامُ أَبُو الحَسَنِ عَلِيٌّ بنُ مهدِيٍّ الطَّبَرِيُّ: ((اعْلَمْ - عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الزَّيْغِ بِرَحْمَتِهِ - أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاءِ، فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاعْتِلَاءُ، كَمَا [تَقُولُ] الْعَرَبُ: اسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى السَّطْحِ، يَعْنِي: عَلَوْتُهُ. وَاسْتَوَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي، وَاسْتَوَى الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي. بِمَعْنَى: عَلَا فِي الْجَوِّ، فَوُجِدَ فَوْقَ رَأْسِي.
فَالْقَدِيمُ - جَلَّ جَلَالُهُ - عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ، لَا قَاعِدٌ وَلَا قَائِمٌ، وَلَا مُمَاسٌّ لَهُ وَلَا مُبَايَنٌ، وَالعَرْشُ: مَا تَعْقِلُهُ الْعَرَبُ، وَهُوَ السَّرِيرُ.
وَيَدُّلُّكَ عَلَى أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الْمُلْكِ: 16]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 55]. وَقَوْلُهُ: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النَّحل: 50]. وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فَاطِرٍ: 10]. وَقَوْلُهُ: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السَّجْدَةِ: 5])) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 144)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] هذا نصُّه بحروفهِ.

وتأمَّل يا عبد الله التَّنزيه الصَّريح الَّذي حذفه ابن تيميَّة من سياق كلام الإمام، حتَّى يظهره على نقيض مُراده؛ وهو قوله: ((لَا قَاعِدٌ وَلَا قَائِمٌ، وَلَا مُمَاسٌّ لَهُ وَلَا مُبَايَنٌ))، وهو كما ترى نصٌّ لا يقبل التَّأويل، صريحٌ في نفي المُماسَّة عنه تعالى بمعنى الاتِّصال بالعالَمِ، وصريحٌ أيضاً في نفي المباينة عنه تعالى بمعنى الانفصال عن الخلق بالمسافة، أي: نفي الدُّخول والخروج عنه جلَّ وعلا، وهو ما يكذِّب دعوى ابنِ تيميَّة الَّتي أطلقها في حقِّ الرَّجل، ويُثبت بمكان نوع الخيانة العلميَّة الَّتي تلبَّس بها هذا الحرَّاني!

وإليك يا عبد الله بعض نصوص ابنِ تيميَّة الَّتي تبيِّن سَبب ركوبه هذا المنحى الخطير:
قال ابنُ تيميَّة: ((وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ [=الأشاعرة]: الْمَوْجُودُ الْمُبَايِنُ لِلْعَالَمِ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ، أَوْ قَوْلُهُمُ: الْمَوْجُودُ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ؛ مِثْلَ قَوْلِ إِخْوَانِهِمْ [=الحُلُوليَّة]: أَنَّهُ فِي الْعَالَمِ لَيْسَ بِمُبَايِنٍ لِلْعَالَمِ وَلَا مُمَاسٍّ لَهُ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ؛ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ؟ بَلْ قَوْلُهُمْ أَظْهَرُ فَسَادًا)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (5/135)، ط. المجمَّع] إذن: عقيدة السَّادة الأشاعرة في أنَّه تعالى لا مُباينٌ للعالَم ولا مُماسٌّ له؛ أظهر فساداً - في نظر ابن تيميَّة - من عقيدة الحلوليَّة الكُفريَّة القائمة على أنَّه تعالى بذاته في العالَم بلا مُباينة للعالَم ولا مُماسَّة له!
وعلى هذا؛ فقول الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ السَّابق - والذي حذفه ابن تيميَّة - وهو قوله: ((أنُّه تعالى لَا مُمَاسٌّ للعرشِ وَلَا مُبَايَنٌ لهُ))؛ يكون أظهر فساداً - في نظر ابن تيميَّة - مِن قول هؤلاء الحلوليَّة الكفرة!

وإذا كانت الحلوليَّة كفَّارٌ كما هو معلوم؛ فما هو حُكم مَن يعتقد عقيدةً تكون أظهر فساداً من عقيدة هؤلاء الكفرة؟! أوليس في هذا تكفير مِن ابن تيميَّة لأهل السُّنَّة الأشاعرة باستعمال طَريق الأَوْلى؟! ماذا يُطلق على صنيع ابن تيميَّة هنا؟! وما عسى أن يُقال في أسلوبه الماكر هذا؟!

بل وقال ابنُ تيميَّة تعليقاً على كلام الإمامِ ابنِ كُلَّاب: ((فَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا الْكَلَامِ: امْتِنَاعُ أَنْ يُقَالَ فِي الْبَارِي: لَيْسَ بِمُمَاسٍّ وَلَا مُبَايِنٍ، [فَيُنْفَى] عَنْهُ الْوَصْفَانِ الْمُتَنَاقِضَانِ، اللَّذَانِ لَا يَخْلُو الْمَوْجُودُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ، فَهَذَانِ وَنَحْوُهُمَا مُتَضَادَّانِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَفِي النَّفْيِ جَمِيعًا)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (1/95)، ط. المجمَّع] فنفي المماسَّة والمباينة عنه تعالى؛ يستلزم القول بأنه جلَّ وعلَا: معدوم لا موجود! كذا يزعم الحرَّاني.
وقال أيضاً: ((كَوْنُ الْمَخْلُوقِ إِمَّا دَاخِلًا فِي الْخَالِقِ، أَوْ خَارِجًا مِنْهُ، تَقْسِيمٌ ضَرُورِيٌّ، لَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِأَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْخَالِقِ، إِمَّا دَاخِلًا فِي الْخَلْقِ أَوْ خَارِجًا مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْقَوْلُ بِدُخُولِهِ فِي الْخَلْقِ أَوْ دُخُولِ الْخَلْقِ فِيهِ مُمْتَنِعٌ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الْخَلْقِ وَالْخَلْقُ خَارِجُونَ مِنْهُ، فَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: "إِذَا كَانَ غَيْرَ مُبَايِنٍ أَلَيْسَ هُوَ مُمَاسٌّ؟" اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُبَايَنَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُمَاسًّا عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، بَلْ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ نَفَاهُ)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (1/99)، ط. المجمَّع] فالعلم بأنَّه تعالى إمَّا مُباينٌ للعالَم أو مُماسٌّ له؛ ضرورة عقليَّة لا تحتاج إلى دليل، بل يُنكر على من نفاه! هكذا يزعم الحرَّاني.
والسّؤال هنا: لِمَ لَم يُنكر ابن تيميَّة على الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ حين نفى المُباينة والمُماسَّة في حقِّه تعالى؟!

كلُّ هذه النُّصوص وغيرها؛ تُثبت نوع الخيانة العِلميَّة الخطيرة الَّتي استباحها ابن تيميَّة لنفسه، وهي تؤكِّد بمكان أنَّ عقيدة الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ في نفي المباينة والمُماسَّة عنه تعالى؛ ما هي - في نظر ابن تيميَّة - عندَ التَّحقيق: إلَّا عقيدة نفاةِ الرَّبِّ! لأجل هذا حذف هذا التَّنزيه مِن سياق كلام الرَّجل!

وأمَّا ما نسبه الحرَّاني للإمام أحمد بن حنبل في النَّص السَّابق، فهو موجود في رسالة "الرَّدِّ على الزَّنادقة والجَهميَّة"، وهي رسالة باطلة عاطلة، منحولة على الإمام؛ نصَّ عليه الحافظ الذَّهبي في كتابه [سِيَر أعلام النُّبلاء (11/286-287)، ط. مؤسَّسة الرِّسالة]، وحقَّق ذلك أيضاً ابنُ الوزير اليماني في كتابه [العَواصِم والقَواصِم في الذَّبِّ عن سُنَّة أبي القاسِم (4/342-344)، ط. مؤسَّسة الرِّسالة].

وكذلك صنع الحافظُ الذَّهبيُّ وللأسف، فنقل كلام الإمام عَلِيِّ بنِ مهدِيٍّ الطَّبَرِيِّ بنفس التَّزوير الَّذي مارسه شيخه الحرَّاني، بل وبحذافيره، كما تجده في كتابه [العرش (2/318-319)، ط. أضواء السَّلف]، وكذلك في كتابه الآخر [العُلُوُّ للعليِّ الغفَّار (ص: 231)، ط. مكتبة أضواء السَّلف]!

وكذلك الحافظ ابنُ عبد الهادي المتعصِّب لشيخه ابن تيميَّة، فقد وقع هو الآخر في نفس الخيانة العلميَّة الَّتي مارسها شيخه في النَّقل هنا، كما تجده في رسالته [الكلام على مسألةِ الاستواء على العرشِ (ص: 75)، دار الفلاح]!

هذا؛ وقد نقل ابنُ القيِّم في كتابه [تَهذيب سننِ أبي داود (3/246)، ط. عطاءات العلم] عن الحافظ البيهقيِّ كلامَ الإمام عَلِيِّ بنِ مهدِيٍّ الطَّبَرِيِّ السَّابق في "الاستواء"، مُحتجًّا به في إثبات العُلُوِّ الحِسِّي، وهو في الحقيقة - كما ترى - مُناقض لمذهبه ومذهب شيخه الحرَّاني بمائة وثمانين درجة، وبالتَّالي فهو عليه لا له!
ولكنَّ ابن القيِّم لَم ينقل شرح الحافظ البيهقي على كلام الإمام ابن مهديٍّ الطَّبريِّ، والسَّبب في ذلك يعود إلى ما سوف تعرفه عندما ننقل كلام الحافظ البيهقي بتمامه!

نعم؛ نقل الحافظُ البيهقيُّ مذهبَ الإمام عَلِيِّ بنِ مهدِيٍّ الطَّبَرِيِّ في "الاستواء" فقال: ((وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ‌مَهْدِيٍّ ‌الطَّبَرِيُّ فِي آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ: إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ؛ وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاعْتِلَاءُ؛ كَمَا تَقُولُ: اسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى السَّطْحِ؛ بِمَعْنَى عَلَوْتُهُ، وَاسْتَوَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي، وَاسْتَوَى الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي؛ بِمَعْنَى عَلَا فِي الْجَوِّ فَوُجِدَ فَوْقَ رَأَسِي. فَالْقَدِيمُ سُبْحَانَهُ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ، لَا قَاعِدٌ وَلَا قَائِمٌ وَلَا مُمَاسٌّ وَلَا مُبَايَنٌ عَنِ الْعَرْشِ)) [الأسماءُ والصِّفات (2/325-326)، ط. دار التَّقوى].

ثمَّ شرحَ الحافظُ البيهقِيُّ كلامَ الإمام، فقال: ((يُرِيدُ بِهِ: مُبَايَنَةَ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الِاعْتِزَالِ أَوِ التَّبَاعُدِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاسَّةَ وَالْمُبَايَنَةَ الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا وَالْقِيَامَ وَالْقُعُودَ مِنْ أَوْصَافِ الْأَجْسَامِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْأَجْسَامِ.
وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ رَحِمَهُ اللهُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: "اسْتَوَى بِمَعْنَى: عَلَا"، ثُمَّ قَالَ: "وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ عُلُوًّا بِالْمَسَافَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْكَوْنِ فِي مَكَانٍ مُتَمَكِّنًا فِيهِ، وَلَكِنْ يُرِيدُ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿‌أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك: 16] أَيْ: مَنْ فَوْقَهَا، عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَحْوِيهِ طَبَقٌ، أَوْ يُحِيطُ بِهِ قُطْرٌ، وَوَصْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذَلِكَ بِطَرِيقَةِ الْخَبَرِ، فَلَا نَتَعَدَّى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ". قُلْتُ: وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَكَلِمَةُ "ثُمَّ" تَعَلَّقَتْ بِالْمُسْتَوى عَلَيْهِ، لَا بِالِاسْتِوَاءِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: 46] يَعْنِي: ثُمَّ يَكُونُ عَمَلُكُمْ فَيَشْهَدُهُ.
وَقَدْ أَشَارَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ حِكَايَةً، فَقَالَ: "وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ، وَلَا يُقَالُ: لَمْ يَزَلْ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ قَدْ حَدَثَتْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَلَا يُقَالُ: لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِأَنْ قَدْ حَدَثَتْ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدُ".
قَالَ: "وَجَوَابِي هُوَ الْأَوَّلُ؛ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْأَشْيَاءَ بَائِنٌ مِنْهَا؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَحُلُّهُ وَلَا يَحُلُّهَا، وَلَا يَمَسُّهَا وَلَا يُشْبِهُهَا، وَلَيْسَتِ الْبَيْنُونَةُ بِالْعُزْلَةِ، تَعَالَى اللَّهُ رَبُّنَا عَنِ الْحُلُولِ وَالْمُمَاسَّةِ عُلُوًّا كَبِيرًا")) [الأسماءُ والصِّفات (2/327 إلى 329)، ط. دار التَّقوى].

إذن: فمذهب الإمامِ أبي الحسنِ عليٍّ بن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ كما شرحه الحافظُ البيهقيُّ، هو أنَّه يُثبت الاستواء صفة ذات - لا فِعلٍ - على أحد القَولين عند السَّادة الأشاعرة، مع نفيه بينونة المسافة والعُزلَةِ والتَّباعد الحِسِّي، وبالتَّالي نفي عُلُوِّ المكان والتَّمكُّن في جِهةٍ، وغيره من لوازم الجِسميَّة.

لأجل هذا يا عبد الله؛ لم ينقل ابن القيِّم تعليق الحافظ البيهقي الَّذي يبيِّن معنى كلام الإمامِ ابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ في الاستواء، وكم له من مثل هذه الخرجات!

وممَّا يبعث على الحيرة حقًّا هنا؛ هو أنك تجد الباحث الوَهَّابي الدُّكتور عبد الرَّحمن المحمود وقد نقل كلام الإمام ابن مهديٍّ الطَّبريِّ في "الاستواء"، وفيه نفي المماسَّة والمباينة في حقِّهِ تعالى، ثمَّ يزعم الوهَّابي أنَّ الإمامَ كان مِن مثبتي العُلُوِّ الحِسِّي! [موقف ابن تيميَّة من الأشاعرة (2/519)، نشرة: مكتبة الرشد]، وهذا يعكس حالة التَّقليد الأعمى لابن تيميَّةَ عند هؤلاء القوم، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة!

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... 2oYMLgUsBl

اللَّاحق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... UFRESxNRrl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء سبتمبر 18, 2024 10:18 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (26)

وبعد هذا؛ نعود إلى استكمال ما نقله ابن تيميَّة مِن كلام الإمام ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ في "الاستواء":

قال ابنُ تيميَّة ناقلًا ردَّ الإمامِ ابنِ مهدي الطَّبري على "البَلْخِيِّ" الَّذي ذهب إلى تفسير الاستواء بالاستيلاء: ((قَالَ [=عليُّ بنُ مهديٍّ الطَّبريُّ]: "وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ هَاهُنَا لَيْسَ بِالِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَخُصَّ الْعَرْشَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ، إِذْ هُوَ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَرْشِ مَزِيَّةٌ عَلَى مَا وَصَفْتَهُ، فَبَانَ بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِهِ")) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/289)، ط. المجمَّع] وهذا النَّص موجود في [تأويل الآياتِ المُشكَّلة لِابن مَهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 146)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

وتفسير الاستواء هنا بالاستيلاء أو القَهرِ، مسألة اجتهاديَّة جرى فيها الخلاف بين العلماء، واجتهاد الإمام هنا قاده إلى المنع من ذلك، وهذا لا يعني أن المسألة محلّ إجماع.

وأمَّا عن ذكر العرش هنا؛ فقد يقال أنَّه من باب التَّنبيه بالأعلى على الأدنى، فإذا قهر تعالى العرش وهو أعظم المخلوقات؛ فمن باب أَوْلى مَن هو أدنى منه في الخلقِ.

قال الحافظُ البيهقيُّ: ((وَفِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ رَحِمَهُ اللهُ: "أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ ‌الِاسْتِوَاءَ هُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الرَّحْمَنَ غَلَبَ الْعَرْشَ وَقَهَرَهُ، وَفَائِدَتُهُ: الْإِخْبَارُ عَنْ قَهْرِهِ مَمْلُوكَاتِهِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَقْهَرْهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَرْشَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَمْلُوكَاتِ، فَنَبَّهَ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى".
قَالَ: "وَالِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ؛ كَمَا يُقَالُ: اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى النَّاحِيَةِ؛ إِذَا غَلَبَ أَهْلَهَا، وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
يُرِيدُ: أَنَّهُ غَلَبَ أَهْلَهُ مِنْ غَيْرِ مُحَارَبَةٍ".
قَالَ: "وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى ‌الِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّ ‌الِاسْتِيلَاءَ غَلَبَةٌ مَعَ تَوَقُّعِ ضَعْفٍ".
قَالَ: "وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصِّلت: 11] وَالِاسْتِوَاءُ إِلَى السَّمَاءِ: هُوَ الْقَصْدُ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ إِلَى السَّمَاءِ اسْتِوَاءً جَازَ أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتِوَاءً")) [الأسماءُ والصِّفات (2/330-331)، ط. دار التَّقوى].

وَعلَّقَ العلَّامةُ الكَوثَريُّ على قول الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ: ((وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى ‌الِاسْتِيلَاءِ...الخ)) بقوله: ((وقد سبقَ أنَّ الحملَ عليهِ بتجريدِ الاستيلاءِ عن معنى المُغالبَةِ)) [الأسماءُ والصِّفات (هامش على 2/330)، ط. دار التَّقوى].

ثمَّ أكمل ابنُ تيميَّة نقل ردّ الإمامِ عليٍّ بنِ مهدي الطَّبري على "البُلخي" وفيهِ: (("ثُمَّ يُقَالُ لَهُ أَيْضًا: إِنَّ الِاسْتِوَاءَ لَيْسَ هُوَ الِاسْتِيلَاءَ، الَّذِي مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى كَذَا: أَيِ اسْتَوْلَى. إِذَا تَمَكَّنَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا. فَلَمَّا كَانَ الْبَارِي لَا يُوصَفُ بِالتَّمَكُّنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا لَمْ يُصْرَفْ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ إِلَى الِاسْتِيلَاءِ")) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/289-290)، ط. المجمَّع] وهذا النَّص موجود في [تأويل الآياتِ المُشكَّلة لِابن مَهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 146)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

وتأمَّل قول الإمامِ هنا: ((فَلَمَّا كَانَ الْبَارِي لَا يُوصَفُ بِالتَّمَكُّنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا)): ففيهِ دليل على نفيِه تمكُّن الباري في العرش أو في جِهة أو في مكان؛ أي: الأمر على نقيض عقيدة ابنِ تيميَّة، الَّذي جعل العرش مَكاناً لربِّه! وأنَّه تعالى مُستَقِرٌّ ومُتمكِّنٌ عليه! كما يظهر لك في قوله: ((أَعْظَمُ الْأَمْكِنَةِ: الْعَرْشُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ أَوْ مُسْتَقِرٌّ أَوْ مُتَمَكِّنٌ عَلَيْهِ وَالَّذِينَ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَرْشَ مُفْتَقِرٌ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَرْشِ. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَتَظَاهَرُ بِالْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْعَرْشِ أَوْ إِلَى غَيْرِ الْعَرْشِ، بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بِقُدْرَتِهِ الَّذِي يُمْسِكُ الْعَرْشَ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ وَسَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ، هَذَا مَعَ مَا جَاءَ فِي الْآثَارِ مِنْ إِثْبَاتِ مَكَانِهِ تَعَالَى)) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (3/622)، ط. المجمَّع] وذكر بعدها بعض الآثار، لا تصلح للاحتجاج، لا سنداً ولا مَتناً.

ثمَّ أكمل ابنُ تيميَّة قائلًا: ((ثُمَّ قَالَ [=عليُّ بنُ مهديٍّ الطَّبريُّ]: "حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نَفْطَوَيْهِ، ثَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا مَعْنَى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]؟ قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ، فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ اسْتَوْلَى. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: اسْكُتْ مَا يُدْرِيكَ مَا هَذَا، الْعَرَبُ لَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ فِيهِ مُضَادٌّ، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ قِيلَ: اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَاللَّهُ لَا مُضَادَّ لَهُ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ")) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/290-291)، ط. المجمَّع] وهذا النَّص موجود في [تأويل الآياتِ المُشكِّلة لابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 146-147)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

وقد سبق أنَّ مَن فسَّره بالاستيلاء جرَّده مِن معنى المغالبة، والأمر كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ [يوسف: 21] ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر: 16]، وهكذا.

وتأمَّل هنا أنَّ السُّؤال كان عن معنى الاستواء وليس كيفيَّة الاستواء، والجواب لم يتجاوز الخبر كما ورد، وهذا أقرب إلى طريقة التَّسليم للنَّصِّ وترك الخوض فيه، أي: التَّفويض مع التَّنزيه.

ولو كان الاستواء معلوم المعنى عند الإمامِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، كما هو مذهب ابن تَيميَّة، فما الَّذي منعه من أن يخبر السَّائل به، فيقول مثلًا معناه: الاستقرار والصُّعود والجلوس والقُعود وأنَّه تعالى في جِهةٍ عدَميَّة غير موجودة...الخ ما يلهجُ به ابن تَيميَّة وأتباعه المجسِّمة؟!

وأكمل ابنُ تيميَّة نقل كلام الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ؛ فقال: ((قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ: "فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الْمُلْكِ: 16] قِيلَ لَهُ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، كَمَا قَالَ: ﴿فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ﴾ [التَّوْبَةِ: 2] بِمَعْنَى: عَلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: 71] أَيْ: عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الْمُلْكِ: 16]")) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/292)، ط. المجمَّع] وهذا النَّص موجود في [تأويل الآياتِ المُشكِّلة لابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 147)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] وهذا الكلام إذا سيق بهذه الطَّريقة مع حذف مواضع التَّنزيه كما فعل ابن تيميَّة، قد يوهم إثبات الجِهة لله، ولكن صريح كلام الإمامِ في نفي المباينة والمُماسَّة في حقِّه تعالى، يقطع كلّ الظُّنون الكاذبة بسيف التَّنزيه، لأجل هذا حذفه ابن تيميَّة كما مرَّ معنا!

والإمام أَبُو الحَسَنِ الطَّبَرِيُّ يُثبتُ الفَوقيَّة هنا مِن باب إطلاق ما أطلقته النُّصوص، مع نفي جميع المعاني الفاسدة في حقِّه تعالى، على غرار الفوقيَّة الحسِّيَّة والاتِّصال والانفصال، وعلى هذا الطَّريق مضى بعض كبار عُلماء الكُلَّابيَّة والأشعريَّة، ثمَّ جاء بعدهم بقرونٍ ابن تيميَّة، واستعمل الحيلة في مثل هذه الإطلاقات، فركَّز على ما تشابه من الأقوال، وأعرض عن مُحكمها الَّذي يفضح صنيعه، فأبرز مذهب القوم على عكس حقيقته، كلُّ هذا منه كان ابتغاء تكثير سواد القائلين بالجِهة! ولا شكَّ أنَّها بضاعة المفلسين؛ يهوِّشون بها لسدِّ الفراغ.

فلا جرم ألَّا تجد قبلَ ابن تيميَّة مَن نَسب لِأئمَّةِ الكُلَّابيَّةِ وقُدماءِ الأشعريَّةِ عقيدةَ العُلُوِّ الحِسِّي! فلو كان هذا الأمر صحيحاً لشاع وذاع وبلغ البِقاع والأصقاع، شهرة مذهبهم في نفيِ الجِسميَّة وقِيام الحوادث بالذَّات العليَّة، وغيرها من أصولهم السَّنِيَّة ذائِعة الصِّيت.

ثمَّ ما معنى أن يظلَّ هذا الزَّعم التَّيمي - مع تزاحم الدَّواعي وانتفاء الموانع - من دون أثر يذكر عند العلماء، وبالأخصِّ منهم طبقات علماء أهل السُّنَّة الأشاعرة، مع اتِّصال أسانيدهم العِلميَّة عبر قرون طويلة، ثمَّ يأتي رجل في القرن السَّابع - معروف بمناصرة التَّجسيم بأسلوبه الملتوي وعدائه الكبير لأهل السُّنَّة الأشاعرة - ليخرج على ما درجوا عليه، ويأتي بأخبار شبيهة بأسرار، لَم تعرفها الأوائل ولا أحد قبله؟!

ثمَّ ما بال الفِرق المخالفة لأئمَّة الكُلَّابيَّة والأشعريَّة، كالمعتزلة مثلًا، فقد عاصروا أهل السُّنَّة هؤلاء، فسبروا غوار مذهبهم، ودخلوا معهم في سِجالات ومُناظرات، بل وكانوا يتصيَّدون لَهم كلّ شاردة وواردة، ويتحيَّنون الفُرص ليدخلوا عليهم الباب، أقول: ما بالهم لَم ينسبوا عقيدة الجِهة لقُدماء الأشاعرة والكُلَّابيَّة كما فعل ابن تيميَّة! ألَم يجدوا في هذا الإثبات المزعوم فُرْصَة سَانِحَة لهم يلزمون القوم من خلالها ببدعة التَّجسيم؟! ما بالهم لم ينصبوا سهامهم نحوهم من هذه النَّاحية المزعومة؟!

فعلى ما يدلُّ كلّ هذا يا تُرى؟!

ولله درُّ الإمام محمَّد زاهد الكوثري حيثُ علَّق على بعض كلام الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ في "الاستواء"؛ فقال: ((أَبُو الحَسَنِ الطَّبَرِيُّ لَمْ يَصْنَعْ هُنَا شَيْئًا يَسْتَحِقُّ النَّقْلَ، بَلْ أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ سُنِّيُّهُمْ وَبِدْعِيُّهُم عَلَى أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِمُتَمَكِّنٍ فِي السَّمَاءِ، بَلْ كُلُّ مَا وَرَدَ مِمَّا يُوهِمُ ذَلِكَ مُؤَوَّلٌ بِاتِّفَاقٍ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ القَاضِي عِيَاضُ فِي [إِكْمَالِ المُعْلِم (2/465)]، وَنَقَلَ نَصَّهُ النَّوَوِيُّ فِي [شَرحِ مُسلِم (5/24)]، فَقَولُ الطَّبَرِيُّ: "إِنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ" بِظَاهِرِهِ مَرْدُودٌ عِنْدَ الجَمِيعِ.
نَعَمْ؛ التَّعَالِي وَالعُلُوُّ بِمَعْنَى التَّنَزُّهِ عَنِ النَّقَائِصِ، لَكِنْ غَيْرُ هَذَا المَعْنَى أَقْعَدُ هُنَا، وَحَمْلُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَالجُلُوسِ تَجِسِيمٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ حَمَلَهُ عَلَيْهِ بِتَجْرِيدِهِ مِنْ مَعْنَى المُغَالَبَةِ، وَقَدْ سَبَقَ تَرْجِيحُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ فِي الآيَةِ)) [الأسماءُ والصِّفات (هامش على 2/325)، ط. دار التَّقوى].

وَقَالَ الإمامُ الكوثري أيضاً: ((وَيَقَعُ وَصْفُ اللهِ سُبْحَانَهُ بِالعُلُوِّ عَلَى العَرْشِ فِي كَلَامِ المُصَنِّفِ [=البَيْهَقِيِّ] وَكَلَامِ ابْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَمُرَادُهُمَا لَيْسَ العُلُوَّ الحِسِّيَّ، وَإِلَّا لَمَا اسْتَقَامَ الشَّرْحُ الَّذِي يَلِي إِثْبَاتَ العُلُوِّ لَهُ تَعَالَى، حَيْثُ تَجِدُهُمَا يُجَرِّدَانِ العُلُوَّ عَنْ جَمِيعِ لَوَازِمِ العُلُوِّ الحِسِّيِّ، فَظَهَرَ أَنَّهُمَا يُرِيدَانِ عُلُوَّ الشَّأْنِ وَالمَكَانَةِ، كَمَا هُوَ طَرِيقُ أَهْلِ الحَقِّ، فَلَا تَغْفُلْ مَعَ الغَافِلِينَ، فَتَجْعَل كَلَامَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَبِيلِ العُلُوِّ الحِسِّيِّ الَّذِي يَتَخَيَّلُهُ أَمْثَالُ الذَّهَبِيِّ مِنَ المُغَفَّلِينَ)) [الأسماءُ والصِّفات (هامش على 2/325)، ط. دار التَّقوى] وهو كلامٌ نفيس، موافق للمنهجيَّة العلميَّة القائمة على ردِّ المُتشابه إلى المُحكمِ.

وأكمل ابنُ تيميَّة نقل كلام الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ؛ فقال: ((قَالَ [=الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ]: "فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ [الْأَنْعَامِ: 3]؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ يَجْعَلُ الْوَقْفَ فِي ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ثُمَّ يَبْتَدِي ﴿وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ وَكَيْفَمَا كَانَ، فَلَوْ أَنَّ قَائِلًا قَالَ: فُلَانٌ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ: مَلِكٌ؛ لَدَلَّ عَلَى الْمُلْكِ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، لَا أَنَّ ذَاتَهُ فِيهِمَا".
قَالَ: "فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: 7] الْآيَةَ؟ قِيلَ لَهُ: كَوْنُ الشَّيْءِ مَعَ الشَّيْءِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا بِالنَّصْرِ، وَمِنْهَا بِالصُّحْبَةِ، وَمِنْهَا بِالْمُمَاسَّةِ، وَمِنْهَا بِالْعِلْمِ، فَمَعْنَى هَذَا عِنْدَنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ كُلِّ الْخَلْقِ بِالْعِلْمِ")) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/292-293)، ط. المجمَّع] وهذا النَّص موجود في [تأويل الآياتِ المُشكِّلة لابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 148)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

وظاهر هنا أنَّ الإمامَ يَردُّ على الحلوليَّة القائلين بأنَّ الله بذاته في كلِّ مكانٍ، ولازم قوله: ((لَا أَنَّ ذَاتَهُ فِيهِمَا)) مع نفيه مَعيَّة المُماسَّة في حقِّه تعالى، كالصَّريح في نفيِه القول بالكون في مكان دون مكان، وفيه أيضا مُناقضة لعقيدة ابن تيميَّة في إثبات المَعيَّة بِالمُماسَّة للعرش في حقِّه تعالى!

ثمَّ قال ابنُ تيميَّة: ((قَالَ [=الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ]: "قَالَ الْبَلْخِيُّ: فَإِنْ قِيلَ لَنَا: مَا مَعْنَى رَفْعُ أَيْدِينَا إِلَى السَّمَاءِ؟ وَقَوْلِهِ: ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فَاطِرٍ: 10]؟ قُلْنَا: تَأْوِيلُ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْعِبَادِ لَمَّا كَانَتْ تَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ جَازَ أَنْ نَرْفَعَ أَيْدِيَنَا إِلَى السَّمَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ. وَجَازَ أَنْ يُقَالَ: أَعْمَالُنَا تُرْفَعُ إِلَى اللَّهِ لَمَّا كَانَتْ حَفَظَةُ الْأَعْمَالِ إِنَّمَا مَسَاكِنُهُمْ فِي السَّمَاءِ.
قِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي رَفْعِ أَيْدِينَا إِلَى السَّمَاءِ أَنَّ الْأَرْزَاقَ فِيهَا وَأَنَّ الْحَفَظَةَ مَسَاكِنُهُمْ فِي السَّمَاءِ، جَازَ أَنْ نَخْفِضَ أَيْدِيَنَا فِي الدُّعَاءِ نَحْوَ الْأَرْضِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ فِيهَا النَّبَاتَ وَالْأَقْوَاتَ وَالْمَعَاشَ، وَأَنَّهَا قَرَارُهُمْ وَمِنْهَا خُلِقُوا، أَوْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَهُمْ فِي الْأَرْضِ. فَلَمْ تَكُنِ الْعِلَّةُ فِي السَّمَاءِ بِمَا وَصَفَهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِرَفْعِ أَيْدِينَا قَاصِدِينَ إِلَيْهِ لِرَفْعِهَا نَحْوَ الْعَرْشِ، الَّذِي هُوَ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ")) [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/287)، ط. المجمَّع] [بَيَانُ تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ (4/293-294)، ط. المجمَّع] وهذا النَّص موجود في [تأويل الآياتِ المُشكِّلة لابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 149-150)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

وظاهرٌ هنا أنَّ الإمامَ ابنَ مهديٍّ الطَّبريِّ لَا يعلِّل رفع الأيدي إلى السَّماء عند الدُّعاء بكون السَّماء مهبط البركات ومحلّ الخيرات...الخ، وإنَّما العلَّة عنده تعود إلى أنَّ هذا الأمر وقَّفه الشَّارع على هذه الكيفيَّة، فأمرنا برفع الأيدي عند الدُّعاء نحو العرش، وإن كان المطلوب والمقصود في الدُّعاء هو ربُّ العرش، هذه خلاصةٌ بمعنى كلامِ الإمامِ هنا، وهي مُوافقة لصريح كلامه في نفي بينونة المسافة.

نعم؛ صحيحٌ أنَّ رفع الأيدي إلى السَّماء في الدُّعاء أمرٌ تعبُّديٌّ مِن جهة، ولكنَّه - والحقُّ يُقال - فيه جانب آخر وهو الَّذي أشار إليه "البلخي" المردود عليه هنا، وهو أنَّ السَّماء موضع خزائن الرَّحمن ومنها تتنزَّل خيراته كما قال ربُّنا: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ﴾ [الذَّاريات: 22] وقال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحِجر: 21]، لأجل هذا كان الاستِمناح والاستعطاء من جهة تلك الخزائن، ولقد أشار حجَّة الإسلام الغزالي إلى هذا المعنى في كتابه "الاقتصاد في الاعتقاد"، وسيأتي مزيد بيان حول هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.

وممَّا يزيدك يقيناً بأنَّ الإمامَ ابنَ مهديٍّ الطَّبَريَّ لا يقصد العُلُوَّ الحِسِّي، هو أنَّه نفسه يقول في تأويل الحديث القُدسي المعروف: ((وَأَمَّا قَوْلُهُ: "‌مَنْ ‌تَقَرَّبَ ‌مِنِّي ‌شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا": فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِسُرْعَةِ إِجَابَتِهِ لِمَنَ أَطَاعَهُ وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ وَدَعَاهُ، وَأَرَادَ بِالِاقْتِرَابَ: قُرْبَ المَنْزِلَةِ وَالحُظْوَةَ لَدَيْهِ، لَا قُرْبَ الْمَسَافَةِ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة لابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 180)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].
وقال في حديث "‌يَدْنُو ‌الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ": ((أَيْ: يَقْرُبُ مِنْ كَرَامَاتِهِ، كَمَا تَقُولُ العَرَبُ: فُلَانٌ قَرِيبٌ مِنَ السُّلْطَانِ، أَيْ: كَرِيمٌ عَلَيْهِ، حَظِيٌّ عِنْدَهُ، مَقْبُولٌ لَدَيْهِ، لَا أَنَّهُ يُرِيدُ القُرْبَ فِي الْمَسَافَةِ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة لابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 171)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

فلو كانَ الإمامُ ابنُ مهديٍّ الطَّبريُّ يُثبتُ العُلُوَّ الحِسِّي كما يدَّعي ابنُ تيميَّةَ؛ لما نفى وُجود مَسافة بينَ الخالق والمخلوق، هذا لأنَّ هذه الدَّعوى العريضة تستلزم إثبات المباينة الحِسِّيَّة بمعنى الانفصال عن المخلوقات بالمسافة، فكيف والإمامُ ينفي ذلك صراحة كما ترى؟!

وقال الإمامُ ابنُ مهديٍّ الطَّبريُّ في تأويل أثر "دُونَ اللَّهِ ‌سَبْعُونَ ‌أَلْفَ ‌حِجَابٍ": ((معناهُ: دُونَ اللهِ ‌سَبْعُونَ ‌أَلْفَ ‌حِجَابٍ لِغَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ، لَا لَهُ - جَلَّ جَلَالُهُ - فَالْخَلْقُ عَنْهُ مَحْجُوبوُنَ، لَا رَبُّ العَالَمِينَ؛ لِأَنَّ الْمَحْجُوبَ يَكُونُ مَحْدُوداً مَحْصُوراً، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة لابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 183)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

فلو كان الإمامُ يُثبتُ الفَوقيَّةَ الحِسِّيَّةَ - كما يدَّعي ابنُ تيميَّةَ - للزمه هنا أن يُثبتَ الحدود في حقِّه تعالى لا أن ينفيَها، لأنَّ الجهةَ الحسِّيَّةَ لا تعقل إلَّا بين الأجسام المتحيِّزة المحدودة، بمعنى: أن تنطلق حُدود الرَّب مُباشرة بعد انتهاء حُدود العالَمِ، فنفي الإمام للحدود في حقِّه تعالى يستلزم نفي الجِهة عنه جلَّ وعلا.

وكذلك نفيه لأن يكون تعالى محصوراً، فيه دليل أيضاً على نفيِ الجِهة؛ لأنَّ القول بالجهة - على مذهب التَّيميَّة - معناه أنَّ الله مَحصور مِن تحته بالصَّفيحة العُليا للعرش.

وكذلك قُل في نفيه الحِجاب الحِسِّي عنه تعالى، فلو كان الأمر كما يزعم ابن تيميَّة للزم القول بجواز أن يكون تعالى محجوباً عن خلقه ببعض خلقه كالعرش العظيم مثلًا، فهو أكبر المخلوقات.

وقالَ الإمامُ ابنُ مهديٍّ الطَّبريُّ أيضاً: ((القَدِيمُ فَوْقَ السَّحَابِ، مُدَبِّراً لَهُ، وَعَالِياً عَلَيْهِ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة لابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 234)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] فأثبت هنا فوقيَّةَ التَّدبير.

وأوردَ الإمامُ ابن مهديٍّ الطَّبرِيِّ شُبهَة المعتزلة في مسألة "الرُّؤية"، والَّتي حاولوا من خلالها إلزام أهل السُّنَّة بإثبات التَّشبيه والمقابلة؛ فقال: ((فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: نَحْنُ إِذَا رَأَيْنَا القَمَرَ رَأَيْنَاهُ مُسْتَدِيراً مُقَابِلًا لَنَا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ القَدِيمُ سُبْحَانَهُ؟)) ثمَّ ذكرَ فِي ثنايا جَوابِهَا: ((نَنْظُرُ إِلَى اللهِ - سُبْحَانَهُ - كَمَا نَنْظُرُ إِلَى القَمَرِ، فَنَرَاهُ وَلَا نَخْتَلِفُ فِيهِ كَمَا لَا نَخْتَلِفُ فِي القَمَرِ. وَالعَرَبُ تَضْرِبُ المَثَلَ وَالظُّهُورَ بِالْقَمَرِ، فَيَقُولُونَ: هُوَ أَبْيَنُ مِنَ الشَّمْسِ، وَمِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَأَشْهَرُ مِنَ القَمَرِ...وَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ مَعْنَى "تَرَوْنَ رَبَّكُمْ" [=الحديث]: تَعْلَمُونَ رَبَّكُمْ، وَلَمْ ‌تُلْزِمُوا ‌أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَهُ مُقَابِلًا لَكُمْ، إِذْ كَانَ القَمَرُ كَذَلِكَ يَعْلَمُونَهُ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة لابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ (ص: 206)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] يعني: كما أنَّكم تعلمون ربَّكم بِلَا مُقابَلةٍ، كذلك القول في الرُّؤية بلا مُقابلة.

وهذا صريح في أنَّه لا يلزم - عند الإمام - من إثبات "الرُّؤية" إثباتُ المقابلة بينه تعالى وبين الرَّائي، وهو ما يعني أنَّه ينفي الجِهة عن الله.

لأجلِ كلِّ هذا؛ قال الباحثُ الوَهَّابي الدُّكتور عبدُ الرَّحمن المحمود: ((يُثبتُ أبُو الحسَنِ الطَّبَريُّ الرُّؤيةَ ويَرُدُّ علَى المعتزِلةِ المنكرينَ لها، لكن الملاحظ أنَّهُ أوردَ سؤالًا حولَها يتعلَّقُ بأنَّه يَلزَمُ مِن إثباتِها: المقابَلَة، فأجابَ بما يدُلُّ على أنَّه يقولُ بأنَّهُ لا يلزمُ مِن الرُّؤيةِ: المقَابَلة)) [موقف ابن تيميَّة من الأشاعرة (2/523)، نشرة: مكتبة الرشد].

وقال الوَهَّابيُّ أيضاً: ((نَلمَحُ في منهجِ أبي الحَسَنِ الطَّبَرِيِّ في مسألةِ الرُّؤيَةِ إشارَة لبدايةِ المشكِلة بين المعتزلة النُّفاةِ والأشاعرة المثبتينَ، وذلك حول لُزوم المقابلةِ مِن إثبات الرُّؤيةِ)) [موقف ابن تيميَّة من الأشاعرة (2/525)، نشرة: مكتبة الرشد].

وانتهى إلى القول: ((وَمَن يَطَّلع على عباراتِ أبي الحسنِ الطَّبَرِيِّ فِي تأويلهِ لبعضِ الصِّفاتِ يتَّضِحُ لدَيهِ أنَّ تَلامذَةَ الأشعريِّ لَم يَسيروا على ما في "الإبانةِ"؛ وإنَّما تَتَلمذُوا على كُتبهِ الأخرى ذات الصِّبغةِ الكَلَاميَّةِ وَالمناهجِ التَّأويليَّةِ)) [موقف ابن تيميَّة من الأشاعرة (2/525)، نشرة: مكتبة الرشد].

وهذه إحدى الكُبَر! أن يأتي أحدُ المتطفِّلين - بعد قرون طويلة - فيزعم معرفته بطريقة الإمام الأشعريِّ أكثر مِن خواصِّ تلامذته! وما أدراه أن لا يكون التَّأويل هو آخر أقوال الإمام؟! ولِمَ لا يكون التَّأويل مسألة اجتهاديَّة عند الإمام الأشعري وبهذا أخذ تلامذته، خاصة وأنَّه هو نفسه قد تأوَّل بعض الصِّفات حتَّى في "الإبانة"؟!...الخ

على كلِّ حال، فهذا اعتراف ضمني من هذا الوَهَّابي بِأنَّ تَأويل الظَّواهر الموهمة للتَّشبيه؛ مذهب التزمه كبار تلامذة الإمام الأشعري منَ الطَّبقة الأولى، وليس هو مِن جُملة (التَّحريفات!) الَّتي أقحمها الإمامُ أبو المعالي الجويني في المذهب؛ كما زعم شيخه ابن تيميَّة، وبالتَّالي فهذا يُعدُّ مِن جُملة الأدلَّة الدَّامغة لخرافة الحرَّاني في التَّفريق بين طريقة قُدماء الأشعريَّة ومُتأَخِّريهم.

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/yacine.ben.rab ... iCJKFGhXhl

اللَّاحق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... RoxRJwQ6ol

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة نوفمبر 15, 2024 12:43 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (27)

ثانياً: مذهبُ الإمام أبِي الحَسَنِ بنِ مَهديٍّ الطَّبَرِيِّ في الظَّواهر الموهمة للتَّشبيه:

قالَ ابنُ تيميَّة: ((أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلصِّفَاتِ لَهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّمَانِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ: أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ صِفَاتٍ أُخْرَى كَالرِّضَى وَالْغَضَبِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالِاسْتِوَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ...أَبِي الْحَسَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ...وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ فُورَكَ، وَقَدْ حَكَى إِجْمَاعُ أَصْحَابِهِ عَلَى إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ...كَمَا هُوَ قَوْلُ سَائِرِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ...وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ وَقُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ فَهُمْ مِنَ الْمُثْبِتِينَ لَهَا...وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنَ السَّلَفِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ وَالسَّالِمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ مُتَكَلِّمَةِ الصِّفَاتِيَّةِ، لَمْ يَكُنْ يَظْهَرُ بَيْنَهُمْ غَيْرُهُ، حَتَّى جَاءَ مَنْ وَافَقَ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى نَفْيِهَا، وَفَارَقَ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (3/380-382)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة].

وتأمَّل هنا أنَّ ابنَ تيميَّةَ - على عادته - يجعل الإمام علي بن مهديٍّ الطَّبرَي وقُدَماء الأشعريَّة - وهو يُدركُ جيِّداً أنَّهم مُنزِّهة! - أقول: يجعلهم في خندقٍ واحدٍ مع أسلافه كِبار المجسِّمة؛ على غرار الكرَّاميَّة والسَّالميَّة، ومُجسِّمة أهل الحديث الَّذين يُطلق عليهم: السَّلف - والسَّلف الصَّالح مِنهم براء -، فكلُّ هؤلاء عند الحرَّاني يُثبتون الصِّفات الخَبريَّة كَالرِّضَى وَالْغَضَبِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ في حقِّه تعالى، بمقابل النُّفاة الَّذين فارقوا طريقة مشايخهم الأوائل "قُدماء الأشاعرة"، والتحقوا بطريقة المعتزلة! وهو يقصد هنا المتأخِّرين من الأشاعرة!

وإليك يا عبد الله بعض كلام الإمام عليِّ بنِ مهديٍّ الطَّبرَيِّ في تأويل الظَّواهر الموهمة للتَّشبيه، وقارنه بالدَّعوى العريضة الَّتي أطلقها الحرَّاني في حقِّه:

قالَ الإمامُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ ‌بْنُ ‌مَهْدِيٍّ ‌الطَّبَرِيُّ في حديث "النُّزول": ((وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى نُزُولِ الحَرَكَةِ وَالنُّقْلَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيغِ مَكَانٍ وَشُغْلِ آخَرَ، وَالقَدِيمُ قَدْ جَلَّ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفاً بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ إِبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ [الأنعام: 76])) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 222)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] وهذا فيه نفي الحركة والنُّقلة في حقِّه تعالى؛ في حين يزعم ابنُ تيميَّة - تبعاً لسلفه الدَّارمي - أنَّ نفي الحركة في حقِّه تعالى يستلزم نفي الحياة عنه! ويدَّعي أنَّ الفارق بين الحيِّ والميِّت هو: الحركة!

وقال الإمامُ ‌عَلِيُّ بْنُ ‌مَهْدِيٍّ ‌الطَّبَرِيُّ: ((إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ‌وَصْفُهُ بِالإِتْيَانِ وَالمَجِيءِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الأَجْسَامِ، وَتَعَالَى اللهُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ عَرَضاً، وَكَلَامُ العَرَبِ وَاسِعٌ، لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، لاتِّسَاعِ العَرَبِ فِي المَجَازَاتِ وَطُرُقِ الكَلَامِ.
وَمَعْنَى الإِتْيَانِ فِي قَوِلِهِ ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ﴾ [النَّحل: 26]: إِنَّمَا هُوَ الاسْتِئْصَالُ فِي الهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، بِإِرْسَالِ العَذَابِ، كَمَا يَقُولُ النَّاسُ: أَتَى السُّلْطَانُ بَلَدَ كَذَا وَكَذَا، فَقَلَبَهُ ظَهْراً لِبَطْنٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ الاسْتِئْصَالَ الوَاقِعَ بِالبَلَدِ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ وَبِأَمْرِهِ، لَا يُرِيدُونَ بِهِ حُضَورَهُ وَشُهُودَهُ، بَلْ يُريدُونَ بِهِ الهَلَاكَ.
وَأَمَّا قَوْلَهُ ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر: 22]: فمَعْنَاهُ: وَجَاءَ حُكْمُ رَبِّكَ، وَأَمْرُ رَبِّكَ، أَلَا تَرَى الخَاصَّ وَالعامَّ يَقُولُ: ضَرَبَ الأَميِرُ زَيداً؛ وَإِنْ كَانَ الأَمِيرُ لَمْ يُبَاشِرْ زَيْداً بِالضَّرْبِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ لُوطٍ ﴿‌فَطَمَسۡنَآ أَعۡيُنَهُمۡ﴾ [القَمر: 37] وَإِنْ كَانَ الطَّمْسُ لِلأَعْيُنِ لِلْمَلَائِكَة بِأَمْرِ اللهِ.
وَأمَّا قَوْلُهُ: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍۢ مِّنَ ٱلْغَمَامِ﴾ [البقرة: 210] فَمَعْنَاهُ: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ بِالحِسَابِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 222-223)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] وهذه تأويلات صريحة للإتيان والمجيء في حقِّه تعالى.

وقَالَ الإمامُ ابْنُ ‌مَهْدِيٍّ ‌الطَّبَرِيُّ أيضاً: ((وَجْهُ اللهِ هُوَ اللهُ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 170)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] وهذا أيضا فيه تأويل صريح للوَجه مُضافاً لله تعالى.

وقال الإمامُ أيضاً: ((صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ - خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ الَّتِي هِيَ صِفَتُهُ، لَا يَدُ جَارِحَةٍ، وَلَا يَدُ قُوَّةٍ وَنِعْمَةٍ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 195)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر]، وقالَ: ((وَقَدِ انْتَفَى أَنْ تَكُونَ اليَدُ جَارِحَةً؛ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَيْسَ بِمُتَبَعِّضٍ وَلَا بِمُتَجَزِّئٍ وَلَا مُصَوَّرٍ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ اليَدُ جَارِحَةً)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 138)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] وهذا فيه تنزيه صريحٌ وإثبات لليَد صفة معنى، لا صفة عينٍ بمعنى أنَّ لها جِهة في الذَّات وتشغل حيِّزاً منها كما يدَّعي ابن تيميَّة!

وقال الإمامُ ابْنُ ‌مَهْدِيٍّ ‌الطَّبَرِيُّ أيضاً: ((وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزُّمر: 67] فَإِنَّ ذَلِكَ الطَّيِّ لَيْسَ كَطَيِّ النَّاسِ الشَّيْءَ بِيَدٍ وَعِلَاجٍ وانْتِصَابٍ، بَلْ الطَّيُّ أُرِيدَ بِهِ الفَنَاءُ والذَّهَابُ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 139)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] وهذا أيضا تأويل صريحٌ.

وقال الإمامُ ابْنُ ‌مَهْدِيٍّ ‌الطَّبَرِيُّ أيضاً فِي تأويلِ خبر أبِي هُريرةَ أَنَّهُ قَرأَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النِّساء: 58]، فَوَضَعَ إِبْهَامَهُ فِي أُذُنِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ، وَقَالَ: "هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا، وَيَضَعُ إِصْبَعَيْهِ": ((قَالَتِ المُشَبِّهَةُ: أَرَادَ بِهَذَا أَنَّ لَهُ عَيْناً وَأُذُناً، لِهَذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ.
وَقَالَ أَهْلُ التَّنْزِيهِ لَهُ - سُبْحَانَهُ - مِنَ التَّشِبِيهِ: إِنَّ العَيْنَ وَالأٌذُنَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِجِسْمٍ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ القَدِيمَ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِذِي أَجْزَاءٍ وَآلَةٍ وَجَارِحَةٍ.
وَلِهَذِهِ الإِشَارَةِ مَعْنًى مَعْقُولٌ، يَصِحُّ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ وَالعُقُولِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى عَيْنِهِ، يُرِيدُ أَنَّ اللهَ يَرَى المَرْئِيَّاتِ كَمَا يَرَى هُوَ بِعَيْنِهِ المَرْئِيَّاتِ، وَيَسْمَعُ المَسْمُوعَاتِ كَمَا يَسْمَعُ هُوَ بِأُذُنِهِ، لَا أَنَّ لَهُ أُذُناً وَعَيْناً، فَالْإِشَارَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى المُسْتَفَادِ مِنْ عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ، لَا إِلَى نَفْسِ العَيْنِ وَالأُذُنِ، وَالإِشَارَةُ فِي كَلَامِ العَرَبِ لَيْسَتْ بِأَكْثَرَ مِنَ التَّمْثِيلِ. وَالعَرَبُ تَقُولُ: مَا فُلَانٌ إِلَّا شَمسٌ. أَيْ: فِي ضِيَاءِ شَمْسٍ وَإِشْرَاقِهَا، لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 236)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] إلَى أَن قَالَ: ((الإِشَارَةُ إِلَى العَيْنِ والأُذُنِ، لِتَحْقِيقِ كَوْنِهِ سَمِيعاً بَصِيراً، لَا لِإِثبَاتِ جَارِحَةٍ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 237)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

وهذا فيه نفيٌ لأن تكون العين صفة لله، على عكس طريقة الإثبات مع التَّنزيه والتَّفويض المشهورة عنِ الإمام الأشعري، وهذا ما يُؤكِّد بأنَّ إثبات الظَّواهر الموهمة للتَّشبيه كصفات لله تعالى: مسألة اجتهاديَّة داخل المذهب.

وتأمَّل قول الإمام: ((فَالْإِشَارَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى المُسْتَفَادِ مِنْ عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ، لَا إِلَى نَفْسِ العَيْنِ وَالأُذُنِ)) وهي القاعدة نفسها الَّتي جرى عليها أيمَّة أهل السُّنَّة، ولخَّصَّها الْحَافِظُ جَلاَلُ الدِّين السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) بِقَوْلِهِ: ((وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ صِفَةٍ يَسْتَحِيلُ حَقِيقَتُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تُفَسَّرُ بِلَازِمِهَا، قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: جَمِيعُ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ -أَعْنِي : الرَّحْمَةَ وَالْفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَالْغَضَبَ وَالْحَيَاءَ وَالْمَكْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ-: لَهَا أَوَائِلُ وَلَهَا غَايَاتٌ، مِثَالُهُ: الْغَضَبُ، فَإِنَّ أَوَّلَهُ: غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، وَغَايَتُهُ: إِرَادَةُ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَلَفْظُ الْغَضَبِ فِي حَقِّ اللَّهِ لَا يُحْمَلُ عَلَى أَوَّلِهِ الَّذِي هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ، بَلْ عَلَى غَرَضِهِ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ الْإِضْرَارِ. وَكَذَلِكَ: الْحَيَاءُ، لَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ: انْكِسَارٌ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ، وَلَهُ غَرَضٌ وَهُوَ: تَرْكُ الْفِعْلِ، فَلَفْظُ الْحَيَاءِ فِي حَقِّ اللَّهِ يُحْمَلُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ لَا عَلَى انْكِسَارِ النَّفْسِ.انْتَهَى)) [الإِتْقَانُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ (2/8)، مَطْبَعَة حجَازِي بِالْقَاهِرَة].

وقالَ الإمامُ ابْنُ ‌مَهْدِيٍّ ‌الطَّبَرِيُّ أيضاً رادًّا على المشبِّهة في إثبات العين جارحة ينظر بها الله: ((وَاحْتَجُّوا - أَيْضاً - فِي إِثْبَاتِهِم للهِ عَيْناً: بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ حِينَ ذَكَرَ الدَّجَالَ، فَقَالَ: "إِنَّ رَبَّكُمْ ‌لَيْسَ ‌بِأَعْوَرَ"، قَالُوا: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ عَيْناً. فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ العَوَرَ نَقْصٌ وَآفَةٌ، وَالقَدِيمُ عَنْهُ مُنَزَّهٌ، فَإِذَا زَالَ عَنْهُ، ثَبَتَتْ لَهُ الرُّؤْيَةُ اللَّائِقَةُ بِهِ، لَا العَيْنُ الَّتِي هِيَ آلَةٌ وَجَارِحَةٌ، لِأَنَّ ضِدَّ العَوَرِ - الأَعْوَر فِي العَيْنِ -: الرُّؤْيَةُ، لَا العَيْنُ الَّتِي تَجْتَمِعُ مَعَ فُقْدَانِ الرُّؤْيَةِ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 72)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

وقالَ: ((إِنَّهُ [=تَعَالَى] عَالِمٌ بِلَا قَلْبٍ، سَمِيعٌ بِلَا أُذُنٍ، وَرَاءٍ بِلَا عَيْنٍ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 68)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

وقالَ بعدَ أن ذَكَرَ عِدَّة تأويلاتٍ لِحَديث "الصُّورة": ((وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْماً مِنَ المُنْحَرِفِينَ عَنَّا بِالاسْمِ وَالمَذْهَبِ، لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الصَّحِيحَةِ فِي هَذَا البَابِ، النَّافِيَةِ عَنِ اللهِ التَّشْبِيهِ؛ حَملَهُمْ اللَّجَاجُ عَلَى أَنْ زَادُوا فِي هَذَا الحَدِيثِ فَقَالُوا: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ" يُرِيدُونَ: أَنَّ "الْهَاءَ" فِي "صُورَتِهِ" لِلَّهِ، فَرَكِبُوا قَبِيحًا مِنَ الْخَطَأِ، وَشَنِيعاً مِنَ القَوْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي اللُّغَةِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ‌خَلَقَ ‌السَّمَاءَ ‌بِمَشِيئَةِ الرَّحْمَنِ، وَعَلَى إِرَادَة الرَّحْمَنِ"، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا إِذَا كَانَ الِاسْمُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ: "لَا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ، فَإِنَّهُ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ"، فَحَيْتُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى فَسَادِهِ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 154)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر] وأصله في [تأويل مُختلف الحديث لابنِ قُتيبة (ص: 319)، المكتب الإسلامي].

وقَالَ في تأويل حديث "‌لَن ‌تَمْتَلِئَ ‌جَهَنَّم ‌حَتَّى ‌يَضَعَ ‌الْجَبَّارُ ‌فِيهَا قَدَمَهُ": ((اعْلَمْ - عَلَّمَكَ اللهُ الخَيْرَ بِرَحْمَتِهِ - أنَّ بَعْضَ أَهْلِ النَّظَرِ زَعَمَ أَنَّ القَدَمَ هَهُنَا: مَنْ تَقَدَّمَ وَسَلَفَ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ وَالإِلْحَادِ دُونَ قَدَمٍ جَارِحَةٍ، إِذِ القَدِيمُ لَا يُوصَفُ بِالجَوَارِحِ)) إلى أن قالَ: ((وَزَعَمَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ - رَحِمَهُ اللهُ - أَنَّ مَعْنَى ‌ ‌قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ: "حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ" أَيْ: مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)) ثمَّ قالَ: ((فَإِذَا احْتَمَلَ القَدَمُ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّشبِيهَ وَالجِسْمِيَّةَ)) [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 186 إلى 188)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

وذكر الحافظ البيهقي تأويل الإمام ابن مهديٍّ الطَّبريِّ لحديث الحبر وفيه: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا كان يوم القيامة جعل السَّموات على إِصبع...الخ" فقال: ((قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "إِنَّا لَا نُنْكِرُ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَا نُبْطِلُهُ؛ لِصِحَّةِ سَنَدِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى إِصْبَعِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ يَجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ: إِصْبَعًا مِنْ أَصَابِعِ خَلْقِهِ".
قَالَ: "وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُجْعَلَ لِلَّهِ إِصْبَعًا")) [الأسماءُ والصِّفات (2/162)، ط. دار التَّقوى].

وقد ذكر الحافظ البيهقي - بإقرار وإمرار - تأويلات أخرى للإمام ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ، وفي كتاب الإمامِ "تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة" الكثير من التَّأويلات، بل هو الطَّريق الغالب عليه، ولم ينتصر فيه لطريق الإثبات مع التَّنزيه والتَّفويض إلَّا في مسألة اليَد والاستواء، وهو فيها - كما مرَّ معنا - على نقيض مذهب ابن تيميَّة تماماً، وهنا بالذَّات محلّ التَّلبيس الَّذي مارسه الحرَّاني على مذهب الرَّجل!

هذا؛ ويتوجَّب التَّنبيه هنا إلى أنَّ الإمامَ ابن مهديٍّ الطَّبريَّ قد ألَّف كتابه المذكور في تأويل الظَّواهر الموهمة للتّشبيه؛ للرَّدِّ على مُجسِّمة أهل الحديث كما تجده في مقدِّمة الكتاب [تأويلُ الآياتِ المُشكَّلة (ص: 55 فما بعد)، ط. دار الآفاق العربيَّة: مصر].

يُتبع..

السَّابق: https://www.facebook.com/yacine.ben.rab ... Ux4Lk3MqNl

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عقيدة ابن تيمية وتقرير بدعة التجسيم والتكفير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 11:50 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2717


حول كلام ابن تيميَّة في عقيدة أئمَّة الكُلَّابيَّة وقُدَماء الأشعريَّة (28)

5) رُكْنُ الدِّينِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ الْأُصُولِيُّ الشَّافِعِيُّ (ت: 418 هـ)

ذكره الحافظ ابنُ عساكر في الطَّبقة الثَّانية من طبقاتِ السَّادة الأشاعرة، وقد تَلمذَ الأستاذ للإمامِ ‌أَبِي ‌الحَسَنِ ‌البَاهِلِيِّ تِلميذ الإمامِ أَبِي الحَسَنِ الأشْعَريِّ.

ويُعدُّ الأستاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ أَحد أساطين أئمَّة الأشاعرة الَّذين نصروا عقيدة أهل الحديثِ والسُّنَّة بالطَّرائق الكلَاميَّة كما ذكر الإِمَامُ النَّوَوِيُّ (ت: 676 هـ) وهذا نصُّه: ((كَانَ الْأُسْتَاذُ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ عَلَى نَصْرِ مَذْهَبِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ، الْقَائِمِينَ بِنُصْرَةِ مَذْهَبِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُمْ: الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ فُورَكَ)) [تَهذِيبُ الأسماءِ وَاللُّغاتِ (2/170)، إِدارة الطِّباعة المنيريَّة].

ومع شُهرة الأستاذ بأشعريَّته إلَّا أنَّ ابنَ تيميَّةَ قد شَذَّ - كما هي عادته في تكثير سواد الجِهَوِيَّة - فادَّعى في حقِّ هذا الأستاذ نفس الدَّعوى العريضة الَّتي أطلقها في حقِّ قُدَماء الأشاعرة، ألا وهي: إثبات العُلُوِّ الحِسِّي!

قال ابنُ تيميَّةَ: ((وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ، وَطَبَقَتِهِ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ وَنَحْوِهِ، وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّتِهِ كَأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ، كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ شَيْخِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْبَاهِلِيِّ شَيْخِ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ، وَكَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ صَاحِبِ التَّأْلِيفُ فِي تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ الْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ بِالصِّفَاتِ وَنَحْوِهِمْ.

وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَخَذَتْ عَنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ إمَامِ الطَّائِفَةِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ:
إثْبَاتُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ، كَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَمَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ رَأَيْت كَلَامَ كُلِّ مَنْ ذَكَرْتُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَمَنْ لَمْ أَذْكُرْهُ أَيْضًا، وَكُتُبُهُمْ وَكُتُبُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ مَمْلُوءَةٌ بِذَلِكَ وَبِالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ بِأَنَّ تَأْوِيلَهَا طَرِيقُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ)) [التِّسعِينِيَّة (3/1036-1037)، مَكتَبةُ المَعارِف: الرِّياض] وَ[الفَتَاوى الكُبرى (6/664)، ط. دارُ الكُتُب العِلمِيَّة].

وقالَ أيضاً: ((وَأَيْضًا فَأَئِمَّةُ الصِّفَاتِيَّةِ الْمُتَقَدِّمُونَ؛ كَابْنِ كُلَّابٍ وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْحَسَنِ الطَّبَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الإِسْفَرَايِينِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ ابْنِ فُورَكَ، وَغَيْرِهِمْ - يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ: الَّتِي ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ طَوَائِفِ الْإِثْبَاتِ؛ كَالسَّالِمِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ)) [شرحُ الأَصْبَهانِيَّة (ص: 32-33)، مكتبةُ دار المِنهاج: الرِّياض].

فأنتَ ترى الحرَّاني يزعمُ ما حاصله:
1. أنَّ أئمَّة الكُلَّابيَّة والإمام الأشعري وتلامذته من الطَّبقتين: الأولى والثَّانية؛ كلّهم كانوا يُثبتون الصِّفات الخَبَريَّة في حقِّه تعالى كالاستواء على العرش والوَجه واليَد والمجيء يوم القيامة، ويردُّون على من تأوَّلها، وأنَّ هذا هو مذهب السَّلف والأئمَّة!
وهو يقصد - طبعاً - هنا: المذهب الَّذي نَسبهُ هو - زُوراً وبُهتاناً - للسَّلف حاشاهم.
2. أنَّ ابن تَيميَّة وقف بنَفسه على نُصوصهم الدَّالة على هذا الإثبات من كُتبهم.

هذا وقد سبق بيان فساد دعواه الباطلة في حقِّ الإمامِ أبي الحَسَن علي بنِ مهديٍّ الطَّبري والإمامِ أبي بكرٍ بنِ الطَّيِّب الباقلَّاني والإمامِ أبِي بَكر بنِ فُورَكَ، وسيأتي الكلام فيما نَسبه لغيرهم من الأئمَّة.

وما يهمُّنا في هذا التَّقرير، هو احتفاؤه بما نَسبه للأستاذ من إثبات عقيدة الجِهة وغيرها منَ الصِّفات الخَبَريَّة، وطبعاً يقصد الحرَّاني هُنا: الإثبات على الظَّاهر اللُّغوي المعروف كما هو صريح مَذهبه، وإلَّا فما مَعنى قوله ((وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ)) في سياق احتِجاجه واستِشهاده بِمَذهب الإثبات عند قُدَماء الأشاعرة؟!

هذه دعوى ابن تيميَّة في مذهب الإثبات عند الأستاذِ أبي إسحاقَ الإِسفَرَايِني.
والآن؛ فلتنظر يا عبد الله في هذه النُّصوص لابنِ تَيميَّة نفسه، والَّتي يُقرِّرُ فيها نَقيض ما قرَّره سابقاً في حقِّ الأُستاذ أبي إسحاق الإسفَرايِني!:

قال ابنُ تيميَّةَ: ((وَهَذِهِ الْحُجَّةُ - وَهِيَ الِاحْتِجَاجُ بِكَوْنِ الرَّبِّ قَائِمًا بِنَفْسِهِ عَلَى كَوْنِهِ مُشَارًا إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ - لَمَّا كَانَتْ حُجَّةً عَقْلِيَّةً لَا يُمْكِنُ مُدَافَعَتُهَا، وَكَانَتْ مِمَّا نَاظَرَ بِهِ الْكَرَّامِيَّةُ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، فَرَّ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ إِلَى إِنْكَارِ كَوْنِ الرَّبِّ قَائِمًا بِنَفْسِهِ بِالْمَعْنَى الْمَعْقُولِ، وَقَالَ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْمَحَلِّ، فَجَعَلَ قِيَامَهُ بِنَفْسِهِ: وَصْفًا عَدَمِيًّا لَا ثُبُوتِيًّا!!!، وَهَذَا لَازِمٌ لِسَائِرِهِمْ)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (6/350-351)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلامية].

فهُنا ينسبُ ابنُ تَيميَّةَ للأستاذ أبي إسحاق الإسفَرايني تَفسير "القيام بالنَّفس" في حقِّه تعالى بمعنى استغنائه جلَّ وعلا عنِ المحلِّ؛ لا أن يكون سُبحانه فَوق العالَم فَوقيَّة مكانٍ بحيثُ تصحُّ الإشارة الحِسِّيَّة إلى جِهتِه.

وأوضح هذا أيضاً ابنُ القيِّم - تِلميذ ابنِ تَيميَّة - فقال: ((الطَّرِيقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْقَطْعِيَّةَ - ‌وَهِيَ ‌الاحْتِجاجُ ‌بِكَوْنِ ‌الرَّبِّ ‌قَائِمًا ‌بِنَفْسِهِ ‌عَلَى ‌كَوْنِهِ ‌مُبايِنًا ‌لِلْعَالَمِ، وَذَلِكَ مَلْزُومٌ لِكَوْنِهِ فَوْقَهُ عَالِيًا عَلَيْهِ بِالذَّاتِ - لَمَّا كانَتْ حُجَّةً صَحِيحَةً لَا يُمْكِنُ مُدافَعَتُها وَكانَتْ مِمَّا ناظَرَ بِها الْكِرَّامِيَّةُ لِأَبِي إِسْحاقَ الإِسْفَراييْنِيِّ، فَرَّ أَبُو إِسْحاقَ...الخ)) [الصَّواعق المُرسَلة (2/911-912)، دارُ عطاءات العِلم: الرِّياض - دارُ ابن حزم: بَيروت] وكرَّر كعادته كلام شيخه الحرَّاني السَّابق.

فهؤلاء التَّيميَّة يَرونَ أنَّ القِيامَ بالنَّفس في حقِّه تعالى معناه أن يكونَ جلَّ وعلا مُباينًا للعالَم بَينونَةَ الجِهةِ والمسافَةِ، وأنَّ الأُستاذ قد (فرَّ!) مِن نِسبة هذا المعنى لله، وأنَّ في صنيعه هذا مُناقضة للحُجَّة العَقليَّة القَطعيَّة!

وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضاً: ((وَهَذِهِ عَادَةُ ابْنِ فُورَكَ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا نُوظِرَ قُدَّامَ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتُكِينَ أَمِيرِ الْمَشْرِقِ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ وُصِفَ الْمَعْدُومُ لَمْ يُوصَفْ إلَّا بِمَا وَصَفْت بِهِ الرَّبَّ مِنْ كَوْنِهِ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، كَتَبَ إلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ جَوَابُهُمَا إلَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا. ‌فَأَجَابُوا ‌لِمَنْ ‌عَارَضَهُمْ ‌بِضَرُورَةِ ‌الْعَقْلِ بِدَعْوَى الْحُجَّةِ!!!)) [التِّسعِينِيَّة (2/710-711)، مَكتَبةُ المَعارِف: الرِّياض] وَكذلك: [الفَتَاوى الكُبرى (6/531-532)، ط. دارُ الكُتُب العِلمِيَّة].

وهذا فيه اعترافٌ مِن ابنِ تيميَّة بأنَّ عقيدة "لَا داخل العالَم ولا خارِجه" هي هي عقيدة الإمامِ ابنِ فُورَك والأستاذِ أبي إسحاق الإسفَرايِني.

وبهذا يكون ابنُ تيميَّة قد كذَّب نَفسه بنَفسه في دعواه العريضة الَّتي أطلقها في حقِّ الرَّجل!

وكم له من مثل هذه الأساليب والتَّكتيكات المصادمة للنَّزاهة العِلميَّة!

والآن؛ نذكر للباحثين بعض تقريرات الإمام أبي إسحاق الإسفَرايني العَقَديَّة، فنقول:

قام المستشرق ريتشارد فرانك "Richard M. Frank" بتحقيق عقيدة الإمامِ أبي إسحاق الإسفَرايني، ونشرها في كتابه الَّذي يتناول دِراسة تاريخ وتطوُّر عِلم الكلام عند الأشاعرة [ص: 133 إلى 142]، وهذا عنوان كتابه باللُّغة الإنجليزيَّة:
]Classical Islamic Theology: The Ash`arites
Texts and Studies on the Development and History of Kalam, Vol. III.[

وقد جاءت عقيدة الإمام مُقرِّرة ستَّة وعشرين أصلًا، جعلها الأستاذ من الأصول الواجبة في عقيدة الإسلام.

وقام الباحث "مُحمَّد أمين السقال" بتقديم ونَشر هذه العقيدة، وكتب حولها مقالًا في غاية البيان والإتقان، نشره على الموقع الإلكتروني للرَّابطة المُحمَّديَّة للعُلماء بالمملكة المغربيَّة، تحتَ عُنوان: "عقيدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفَرايِيني (ت: 418 هـ) - تقديم ونشر -".

وممَّا جاء في مقاله: ((و"عقيدة الأستاذ" التي حقَّقها الدُّكتور "فرانك" بالكاد نَجد لها ذكراً في كُتب المذهَب؛ إذ غالباً ما ينقُل المتكلِّمون أَقوالَ الأستاذ ـ على كثرَتِها ـ دون الإحالةِ على أسماءِ الكتُب المنقول مِنها، وإذا ذُكِرت فلا تَكاد تَخرُج عن كتابَيه "الجامع" و"المختَصر"، أمَّا عقيدَته فلم أَقف على مَن نَقلَ منها منَ المتكلِّمين الأشاعرة الكِبار، وإنَّما نصَّ عليها "حاجي خَليفة" في كتابهِ المشهور باسم "عقيدةُ الأستاذِ أبي إسحاقَ"، وقد عثَرتُ بعد تَبييض هذه الورقةِ على اسمٍ لشرحٍ على هذه العقيدةِ بعنوان: "المسالِك السَّديدَة والمعانِي الوَحيدَة في شرح كلامِ الأستاذِ أبي إِسحاقَ رحمه الله في العَقيدَة" لصاحِبه أبي عَبد الله مُحمَّد بنِ جَعفَر ابنِ يحيى بنِ هارونَ الصَّنهاجي)) [راجع: https://www.arrabita.ma/blog/%D8%B9%D9% ... -%D8%AA-4/] فجزاه الله خيرا.

وفيما يلي نستعرض بعض الأصول المذكورة في تلك العقيدة:

- جاء في مستهلِّ النَّص المحقَّق قول الأستاذِ أبي إسحاقَ الإسفَراييني: ((وَلَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِ، وَرَأَيْتُ الْفَتاوَى فِي الْأَحْكامِ عَلَى غَايَةِ الاخْتِلَالِ عِنْدَ السُّؤالِ، رَتَّبْتُ فِي أَقَلِّ مَا يُحْتاجُ إِلَيْهِ عَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَأَتْبَعْتُهُ مَا يُعْطِيهِ عِنْدَ الْكَافَّةِ لِيَقِفَ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي عِلْمَ الشَّرِيعَةِ، وَيُزِيلَ عَنْ نَفْسِهِ تَغْيِيرَ أَهْلِ الدِّرايَةِ، وَيُجَوِّزَ فَتْواهُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَيَسْتَحِقَّ اسْمَ الْإِيمَانِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ وَالْعُقُولِ، وَيُلَقِّنَ الصِّبْيانَ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَيَكُونُوا مُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْخِطَابِ.
وَلَوْلَا وُجُوبُهُ عَلَيَّ بِالشَّرِيعَةِ لَكُنْتُ لَا أَجْمَعُهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ مَعَ مَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَهالَةِ وَمَا اسْتَشْعَرُوهُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْعَدَاوَةِ لِقُصُورِهِمْ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ)) [مرجع سابق - عقيدة الأستاذ أبي إِسحاقَ الإِسفَرائِني (ص: 133)] فهذه أصول أهلِ الحقِّ، كتَبها الأستاذ أبو إسحاق الإسفَرايني تمييزاً لعقيدة أهل السُّنَّة والجماعة عن عقيدة طائفة مُعادية لَهم، غلب عليهم الجهالة والقصور.

ومن المحتمل جدًّا أن تكون هذه الطَّائفة من مُجسِّمةِ الكَرَّاميَّة والهَيصَمِيَّة، فقد اشتُهر مُناظرة الأستاذ أبي إسحاق لهم في مَسألةِ العُلوِّ.

- ثمَّ شرع الأستاذ في ذكر الأصول الَّتي لا بُدَّ منها عندَ أهلِ الإسلامِ؛ فقال في تنزيه الله عنِ الجِهةِ والمكانيَّة والجِسميَّة ولوازمها:
6. الاعْتِقَادُ بِاسْتِحَالَةِ الْحَدِّ وَالنِّهَايَةِ عَلَيْهِ.
7. ثُمَّ الاعْتِقَادُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا جِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ.
8. ثمُّ الاعْتِقَادُ بِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الأَغْيَارِ. وَعَبَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْخَطَابَةِ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الِاعْتِقَادُ بِنَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ وَالْأَيْنِيَّةِ وَاللِّمِّيَّةِ.
[مرجع سابق - عقيدة الأستاذ أبي إِسحاقَ الإِسفَرائِني (ص: 133)].

- وقال أيضاً:
12. ثُمَّ الاعْتِقَادُ بِأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ فِي الْوَهْمِ وَلَا يَتَجَزَّأُ فِي الْعَقْلِ؛ وَهُوَ تَفْسِيرُ "الْأَحَدُ الصَّمَدُ".
13. ثُمَّ الاعْتِقادُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا جازَ عَلَى الْمُحْدَثاتِ فَدَلَّ عَلَى حُدُوثِهَا؛ وَمَعْناهُ أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالاجْتِمَاعُ وَالافْتِرَاقُ، وَلَا الْمُحَاذَاةُ وَلَا الْمُقابَلَةُ وَلَا الْمُمَاسَّةُ وَلَا الْمُجَاوَرَةُ، وَلَا قِيَامُ شَيْءٍ حَادِثٍ بِهِ، وَلَا بُطْلَانُ صِفَةٍ أَزَلِيَّةٍ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ الْعَدَمُ عَلَيْهِ.
14. ثُمَّ الاعْتِقادُ بِأَنَّهُ قائِمٌ بِنَفْسِهِ، مُسْتَغْنٍ عَنْ مَكانٍ يُقِلُّهُ أَوْ جِسْمٍ يَحُلُّهُ، لَيْسَ لَهُ تَحْتُ فَيَكُونَ تَحْتَهُ ما يَسْنِدُهُ، وَلَا فَوْقُ فَيَكُونَ فَوْقَهُ ما يُمْسِكُهُ، وَلَا جانِبٌ فَيَكُونَ إِلَى جانِبِهِ مَا يَعْضُدُهُ أَوْ يُزَاحِمُهُ.
15. ثُمَّ الِاعْتِقَادُ بِجَوَازِ الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ مَعَ نَفْيِ هَذِهِ الأَوْصَافِ عَنْهُ.
[مرجع سابق - عقيدة الأستاذ أبي إِسحاقَ الإِسفَرائِني (ص: 134)].

وفي هذا نَفي صَريح للاتِّصال أو الانفصال في حقِّه جلَّ وعلا.

- وفي حديثه عن أدلَّة هذه الأصول، ذكر ما يلي:
5. وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحالَةِ الْحَدِّ وَالنِّهايَةِ عَلَيْهِ؛ أَنَّ النِّهايَةَ تُوجِبُ مِقْدارَ الْجُزْءِ فَمَا فَوْقَهُ، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَلَى مِقْدارٍ يَصِحُّ فِي الْوَهْمِ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ إِلَّا عَنْ قاصِدٍ يَخُصُّهُ بِقُدْرَةٍ، كَالْفِعْلِ الْمُحْكَمِ يَصِحُّ فِي الْوَهْمِ وُقُوعُهُ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا يَجُوزُ اخْتِصَاصُهُ بِوَصْفِهِ إِلَّا عَنْ قاصِدٍ عَالِمٍ يَخُصُّهُ بِهِ.
6. وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحالَةِ كَوْنِهِ جِسْماً؛ أَنَّ الْجِسْمَ فِي وُجُودِهِ يَشْغَلُ الْحَيِّزَ وَالْمَكَانَ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَشْغَلَ الشَّيْءُ الْحَيِّزَ وَالْمَكَانَ الْمَعْلُومَ عَلَى الاخْتِصَاصِ مَعَ صِحَّةِ اخْتِصاصِهِ بِغَيْرِهِ فِي الْوَهْمِ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حُدُوثَ الْكَوْنِ أَوِ النَّفْسِ عَلَى اخْتِصاصِهِ بِالْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ، وَهَذِهِ دَلَالَةُ الْحُدُوثِ كَما بَيَّنَّاهُ.
[مرجع سابق - عقيدة الأستاذ أبي إِسحاقَ الإِسفَرائِني (ص: 137)].

- وقال:
20. وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْقَوْلِ بِالْمُجَاوَرَةِ؛ أَنَّها تَقْتَضِي الْمُمَاسَّةَ وَالْمُحَاذاةَ وَالْمُقارَنَةَ فِي الْمَكانِ وَالْحَيِّزِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ.
27. وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالاجْتِمَاعِ وَالافْتِرَاقِ وَالْمُحَاذَاةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُمَاسَّةِ وَالْمُجَاوَرَةِ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَصْفَ لَهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْمَعانِي بَعْدَ الْوَصْفِ لَهُ بِضِدِّهِ يُوجِبُ حُدُوثَ مَعْنًى فِيهِ ثُمَّ يَسْتَحِيلُ تَعَرِّيهِ عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ وَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُهُ عَلَى جِنْسِهِ.
[مرجع سابق - عقيدة الأستاذ أبي إِسحاقَ الإِسفَرائِني (ص: 139)].

هذا بعض ما جاء في عقيدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفَرايِني، وفيه تكذيبٌ قاطعٌ للدَّعوى العريضة الَّتي أطلقها ابنُ تيميَّة في حقِّ الرَّجل، ولفَّقها أيضاً - زوراً وبُهتاناً - لِقُدَماء السَّادة الأشاعرة.

- ولنذكر مِن باب الفائدة أيضاً، بعض أقوال الأستاذ أبي إسحاق في التَّنزيه، كما نقلها العُلماء من كُتبه:

قال الأُستاذُ أبُو إِسحاقَ الإِسفَرايِينِيُّ: ((قَالَ أَهْلُ الحَقِّ: إِنَّ اللهَ مَوْجُودٌ حَيٌّ، قَادِرٌ عَالِمٌ مُرِيدٌ، سَمِيعٌ بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ، لَيْسَ بِجْسِمٍ، وَلَا جَوْهَرٍ، وَلَا يَشْغَلُ حَيِّزاً، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَلَا جَانِبٌ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ المُجَاوَرَةُ وَالمُحَاذَاةُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْوَهْمِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَعْرَاضِ، لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ بِهَذِهِ الأَوْصَافِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ عَنْهَا، وَلَا شَيْءَ يُشَارِكُهُ فِيهَا)) ‌نقله ‌الإمامُ أبو القاسم الأنصاريُّ النِّيسابوريُّ (ت: 512 هـ) في كتابه [الغُنْيَة (1/345)، ط. دار السَّلام: مصر] و[شَرح الإرشاد (1/270)، ط. دار الضِّياء: الكويت].

ونقل عنه أيضاً قوله: ((الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، مُتَعَالٍ عَنِ الِافِتِقَارِ إِلَى مَحَلٍّ يَحُلُّهُ، أَوْ مَكَانٍ يُقِلُّهُ، أَوْ غَيْرٍ يَسْتَعِينُ بِهِ، لَكِنَّ قِوَامَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ أَوْصَافُهُ فِي نَفْسِهِ بِفِعْلِهِ وَتَرْكِهِ)) [الغُنْيَة (1/352)، ط. دار السَّلام: مصر] بينما جاء نقله في شرحه على الإرشاد هكذا: ((القَائِمُ بِالنَّفْسِ: هُوَ الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْمَحَلِّ وَالْمُخَصِّصِ)) [شَرح الإرشاد (1/282-283)، ط. دار الضِّياء: الكويت].

وَذَكرَ أيضاً: ((مِنْ مَذْهَبِ الأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَثْبَتَ للهِ صِفَةً تُوجِبُ لَهُ التَّقَدُّسَ عَنِ الْأَحْيَازِ وَالْجِهَاتِ، وَالتَّفَرُّدَ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُحِيطُ بِهِ الْوَهْمُ مِنْ ذَوِي الْحُدُودِ وَالنِّهَايَاتِ وَالْأَعْرَاضِ)) ثمَّ أردف الإمامُ شارحًا مذهب الأستاذ فقال: ((وَلَسْنَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا: إِنَّهُ "لَيْسَ فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ" نَفْيَ وُجُودِهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ إِثْباتَ مَوْجُودٍ مُخَالِفٍ لِمَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ غَيْرِ مَحْدُودٍ، وَمَنْ أَثْبَتَ للهِ تَعَالَى نِهَايَةً وَحَدًّا مِنْ وَجْهٍ؛ [فَيَلْزَمُهُ] إِثْبَاتُ النِّهَايَةِ فِي سَائِرِ الْجِهَاتِ)) [الغُنْيَة (2/741-742)، ط. دار السَّلام: مصر] وَكذلك في [شَرح الإرشاد (2/249)، ط. دار الضِّياء: الكويت]، وزاد في "شرح الإرشاد" فَقالَ: ((وَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: "إِنَّهُ فِي الْعَالَمِ أَوْ خَارِجَ الْعَالَمِ" يَقْتَضِي حَدًّا وَنِهَايَةً يَصِحُّ لِأَجْلِهَا عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي الْعَالَمِ أَوِ الْخُرُوجُ مِنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: أَخَصُّ وَصْفِهِ وُجُوبُ وُجُودِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَخَصُّ وَصْفِهِ قِيَامُهُ بِنَفْسِهِ، مَعَ انْتِفَاءِ النِّهَايَةِ وَالْحَجْمِيَّةِ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الأُسْتَاذِ)) [شَرح الإرشاد (2/249)، ط. دار الضِّياء: الكويت].
ونقل عنه أيضاً: ((استِحَالَة وُجُودِهِ [=تَعَالَى] فِي الْجِهَةِ وَالْمَحَلِّ)) [شَرح الإرشاد (2/298)، ط. دار الضِّياء: الكويت].

ونقل عنه قوله في "العين" مُضافة لله: ((أَمَّا الْعَيْنُ فَعِبَارَةٌ عَنِ الْبَصَرِ، وَكَانَ فِي العَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ)) [الغُنْيَة (2/711)، ط. دار السَّلام: مصر] وهذا تأويل تفصيلي.

ونقل عنه إثبات "اليَد" صفة يقع بها الاصطفاء بالخلقِ، والوَجه أيضاً، وهذا مِن غير مُباشرة ولا مُحاذاة ثمَّ ناقشه في هذا الإثباتِ [الغُنْيَة (2/711 فما بعد)، ط. دار السَّلام: مصر].

ونقل عنه أيضاً تأويل الإصبع في حقِّه تعالى [شَرح الإرشاد (2/207)، ط. دار الضِّياء: الكويت].

يُتبع..

السَّابق: https://web.facebook.com/share/p/1BVmYej6Dq/

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 200 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 10, 11, 12, 13, 14

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 3 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط