البدعة المحمودة
من آخر تقليعات بعض أدعياء التصوف عندنا - دعاة "تجميع ما لا يجمع" - قولهم: ((الأصل التوقيف في الأذكار!!! والزيادة عليها بدعة ضلالة!!!))، هكذا بلا زمام ولا خطام..
وليس هنا محل مناقشة كل ما جاء في هذه الدعوى العريضة، ولكن سنذكر للألباء بعض كلام الأيمة في مسألة واحدة لها علاقة وطيدة بهذه الدعوى، وهي: مسألة الزيادة على الذكر الوارد من حيث العدد..
صحيح أن هذه المسألة جرى فيها اختلاف بين الأيمة، فمثلا عد ذلك الإمام القرافي من البدع المكروهة، وظاهر كلام الإمام الشاطبي أنه من البدع الإضافية، وكلها ضلالة عنده، مع أنه في بعض المواضع من كتابه "الاعتصام" استحسن ذلك كما في الذكر الوارد عن الإمام الكتاني الصوفي، لأجل هذا ألزمه الإمام القاضي المواق بالتباين في الرأي، وبالمقابل الجمهور على خلاف هذا الرأي السابق، والأمر عندهم يرجع إلى النية والاستطاعة..الخ ما ذكروا..فليت المدَّعي تعلم قبل أن يتكلم، ووسعه ما وسع أيمتنا..
هذا وقد اعتمد الجمهور على أدلة كثيرة، نكتفي منها بما يلي:
قَالَ الْحَافِظُ ابْن رَجَب الْحَنْبَلِي: ((وَكَانَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ خَيْطٌ فِيهِ أَلْفُ عُقْدَةٍ فَلَا يَنَامُ حَتَّى يُسَبِّحَ بِهِ. وَكَانَ خَالِدُ بْنُ مِعْدَانَ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ سِوَى مَا يَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا مَاتَ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ لِيُغَسَّلَ، فَجَعَلَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ يُحَرِّكُهَا بِالتَّسْبِيحِ. وَقِيلَ لِعُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ: مَا نَرَى لِسَانَكَ يَفْتُرُ، فَكَمْ تُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ مِئَةُ أَلْفِ تَسْبِيحَةٍ، إِلَّا أَنْ تُخْطِئَ الْأَصَابِعُ، يَعْنِي أَنَّهُ يَعُدُّ ذَلِكَ بِأَصَابِعِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ: كَانَتْ عِنْدَنَا امْرَأَةٌ بِمَكَّةَ تُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَةَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ، فَمَاتَتْ فَلَمَّا بَلَغَتِ الْقَبْرَ اخْتُلِسَتْ مِنْ أَيْدِي الرِّجَالِ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَثِيرًا مَا يَقُولُ إِذَا لَمْ يُحْدِثْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شُغُلٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِبَعْضِ فُقَهَاءِ مَكَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَفَقِيهٌ، مَا قَالَهَا أَحَدٌ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ)) [جَامِعُ الْعُلُومِ (517/2)] فهل يعد المدعي كل هؤلاء من المبتدعة؟!!!..
وقال الإمام القاضي الباجي المالكي عند شرح حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ في تكرار الذكر ثلاثا على الصفا كما في الموطأ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" يَصْنَعُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَدْعُو وَيَصْنَعُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ))..ما نصه: ((قَوْلُهُ: "ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَدْعُو" عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - "أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُ مَا تَكَلَّمَ وَكَانَ إذَا سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا" لِأَنَّ أَقْوَالَهُ قُرْبٌ وَرَحْمَةٌ فَكَانَ يُكَرِّرُهَا ثَلَاثًا تَارَةً لِلْإِفْهَامِ وَالتَّعْلِيمِ وَتَارَةً لِلِاسْتِكْثَارِ مِنْ الذِّكْرِ، وَهَذَا أَقَلُّ مَا تُكَرَّرُ بِهِ الْأَذْكَارُ مَعَ اسْتِحْبَابِ الْوِتْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَدٍّ فِي تَكْرَارِ هَذَا الذِّكْرِ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَلُّ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ تَكْرَارِهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ فِيمَا يَشْرَعُهُ مُعْلِنًا بِحَظٍّ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ وَحَظٍّ مِنْ التَّخْفِيفِ، عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا لِقُوَّةٍ أَوْ رَغْبَةٍ فِي الْخَيْرِ فَحَسَنٌ، وَمَنْ قَصَرَ عَنْ هَذَا الْعَدَدِ فَلَا بَأْسَ بِهِ)) [المنتقى (2 /299-300)].
وجاء في الحديث الصحيح: ((مَنْ قالَ: "لا إله إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وهو على كلِّ شيءِ قديرِ"، في اليوم مئةَ مرَّةٍ، كانت له عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وكُتِبَتْ لَهُ مئةُ حَسَنَةٍ، ومُحِيَتْ عنه مئةُ سَيِّئَةٍ، وكانت له حِرْزًا من الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذلك حتّى يُمْسِي، ولَمْ يَأتِ أَحَدٌ بأَفْضَلَ مِمَّا جاءَ به، إلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلكَ)) رواه البخاري (6403)، ومسلم (2691).
فتأمل يا عبد الله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ولَمْ يَأتِ أَحَدٌ بأَفْضَلَ مِمَّا جاءَ به، إلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلكَ)) فهو أصل في الترغيب على الاجتهاد في العبادة..
قال الإمام القاضي الباجي: (("إلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ" لِئَلَّا يَظُنَّ السَّامِعُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعَةٌ كَتَكْرَارِ الْعَمَلِ فِي الْوُضُوءِ، وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْ سَائِرِ أَبْوَابِ الْبِرِّ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ عَمِلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَكْثَرَ مِنْ عَمَلِهِ)) [المنتقى (1/354)] ونقله مقرا له الإمام القاضي ابن العربي كما في [المسالك في شرح موطأ مالك (3/427)].
وقال الإمام النووي: ((فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا التَّهْلِيلَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فِي الْيَوْمِ كَانَ لَهُ هَذَا الأَجْر المَذْكُور فِي الْحَدِيثِ عَلَى المَائَة، وَيَكُون لَهُ ثَوَاب آخَر عَلَى الزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْحُدُودِ الَّتِي نَهَى عَنِ اعْتِدَائِهَا وَمُجَاوَزَةُ أَعْدَادِهَا، وَإِنَّ زِيَادَتَهَا لَا فَضْلَ فِيهَا أَوْ تُبْطِلُهَا كَالزِّيَادَةِ فِي عَدَدِ الطَّهَارَةِ وَعَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الزِّيَادَةَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ لَا مِنْ نَفْسِ التَّهْلِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الزِّيَادَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ التَّهْلِيلِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَظْهَرُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُحَصِّلُ هَذَا الْأَجْرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ هَذَا التَّهْلِيلَ مِائَةَ مَرَّةٍ فِي يَوْمِهِ، سَوَاءٌ قَالَهُ مُتَوَالِيَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، فِي مَجَالِسَ أَوْ بَعْضَهَا أَوَّلَ النَّهَارِ وَبَعْضَهَا آخِرَهُ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُتَوَالِيَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِيَكُونَ حِرْزًا لَهُ فِي جَمِيعِ نَهَارِهِ)) [ شرح مسلم (17/17)].
وقال الإمام الزرقاني: ((قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمِائَةَ غَايَةٌ فِي الذِّكْرِ، وَأَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: "إِلَّا أَحَدٌ"؛ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعٌ كَتَكْرَارِ الْعَمَلِ فِي الْوُضُوءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لَا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْ سَائِرِ أَبْوَابِ الْبِرِّ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَكْثَرَ مِنْ عَمَلِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذِكْرُ الْمِائَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَايَةٌ لِلثَّوَابِ الْمَذْكُورِ، وَقَوْلُهُ "إِلَّا أَحَدٌ": يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ فَيَكُونُ لِقَائِلِهِ مِنَ الْفَضْلِ بِحِسَابِهِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ مِنَ الْحُدُودِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ اعْتِدَائِهَا، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا كَمَا فِي رَكَعَاتِ السُّنَنِ الْمَحْدُودَةِ وَأَعْدَادِ الطَّهَارَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرَادَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الذِّكْرِ وَغَيْرِهِ أَيْ إِلَّا أَنْ يَزِيدَ أَحَدٌ عَمَلًا آخَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ)) [شرح الزرقاني على الموطأ (2/31-32)].
وقال العلامة الملا علي القاري: ((قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ زَادَ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ الْمَذْكُورُ وَالزِّيَادَةُ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ تَحْدِيدًا لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَمَا فِي عَدَدِ الطَّهَارَةِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ. اهـ. وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الْأَوَّلَ لِلتَّشْرِيعِ وَالثَّانِي لِلتَّرْغِيبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فِي الْيَوْمِ كَانَ لَهُ هَذَا الْأَجْرُ الْمَذْكُورُ)) [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/1594)].
وقال الإمام ابن علان: ((فيه إيماء إلى أن الاستكثار من هذا محبوب إلى الله تعالى، وأنه ليس له حدٌّ لا يُتجاوز عنه، كعدد المعقّبات عقب المكتوبات)) [دليل الفالحين (7/258)].
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ((وَاسْتُنْبِطَ مِنْ هَذَا أَنَّ مُرَاعَاةَ الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ فِي الْأَذْكَارِ مُعْتَبَرَةٌ، وَإِلَّا لَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَضِيفُوا لَهَا التَّهْلِيلَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ.
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إِنَّ الْأَعْدَادَ الْوَارِدَةَ كَالذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ إِذَا رُتِّبَ عَلَيْهَا ثَوَابٌ مَخْصُوصٌ؛ فَزَادَ الْآتِي بِهَا عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ الْمَخْصُوصُ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِتِلْكَ الْأَعْدَادِ حِكْمَةٌ وَخَاصِّيَّةٌ تَفُوتُ بِمُجَاوَزَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ.
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمِقْدَارِ الَّذِي رُتِّبَ الثَّوَابُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فَحَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ بِذَلِكَ فَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ كَيْفَ تَكُونُ الزِّيَادَةُ مُزِيلَةً لِذَلِكَ الثَّوَابِ بَعْدَ حُصُولِهِ؟ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَفْتَرِقَ الْحَالُ فِيهِ بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ نَوَى عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ امْتِثَالَ الْأَمْرِ الْوَارِدِ ثُمَّ أَتَى بِالزِّيَادَةِ فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ زَادَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِأَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ رُتِّبَ عَلَى عَشَرَةٍ مَثَلًا فَرَتَّبَهُ هُوَ عَلَى مِائَةٍ فَيَتَّجِهُ الْقَوْلُ الْمَاضِي. وَقَدْ بَالَغَ الْقَرَافِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ فَقَالَ: مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ الْمَحْدُودَةِ شَرْعًا، لِأَنَّ شَأْنَ الْعُظَمَاءِ إِذَا حَدُّوا شَيْئًا أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ، وَيُعَدَّ الْخَارِجُ عَنْهُ مُسِيئًا لِلْأَدَبِ اهـ.
وَقَدْ مَثَّلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالدَّوَاءِ يَكُونُ مَثَلًا فِيهِ أُوقِيَّةُ سُكَّرٍ فَلَوْ زِيدَ فِيهِ أُوقِيَّةٌ أُخْرَى لَتَخَلَّفَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأُوقِيَّةِ فِي الدَّوَاءِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ مِنَ السُّكَّرِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ لَمْ يَتَخَلَّفْ الِانْتِفَاعُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَذْكَارَ الْمُتَغَايِرَةَ إِذَا وَرَدَ لِكُلٍّ مِنْهَا عَدَدٌ مَخْصُوصٌ مَعَ طَلَبِ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهَا مُتَوَالِيَةً لَمْ تَحْسُنِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ الْمُوَالَاةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُوَالَاةِ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ خَاصَّةٌ تَفُوتُ بِفَوَاتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)) [فتح الباري (2/330)].
وقال الإمام بدر الدين العيني: ((فَإِن قلتَ: إِذا نقص من هَذِه الْأَعْدَاد الْمعينَة أَو زَاد، هَل يحصل لَهُ الْوَعْد الَّذِي وعد لَهُ فِيهِ؟
قلتُ: ذكر شَيخنَا زين الدّين فِي "شرح التِّرْمِذِيّ" قَالَ: كَانَ بعض مَشَايِخنَا يَقُول: إِنَّ هَذِه الْأَعْدَاد الْوَارِدَة عقيب الصَّلَوَات أَو غَيرهَا من الْأَذْكَار الْوَارِدَة فِي الصَّباح والمساء وَغير ذَلِك، إِذا كَانَ ورد لَهَا عدد مَخْصُوص مَعَ ثَوَاب مَخْصُوص، فَزَاد الْآتِي بهَا فِي أعدادها عمدا لَا يحصل لَهُ ذَلِك الثَّوَاب الْوَارِد على الْإِتْيَان بِالْعدَدِ النَّاقِص، فَلَعَلَّ لتِلْك الْأَعْدَاد حِكْمَة، وخاصة تفوت بمجاوزة تِلْكَ الْأَعْدَاد وتعديها، وَلذَلِك نهى عَن الاعتداء فِي الدُّعَاء. انْتهى. قَالَ الشَّيْخُ: فِيمَا قَالَه نظرٌ، لِأَنَّهُ قد أَتَى بالمقدار الَّذِي رتَّب على الْإِتْيَان بِهِ ذَلِك الثَّوَاب، فَلَا تكون الزِّيَادَة مُزيلة لذَلِك الثَّوَاب بعد حُصُوله عِنْد الْإِتْيَان بذلك الْعدَد. انْتهى.
قلتُ: الصَّوَابُ هُوَ الَّذِي قَالَه الشَّيْخ، لِأَن هَذَا لَيْسَ من الْحُدُود الَّتِي نهى عَن اعتدائها ومجاوزة أعدادها، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسلم: "من قَالَ حِين يصبح وَحين يُمْسِي: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ مائَة مرّة، لم يَأْتِ أحد يَوْم الْقِيَامَة بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ، إلَّا أحدٌ قَالَ مثل مَا قَالَ أَو زَاد عَلَيْهِ". فَإِن قلتَ: الشَّرْط فِي هَذَا أَن يَقُول: الذّكر الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِالْعدَدِ مُتَتَابِعًا أم لَا؟ وَالشّرط أَن يكون فِي مجْلِس وَاحِد أم لَا؟ قلتُ: كل مِنْهُمَا لَيْسَ بِشَرْط، وَلَكِن الْأَفْضَل أَن يَأْتِي بِهِ مُتَتَابِعًا، وَأَن يُرَاعِي الْوَقْت الَّذِي عين فِيهِ)) [عمدة القاري شرح صحيح البخاري (6/131)].
وقال الشوكاني - وهو من دعاة اللامذهبية - بعد أن أورد كلام الحافظ العراقي الذي ذكره عن بعض مشايخه كما مر: ((وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزَا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ" الْحَدِيثُ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ -: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ".
وَقَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا وَاضِحٌ فِي الذِّكْرِ الْوَاحِدِ الْوَارِدِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَأَمَّا الْأَذْكَارُ الَّتِي يَعْقُبُ كُلَّ عَدَدٍ مِنْهَا عَدَدٌ مَخْصُوصٌ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ عَقِبِ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الزِّيَادَةِ فِي كُلِّ عَدَدِ زِيَادَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا نَصٌّ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَذْكَارِ، وَرُبَّمَا كَانَ لِتِلْكَ الْأَعْدَادِ الْمُتَوَالِيَةِ حِكْمَةٌ خَاصَّةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُزَادَ فِيهَا عَلَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ؟ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لَا تَأْبَاهُ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ وَفِي التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْبَرَاءِ: " قُلْ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ " انْتَهَى.
وَهَذَا مُسَلَّمٌ فِي التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ إلَى لَفْظٍ آخَرَ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ الِامْتِثَالُ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ فَالِامْتِثَالُ مُتَحَقِّقٌ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قَدْ حَصَلَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَعَ الْأَمْرُ بِهَا، وَكَوْنُ الزِّيَادَةِ مُغَيِّرَةً لَهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَقِيلَ: إنْ نَوَى عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إلَيْهِ امْتِثَالَ الْأَمْرِ الْوَارِدِ أَتَى بِالزِّيَادَةِ فَقَدْ حَصَلَ الِامْتِثَالُ، وَإِنْ زَادَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَعُدْ مُمْتَثِلً)) [نيل الأوطار (2/356-357)].
فتأمل بعناية رزقنا الله وإياك الهداية.. ---- الشيخ ياسين بن ربيع الجزائري
_________________ أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما (ﷺ)
|