مرآة الجنان وعبرة اليقظان (4/ 231-247)
(سنة ثمان وأربعين وسبع مائة فيها توفي السيدان الجليلان الإمامان الحفيلان، بركتا الزمن، وزينا اليمن أحدهما شيخنا وسيدنا وبركتنا الشيخ الفقيه الإمام مفتي المسلمين، رفيع المقام، العالم العامل، الورع الزاهد، العابد ذو المحاسن والمحامد والمواهب الجزيلة، والمنزلة الجليلة، والأوصاف الجميلة، والدرجة الرفيعة العلية، والشمائل الحسنة الرضية. المدرس المفيد ذو الفضل العديد، والكرامات الكثيرة، والمناقب الشهيرة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهيبي بضم الذال المعجمة والموحدة بين المثناتين من تحت مجموع المحاسن المفضال المشهور بالبصال. صحب الشيخ الكبير الولي الشهير، صاحب السيرة الحميدة، والكرامات العديدة. مطلع الأنوار، منبع الأسرار الشيخ عمر المعروف بابن الصفار في مدينة عدن. وانتفع به، وحصل له نصيب وافر، وسكن في قلبه مذ صحبه، وأقرأ، وهذا الشيخ عمر المذكور رأيته في حياته، ودعا لي بعد وفاته في المنام بعد أن سألته، وقلت له: يا سيدي أما مت أنت؟ فقال: العجب أن يقال أني مت. قلت: وهذا يؤيد ما ذكره بعض مشائخ الصوفية في قوله: الصوفي لا يموت، ثم دعا إلي الشيخ عمر المذكور المشكور في المنام المذكور بعد أن مسح على صدري، وقال: أصلحك الله صلاحاً لا فساد له نسأل الله الكريم أن يحقق ذلك. وقد قدمت في ترجمة الشيخ محيي الدين النواوي أنه دعا لي في المنام أيضاً، فقال: وفقك الله، وزادك فضلاً، وثبتك بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة. اللهم اقبل ذلك لي، ولسائر أحبائي، والمحبين آمين. وجالس ذا الأنفاس الصادقة، والكرامات الخارقة، والمواهب السنية، والمقامات العلية شيخنا المشكور الولي المشهور مسعود الجاوي أحد كبار أصحاب الشيخ الفقيه، في المناقب الشهيرة، والكرامات الكبيرة، صاحب موزع المتقدم ذكره في ترجمة الفقيه الإمام في الكرامات العظام العلي المقام محمد بن إسماعيل الحضرمي. وانتفع الشيخ مسعود المذكور وهو والشيخ عمر بن الصفار بابن الخطيب المذكور انتفاعاً عظيماً، ونالا منه منالاً كريماً، والشيخ مسعود هو أول من ألبسني الخرقة. جاءني وأنا منعزل في مكان، وقال لي: وقع الليلة إشارة أني ألبسك الخرقة وألبسنيها، وكان يجتمع هو وشيخنا جمال الدين المذكور، ونحن وجماعة من أصحابهما معهما في أوقات مباركات في عدن، وفي ساحل البحر في بعض الساعات أعني ساحل ضراس بضم الضاد المعجمة، وفي آخره سين مهملة، وقبل الألف راء الذي خلف ساحل حقات، وحقات بضم الحاء المهملة وتشد يد القاف، وفي آخره مثناة من فوق. وتفقه شيخنا جمال الدين المذكور بالفقيه الفاضل، في المحاسن، والفضائل، والتصوف، والصلاح، والأوصاف الجميلات الملاح، شيخنا في الفرائض في الذوق والوجدان، عبد الرحمن، المعروف بابن سفيان، من ذرية الشيخ الكبير، العارف بالله الشهير، ذي المقامات العالة، والكرامات الغالية، والمناقب الجميلة، والمواهب الجزيلة، الفقيه سفيان الحضرمي اليمني قرأ شيخنا جمال الدين المذكور على ابن سفيان المذكور كتاب التنبيه، وحقق وبحث ودقق، ثم جمع شيخنا جمال الدين المذكور كتاباً ينتفع به الفقيه، بعضه يتعلق بشرح النبيه، ذا فوائد عديدة، ونكت مفيدة، رأيته يطالعه وقت ما كنت إليه أتردد ولا يظهره في ذلك الوقت لأحد، وفاق في معرفته شيخه وغيره من الفقهاء النجباء، والفضلاء الأدباء، ودرس وكل من طلبته به انتفع، وعرض عليه قضاء عدن، فامتنع، وكان له صوت في قراءة القرآن يهيج من الخليين الأشجان، وألفاظ تعجب من وعاها، وتطرب من رآها، وعبارة تلين القلب القاسي، وخلوات ترغب في مجالسته الناسي، وزهد يسلي من الدنيا كل حريص، ويغلي به في الآخرة كل رخيص، قرأت عليه القرآن الكريم، وصليت به في رمضان إماماً خمس سنين، وقرأت عليه كتاب التنبيه فأولم عند ذلك وليمة كبيرة، وذبح كبشين، وأطعم جماعة كثيرة، وهو أول من انتفعت به، ورأيت بركته من الشيوخ الذين صحبتهم قدس الله أرواحهم، ونور ضريحهم، ورضي عنهم.
والثاني من الشيخين المذكورين شيخنا، وقدوتنا، وسيدنا، وبركتنا الشيخ الكبير، العارف بالله الخبير، خزانة الأسرار، ومطلع الأنوار، الفقيه الناسك، المجذوب السالك، ذو السيرة الجميلة، والمناقب الجليلة، والمحاسن الغالية والمقامات العالية، والأحوال الباهرة، والمكاشفات الظاهرة، والكرامات الخارقة، والأنفاس الصادقة، والمعارف والعلوم الملدتيات، والآداب والأخلاق الرضيات، والتربية في سلوك الطريقة، والجمع بين الشريعة والحقيقة، ذو التخصيص والتمكين، أبو الحسن نور الدين، علي بن عبد الله اليمني الطواشي، نسباً، الشافعي الصوفي مذهباً، قدس الله روحه ونور ضريحه اشتغل رضي الله تعالى عنه بفنون من العلوم حتى في علم الطب، وأكثر اشتغاله بالفقه، وكان الغالب عليه التنسك، وحب الخلوات والانعزال عن المخالطات، وكان يسافر مع أبيه وإخوته، فإذا دخلوا السوق للتجارات، دخل المسجد للعبادات، ملازماً للتلاوة والأذكار وزيارة الأولياء الأخيار، حتى حصل له من بعضهم تعليم الاسم الأعظم، الذي من عرفه يقرب ويكرم، وحصل له مع السلوك جذبة من جذبات الحق، وهيبة جلالية حتى هابته الملوك ذو أحوال عظيمة، وظهور كرامات كريمة، وأفاض عليه الحق من فيض فضله، وملأ قلبه من أنوار قدسه، وهذبه، وزكاه، وطهره من صفات نفسه، وملأ قلبه وقالبه من أنوار قدسه، وهذبه وزكاه وقربه وأدناه، وبالحياة الطيبة أحياه، وكشف له حجاب الجمال والجلال، وأطلعه على مكنون المعارف والأسرار، وغير ذلك مما لا يعرفه الأعارف بالله مجذوب سالك هو بمكان من المقام العالي، والحال الخطير، والناس يبصرونه ضعيف الجسم متواضعاً في زي فقير، ويحسبونه من جملة الفقراء المشاركين، ولا يدرون ما عنده من جليل الولاية، وعلو المنزلة والتمكين، وفي هذا قلت: يرون جسماً براه الحب بالتلف ... وليس يدرون دراً داخل الصدف حاكى شيوخاً أجلا سادة سلفوا ... أكرم بمن في المعالي لاحق السلف
كنت أعهده رضي الله تعالى عنه منذ سنين عديدة يأتي للحج والزيارة متحلياً بحلية حميدة، وكثيراً ما يأتي لذلك، ويسافر وفلاح الصلاح عليه قد لاح وهو ظاهر، وربما أتاني في بعض الأوقات تفضلاً منه في مكة شرفها الله تعالى يقال: عندما يأتي للحج، وهو حينئذ من الصالحين، ثم جاءه بعد ذلك نصيب وافر مما أشار إليه الحق سبحانه بقوله تعالى: { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } وبقوله عز وجل: { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } وبقوله تعالى: { يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاء } وغير ذلك، ثم لزم منزله، وصار لا يحدث شيئاً من الحركات ألا بأمر وإشارات، كل هذا وما عندي علم حتى سافرت إلى اليمن السفرة الأولى، فتلقاني إلى الساحل في جمع كثير من فقرائه وجيرانه، وإذا الرجل غير الرجل، والوصف غير الوصف ظاهره قد كسي بملابس الأنوار، وباطنه خزانة المعرف والأسرار، يفوح فيه طيب الوصف بالغدو والآصال. ويصدق فيه قول الذي قال:
إلا إن وادي الجزع أضحى ترابه ... من المس كافوراً وأعواده رندا وما ذاك إلا أن هنداً عشية ... تمشت وجرت في وجوانبه بردا
وفي انتقاله من حالة البعد والعنا إلى حالة القرب والهنا قلت: عهدتكم قدماً على غير حالة ... بها اليوم أنتم سادة وملوك أتاكم من الرحمن جذب عناية ... فهان عليكم للوصول سلوك
وفي مشيه إلى عندي قلت مستعير البيت الثاني: لقد حق لي يا هند أنشد في الهوى ... ولاق بحالي حين جاء سيدي عندي خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبد
ثم سافرت السفرة الأخيرة، فرأيت ما أدهش عقلي، وحير فكري من الأحوال والمعارف والأسرار والمكاشفات، والأنوار والكرامات، وغير ذلك مما شاهدته منه في حال خلوته في أوقات كثيرة عند ورود أحوال عظيمة تجري على لسانه فيها من عجائب الغيوب ما يحيي القلوب، وفي ذلك قلت على جهة النيابة على لسان حاله: وما قلت قولاً غير أني أعرتها ... لساني فأومت للهوى يتكلم فأسرارها منها علمت، وعندما ... سكرت جليسي سرها منه يعلم
أعني يعلم الجليس السر المودع في القول الجاري على لسان الغائب بواسطة الهوى المشار إليه بالكلام، فالضمير في منه يعود إلى الهوى، والمعنى أن الله تعالى يجري على لسانه كلاماً في حال غيبته بما يريده الله تعالى يسمعه الجليس ليس باختيار من الشخص المذكور. ومن ذلك قول أبي القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه لما سئل أن يملي كلامه: لو كنت أجريه كنت أمليه، وأما في حال الصحو، فهو في نهاية المحو ينكر ذلك، ولا يظهر منه شيئاً أصلاً لا قولاً ولا فعلاً ولا علماً ولا حالاً. متحقق بقول القائل:
ومستخبر عن سر ليلى رددته ... فأصبح في ليلى بغير يقين يقولون أخبرنا فأنت أمينها ... وما أنا إن أخبرتهم بأمين
اللهم إلا مجالس تكلم معي فيها في حال الصحو، فكشف الخمار عن وجه كثير من مليحات المعارف والأسرار، ولكن نادر، وأطال البسط معي في ثلاثة مجالس: المجلس الأول مجلس إيناس وتأليف والمجلس الثاني مجلس تأديب وتخويف والمجلس الثالث مجلس تبشير وتعريف على ما سبق به القضاء من التقدير والتصريف، وهذا المجلس الثالث هو الذي أشرت إليه في القصيدة بقولي:
ولا سيما يوماً أغر مباركاً ... به اليمن والبشرى بتبليغ منيتي
ولعل أكثر الناس أو كثيراً منهم له معه مجالسة كثيرة، ولا يظهر لهم منه صغيرة ولا كبيرة، ويعرض عليه أشياء كثيرة قبل أوقاتها. من ذلك قولي في قصيدة مدحته بها:
وطفت ببيت الرب قلب مطهر ... من الجس من كل الصفات الدنية
ومفتتح القصيدة المذكورة قولي:
تخلفت يوم البين عنه بجثتي ... وراحوا بقلبي يوم بانوا أحبتي وناديت والركب اليماني راحل ... وعندي مقيم في الحشا حر لوعتي خليلي سيرا بلغا لي تحيتي ... إلى عند سكان الربوع البهية إذا جئتما حلي ابن يعقوب بمنا ... قليلاً إلى حيث العادات حلت وبثا غرامي في الربوع وقبلا ... رباه وصبا دمعة بعد دمعة
ومنها عند ذكر شيخنا المذكور:
له أسفرت بيض الغلى عن محاسن ... وقالت له: بشراك بشرى برويتي فمديت طرفي كي أراها فأسبلت ... خمارا لها دوني، فمت بحسرتي فإن أسعدت يوماً برفع خمارها ... على الوجه أحيتني بأول نظرة سقى الله أياماً خلوت بسيد ... بها هل تراها سامحات بعودة فكنا بها في طيب جمع بها الهنا ... وعيش صفا من قبل تكدير فرقة ولا سيما يوماً أغر مباركاً ... به اليمن والبشرى بتبليغ منيتي فشاهدت من أحواله وعلومه وأنواره ... ما تحته كل تحفة وألبسني عن أمر مولاه خرقة ... كسيت بها فخراً لأمر بيقظة مولى من الموالي أجل ولاية ... يسل عليها سيف سطوة عزة به كل جبار من الخلق خاضع ... إلى عزة يأتي مطيعاً بذلة له في معالي المجد منزل سؤدد ... به طربت بيض المعالي وغنت
مع أبيات أخرى في بعضها استعارات، يطرق إليها إنكار من بعض من لا يفهم معاني الاستعارات والمجاز والإشارات، والعجب أن المنكرين هم من أهل السنة مع استحسان إمام الزيدية العلامة الفاضل يحيى بن حمزة للقصيدة المذكورة، فيما أخبرني به بعض حملة كتاب الله من المخبرين المباركين. قال: رأيته في حراز من بلاد اليمن، وقد أتي غازياً الإسماعيلية في جيش كثير قال: فلما - علم أني قاصد الحج: قال: لعلك تأتيني، أو قال: عسى أن تأتيني بشيء من كلام فلان، فقد وقفت له على قصيدتين أعجبتاني إحداهما في مدح شيخه قلت: والعجب كل العجب ممن ينكر ما تضمنته من ذكر الاستعارات، وعلو المقامات مما يستحسنه المخالفون المنكرون للمقامات، فنسأل الله الكريم الوهاب القادر أن يعافينا من عمي البصائر قد وعمني شيخنا المذكور بالجائزة للقصيدة المذكورة، وقال: هي تأتيك، ولو بعد حين، فلا تيئس منها، وإن طال الزمان، ونزل من مقامه العالي في التواضع وغيره، وأنزلني منزلة ليست لي بمكان، وفي ذلك قلت:
وأهلني المولى لما لست أهله ... وأنزلني منه الندا فوق منزلي وأنزلته في مدحتي دون منزل ... له في العلى في كل ناد ومحفل
قلت: ومن تواضعه المذكور أني رجعت ذات يوم من صلاة الجمعة في حلى، فوافيته خارج القرية يريد الرجوع إلى منزله، وقد أتى بمركوب يركب عليه لحدوث ضعف فيه مع ضعف مزاجه، وضعفه برياضته وعلاجه، فلما راني قال: اركب فامتنعت من ذلك، فألح علي حتى ركبت، وصار هو يمشي بعدي. ومن ذلك أيضاً أنه حصل لي تأديب في وقت هو فيه غائب لحال ورد عليه، فلما أفاق قال لي: قد يؤدب الفاضل على يد المفضول. يعني أنه حصل لموسى عليه السلام أدب على يد الخضر عليه السلام.
استشار فلاناً رجلاً صالحاً في القافلة سماه. خطر له ذلك قبل أن يبلغ الرسالة، ولا ذكرها بعد ذلك، فلما خطر له هذا الخاطر قال له الشيخ في الوقت الحاضر: قل للفقيه إن شاء مسافر براً أو بحراً، فما عليهم إلا السلامة، واعلم أن المشهورين في بركة المستورين.
ومنها ما أخبرني بعض شيوخ اليمن المشهورين بالصلاح، والاتصاف بالأوصاف الملاح، في شهر رمضان المبارك في الحرم الشريف، وهو متوجه للإحرام بالعمرة. أنه رأى شيخاً المذكور بعد صلاة الصبح منصرفاً من حول الكعبة إلى جهة بلاده، وأنه مر عليه، وتبسم في وجهه، وأشار مع السلام بإصبعه إليه، وذكر أنه كان يتعبد معه في بعض السواحل في أيام البداية، وأنه كان يأتي إلى شيخنا كل ليلة ثلاثة أنفس أحدهم الخضر فيتحدثون معه ما شاء الله تعالى من الليل، وأنه كان يتنحى عنهم في ذلك الاجتماع، ويقول لشيخنا: ما جاؤوا إلا إليك اللهم أنفعنا بعبادك الصالحين بحرمتهم عليك.
ومنها ما أخبرني بعض الفقهاء المتقنين المباركين المتنسكين أنه أذن له شيخنا المذكور في الخلوة، فدخل فيها، وكان في بعض الأوقات يتصور له بعض الشياطين يوسوس عليه يراه بعينه ظاهراً، فشكا ذلك إلى الشيخ، فقال له: إذا رأيت شيئاً من ذلك ناد باسمي، قال: فلما كان فات ليلة تصور لي الشيطان، فقلت: يا سيدي الشيخ علي فما تم مقالتي إلا والشيخ واقف بباب الخلوة مع بعد منزله عن ذلك المكان، فسبحان الكريم المنان الذي طوى لهم المكان والزمان، وأطلعهم على ما شاء من الغيب حتى شاهدوه بالعيان.
ومنها أنا لما بلغنا في سفر البحر إلى مرسى حلي قال لي أصحابي: تنزل إلى الساحل. قلت: لا، فنزلوا وبقيت في المركب وحدي، ونويت أني إذا بلغت اليمن لزيارة جماعة من الصالحين، ورجعت زرت الشيخ نور الدين المذكور في حلي، فلما كان ضحوة اليوم الثاني من نزول أصحابي حدث عندي داعٍ إلى النزول إلى الساحل، وإذا بزورق، وهو المعروف بالسنبوق في اصطلاح بعض الناس فيه بعض البحارين جاء إلى بعض المراكب المرساة لقضاء حاجة، فأشرت إليه أن يدنو مني، فأتاني، فركبت معه في الزورق إلى الساحل، فلما صرت في البر تمشيت فيه قليلاً، وإذا بالشيخ علي المذكور مقبلاً إلي في جمع كثير ركبان ورجالة من أصحابه وجيرانه، فسلم علي، وألبسني الخرقة، فعلمت أن الداعي الذي أزعجني إلى النزول في ذلك الوقت بعد أن لم يكن لي فيه نية إنما هو بخاطر الشيخ إذ كان الاجتماع الذي وقع بيننا مقدوراً له النزول سبب، والحمد لله على ذلك السبب الذي قدر لي به أني أصحب، وعلى جميع ما أنعم ووهب.
ومنها أني خرجت في بعض الأيام إلى خارج البلد، واخترت موضعاً بعيداً عن الناس، فخلوت فيه تحت شجرة خفية بين أشجار البرية بحيث لا يهتدي مكاني أحد، فما شعرت إلا والشيخ معي، فجلس معي قليلاً، فسررت بذلك سروراً كثيراً، وحسبت أنه يطيل الجلوس عندي فأتملأ به، واسأله عن كل ما أريد، فورد عليه حال، فقام بعد أن ظهر فيه مبادي السكر، فحصل في باطني عند ذلك تألم واحتراق لعدم حصول ما أملت، فقلت له: عند ذلك ما كان لي بمجيئك حاجة، فقال: ولم قلت؟ لأني فرحت بمجيئك، ثم تألمت بقيامك، فأتى إلي ووضع إصبعه على قلبي، وقال: هذا موضع الألم، فسكن ذلك الألم، وبردت تلك الحرقة كما تبرد النار إذا صبت عليها الماء، وازددت عند ذلك في اعتقاد فضله علماً، والحمد لله على المعرفة لهم والصحبة، وعلى ما خلق بيننا وبينهم من المحبة.
ومن هذا الإسكار الذي يفارق به الأغيار، ولا يرضى فيه إلا بمجالسة الملك القهار أني مررت بجنبه في بعض الأحيان، وهو جالس على بعض الكثبان، فناداني إليه، فجلست معه قليلاً، وهو منشرح منبسط معي، ثم ورد عليه وارد أخرجه عن ذلك الحال إلى حال آخر ظهر عليه في مبادي السكر، فقبض نفسه فيه، وتنمر ونظر إلي نظرة النشاوي في سكرهم، وقال: من جالس الملوك لم يرض مجالسة غيرهم، فقمت عنه هارباً، ورجعت في طريقي التي كنت فيها ذاهباً، وكان هذا ضحوة النهار، ثم رجعت من وجهي الذي توجهت فيه بعد العصر، فإذا به قد تغير عن ذلك الأسلوب، ورجع إلى الأسلوب الانبساط المحبوب، وقد أتى بمركوب يركبه فأقسم علي أن أركب ذلك المركوب، فركبته، ومشى هو مع جلالته وضعفه، وتباين ما بين طرفي نهاره في هيبته ولطفه متحققاً بقول قائلهم:
إذا كنا به تهنا دلالاً ... على كل الموالي والعبيد ولكنا إذا عدنا إلينا ... يعطل دلنا ذل اليهود
ومنها أني حكيت له مرة أني قصدت في أيام الحج رجلاً من الصالحين في منى، فطلبته في منزله، فلم أجده، فطلعت بعض جبال منى، وانعزلت بعيداً من الناس تحت بعض الأحجار، فبينا أنا كذلك، لماذا بذلك الرجل الصالح الذي كنت أطلبه معي، فوقف عندي ما شاء الله، فلما حكيت لشيخنا المذكور هذه الحكاية تعجيباً له بذلك في ظني قال لي: عسى كان اجتماعكم في المكان الفلاني، وأشار إلى ذلك المكان بعينه مع عدم تميزه عن غيره تميزاً يهتدي به إليه، فلما سمعت منه ذلك تعجبت، وقلت له: الفرسان يمرون علينا، ولا يسلمون، فقال: يسلمون بالقلوب، ثم جمعت بينه وبين الصالح المذكور، وهو الولي الحبيب خالد بن صالح بن شبيب في المسجد الحرام ليلاً، فحصل للشيخ خالد بذلك سرور، فلما افترقا قال لي الشيخ علي: هذا من غزة، ولم يكن لهما قبل ذلك اجتماع بل بمعرفة القلوب والكشف والاطلاع رضي الله تعالى عنهم، ونفعنا بهم.
ومنها أنه خطر لي في وقت خلوة من أفضل هو أو شخص آخر، فقال لي: عند خطور هذا الخاطر، ما الفرق بين الرسول والنبي؟ فأردت أن أذكر ما بينهما من الفرق بحسب ما يخطر لي من العبارة، فسبقني وعبر في الفرق بينهما بعبارة حسنة مشتملة على ألفاظ وجيزة جامعة، ومعانٍ حسنة، حاصلها أن الرسول هو الذي يوحي إليه، ويرسل إلى الخلق، ويؤيد بالمعجزات التي تدل على الحق، والنبي غير متصف بهذه الصفات، وكذلك الأولياء منهم من يؤمر بإرشاد المريدين، ويؤيد بالكرامات والبراهين. ومنهم من له فضل في نفسه، وليس له شيء من هذه المذكورات، ففهمت من ذلك أن الفرق بينه وبين ذلك الشخص نسبته نسبة الفرق بين الرسول والنبي على حسب ما بين النبوة والولاية من التفاوت، فهو في أعلى درجات الولاية كما أن الرسول في أعلى درجات النبوة، وذلك الشخص في أسفل درجات الولاية، كما أن النبي في أسفل درجات النبوة، ومفهوم كلامه أنه أفضل من ذلك الشخص، فقلت له في ذلك الحال: هل يتصور أن يصير النبي رسولاً. ومرادي أن ذلك الشخص، هل يصير في مرتبة التربية والتأييد بالكرامة، وإرشاد السالك؟ فأشار إلي أنه قد يتصور ذلك، نسأل الله الكريم من فضله العظيم لنا ولأحبابنا والمحبين.
ومنها أنه قال لي بعض الأولياء الكبار ممن له بكثرة الكرامات في بلاد اليمن اشتهار: سلم لي على الشيخ علي يعني شيخنا المذكور، وذلك عقيب صحبتي للشيخ، وكنت في ذلك الوقت زائراً عشرة من الأولياء، فلم يذكر لي أحد منهم بالسلام ولا غيره غير الشيخ علي، فقال: يأخذ كل واحد منكما عن صاحبه تأخذ عنه نوراً، ويأخذ عنك علماً، فقلت في نفسي متعجباً: كيف يأخذ عني العلم، وهو ممن يفيد العلم وغيره. وأما أخذي عنه النور، فهو أهل لذلك، وأنا مفتقر إليه، فاسأل الله تعالى أن يحقق ذلك، وكان هذا الكلام سراً بيني وبينه لم يطلع عليه أحد غير الله. فلما قدمت على سيدي الشيخ أخرج لي كتاباً من كتب الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وقال: ما تقول في هذه المسألة؟ وأشار إلى كلام فيه لأبي حامد، فقلت: سبحان الله مثلك يسأل مثلي: فقال لي: إيش قال الشيخ فلان؟ مشيراً إلى ما ذكرت من قول ذلك الشيخ، ويأخذ عنك علماً، فلما قال لي ذلك تعجبت، وعلمت أن الرجل صاحب تمكين في الاطلاع على القلوب، وما شاء الله من علم الغيوب، وقوة التصرف النافذ فيما شاء الله من الوجود، بمن الملك المنان ذي الكرم والجود.
ومن قوة تصرفه أن بعض أصحابه كان قد منعه من الأسفار مع رغبته فيها، فقال صاحبه المذكور لشيخ من شيوخ اليمن الكبار: أشتهي منك، ومن فلان شيخ آخر من الكبار أيضاً أن تكفياني أمر الشيخ علي في منعه لي من السفر، وتضمنا لي ذلك، فقال له: لا والله يا فلان لا أقدر وأنا وفلان على منع الشيخ علي مما أراد، فإن جنده سفهاء يعني أنه صاحب حال قوي، وتصرف نافذ لا يستطيع رده، ولو اجتمعنا على ذلك. كما أن الجند السفهاء يستطيع أحد مدافعتهم وردهم عما طلبوا. رجعنا إلى ما كنا فيه من ذكر المسألة، فأخذت الكتاب، ونظرت فيه فإذا هي على غير ظاهر ألفاظها، فقال لي: تقول. قلت: نعم، وإذا به قد ورد عليه وارد غيبه عن الإحساس من واردات الأحوال التي ترد عليه في كثير من الأوقات، وعلى غيره من أرباب القلوب والرجال، فخفق برأسه في حجري، وكان جالساً إلى جنبي، فمكث قليلاً، ثم أفاق منشرحاً. فقال لي: وفقك الله، فعرفت أنه قد حصل له إطلاع في تلك الغيبة على أن ما ذكرت له من الجواب هو عين الصواب، والحمد لله على ذلك، وعلى جميع الأئمة، وأسأله أن يتقبل ما ذكرت من دعائه، وأن يغفر لنا جميع الذنوب، ويبلغنا من الخيرات كل مطلوب بجاه نبيه المصطفى المكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه عشر من كراماته الكبيرة يدل بعضها على فضله عنده من له بصيرة. وأما ما له من الإشارات التي في ضمنها لي بشارات.
فمنها قوله رضي الله تعالى عنه لي: إني أرجو لك في آخر العمر بعد قولي له أرى فلاناً يبشرني، وأنت ما تبشرني.
ومنها قوله لي: لا تيئس من الجائزة فهي تأتيك، وإن طال الزمان يعني على القصيدة التي ذكرته فيها.
ومنها قوله لي: يا ما يخرج الله من هذا الصدر من الحكم مشيراً إلى صدري.
ومنها قوله لي: ما ظنك بعبد بن أشرف المولى عليهما أيردهما خائبين؟ وذلك بعد خلوتي معه في مجلس مبارك، ورد عليه فيه وارد شريف، فأضحكه بشراء بعدما أحزنه تخويفه وأبكاه.
ومنها قوله لي لما قدمت عليه زائراً: رأيتك منصرفاً من عندي، وعليك ثوب أبيض.
ومنها قوله لي: أشتهي لك سيفاً تضرب به، وفي قوله هذا إشارتان إحداهما أن ذلك الضرب كون فيه محقاً، والمضربون مبطلين، ولو لم يكن كذاك لما جاز أن يحب إلي السيف المذكور، والثانية أن تكون لي أعداء كثيرون، نسأل الله أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين حرباً لأعدائه المعتدين، وسلما لأوليائه المهتدين آمين اللهم آمين.
ومنها قوله لي بعد ورود حال عليه مقامك عالٍ حقق الله تعالى ذلك بمنه وكرمه.
ومنها قوله في حال سكره لواردة تواردت عليه الأحوال. في مسجد الخيف خاليا عن الخلق، وسائر الأشغال، في ساعة أؤمل من الله الكريم أن أنال فضلها إما جاء سيل الفضل غسل الأوساخ كلها، فنسأل الله الكريم أن يحقق لما ما ذكر من الغسل بسيل الفضل، وأن يحيي بغيث رحمته ما بقلوبنا من موات المحل، وإلى قوله المذكور أشرت في بعض القصائد حيث أقول:
أؤمل من ذي الفضل ما هو أهله ... وإن لم أكن أهلاً لما منه أطلب عسى سيل فضل منه يغسل كل ما ... بأوساخه كم قد تلطخ مذنب كما قال نور الدين شيخي وسيدي ... وقد مال من حال به الراح يشرب إذا جاء سيل الفضل يغسل كل ما ... يلاقي من الأوساخ في الحال يذهب إلهي بجاه المصطفى سيد الورى ... وملجأهم من كل ما منه يهرب وتاج العلي بدر الهدى معدن الندى ... طراز جمال الكون أبهج مذهب أنلني منائي منك يا غاية المنى ... لا ضحى ولي شغل بحبك مذهب وحقق أرجائي يا جواعاً ومنعماً ... كريماً تعالى للرجال تخيب
ومنها ما في مكاتبته لي من دعوات صالحات، ووصف بصفات جميلات، أسأل الله الكريم المنان المالك، أن يحقق بمنه جميع ذلك، وهذه صورة ما ذكرت من مكاتبة شيخنا العارف بالله القدوة الدليل، مرشد السالكن السيد الجليل، ولفظه بحروفه، والله على ما نقول وكيل.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين، الفقير إلى عفو ربه، وإحسانه، خويدم الفقراء علي بن عبد الله سلام الله ورحمته وبركاته. وتحياته على المولى الشيخ الفقيه العالم، العامل الورع الزاهد عبد الله بن أسعد اليافعي زاده الله حكماً وعلماً ومعرفة وفهماً، ورفع في العلم لدرجته، وأظهر على الخصم حجته، ونشر أعلام ولايته، وكلأه بحسن كلايته، وجعله موفقاً للصواب، في كل سؤال وجواب، وتصنيف للكتاب، وجعله داعياً إليه، ودالاً للسالكين عليه، ثم أوصله به إليه، وبعد فقد ورد الكتاب الكريم، والخبر المبارك المحتوى على الدر النظيم، فنظر فيه المملوك، واستحسنه غاية الإستحسان، وأعجبه ما أودع فيه من الفوائد الإيضاح والبيان، وما طرزه به من الحكم والمعارف، ما يشهد له بصحته كل عارف، فزاده الله من كل فضيلة، وأحله لديه المنزلة الرفيعة الجليلة لكن لو أخلي الكتاب عن ذكر المملوك، وأطلق بعد ذكر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أرباب السلوك لكان يتنم حسنه وجماله، ويبقى عليه رونقه وكماله، ولكن كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، جزى الله المولى عن المملوك. وعن الإسلام والمسلمين خيراً، ودفع به عنهم في الدين ضيراً، وختم للجميع بخير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
ومنها قوله لي في مسجد الخيف في بعض ليالي التشريق: حصلت لي إشارة قصيدتك الفلانية، وقد أمرت ولدي أبا بكر أن يحفظها، وذلك أني رأيت كأني أقرأها في صلاة الصبح يوم الجمعة. قلت: في ذلك إشارة إلى ما اشتملت عليه من تحقيق التوحيد، وصحة العقائد، وغير ذلك مما تضمنته من جمل المقاصد ومدح جمال الوجود سيد ولد آدم صلى الله عليه وآله وسلم وهذه عشر أيضاً من البشارات، المشتملات على الإشارات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتنزل البركات، أعني إشارات شيخنا المذكور لي.
وأما ما بشرني به غيره من المشائخ والإخوان مما وقع لهم في اليقظة، أو في المنام، من جهة النبي عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، ومن جهة الأولياء الكرام، فليس هاهنا موضع لذلك الكلام، فلنثن العنان، ولنعد إلى ما نحن بصدده من البيان، لأوصاف شيخنا الجميلات الحسان، وما من علينا بصحبته الحنان المنان.
وله رضي الله عنه تصنيف في الحقيقة محاه، لغرض قبل أن نقف عليه ونراه ليله خشية إني لا يفهم الناس معناه، وله نظم رائق، ونثر فائق، فمن نظمه رضي الله تعالى عنه قوله:
أسفي من هجر سكان الحمى ... تركوني من هواهم في عمي كلما قدمت يوماً قدماً ... نحوهم أخرت عنهم قدماً صرت مما فاتني من وصلهم ... أقرع السن عليهم ندماً ليتهم إذ هجروا لم يتلفوا ... بالضنا صبا معنى مغرماً فعسى الدهر يوصل منهم ... يسعف الصب ويشفى السقما قد جعلت الدمع مني شافعاً ... ورجائي وإنكساري سلما
ومن نثره رحمه الله تعالى قوله: ينبغي للفقير الصادق أن يكون كثير الفضائل، الشمائل، ما في يده لا يرد عنه سائل، ولا يخيب منه آمل، أخلاقه ألطف من نسيم السحر، وأوصافه كالمسك إذا فاح وانتشر، طلق الوجه عند لقاء الأخوان، بسام الثغر عند وجود الحدثان، قلبه من الغش والحسد مكنوس، قد طهر ونقى من آفات النفوس، حرفته في الزهادة، وحانوته فيها العبادة، إذا جن عليه الليل فهو قائم، وإذا أصبح النار فهو كثير التلاوة للقرآن، بدمع منحدر كالجمان، دائم الفكرة متواصل الأحزان.
ومنه أيضاً: يا هذا لو أخذت كبريت الإخلاص وطبخته بماء الصدق، ثم أطفأته فتسق الصبر، ثم دهن لوز الزهد، ثم دهن بيض القناعة، ثم سحقته على صلابة التقوى بقهر طاعة الموالي، ثم ألقيت منه جزءاً على مائة جزء من نحاس نحو سك صار ذاهباً منفى، والله الموفق.
وأما ما ذكرته في لبس الخرقة المذكورة في القصيدة من اكتساء الفخر، فهو من أجل إنه أمر بذلك في اليقظة في حال حال ورد عليه على ساحل البحر، وهو قولي في القصيدة:
وألبسني عن أمر مولاه خرقة ... كسيت بها فخر الأمر بيقظة
وقد ألبسني إياها جماعة أيضاً من القوم بعضهم بإشارة أيضاً، ولكن ربما وقعت له في اليقظة، وربما وقعت في النوم، ولم أشاهد في أحد منهم من حسن سلوك الطريقة، والجمع بين الشريعة والحقيقة، والجد والاجتهاد، وعلو الهمة، ومواصلة الأوراد، والحرص على متابعة السنة والتورع، والمبالغة في المحو والأدب والتواضع، وكثرة المعارف والمكاشفات، والمحاسن والكرامات، ما شاهدته في الشيخ المذكور، وفى ذلك أنشد وأقول:
وكم عاذل في حب سلمى ومدحها ... يقولون قد أكثرت في الشعر وصفها يلومونني يا أم عمر وما دروا ... بما أبصرت عيني من الحسن والبها وأهوى سوا هارب خود خريدة ... ولكن ما شاهدت في الحسن مثلها
والجماعة المذكورون في إلباسهم لي الخرقة، بعضهم أدرك الشيخ أبا الغيث، وبعضهم ينتسب إلى الشيخ محمد بن أبي بكر الحكمي للنسبة من بعض ذريته وبعضهم ينتسب إلى الشيخين الإمامين الحضرميين أعني الفقيه إسماعيل، والشيخ أبا عباد، وبعضهم هو الشيخ محمد بن عمر النهاري، وبعضهم قال لي: هذه يدي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني أصحب بها عنه، فاصحب بها أنت عني. كل هؤلاء المذكورين يمانيون، ومهم من ينتسب إلى الشيخ أبي مدين شيخ بلاد المغرب رضي الله تعالى عنه، ومنهم من ينتسب إلى الشيخ شهاب الدين السهروردي رضي الله تعالى عنه وعنهم.
وأما شيوخي من جهة العلم، فقد تقدم ذكر بعضهم، وقد ذكرت طريق الخرقة وشروطها وإنها خرقتان خرقة بركة واحترام، وخرقة تحكم والتزام، في كتاب " نشر الريحان في فضل المتحابين في الله من الأخوان "، وذكرت أن غالب شيوخ اليمن يرجعون في لبسها إلى شيخ الشيوخ في المجد والمفاخر، الذي خضعت لقدمه رقاب الأكابر، الشيخ محيي الدين أبي محمد عبد القادر الجيلاني قدس الله روحه، ونور ضريحه، وإلى ذلك أشرت في بعض القصيدات بقول هذه الأبيات:
وفي منهج الأشياخ إلباس خرقة ... لهم سنة أصل روى ذلك عن أصل ولبس اليمانيين يرجع غالباً ... إلى سيد سام فخاراً على الكل إمام الورى قطب الملا قائل على ... رقاب جميع الأولياء قدمي أعلى فطأطأ له كل بشرق ومغرب ... رقاباً سوى فرد فعوقب بالعزل
الأبيات المقدمات في ترجمته في سنة إحدى وستين وخمس مائه.
وفي شيخي المذكورين رفيعي القدر والمحل، قلت هذه الأبيات مفتتحاً لها بالمرثية والغزل:
دعا ذكر هامي دمع طرف مسهد ... بتذكار أطلال لمى ومعهد وبثاغر أما من حشى مودع الشجى ... غريم الجوى من لوعة الحب موقد لفرقة أحباب لنا قطعت بهم ... مطايا المنايا فدفداً بعد فدد فأمسوا بدار لد نأت لا يزورها ... سوى راكب حدباً إلى قعر ملحد به روضة خضر البر موحد ... وموقدة جمر الطاغ وملحد ترى ساكنيه تحت أطباق مظلم ... قد استنزلوا عن كل قصر مشيد وكثرة غلمان وعز ورفعة ... إلى ذي هوان في التراب الموسد مقيمين حتى يرحل الركب كلهم ... لدار نعيم أو عذاب مؤيد وقد فارقوا للأهل والمال والهنا ... وجاه وعيش والحبيب المودد وقد لبسوا ثوب البلا بعد لبسهم ... لثوب البقا الزاهي الجمال المحدد ترى الدود في تلك الخدد ومقلة ... تسيل على الخد الأسل المورد وقد زال عنها ما زهاها وزانها ... وما طال فيها من تغزل منشد تغزل ولكن لا بإفك وباطل ... وأنشد ولا تسمع ملام مفند حمامة أيك في الحمى غردت ضحى ... مطوقه ورقاء مخضوبة اليد وريم طويل الجيد أدعج أهيف ... أغن كحيل الطرف من غير إثمد فتلك شجاني في الصبا طيب نغمها ... وحسن الحل لكن حمامة مسجد أحلت هوى لما شدت وترنمت ... فؤاد خلي البال غير معود فيا طيب عصر فيه طاب سماعها ... لدى عدن يا ليته لي بمسعد تريع لوصال بواو معوضاً ... موحدة كم قد سبت ذا بعد فأنشد حالي عندها متمثلاً ... بمصراع صب في المحبة مبتدي وما كنت أعري قبل حبك ما الهوى ... كما لم من الغير الملاحة أشهد وهذي سباني في الكهولة حسنها ... وبهجتها لكن غزالة معبد
وتفقه على جماعة أيضاً، وعرض المفصل على حجة للعرب بهاء الدين ابن النحاس، وأخذ عنه النحو، وكان له منه حظ عظيم، وانتفع به انتفاعاً كلياً، وأخذ أصول الفقه عن العلامة شرف الدين الشافعي الفاسي الشهير بالكركي، وناب في الحكم عن قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العبد القشيري بالقاهرة ومصر مدة، وتولى التدريس في عدة مدارس وتولى الإعادة بالمدرسة الصالحية والناصرية، والميعاد العلاي في جامع الأزهر، ونفذ رسولاً من سلطان الديار المصرية إلى اليمن بعد السبع مائة، وهو إمام مشار إليه في الفتيا والفقه في الديار المصرية حلو العبارة، كثير التودد للطلبة، مكرم لهم وولي قضاء العساكر للمنصورة بالديار المصرية، ومات أقرانه وعمر، وبقي طرفة في البلاد، ومولده سنة إحدى وستين وست مائة رحمه الله تعالى.) اهـ.
_________________ مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
|