ثانياً : علاقة الإمام أحمد مع صوفية عصره.
لقد عاصر الإمام أحمد بن حنبل(164-241هـ) طائفة من كبار الصوفية، وعلاقته معهم كانت قائمة على المودة والتقدير والاحترام المتبادل، وكان يقول: (صار القوم أئمة بالإخلاص وعند ذكرهم تتنزل الرحمة.)اهـ
وعلى رأس هؤلاء القوم :
1- بشر بن الحارث.
وقد سُئل عنه الإمام أحمد فقال:(هو رابع سبعة من الأبدال.)اهـ[53].
وكان يقول: (الطريق ما كان عليه بشر بن الحارث. وقال الحسن الرازي قيل لأحمد:يجيئك بشر بن الحارث قال: لا تعننِّ الشيخ، نحن أحق أن نذهب إليه.)اهـ[54].
وقال بشر عن الإمام أحمد خلال محنته:(إن ابن حنبل دخل الكير فخرج ذهباً أحمر.فبلغ ذلك الإمام أحمد فقال: الحمد لله الذي رضى بشر بما صنعنا.)اهـ
وقال عندما بلغه موت بشر: لم يكن له نظير. ونستنتج من أخبار المؤرخين عن هذين الشيخين الجليلين، أن البغداديين كانوا يرون أنهما في مرتبة واحدة.
وكانوا يقولون:مثل الإمام أحمد بن حنبل مثل دجلة، كل أحد يعرفها. ومثل بشر بن الحارث كمثل بئر عذبة مغطاة لا يقصدها إلا الواحد بعد الواحد.
2- أحمد بن أبي الحواري(ت 2033هـ).
عن يحيى بن معين قال:(التقى أحمد بن حنبل وأحمد بن أبي الحواري بمكة ودار بينهما الحوار حول قول أبي سليمان الداراني : (إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علماً. وتعجب الإمام أحمد من هذا القول ووجد ما يدعمه في قوله: (من عمل بما يعلم، ورثة الله علم ما لم يعلم).ثم قال لأحمد بن أبي الحواري: (صدقت يا أحمد وصدق شيخك)اهـ [55].
وفي قوت القلوب كان أحمد بن حنبل يقول:(العلم ما جاء من فوق قال يعني إلهاماً من غير تعليم.اهـ[56].
3- حاتم الأصم (ت 277هـ).
لما دخل حاتم بغداد واجتمع إليه أهلها فقالوا: يا أبا عبد الرحمن أنت رجل أعجمي وليس يكلم أحد إلا قطعته، قال ذلك في ثلاث خصال إضهرن على خصمي: افرح إذا أصاب خصمي، واحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي ألا أجهل عليه. فبلغ ذلك الإمام أحمد فقال: سبحان الله ما أعقله قوموا بنا إليه.فلما دخلوا عليه قيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما السلامة من الدنيا؟ قال: يا أبا عبد الله لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربعة خصال: تغفر للقوم جهلهم، وتمنع جهلك عنهم، وتبذل لهم شيئك، وتكون من شيئهم آيساً. فقال: يا حاتم إنها لشديدة، فقال حاتم: وليتك تسلم وليتك تسلم.)اهـ[57].
4- يحيى بن الجلاء(ت 288هـ).
عن الطرسوسي قال:(ذهبت أنا ويحيى بن الجلاء إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل فسألته: يا أبا عبد الله، بم تلين القلوب؟ فقال: بأكل الحلال، فمررنا إلى بشر بن الحارث، فقلت له: بم تلين القلوب، قال:ألا بذكر الله تطمئن القلوب. قلت له: إن ابن حنبل قال: بأكل الحلال فقال جاء بالأصل.)اهـ[58].
5- معروف الكرخي (ت200هـ).
وصف معروفاً الإمام أحمد بعد أن رآه بأنه (فتى عليه أثار النسك)اهـ[59].
وكان أحمد بن حنبل يذهب إلى معروف ويسأله.
وقد سأل عبد الله والده أحمد مرة:(هل كان مع معروف شيء من العلم؟
قال:كان معه رأس العلم وهو خشيةالله.)اهـ[60].
وذكر يوماً في مجلس الإمام أحمد قول أحدهم عن معروف هو قصير العلم، فقال:أحمد:امسك عافاك الله، وذكر يوماً في مجلس الإمام أحمد قول أحدهم عن معروف هو قصير العلم، فقال: أحمد: امسك عافاك الله، وهل يراد بالعلم إلا ما وصل إليه معروف؟!
6- سري السقطي(ت253هـ) وهو خال الإمام الجنيد وشيخه.
قال الحسن البزار:(سألت أحمد بن حنبل عن السري بعد قدومه من الثغر، فقال: أليس الشيخ الذي يعرف بطيب الغذاء(أي أكل الحلال) قلت: بلا، فأثنى عليه.)اهـ[61].
وقد أراد السري السقطي -وكان تاجراً- أن يوصل إلى أحمد شيئاً فرده، فقال له: يا أحمد احذر آفة الرد فإنها أشد من آفة الأخذ. فشرح أحمد صدراً بما قال السري، وأجاب: ما رددت ذلك إلا لأن عندي قوت شهر، فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلي.
وعلق صاحب كتاب (أحمد بن حنبل إمام أهل السنة) على ذلك بقوله: وأحمد يستفيد من كلام السري، ولا يلقي القول بإصرار رجل تستعبده آراؤه فتلك كبرياء على العلم والعلماء.)اهـ[62].
7- أبو حمزة الصوفي(ت269هـ).
هو محمد بن إبراهيم اجتمع بالإمام أحمد كثيراً.[63].
وكان أحمد بن حنبل يجله ويعظمه، وإذا جرى في مجلسه شيء من كلام القوم يلتفت لأبي حمزه ويقول: (ما تقول فيها يا صوفي؟.)اهـ[64].
وجاء في تنوير القلوب:(إن الإمام أحمد بعد أن اجتمع مع أبي حمزه، قال لولده:يا ولدي عليك بمجالسة هؤلاء القوم، فإنهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد.)اهـ[65].
8- الحارث المحاسبي(ت233هـ).
وقد ذكر بعض المؤرخين، أنه في البداية كان بينه وبين الإمام أحمد جفاء بسبب مسائل في علم الكلام.
واتفق أن الإمام أحمد أمر بعض صحبه أن يجلسه بحيث يسمع كلام الحارث ولا يراه، ففعل فتكلم الحارث وأصحابه يسمعون كأنما على رؤوسهم الطير، ثم أخذوا يبكون فبكى أحمد حتى أغمي عليه وقال لصاحبه: ما رأيت كهؤلاء ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل، لكن مع ما وقفت من أحوالهم لا أرى لك صحبتهم.)اهـ[66].
قال السبكي في طبقاته:(إنما قال له ذلك لقصوره عن مقامهم فإنهم في مقام ضيق.)اهـ
9- أبو عثمان الوّراق (ت260هـ).
وقد تخرج به أكثر نجوم البغداديين في التصوف وعنه أخذوا التجرد وسياسة النفوس كما قال أبو نعيم، وأضاف أن الإمام أحمد بن حنبل كان يحمد سيرته.(67).
10- أبو بكر المغازلي(ت 282هـ).
ذكر الذهبي في ترجمته :(هو الإمام الولي الرباني كان من البدلاء، له أحوال عجيبة، وكان الخلال يقول: كان أبو عبد الله يقدمه ويكرمه ويقول: من مثله!.)[68].
11- أبو تراب النخشبي(ت 245هـ).
وقد أخذ عنه الإمام أحمد.[69].
وقال ابن العماد:(أبو تراب النخشبي دخل بغداد مرات واجتمع بالإمام أحمد بن حنبل.[70].
-أبو جعفر الطوسي(ت254هـ) وهو أستاذ الصوفية المشهور أبي سعيد الخراز.
قال أبو بكر المروزي:(سألت أبا عبد الله عن أبي جعفر فقال: لا أعلم إلا خيراً.)اهـ[71].
13- أبو إبراهيم السائح.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل:(كان في دهليز أبي دكان، فإذا جاءه إنسان يريد أن يخلو به أجلس عليه، فدخله أبو إبراهيم السائح، فقال لي أبي: سلّم عليه فإنه من خيار المسلمين وكبارهم.)اهـ[72].
14- أبو إسحاق النيسبوري.
قال الذهبي:(كان أحمد بن حنبل يغشاه ويحترمه ويجله ويقول عنه: إن كان ببغداد أحد من الأبدال، فأبو اسحاق النيسبوري.)اهـ[73].
15- ذو النون المصري.(ت246هـ).
قال المرزوي: (دخلت على ذي النون أيام محنته وهو في السجن فقال لي: أي شيء حال سيدنا؟ يعني أحمد بن حنبل.)اهـ[74].
وقال الإمام أحمد لذي النون:(لما سُمّي يحيى بن الجلاء بابن الجلاء، فقال: سميناه بذلك، لأنه إذا تكلم جلا قلوبنا.)اهـ[75].
16- موسى الجصاص (ت 251هـ).
قال الخطيب البغدادي عنه:(ورع متخل كان لا يحدث إلا بمسائل أبي عبد الله أحمد بن حنبل وشيء سمعه من أبي سليمان الداراني، وقال غيره: هو من قدماء أصحاب الإمام أحمد: كان ذا زهد وورع وتأله.)اهـ[76].
17- زكريا الهروي : (ت255هـ).
قال الذهبي [والجامي: هو من كبار مشايخ الصوفية وورعيهم. وكان أحمد بن حنبل يرفع من محله ويقول عنه: هو من الأبدال.)اهـ[77].
18- فتح بن شخرف(ت273هـ).
كان يقول عنه الإمام أحمد (ما أخرجت خراسان مثله.)اهـ[78].
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل:(كتب لي الفتح بن شخرف الخراساني: (يقولون:علماء الأزمنة ثلاثة: ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه والثوري في زمانه، وأنا قلت للحارث المحاسبي:وابن حنبل في زمانه. فقال المحاسبي:نزل بالإمام أحمد ما لم ينزل بغيره.)اهـ[79].
19- وكيع بن الجراح (ت200هـ تقريباً).
الكوفي الصوفي[80]المحدث قيل: كان يصوم الدهر.
قال أحمد بن حنبل:(لو رأيت وكيعاً رأيت عجباً، حج أربعين حجة ورابط في عبادان أربعين ليلة ولم يتلطخ بالسلطان.)اهـ[81].
وهناك آخرون كثُر من العارفين لو سردنا أخبارهم هنا لطالت القائمة مثل أيوب الحمال وصفوان بن سليم ويحيى القطان وأحمد بن أبي بدر وإبراهيم النيسبوري وأبو يوسف الغسولي، وغيرهم.
كان الإمام أحمد يقول عنهم: هم من خيار عباد الله يستنزل بذكرهم القطر, وما رأت عيناي مثلهم، وكان يطلق على بعضهم صفة
الأبدال.
وأفضلُ ختام لبحثنا هذا: دعاء للإمام أحمد بن حنبل كان يردده في سجوده:
(اللهم من كان على هوى أو على رأي وهو يظن أنه على الحق وليس هو على الحق، فرده إلى الحق حتى لا يضل من هذه الأمة أحد).
قال إبراهيم بن شماس: خاض بالناس فقالوا: إن وقع أمر في أمة محمد فَمَنْ الحجة على وجه الأرض، فاتفقوا كلهم على أن أحمد بن حنبل حجته.
عاش الإمام أحمد(77) سنة، ودفن بعد وفاته في مقبرة باب حرب ببغداد، وصلى عليه خلائق لا يحصى عددهم.
قال صاحب مختصر طبقات الحنابلة:
وقبره ظاهر مشهور يزار ويتبرك به.