{ان الذين كفروا} لما ذكر خاصة عباده وخالصة اوليائه بصفاتهم التى اهلتهم للهدى والفلاح عقبهم اضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا يغنى عنهم الآيات والنذر وتعريف الموصول اما للعهد والمراد به ناس باعيانهم كابى لهب وابى جهل والوليد ابن المغيرة واحبار اليهود او للجنس مناولا كل من صمم على كفره تصميما لا يرعوى بعده وغيرهم فخص منهم غير المصرين بما اسند اليه. والكفر لغة الستر والتغطية وفى الشريعة انكار ما علم بالضرورة مجيئ الرسول صلى الله عليه وسلم به وانما عد لباس الغيار وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرها كفرا لدلالته على التكذيب فان من صدق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكاد يجترئ على امثال ذلك اذ لا داعى اليه كالزنى وشرب الخمر لا لانه كفر فى نفسه. والكافر فى القرآن على اربعة اوجه. احدها نقيض المؤمن قال الله تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } [محمد: 1] والثانى الجاحد قال تعالى { ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين } [آل عمران: 97]. اى جحد وجوب الحج. والثالث نقيض الشاكر قال تعالى { واشكروا لى ولا تكفرون } [البقرة: 152] والرابع المتبرى قال تعالى {ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} اى يتبرأ بعضكم من بعض كذا فى التيسير. وقال فى البغوى الكفر على اربعة اوجه كفر الانكار وهوان لا يعرف الله اصلا ولا يعترف به وكفر الجحود وهو ان يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر ابليس قال الله تعالى { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة: 89] وكفر العناد وهو ان يعرف بقلبه ولا يعترف بلسانه ولا يدين به ككفر ابى طالب حيث يقول ولقد علمت بان دين محمد من خير اديان البرية دينا لولا الملامة او حذرا مسبة لوجدتنى سمحا بذاك مبينا
وكفر النفاق وهو ان يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الانواع سواء فى ان من لقى الله بواحد منها لا يغفر له انتهى كلام البغوى لكن الكلام فى ابى طالب سيجئ عند قوله تعالى { ولا تسئل عن أصحاب الجحيم } [البقرة: 119] { سواء عليهم } [ البقرة: 6] اى عندهم وهو اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت بالمصادر مبالغة قال الله تعالى { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [آل عمران: 64] وارتفاعه على انه خبر لان وقوله تعالى {ءانذرتهم} يا محمد {أم لم تنذرهم} مرتفع على الفاعلية لان الهمزة وما مجردتان عن معنى الاستفهام لتحقيق معنى الاستواء بين مدخوليهما كما جرد الامر والنهى لذلك عن معنييهما فى قوله عز وجل { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } [التوبة: 80]. وحرف النداء فى قولك اللهم اغفر لنا ايتها العصابة وعن معنى الطلب لمجرد التخصيص كانه قيل ان الذين كفروا مستو عليهم انذارك وعدمه كقولك ان زيدا مختصم اخوه وابن عمه. واصل الانذار الاعلام بامر مخوف وكل منذر معلم وليس كل معلم منذرا كما فى تفسير ابى الليث والمراد ههنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصى وانما اقتصر عليه لما انهم ليسوا باهل للبشارة اصلا ولا الانذار اوقع فى القلوب واشد تأثيرا فى النفوس فان دفع المضار أهم من جلب المنافع فحيث لم يتأثروا به فلأن لا يرفعوا للبشارة رأسا اولى. وانما لم يقل سواء عليك كما قال لعبدة الاصنام { سواء عليكم ادعوتموهم أم أنتم صامتون } [الأعراف: 193]. لان انذارك وترك انذارك ليسا سواء فى حقك لانك تثاب على الانذار وان لم يؤمنوا فاما فى حقهم فهما سواء لانهم لا يؤمنون فى الحالين وهو نظير الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فانه يثاب به الآمر وان لم يعمل به المأمور وكان هؤلاء القوم كقوم هود الذين قالوا لهود عليه السلام { سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } [الشعراء] وقال تعالى فى حق هؤلاء {سواء عليهم} الخ ويقال لهم فى القيامة { اصلوها فاصبروا او لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [الطور: 16]. واخبر عنهم انهم يقولون { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } [إبراهيم:21] فلما كان الوعظ وتركه سواء كان صبرهم فى النار وتركه سواء وجزعهم فيها وتركه سواء وانت اذا كان عصيانك فى الشباب والشيب سواء وتماديك فى الصحة والمرض سواء واعراضك فى النعمة والمحنة سواء وقسوتك على القريب والبعيد سواء وزيغك فى السر والعلانية سواء اما تخشى ان تكون توبتك عند الموت واصرارك عند النزع وسكوتك سواء وزيارة الصالحين لك وامتناعهم سواء وقيام الشفعاء بامرك وتركهم سواء كذا فى تفسير التيسير {لا يؤمنون} جملة مستقلة مؤكدة لما قبلها مبينة لما فيه من اجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الاعراب ثم هذا تخفيف للنبى عليه السلام وتفريغ لقلبه حيث اخبره عن هؤلاء بما اخبر به نوحا صلوات الله عليه وعلى سائر الانبياء فى الانتهاء فانه قال تعالى لنوح عليه السلام بعد طول الزمان ومقاساة الشدائد والاحزان { إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } [هود: 36]. فدعا بهلاكهم بعد ذلك وكذلك سائر الانبياء. فى الآية الكريمة اخبار بالغيب على ما هو به ان اريد بالموصول اشخاص باعيانهم فهى من المعجزات الباهرة وفى الآية اثبات فعل العباد فانه قال لا يؤمنون فيه اثبات الاختبار ونفى الاكراه والاجبار فانه لم يقل لا يستطيعون بل قال لا يؤمنون. فان قلت لما علم الله انهم لا يؤمنون فلم امر النبى عليه السلام بدعائهم. قلت فائدة الانذار بعد العلم بانه لا ينجع الزام الحجة كما ان الله تعالى بعث موسى الى فرعون ليدعوه الى السلام وعلم انه لا يؤمن قال الله تعالى { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [النساء: 165] وقال { ولو انا اهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا ارسلت الينا رسولا فنتبع آياتك } [طه: 134]. فان قلت لما اخبر الله رسوله انهم لا يؤمنون فهلا الهكهم كما اهلك قوم نوح بعدما اخبرانهم لا يؤمنون. قلت لان النبى عليه السلام كان رحمة للعالمين كما ورد به الكتاب وقد قال الله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } [الأَنفال: 33] ثم ان الاخبار بوقوع الشئ او عدمه لا ينفى القدرة عليه كاخباره تعالى عما يفعله هو او العبد باختياره فلا يلزم جواز تكليف ما لا يطاق. {ختم الله على قلوبهم} لما ذكر هؤلاء الكفار بصفاتهم وحالاتهم الحق به ذكر عقوباتهم فهو تعليل للحكم السابق وبيان ما يقتضيه. والختم الكتم سمى به الاستيثاق من الشئ بضرب الخاتم عليه لانه كتم له وبلوغ آخره ومنه ختم القرآن نظرا الى انه آخر فعل يفعل فى احرازه ولا ختم على الحقيقة وانما المراد به ان يحدث فى نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصى واستقباح الايمان والطاعات بسبب غيهم وانهماكهم فى التقليد واعراضهم عن النظر الصحيح فتجعل قلوبهم بحيث لا يؤثر فيها الانذار ولا ينفذ فيها الحق اصلا وسمى هذه الهيئة على الاستعارة ختما وقد عبر عن احداث هذه الهيئة بالطبع فى قوله تعالى { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم } [النحل: 108]. وبالاغفال فى قوله { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } [الكهف: 28]. وبالاقساء فى قوله وجعلنا قلوبهم قاسية وهى من حيث ان الممكنات باسرها مسندة الى الله تعالى واقعة بقدرته اسندت اليه تعالى ومن حيث انها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى { بل طبع الله عليها بكفرهم } [النساء: 155] وقوله ذلك { ذلك بإنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم } [المنافقون: 3]. وردت الآية الكريمة ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم فالختم مجازاة لكفرهم والله تعالى قد يسر عليهم السبل فلو جاهدوا لوفقهم فسقط الاعتراض بانه اذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة. قال الشيخ فى تفسيره واسناد الختم الى الله للتنبيه على ان اباءهم عن قبول الحق كالشئ الخلق غير العرضى انتهى. وقال فى التيسير حاصل الختم عند اهل عقوبة من الله تعالى لا تمنع العبد من الايمان جبرا ولا تحمله على الكفر كرها بل هى زيادة عقوبة له على سوء اختياره وتماديه فى الكفر واصراره يحرم بها من اللطف الذي سهل به فعل الايمان وترك العصيان يدل عليه انهم بقوا مخاطبين بالايمان بقوله تعالى { آمنوا بالله ورسوله } [النساء: 136]. وملومين على الامتناع عنه لقوله تعالى { فما لهم لا يؤمنون } [الإِنشقاق: 20]. ولو صاروا مجبورين وعن الايمان عاجزين لزال الخطاب وسقط اللوم والعتاب كما فى الختم على الافواه يوم الحساب لما عجزوا به حقيقة عن الكلام لم يبق الخطاب بالكلام وتحقيق المذهب اثبات فعل العبد وتخليق الله تعالى. والقلوب جمع قلب وهو الفؤاد سمى قلبا لتقلبه فى الامور ولتصرفه فى الاعضاء. وفى تفسير الشيخ القلب قطعة لحمم مشكل بالشكل الصنوبرى معلق بالوتين مقلوبا والوتين عرق فى القلب الذى انقطع مات صاحبه ويقال له الابهر. وفى تفسير الكواشى القلب قطعة سوداء فى الفؤاد وزعم بعضهم انه الشكل الصنوبرى المعلق بالوتين مقلوبا * وفى تعريفات السيد القلب لطيفة ربانية لها بهذا القلب الجسمانى الصنوبرى الشكل المودع فى الجانب الايسر من الصدر تعلق وتلك اللطيفة هى حقيقة الانسان: قال المولى الجامى نسيت اين بيكر مخروطى دل بلكه هست اين قفص طوطى دل كرتو طوطى زقفس نشناسى بخدا ناس نه نشناسى
والمراد بالقلب فى الآية محل القوة العاقلة من الفؤاد وقد يطلق ويراد به المعرفة والعقل كما قال { إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب } [ق: 37] {و} ختم الله {على سمعهم} اى على آذانهم فجعلها بحث تعاف استماع الحق ولا تصغى الى خير ولا تعيه ولا تقبله كأنها مستوثق منها بالختم عقوبة لهم على سوء اختيارهم وميلهم الى الباطل وايثارهم. والسمع هو ادراك القوة السامعة وقد يطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا لانه أشد منهاسبة للختم وهو المختوم عليه اصالة. وفى توحيد السمع وجوده. احدها انه فى الاصل مصدر والمصادر لا تجمع لصلاحيتها للواحد والاثنين والجماعة قال تعالى { إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا } [الطارق: 15-16] فان قالوا فلم جمع الابصار والواحد بصر وهو كالسمع قلنا انه اسم للعين فكان اسما لا مصدرا فجمع لذلك. والثانى ان فيه اضمارا اى على مواضع سمعهم وحواسه كما فى قوله تعالى {واسئل القرية} اى اهلها وثبت هذا الاضمار دلالة ان السمع فعل ولا يختم على الفعل وانما يختم على محله. والثالث انه اراد سمع كل واحد منهم والاضافة الى الجماعة تغنى عن الجماعة وفى التوحيد امن اللبس كما فى قوله كلو فى بعض بطنكم اى بطونكم اذا لبطن لا يشترك فيه. والرابع قول سيبويه انه توسط جمعين فدل على الجمع وان وجد كما فى قوله { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [البقرة: 257] دل على الانوار ذكر الظلمات وتقديم ختم قلوبهم للايذان بانها الاصل فى عدم الايمان وتقديم حال السمع على حال ابصارهم للاشتراك بينه وبين قلوبهم فى تلك الحال. قالوا السمع افضل من البصر لانه تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر ولان السمع شرط النبوة ولذلك ما بعث الله تعالى رسولا اصم ولان السمع وسيلة الى استكمال العقل بالمعارف التى تتلقف من اصحابها{وعلى ابصارهم} جمع بصر وهو ادراك العين وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة وعلى العضوين وهو المراد ههنا لانه اشد مناسبة للتغطية {غشاوة} اى غطاء ولا تغشية على الحقيقة وانما المراد بها احداث حاله تجعل ابصارهم بسبب كفرهم لا تجتلى الآيات المنصوبة فى الانفس والآفاق كما تجتليها اعين المستبصرين وتصير كأنها غطى عليها وحيل بينها وبين الابصار ومعنى التنكير ان على ابصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس وهى غشاوة التعامى عن الآيات. قوله غشاوة مبتدأ مؤخر خبره المقدم قوله وعلى ابصارهم ولما اشترك السمع والقلب فى الادراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذى يمنع من جميع الجهات وادراك الابصار مما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة. قال فى التيسير انما ذكر فى الآية القلوب والسمع والابصار لان الخطاب كان باستعمال هذه الثلاثة فى الحق كما قال تعالى { أفلا تعقلون } } [البقرة:44] { أفلا تبصرون } [القصص: 72] { أفلا تسمعون } [القصص:71] { ولهم عذاب عظيم } [البقرة: 7] اى عقوبة شديدة القوة ومنه العظم والعذاب كالنكال بناء ومعنى يقال اعذب عن الشئ اذا امسك عنه وسمى العذاب عذابا لانه يمنع عن الجناية اذا تأمل فيها العاقل ومنه الماء العذب لما انه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فانه يزيده ويدل عليه تسميتهم اياه نفاخا لانه ينقخ العطش اى يكسره وفراتا لانه يرفته على القلب يعنى الفرات وهو الماء العذب مأخوذ من الرفت وهو قلبه وقيل انما سمى به لانه جزاء ما استعذ به المرؤ بطبعه اى استطابه ولذلك قالوا فذوقوا عذابى وانما يذاق الطيب على معنى انه جزاء ما استطابه واستحلاه بهواه فى الدنيا * والعظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكان العظيم فوق الكبير كما ان الحقير دون الصغير. قال فى التيسير عظيم اى كبير او كثير او دائم وهو التعذيب بالنار ابدا ثم عظمه باهواله وبشدة احواله وكثرة سلاسله واغلاله فتكون هذه الآية وعيدا وبيانا لما يستحقونه فى الآخرة وقيل هو القتل والاسر فى الدنيا والتحريق بالنار فى العقبى ومعنى التوصيف بالعظيم انه اذا قيس سائر ما يجانسه قصر عنه جميعه ومعنى التنكير ان لهم من الآلام نوعا عظيما لا يعلم كنهه الا الله عز وجل. فعلى العاقل ان يجتنب عما يؤدى الى العذاب الاليم والعقاب العظيم وهو الاصرار على الذنوب والاكباب على اقتراف الخطيئات والعيوب. قيل فى سبب الحفظ من هذه العقوبة التى هى الختم على الكيس فلا يمنعه عن حق ووضع الختم على اللسان فلا يطلق فى باطل قال النبى صلى الله عليه وسلم "ان هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل وما جلاؤها؟ قال تلاوة القرآن وكثرة ذكر الله وكثرة ذكر الموت" وامهات الخطايا ثلاث الحرص والحسد والكبر فحصل من هؤلاء ست فصارت تسعا الشبع والنوم والراحة وحب المال وحب الجاه وحب الرياسة فحب المال والرياسة من اعظم ما يجر صاحبه الى الكفر والهلاك – حكى – ان ملكا شابا قال انى لا اجد فى الملك لذة فلا ادرى أكذلك يجدة الناس ام انا اجده فقالوا له كذلك يجده الناس قال فماذا يقيمه قالوا يقيمه لك ان تطيع الله فلا تعصيه فدعا من كان فى بلده من العلماء والصلحاء فقال لهم كونوا بحضرتى ومجلسى فما رأيتم من طاعة الله فأمرونى وما رأيتم من المعصية فازجرونى عنها ففعل ذلك فاستقام له الملك اربعمائة سنة ثم ان ابليس اتاه يوما على صورة رجل وقال له من انت قال الملك رجل من بنى آدم قال لو كنت من بنى آدم لمت كما تموت بنوا آدم ولكنك اله فادع الناس الى عبادتك. فدخل فى قلبه شئ ثم صعد المنبر فقال ايها الناس انى اخفيت عليكم امرا حان اظهاره وهو انى ملككم منذ كذا سنة ولو كنت من بنى آدم لمت ولكنى اله فاعبدونى فاوحى الله الى نبى زمانه وقال اخبره انى استقمت له ما استقام لى فتحول من طاعتى الى معصيتى فبعزتى وجلالى لاسلطن عليه بخت نصر ولم يتحول عن ذلك فسلطه عليه فضرب عنقه وأوقر من خزينته سبعين سفينة من ذهب {من الناس} لما افتتح سبحانه وتعالى كتابه بشرح حاله وساق لبيانه ذكر الذين اخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى باضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بافواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم وهم اى المنافقون اخبث الكفرة وابغضهم الى الله لانهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعا واستهزاء ولذلك طول فى بيان خبثهم. قال القاشانى الاقتصار فى وصف الكفار المصرين المطبوع على قلوبهم على آيتين والاطناب فى وصف المنافقين فى ثلاث عشرة آية للاضراب عن اولئك صفحا اذ لا ينجع فيهم الكلام ولا يجدى عليهم الخطاب واما المنافقون فقد ينجع فيهم التوبيخ والتعبير وعسى ان يرتدعوا بالتشنيع عليهم وتفظيع شأنهم وسيرتهم وتهجير عادتهم وخبث نيتهم وسريرتهم وينتهوا بقبيح صورة حالهم وتفضيحهم بالتمثيل بهم وبطريقتهم فتلين قلوبهم وتنقاد نفوسهم وتزكى بواطنهم وتمضحل رذائلهم فيرجعون عما هم عليه ويصيرون من المستثنى فى قوله تعالى { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت لله المؤمنين أجرا عظيما } [النساء: 146]. والناس اسم جمع للانسان سمى به لانه عهد اليه فنسى قال تعالى { ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما } [طه: 115]. ولذلك جاء فى تفسير قوله تعالى { إن الإنسان لربه لكنود } [العاديات: 6] اى نساء للنعم ذكار للمحن وقيل لظهوره من آنس اى ابصر لانهم ظاهرون مبصرون ولذلك سموا بشرا كما سمى الجن جنا لاجتنانهم اى استتارهم عن اعين الناس وقيل هو من الانس الذى هو ضد الوحشة لانهم يستأنسون بامثالهم او يستأنس ارواحهم بابدانهم وابدانهم بارواحهم واللام فيه للجنس ومن فى قوله {من يقول} موصوفة اذ لا عهد فكأنه قال ومن الناس ناس يقولون اى يقرون باللسان والقول هو التلفظ بما يفيد ويقال بمعنى المقول وللمعنى المتصور فى النفس المعبرعنه باللفظ وللرأى وللمذهب مجازا ووحد الضمير فى يقول باعتبار لفظ من وجمعه فى قوله {آمنا} وقوله {وما هم} باعتبار معناها لان كلمة من تصلح للواحد والجمع او اللام فيه للعهد والمعهود هم الذين كفروا ومن موصولة مراد بها عبد الله بن ابى بن سلول واصحابه ونظراؤه من المنافقين حيث اظهروا كلمة الاسلام ليسلموا من النى عليه السلام واصحابه واعتقدوا خلافها واكثرهم من اليهود فانهم من حيث انهم صمموا على النفاق دخلوا فى عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس فان الاجناس انما تتنوع بزيادات يختلف فيها ابعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثانى {آمنا بالله} اى صدقنا بالله {وباليوم الآخر} والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر الى ما لا ينتاهى اى الوقت الدائم الذى هو آخر الاوقات المنقضية والمراد به البعث او الى ان يدخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار لانه آخر الايام المحدودة اذ لا حد وراءه وسمى بالآخر لتأخره عن الدنيا وتخصيصهم للايمان بهما بالذكر له ادعاء انهم قد حازوا الايمان من قطريه واحاطوا به من طرفيه وايذان بانهم منافقون فيما يظنون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق لان القوم كانوا يهودا وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر ايمانا كلا ايمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وان الجنة لا يدخلها غيرهم وان النار لن تمسهم الا أياماً معدودة وغيرها ويرون المؤمنين انهم آمنوا مثل ايمانهم وحكاية عبارتهم لبيان كمال خبثهم فان ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن ذلك ايمانا فكيف وهم يقولونه تمويها على المسلمين واستهزاء بهم فكان خبثا الى خبث وكفرا الى كفر {وما هم بمؤمنين} ما نائبة عن ليس ولهذا عقب بالباء اى ليسوا بمصدقين لانهم يضمرون خلاف ما يظهرون بل هم منافقون وفى الحكم عليهم بانهم ليسوا بمؤمنين نفى ما ادعوه على سبيل البت والقطع لانه نفى اصل الايمان منهم بادخال الباء فى خبر ما ولذا لم يقل وما هم من المؤمنين فان الاول ابلغ من الثانى. دلت الآية على ان الدعوى مردودة اذا لم يقم عليها دلائل الصحة قال قائلهم من تحلى بغير ما فيه فضح الامتحان ما يدعيه فان من مدح نفسه ذم ومن ذم نفسه مدح قالوا فرعون عليه لعنات الله { وانا من المسلمين } [يونس:90] فقيل وكنت من المفسدين وقال يونس عليه السلام { لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين } [الأنبياء: 87] فقيل له { فلولا انه كان من المسبحين } [الصافات: 143] قال الحافظ قدس سره خوش بود كر محك تجربه آيد بميان تاسيه روى شود هركه دروغش باشد
- حكى - ان شيخا كان له تلميذ يدعى انه امين والشيخ يعلم منه خلاف ذلك وهو يرد على الشيخ فى ذلك ويدعى الامانة ويطلب منه ان يكشف له سرا من اسرار الله تعالى فاخذ الشيخ يوما تلميذا من اصحابه وخبأه فى بيت وعمد الى كبش فذبحه والقاه فى عدل ودخل ذلك التلميذ المدعى فرأى الشيخ ملطخا بالدماء والعدل امامه والسكين فى يده فقال له يا سيدى ما شأنك فقال له غاظنى فلان يعنى ذلك التلميذ فقتلته يعنى التلميذ يعنى بقتله مخالفة هواه حتى لا يكذب الشيخ فتخيل التلميذ انه فى العدل فقال الشيخ هذه امانة فاستر على وادفن معى هذا المذبوح الذى فى هذا العدل فدفنه معه فى الدار وقصد الشيخ نكاية ذلك التلميذ وان يفعل معه ما يخرجه وجاء ابو ذلك المخبوء يطلب ابنه فقال له الشيخ هو عندى فمضى الرجل فلما كبر على الرجل نكاية الشيخ مشى الى والد ذلك المخبوء وأخبره ان الشيخ قتله ودفنه معه ورفع ذلك الى السلطان فتوقف السلطان فى ذلك الامر لما يعرفه من جلالة الشيخ وبعث اليه بالقاضى والفقهاء واخذ ذلك التلميذ يسب الشيخ ووقف الشهود حتى حضروا الى العدل فعاينوا الكبش وخرج التلميذ المخبوء وافتضح وندم حيث لا ينفعه الندم كذا فى الرسالة المسماة بالامر المحكم المربوط فيما يلزم اهل طريق الله من الشروط للشيخ الاكبر قدس سره الاطهر فظهر من هذا ان الاسرار لا توهب الا للامناء والانوار لا تفيض الا على الادباء {يخادعون الله} بيان ليقول فى الآية السابقة وتوبيخ لما هو غرضهم مما يقولون او استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق اليه الذهن كانه قيل مالهم يقولون ذلك وهم غير مؤمنين فقيل يخادعون الخ اى يخدعون وانما اخرج فى زنة فاعل للمبالغة وخداعهم مع الله سبحانه ليس على ظاهره لانه لا تخفى عليه خافية ولانهم لم يقصدوا خديعته بل المراد ما مخادعة رسوله على حذف المضاف او على ان معاملة الرسول معاملة الله من حيث انه خليفته فى ارضه والناطق عنه باوامره ونواهيه مع عباده ففيه رفع درجة النبى صلى الله عليه وسلم حيث جعل خداعه خداعه واما ان صورة صنعهم مع الله من اظهار الايمان واستبطان الكفر وصنع الله معهم من اجراء احكام المسلمين عليهم وهم عنده تعالى اخبث الكفار واهل الدرك الاسفل من النار استدراجا لهم وامتثال الرسول والمؤمنين امر الله تعالى فى اخفاء حالهم واجراء حكم الاسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنع المخادعين فتكون المخادعة بين الاثنين والخدع ان يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ليوقعه فيه من حيث لا يحتسب او يوهمه المساعدة على يريد هو به ليغتر بذلك فينجو منه بسهولة من قولهم ضب خادع وخدع وهو الذى اذا امر الحارش يده على باب حجره يوهمه الاقبال عليه فيخرج من بابه الآخر وكلا المعنيين مناسب للمقام فانهم كانوا يريدون بما صنعوا ان يطلعوا على اسرار المؤمنين فيذيعوها الى منابذيهم اى يشيعوها الى مخالفيهم واعدائهم وان يدفعوا عن انفسهم ما يصيب سائر الكفرة من القتل والنهب والاسر وان ينالوا به نظم مصالح الدنيا جميعا كأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الاعطاء {والذين آمنوا} اى يخادعون المؤمنين بقولهم اذا رأوهم آمنا وهم غير مؤمنين وهو عطف على الاول ويجوز حمله على الحقيقة فى حقهم فانه وسعهم كذا فى التيسير {وما يخدعون الا انفسهم} النفس ذات الشئ حقيقته وقد يقال للروح لان النفس الحى به وللقلب لانه محل الروح او متعلقة وللدم لان قوامها به وللماء ايضا لشدة حاجتها اليه والمراد هنا هو المعنى الاول لان المقصود بيان ان ضرر مخادعتهم راجع اليهم لا يتخطاهم الى غيرهم اى يفعلون ما يفعلون والحال انهم ما يضرون بذلك الا انفسم فان دائرة فعلهم مقصورة عليهم ومن حافظ على الصيغة قال وما يعاملون تلك المعاملة الشبيهة بمعاملة المخادعين الا انفسهم لان ضررها لا يحقيق الا بهم ووبال خداعهم راجع اليهم لان الله تعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفضحون فى الدنيا ويستوجبون العقاب فى العقبى: قال المولى جلال الدين قدس سره بازئ خود ديدى اى شطرنج باز بازئ خصمت ببين دور ودراز
وقيل يعاملهم على وفق ما عاملوا وذلك فيما جاء انهم اذا القوا فى النيران وعذبوا فيها طويلا من الزمان استغاثوا بالرحمن قيل لهم هذا الابواب قد فتحت فاخرجوا فيتبادرون الى الابواب فاذا انتهوا اليها اغلقت دونهم واعيدوا الى الآبار والتوابيت مع الشياطين والطواغيت قال تعالى { إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا } [الطارق: 15- 16] وفى الحديث "يؤمر بنفر من الناس يوم القيامة الى الجنة حتى اذا دنوا منها واستنشقوا رايحتها ونظروا الى قصورها والى ما اعد الله تعالى لاهلها نودوا ان اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع الاولون والآخرون بمثلها فيقولون يا ربنا لو ادخلتنا النار قبل ان ترينا ما اريتنا من ثواب ما اعددت لاوليائك فيقول ذلك اردت بكم كنتم اذا خلوتم بى بارزتمونى بالعظائم فاذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤن الناس وتظهرون خلاف ما تنطوى قلوبكم عليه هبتم الدنيا ولم تهابونى اجللتم الناس ولم تجلونى وتركتم للناس ولم تتركوا لى" . يعنى لاجل الناس فاليوم اذيقكم أليم عذابى مع ما حرمتكم يعنى من جزيل ثوابى كذا فى روضة العلماء وتنبيه الغافلين {وما يشعرون} حال من ضمير ما يخدعون اى يقتصرون على خدع انفسهم والحال انهم ما يحسون بذلك لتماديهم فى الغفلة والغواية جعل طوق وبال الخداع ورجوع ضرره اليهم فى الظهور كالمحسوس الذى لا يخفى الا على مؤوف الحواس وهذا تنزيل لهم منزله الجمادات وحط من مرتبة البهائم حيث سلب منهم الحس الحيوانى فهم ممن قيل فى حقهم بل هم اضل فلا يشعرون ابلغ وانسب من لا يعلمون. والشعور الاحساس اى علم الشئ علم حس ومشاعر الانسان حواسه سميت به لكون كل حاسة محلا للشعور والعظة فيه ان المنافق عمل ما عمل وهو لا يعلم بوبال ما عمل والمؤمن يعلم به فما عذره عند ربه ثم فى هذه الآية نفى العلم عنهم وفى قوله { وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } [آل عمران: 71]. اثبات العلم لهم والتوفيق بينهما انهم علموا به حقيقة ولكن لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا وهو كقوله عز وجل { صم بكم عمى } [البقرة: 18]. فكانوا ناطقين سامعين ناظرين حقيقة لكن لم ينتفعوا بذلك فكانوا كأنهم صم بكم عمى فذو الآلة اذا لم ينتفع بها فهو وعادم اللآلة سواء والعالم الذى لا يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء والغنى الذى لا ينتفع بماله فهو والفقير سواء فاثبات العلم للكفار الزام الحجة وذكر الجهل إثابت المنقضة بخلاف المؤمنين فان اثبات العلم لهم اثبات الكرامة وذكر الجهل تلقين عذر المعصية كذا فى التيسير. فعلى المؤمن ان يتحلى بالعلم والعمل ويجتنب عن الخطأ والزلل ويطيع ربه خالصا لوجهه الكريم ويعبده بقلب سليم وفى الحديث "ان اخوف ما اخاف عليكم الشرك الاصغر قالوا: وما الشرك الاصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء يقول الله تعالى يوم يجازى العباد باعمالهم اذهبوا الى الذين كنتم تراؤن لهم فى الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم خيرا" وانما يقال لهم ذلك لان عملهم فى الدنيا كان على وجه الخداع فيعاملون فى الآخرة على وجه الخداع كذا فى تنبيه الغافلين
{فى قلوبهم مرض فزادهم الله} زاد يجيئ متعدي كما فى هذه الآية ولازما كما فى قوله تعالى { فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } [الصافات: 147]. والمرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال اللائق به ويوجب الخلل فى افاعليه ويؤدىالى الموت ومجاز فى الاعراض النفسانية التى تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصى وغير ذلك من فنون الكفر المؤدى الى الهلاك الروحانى لانها مانعة عن نيل الفضائل او مؤدية الى زوال الحياة الحقيقة الابدية والآية الكريمة تحتملها فان قلوبهم كانت متألمة تحرفا على مافات عنهم من الرياسة وحسدا على ما يرون من ثبات أمد الرسول عليه السلام واستعلاء شأنه يوما فيوما فزاد الله غمهم بما زاد فى اعلاء امره ورفع قدره وان نفوسهم كانت مؤوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبى عليه السلام ونحوها فزاد الله ذلك بان طبع على قلوبهم لعلمه تعالى بانه لا يؤثر فيها التذكير والانذار وبازدياد التكاليف الشرعية وتكرير الوحى وتضاعف النصر لانهم كلما ازداد التكاليف بنزول الوحى يزدادون كفرا وقد كان يشق عليهم التكلم بالشهادة فكيف وقد لحقتهم الزيادات وهى وظائف الطاعات ثم العقوبة على الجنايات فازدادوا بذلك اضطرابا علىاضطراب وارتيابا على ارتياب ويزدادون بذلك فى الآخرة عذابا على عذاب قال تعالى { زدناهم عذابا فوق العذاب } [النحل: 88]. والمؤمنون لهم فى الدنيا ما قال {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} وفى العقبى ما قال {ويزيدهم من فضله}. قال القطب العلامة امراض القلب اما متعلقة بالدين وهو سوء الاعتقاد والكفر او بالاخلاق وهى اما رذائل فعلية كالغل والحسد واما رذائل انفعالية كالضعف والجبن فحمل المرض اولا على الكفر ثم على الهيآت الفعلية ثم على الهيآت الانفعالية ويحتمل ان يكون قوله تعالى {فزادهم الله} دعاء عليهم * فان قلت فكيف يحمل على الدعاء والدعاء للعاجز عرفا والله تعالى منزه عن العجز قلت هذا تعليم من الله عباده انه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم لانهم شر خلق الله لانه اعد لهم يوم القيامة الدرك الاسفل من النار وهذا كقوله تعالى { قاتلهم الله } [التوبة: 30] { ولعنهم الله } [التوبة: 68] {ولهم} فى الآخرة {عذاب اليم} يصل المه الى القلوب وهو بمعنى المؤلم بفتح اللام على انه اسم مفعول من الايلام وصف به العذاب للمبالغة وهو فى الحقيقة صفة المعذب بفتح الذال المعجمة كما ان الجد للجاد فى قولهم جدجده وجه المبالغة افادة ان الالم بلغ الغاية حتى سرى المعذب الى العذاب المتعلق به {بما كانوا يكذبون} الباء للسببية او للمقابلة وما مصدرية داخلة فى الحقيقة على يكذبون وكلمة كانوا مقحمة لافادة دوام كذبهم وتجدده اى بسب بكذبهم المتجدد المستمر الذى هو قولهم آمنا الخ وفيه رمز الى قبح الكذب وسماجته وتخييل ان العذاب الاليم لاحق بهم من اجل كذبهم نظرا الى ظاهر العبارة المتخيلة لانفراده بالسببية مع احاطة علم السامع بان لحوق العذاب بهم من جهات شتى وان الاقتصار عليه للاشعار بنهاية قبحه والتنفير عنه. والكذب الاخبار بالشئ على خلاف ما هو به وهو قبيح كله. واما ما روى ان ابراهيم عليه السلام (كذب ثلاث كذبات) فالمراد به التعريض لكن لما شابه الكذب فى صورته سمى به واحدى الكذبات. قوله { فقال إنى سقيم } [الصافات: 89] اى ذاهب الى السقم او الى الموت او سيسقم لما يجد من الغيظ فى اتخاذهم النجوم آلهة قاله ليتركوه منالذهاب معهم الى عيد لهم حتى يخلوا سبيله فيكسر اصنامهم. والثانية قوله { بل فعله كبيرهم } [الأنبياء: 63]. هذا على الفرض والتقدير على سبيل الالزام كانه قال لوكان الها معبودا وجب ان يكون قادرا على ان يفعله فاذا لم يكن قادرا عليه يكون عاجزا والعاجز بمعزل عن الالوهية واستحقاق العبادة فكيف حالكم فى العكوف عليه فهذا القول تهكم بعقولهم. وثالثها قوله فى حق زوجته سارة رضى الله عنها (هذه اختى) والمراد منه الاخوة فى الدين وغرضه منه تخليصها من يد الظالم لان من دين ذلك الملك الذى يتدين به فى الاحكام المتعلقة بالسياسة لا يتعرض الا لذوات الازواج لان من دينه ان المرأة اذا اختارت الزوج فالسلطان احق بها من زوجها واما اللاتى لا ازواج لهن فلا سبيل عليهن الا اذا ارضين. واما قوله { هذا ربى } [الأَنعام: 76] فهو من باب الاستدراج وهو ارخاء العنان مع الخصم وهو نوع من التعريض لان الغرض منه حكاية قولهم كذا فى حواشى ابن تمجيد. واعلم ان الكذب من قبايح الذنوب وفواحش العيوب ورأس كل معصية بها يتكدر القلوب وابغض الاخلاق انه مجانب للايمان يعنى الايمان فى جانب والكذب فى جانب آخر مقابل له وهذا كناية عن كمال البعد بينهما وفى الحديث "مالى اراكم تتهافتون فى الكذب تهافت الفراش فى النار كل الكذب مكتوب كذبا لا محالة الا ان يكذب الرجل فى الحرب فان الحرب خدعة او يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما او يحدث امرأته ليرضيها" مثل ان يقول لا احد احب الى منك وكذا من جانب المرأة فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء وفى معناها ما أداها اذا ارتبط بمقصود صحيح له او لغيره لكن هذا فى حق الغير واما فى حق نفسه فالصدق اولى وان لزم الضرر وأعلم أن المراد بالكذب فى الحقيقة الكذب فى العبودية والقيام بحقوق الربوبية كما للمنافقين ومن يحذو حذوهم ولا يصح الاقتداء بارباب الكذب مطلقا ولا يعتمد عليهم فانهم يجرون الى الهلاك والفراق عن مالك الاملاك - روح البيان في تفسير القرآن لإسماعيل حقي
_________________ أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما (ﷺ)
|