البحر المديد في تفسير القرآن المجيد سورة الحشر - سورة من الأية 20 إلى الأية 24 بسم الله الرحمن الرحيم
• لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ • لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ • هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ • هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ • هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
{لا يستوي أصحابُ النار} الذي نسوا الله فاستحقُّوا الخلود في النار {وأصحابُ الجنة} الذين اتقوا الله، فاستحقُّوا الخلود في الجنة، {أصحابُ الجنة هم الفائزون} ، وهذا تنبيه وإيقاظ وإيذان بأن غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم، على إيثار العاجلة واتباع الشهوات، كأنهم لايعرفون الفرق بين الجنة والنار، والبَوْن العظيم بين أصحابها، وأنَّ الفوز العظيم لأصحاب الجنة، والعذاب الأليم لأصحاب النار، فمِن حقهم أن يعلموا وينتبهوا له، كما تقول لمَن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة مَن لا يعرفه؛ لتنبهه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطُّف. واستدل بالآية على أنّ المسلم لا يُقتل بالكافر، وأنَّ الكفار لا يملكون أموال المسلمين، ورُدَّ بأنَّ عدم الاستواء إنما هو في الأحوال الأخروية، لا الدنيوية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} ، أن تشهدوا معه سواه {ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ} من المعرفة، فإنّ الشهود يوم القيامة على قدر المعرفة هنا، " واتقوا الله " فلا تؤثروا عليه سواه، {ولا تكونوا كالذين نسوا الله} أي: ذكره والتوجه إليه، " فأنساهم أنفسهم " أي: غيّبهم عن إصلاحها وعلاجها، حتى ماتت في أودية الخواطر والشكوك، " أولئك هم الفاسقون " الخارجون عن الحضرة المقدسة. " لا يستوي أصحاب النار " أي: نار القطيعة والحجاب " وأصحاب الجنة " أي: جنة المعارف، " أصحاب الجنة هم الفائزون " بكل مطلوب، الناجون من كل مرهوب. يقول الحق جلّ جلاله: {لو أنزلنا هذا القرآن} العظيم الشأن، المنطوي على فنون القوارع، {على جبلٍ} من الجبال، مع كونه علَماً في القسوة وعدم التأثير بما يُصادمه، {لَرَأيته خاشعًا} ؛ خاضعًا متصدِّعًا متشققًا {من خشية الله} أي: من شأن القرآن وعظمته أنه لو جُعل في الجبل تمييز، ونزل عليه، لخضع وتطأطأ وتشقق من خشية الله، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن، وقوة تأثير ما فيه من المواعظ، كما ينطق به قوله تعالى: {وتلك الأمثالُ نضربها للناس لعلهم يتفكرون} ، وهي إشارة إلى هذا المثل، وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل. والمراد: توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشُّعه عند تلاوة القرآن، وتدبُّر قوارعه وزواجره. ---الإشارة: قال ابن عطاء: أشار إلى فضله على أوليائه وأهل معرفته، أنَّ شيئًا من الأشياء لا يقوم لصفاته، ولا يبقى مع تجلَّيه، إِلاّ مَن قوّاه الله على ذلك، وهو قلوب العارفين. هـ. قلت: وهذا في تجلِّي الصفات، فما بالك بتجلِّي الذات؟ ! فلا يطيقه إلاّ قلوب الراسخين المقربين، وقال العارف الورتجبي: لو كانت الجبالُ مقامَ الإنسان في الخطاب لتدكدكت الجبال، وتذرّرت، وانفلتت الصخور الصم، وانهدمت الشامخات العاليات، في سطوات أنواره، وهجوم سنا أقداره، وذلك بأنها عرفت حقيقةً، وأقرت بالعجز عن حمل هذا الخطاب العظيم حيث قال سبحانه: {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72] . قلت: وكأنه يُشير إلى أن تجلي صفة كلامه من جملة الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبيْنَ أن يحملنها، وهذه الأمانة هي تجلِّي الذات وتجلِّي الصفات، فلم يطق حملها إلاَّ الإنسان الكامل، وهو العارف الحقيقي، أما عن تجلِّي الذات فقد أشفقت مِن حمله السمواتُ والأرضُ والجبالُ، حسبما تقدّم. أما تجلِّي الصفات؛ فذكر هنا أنه لو تجلّت للجبل لخضع وتشقّق ولم يطق حملها، فلو زالت حُجب الغفلة عن القلوب لذابت من هيبة تجلِّي صفة كلامه وخطابه تعالى، إلاَّ أنَّ الله تعالى قَوَّى قلوب أوليائه حتى أطاقوا شهود ذاته، وسماع خطابه، بعد انقشاع الحُجب عن قلوبهم. ثم قال الورتجبي: ولا تخض يا أخي في بحر كلام المتكلمين أنَّ الجبال ليس لها عقل، فإِنَّ هناك أرواحًا وعقولاً لا يعلمها إلاَّ الله {يَآجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سَبَأ: 10] ولولا هناك ما يقبل الخطاب لما خاطبها، فإنَّ ببعض الخطاب ومباشرة الأمر تهبط من خشية الله، قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] والخشية: مكان العلم بالله وبخطابه. هـ. قلت: أسرار المعاني القائمة بالأواني سارية في الجمادات وغيرها، فهي عاقلة عالمة في باطن الأمر. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: {هو اللهُ الذي لاَ إِله إِلاّ هُوَ} وحده {عَالِمُ الغيبِ والشهادة} أي: ما غاب عن الحس من الأسرار القديمة، وما حضر له من الأجرام الحسية. قال الورتجبي: أي: عالم بالمعلومات الغيبية قبل وجودها، وبعد وجودها، لا يزيد علمه بالغيب علمه بالعلانية، لا علمه بالعلانية علمه بالغيب. هـ. وتقديم الغيب على الشهادة لتقدُّمه في الوجود، وتعلُّق العلم القديم به، أو: المراد بالغيب: المعدوم، وبالشهادة: الموجود، أو السر والعلانية، {هو الرحمنُ الرحيم} أي: الرحمن بجلائل النِعم، والرحيم بدقائقها، أو: الرحمن بنعمة الإيجاد، والرحيمُ بنعمة الإمداد. {هو اللهُ الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ، كرر لإبراز الاعتناء بأمر التوحيد، {الملكُ} ؛ المتصرف بالإطلاق، الذي لا يزول مُلكه أبدًا، {القدوسُ} ؛ البليغ في النزاهة عما لا يليق به. وقُرىء بالفتح، وهي لغة فيه، {السلام} ذو السلامة من كل نقص، أو: الذي يَسلم الخلق من ظلمه، أو: ذو السلام على أوليائه يوم القيامة، {المؤمنُ} ؛ واهب الأمْن، أو: المؤمن مِن عذابه مَن أطاعه، أو المصدِّق لعباده إذا وحّدوه، أو: المصدِّق للرسل بالمعجزات، {المهيمِنُ} ؛ الرقيب الحافظ لكل شيء مُفَيْعِل، من: الأمن، بقلب همزته هاء، {العزيزُ} ، الغالب الذي لا يُغلب، {الجبَّارُ} الذي جَبَرَ خلقه على ما أراد، أو: جبر أحوالهم، أي: أصلحها، {المتكبّر} الذي تكبّر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصًا، أو: البليغ الكبرياء والعظمة. {سبحان الله عما يشركون} ، نزَّه ذاته عما يصفه به المشركون إثر تعداد صفاته التي لا يمكن أن يُشارَك في شيءٍ منها أصلاً. {هو اللهُ الخالقُ} ؛ المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته، {البارىء} ؛ الموجد لها بريةً من التفاوت؛ وقيل: المميِز بعضها من بعض بالأشكال المختلفة، {المُصَوِّر} ؛ الموجد لصورها وكيفيتها كما أراد. قال الغزالي: الخالق من حيث إنه مُقدِّر، البارىء من حيث إنه مُوجد، المصوِّر، مِن حيث أنه مُصَوِّر صور المخترعات أحسن ترتيب، ومُزيّنها أحسن تزيين. هـ. قلت: وحاصل كلامه: أن الخالق يرجع للإرادة، والبارىء للقدرة، والمُصَوِّر للحكمة، والأحسن: أن يُقال: إنّ الخالق: المخترع للأشياء من غير أصل، البارىء: المهيىء كلَّ ممكن لقبول صورته، فهو من معنى الإرادة؛ إذ متعلّقه التخصيص، المُصَوِّر: المُعطي كل مخلوق ما هيىء له من صورة وجوده بحكمته، فهو معاني اسمه " الحكيم ".
له الأسماءُ الحسنى} لدلالتها على المعاني الحسنة، وتقدم عدها في آخر الإسراء. {يُسبح له ما في السمواتِ والإرض} ؛ ينطق بتنزيهه عن جميع النقائص تنزيهًا ظاهرًا، {وهو العزيزُ} لا يُغلب، {الحكيمُ} الذي لايمكن الاعتراض عليه في شيء من تقديراته. ختم السورة بما بدأ به من التسبيح. --- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سألت حبيبي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم؟ فقال: " عليك بآخر الحشر، فأَكْثِر قراءته "، فأعدتُ عليه، فأعاد عليّ فأعدت عليه، فأعاد عليّ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَن قَالَ حِينَ يُصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السيمع العليم، من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكّلَ اللهُ سبعين ألف ملك يُصلُّون عليه حتى يُمسي، فإذا مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومَن قالها حين يُمسي كان بتلك المنزلة" رواه الترمذي. -----وأسند ابن جزي حديثًا إلى عبد الله بن مسعود: أنه قال: قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهيت إلى آخر الحشر، قال: " ضع يدك على رأسك " قلت: ولِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: " أقرأني جبريلُ القرآنَ، فلما انتهيت إلى آخر الحشر، قال: ضع يدك على رأسك يا محمد، قلت: ولمَ ذاك؟ قال: إنَّ الله تبارك وتعالى افتتح القرآن فضرب فيه، فلما انتهى إلى آخر الحشر، أمر الملائكة أن تضع يدها على رؤوسها، فقالت: يا ربنا ولِمَ ذلك؟ قال: لأنه شفاء من كل داء إلا السام " وسمعتُ من شيخنا الفقيه الجنوي أنه حديث ضعيب، يعمل به الإنسان وحده، فإذا كان مع الناس تركه، لئلا تعتقد العامة أنه مندوب أو واجب. هـ. الإشارة: قد ذكرنا في تفسير الفاتحة الكبير كيفية التعلُّق والتخلُّق والتحقُّق بهذه الأسماء. وقال الورتجبي: بيّن بقوله: " الأسماء " أنَّ لذاته النعوت والأسامي القديمة المقدسة عن الإشراك والإدراك، فلما ظهر بهذه الأوصاف أظهر أنوار صفاته في الآيات، وألبس أرواح نوره الأرواح والأشباح والأعصار والأدهار والشواهد والحوادث، فسبّحه الكلُّ بألسنة نورية غيبية صفاتية، لقوله: {يُسبح له ... } الآية، قلت: أرواح نوره هي أسرار ذاته اللطيفة السارية في الأشباح والأرواح والجمادات وجميع الموجودات، التي بها قامت. قال: ثم بيّن أنه منزّه بتنزيهه عن تنزيههم وإدراكهم وعلمهم بقوله: {وهو العزيز الحكيم} العزيز عن الإدراك، الحكيم في إنشاء الأقدار. تعالى الله عما أشار إليه الواصف الحدثاني واللسان الإنساني. هـ
_________________
مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم
|