وهي سلسلة مقالات كتبها فضيلة الأستاذ الدكتور / محمد عبد الفضيل القوصي - عليه رحمة الله - وزير الأوقاف الأسبق ونائب رئيس جامعة الأزهر الأسبق.وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
العلمانية .. في ثوب التنوير (1-2).
ما تكاد رياح الدعوة إلى العلمانية تخبو ، حتى تنبعث من مرقدها من جديد متدثرة بأردية مستحدثة ، وأزياء متجددة ، قد تختلف في مرآها ومظهرها ، لكن الجوهر المستكن وراء تلك المرائي والمظاهر يظل ثابت الملامح متصلب القسمات.
بيد أنه ينبغي لنا أن نعترف منذ البدء أن العلمانية حين ارتدت ثوبها الأخير ، وهو ثوب التنوير لدى بعض سدنته قد بدت أكثر حنكة ، وأمهر أسلوباً ، ومن ثم أعمق احتياجا إلى مزيد من التأمل والتحليل.
لقد كان دعاة العلمانية من قبل يسفرون عن وجوههم علانية ودون مواربة ، فالعلمانية لديهم تعني - ببساطة - فصل الدين عن مناحي الحياة ، وعزله عن واقع البشر ، فحسب الدين - فيما يشتهون - أن يقبع في ركن قصي من أركان الحياة البشرية ، الفردية منها والاجتماعية ، وأن يغلق على نفسه دور العبادة ويستغرق في طقوسها ، ولا بأس عند أكثر العلمانيين سماحة أن تهتز له المشاعر ، أو تهفو إليه العواطف ، أو تخفق له القلوب.
بل لا بأس - عند أكثر العلمانيين حذقاً ومهارةً - من أن تنبعث في دائرة الدين اتجاهات متحجرة تدعي الانتساب إلى السلف الصالح ، ثم تستخدم هذا الانتساب المدعى في صرف اهتمام جماهير الأمة - تارة - صوب قضايا كلامية عقدية دقيقة ، ما كان ينبغي لها أن تغادر قاعات الدرس ومجالس العلماء ، وتارة صوب توجيه اهتمام هذه الجماهير إلى فرعيات فقهية لا تكاد تنفذ من المظهر إلى الجوهر في جمود فكري منغلق ، وشكلية حرفية متزمتة ضيقة.
لا بأس من ذلك كله - لدى أولئك العلمانيين - متى توقفت خطى دور الدين عند هذه الحدود ، أما أن يضطلع الدين بدوره في تنظيم حياة البشر ، أو ضبط واقعهم أو توجيه مناشط سلوكهم أو بعث الحيوية الحضارية في عروقهم فذلك كله - عند العلمانيين جميعاً - هو المحذور المنكور.
يتبع إن شاء الله.