بعد أن استقدم "محمد عليّ" جحافل السانسيمونيين إلى مصر تحت دعاوى مختلفة ، وبعد أن بدأت معاول الهدم عملها في تغيير الهوية المصرية ، وضعت في عهد حفيده الخديوي "إسماعيل" اللبنة الأخيرة في تلك المرحلة.
تمهيداً للانتقال إلى المرحلة النهائية وهي تسليم كامل الدولة المصرية لأيدي الاحتلال الإنجليزي لأكثر من 70 سنة.
تم فيها ما تم بما نعيش تبعاته حالياً ولأمد لا يعلمه إلا الله.
أنشب الاحتلال الانجليزي مخالبه وأنيابه في كامل مفاصل الدولة ومختلف القطاعات ليصل بها إلى ما خطط له طغمة اللئام من القابعين في الظلام.
وشهد عهد إسماعيل على ما شهد من فتح أبواب الدولة أمام الماسونية والماسون علناً وجهاراً نهاراً.
وشهد عهد إسماعيل تكبيل الدولة وخنقها بالديون تمهيداً لإيقاعها بكل يسر وسهولة.
وشهد عهد إسماعيل تلاطم أمواج من الفتن والدعوات الهدامة وانسياب المستشرقين في أكناف الدولة.
وكل له غرض وكل له سبيل والهدف واحد هو إضاعة تلك الدولة ومسخ هويتها.
عهد إسماعيل هو من أعطى صك الوجود لمدارس النخر والهدم في مختلف مؤسسات الدولة الدينية والاقتصادية والسياسية على السواء.
عهد إسماعيل هو بداية النفق الذي أدخلت إليه الدولة المصرية بأكملها.
عهد أعطى المبرر لوجود دعوات النخر والهدم للتراث وتقديمها في ثوب التجديد والحداثة.
ومهما حاولت الوصف فالواقع أبلغ من أي بيان وأصدق من سوق الكلام.
فهذا عرض لبعض ملامح هذا العصر وكيف تم فيه وبه تلميع وجوه وإعطائها خق الوجود - كمدرسة الأفغاني - وكيف تاهت فيه البلاد بين هؤلاء وأولئك من مستشرقين ومغفلين وأباطرة المال العالمي وسماسرة الشعوب وتجار الدم.
وإجمالاً بين كل متربص لئيم وخائن أثيم ، وبين وأحمق جاهل وغافل ذاهل.
فلنتابع هذه النقول :
كل ما تعانيه مصر الآن من جراء الإحتلال البريطاني وكل ما عانته منه في سبعة وأربعين عامًا مضت, وكل ماستعانيه منه إلى أن يحصل على استقلالها التام, مرتبط بالحوادث التي كانت مصر مسرحًا لها من عهد الخديوي اسماعيل باشا إلى أن احتل الإنجليز القاهرة في 14 سبتمبر سنة 1882 . وذلك ان هذه الحوادث كانت مقدمات أو عللا والحالة التي نحن فيها الآن نتائج لها أو معلولات, وقد كان هذا داعيًا لأن نعرف تلك الحوادث معرفة بحث ودراسة لنعرف كيف ومن أين ابتدأنا ولكننا مع الأسف لا نعرف عنها إلا صورة مبهمة يذهب مرور الأيام بمالها في أذهاننا من الأثر فليس فينا الآن من درسها ووضع فيها كتابا باللغة العربية مع أن الأوربيين وضعوا فيها عشرات من الكتب ذات القيمة فرنسية وانجليزية وألمانية وايطالية.
وحتى هذه الكتب التي وضعها الأوربيون, والتي لا ريب في أن بعضا منها كتب رجال اشتركوا بأنفسهم في تلك الحوادث فكتابتهم تعتبر مستندا يقابل بغيره من المستندات لاستخراج الحقائق التاريخية كما أن بعضا آخر كتبه رجال لم يشتركوا بأنفسهم في الحوادث ولكنهم استطاعوا أن يصلوا إلى المستندات الرسمية الخاصة بها في وزارات الدول فكتابتهم تعتبر مستندا آخر, هذه الكتب لم ينقل منها إلى اللغة العربية على ما أعلم إلا كتاب وضعه اللورد كرومر بعد خروجه من مصر وكتاب آخر وضعه مستر تيودور روثستين ونشرته في سنة 1923 لجنة التـأليف والترجمة والنشر.
وقد يكون السبب في قلة اهتمامنا بدرس تلك الحوادث وبتعريب ما كتبه الأوربيون فيها أن أشخاصًا من الذين ساهموا فيها بنصيبٍ كبير كانوا أحياء إلى زمنٍ قريب, وبعض هؤلاء الأشخاص لم تكن لهم سلطة يخشى جانبها كعرابي ومحمود سامي ورياض ولكن شخصًا آخر هو الخديوي توفيق باشا كانت له ولابنه عباس باشا من بعده سلطة تخشى وهو محور دارت حوله الحوادث في سنتي 1881 و 1882 فكان من الصعب على الباحث المصري أن يجتنبه أو يجتنب الحكم على موافقة .
وهو إذا كتب هذا الحكم إما أن يكتبه كما يوحيه إليه ضميره وحينئذ قد يكون ضد توفيق باشا فيستهدف لغضب ذوي السلطة واما أن يكتبه مصبوغًا بصبغة المداراة واذن يكون بحثه غير برئ ويفقد قيمته.
وهذا الذي يقال في التأليف يقال في التعريب لأن كل الذين قرأوا المؤلفات الأوربية التي وضعت في هذا الموضوع يعلمون أن أصحاب هذه الؤلفات اختلفت آراؤهم في مواقف توفيق باشا فكان منهم من بررها ومنهم من خطأها ولكنهم جميعًا لم تخل كتابتهم عنه من غمز جارح.
ولعل كتاب اللورد كرومر ((مصر الحديثة)) وكتاب اللورد ملنر ((انجلترا في مصر)) هما وحدهما اللذان خلوا من مثل هذا الغمز.
ولكن هذا السبب ليس عذرًا صحيحاً, وهو إن صح لا يكون إلا لوقت , وفي رأيي أن هذا الوقت انقضى وأن الأوان قد آن لان يدرس الباحثون منا تلك الحوادث التي كانت مصدر ما نحن فيه الآن من المتاعب .
ولهذا اخترت ((للبلاغ)) أن يمهد سبيل هذا البحث بأن يعرب بعض المؤلفات الأوربية التي تعتبر مستندات فعرب مترجموه كتاب ((التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر)) :
Secret history of the inglish occupation of egypt
ومؤلفه مستر ألفريد سكاون بلنت الذي شهد بنفسه حوادث سنتي 1881 و 1882 وكان فيها متصل بعرابي وجرى شطر كبير منها على يديه .
وكتاب ((المسألة المصرية)) ــ La Question Egyptienne ــ ومؤلفه مسيو دي فريسينيه الذي كان رئيسا لوزارة فرنسا حينما ضرب الانجليز الإسكندرية واحتلوا القاهرة.
وكتاب ((النار والسيف في السودان))
Fire and sword in the sudan
ومؤلفه سلاطين باشا الذي بقى في أسر المهدي إلى أن أعيد فتح السودان في سنة 1897.
وقد نشرت هذه الكتب متوالية في ((البلاغ)) ورأيت اليوم أن أجمعها في كتب ليتيسر اقتناؤها وحفظها .
وهذا كتاب ((التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر )) ولها وسيليه الآخران.
مستر ا.س.بلنت
نشأ مستر بلنت مؤلف ((التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر )) في أسرة عريقة في الغنى والجاه وبدأ حياته السياسية وهو لا يزال فتيا فعين في الثامنة عشرة من عمره ملحقاً بالوكالة الإنجليزية في أثينا ثم بقى يتنقل في المناصب بعد ذلك اثنتي عشرة سنة في الوكالات والسفارات الإنجليزية في طول أوروبا وعرضها إلى أن اعتزل خدمة الحكومة في سنة 1859 .
وكان قد تزوج حفيده الشاعر المعروف اللورد بيرون فشرع يطوف معها في البلاد الشرقية فطاف في تريكيا سنة 1873 وفي الجزائر سنة 1874 وزار مصر أول مرة سنة 1875 .
وفي هذه الزيارة رأى الفلاحين وجال بينهم جولة أرته ما كان فيه من البؤس والبلاء (1) بسبب الديون التي كان الخديو اسماعيل باشا قد أوقع البلاد فيها والضرائب الباهظة العديدة والتي كانت تجنى منهم بالكرباج لسداد تلك الديون.
وغادر مستر بلنت القاهرة في ربيع سنة 1876 فزار بلاد العرب وأنشأ علاقات بينه وبين بعض القبائل فيها ثم عاد في السنة نفسها إلى انجلترا.
وفي صيف سنة 1877 رجع يطوف في الشرق فزار حلب وانحدر في الفرات إلى بغداد وعقد في رحلته هذه علاقات مودة مع القبائل التي مر بها في طريقه.
وفي سنة 1878 ذهب إلى دمشق وعرف فيها السير ادوار ماليت وكان اذ ذاك سكرتيرا للسفارة الانجليزية في الأستانة وكان يطوف مثله في سوريا.
والسير ماليت هذا هو الذي كان قنصلا عاما لدولته في القاهرة في سنتي 1881 و 1882 فهو الذي جرت على يديه كل حوادث هاتين السنتين في مصر.
ثم انتقل مستر بلنت إلى نجد ثم الهند ثم كر راجعا إلى عدن وفيها علم بعزل الخديو اسماعيل في سنة 1879 ثم واصل رحلته فسار إلى السويس ومنها إلى الاسكندرية ثم عاد إلى بلاده
عاد وقد أخذت تساوره أفكار كثيرة عن الشرق والشرقيين وتملكته فكرة استقلال العرب فصار يعمل لها ويحدث فيها رجال السياسة في بلاده.
وكانت هذه الفكرة تبعث في الشرق إلى الشرق كلما استقر في انجلترا فلم يكد يستقر فيها عاما بعد رحلته تلك حتى أبحر في 4 نوفمبر سنة 1880 إلى مصر فلما وصل إلى القاهرة عرف فيها بعض شيوخ الأزهر وتتلمذ لواحد منهم هو الشيخ محمد خليل كي يدرس عليه اللغة العربية واتصل بمريدي السيد جمال الدين الأفغاني وزار الشيخ محمد عبده في حي الأزهر يوم 28 يناير سنة 1881 فانعقدت بينهما من ذلك اليوم أواصر صداقة استمرت ربع قرن وذكر مستر بلنت هذا اليوم في كتابه فقال :
((يجب أن أميزه على سائر الأيام لأنه فتح لي باب صداقة بقيت الآن ربع قرن مع رجل من أحسن وأحكم الرجال العظام )) .
وبعد أن أقام في القاهرة زمنا ذهب إلى جدة فأقام فيها أياما ثم عاد منها إلى مصر فسوريا وفي شتاء سنة 1881 أي في الوقت الذي كانت فيه نار الحركة العرابية قد اشتعلت عاد مستر بلنت إلى مصر فاتصل بعرابي وبكل مؤيديه من الضباط والنواب وبغيرهم من الوزراء ورجال السياسة المصريين.
وكان السير ماليت قنصلا عاما لانجلترا في القاهرة فلما عرف صداقته للعرابيين طلب منه أن يقنعهم بأن ((مذكرة الدولتين (2))) لا ترمي إلى السوء فقبل مستر بلنت أن يقوم بهذه بالمهمة .
وهو يقول أنه أداها كارهاً لأنه لم يكن مقتنعًا بما كان يحاو أن يقنع به غيره ويقول أيضاً أنه لم ينجح في وساطته.
واستمر يعاون ((الحزب الوطني)) الذي كان مؤلفاً اذ ذاك برياسة عرابي فنشر برنامجه في جريدة التيمس ثم لما رأى أن الحوادث أخذت في مصر دوراً خطيراً.
وأن السير ماليت يستخدم الكذب والتشوية في محاربة الوطنيين المصريين سافر إلى انجلترا ليطلع مستر غلادستون رئيس الحكومة البريطانية ورجال السياسة البريطانيين والرأي العام البريطاني على الحقيقة وليحاول ردهم عن سياسة العداء.
وكان له سكرتير شرقي اسمه صابونجي فأرسله إلى مصر ليوافيه بأخبارها .
فبقى بلنت يسعى في لندن فخاطب مستر غلادستون ونشر كتابات كثيرة في الصحف البريطانية وخاصة في التيمس وكان مما نشرته له التيمس في يونيو سنة 1882 خطابات حارب فيها السياسة التي يجري عليها السير ماليت والسير أوكلند كولفن (العضو الإنجليزي في المراقبة الثنائية التي كانت مضروبة على مالية الحكومة المصرية اذ ذاك) وفضح ما تحتوي عليه هذه السياسة من تعمد التشويه وإفساد الجو السياسي وذكر أنهما استعانا به حينما كان يحسن الظن بهما فتوسط لهما عند الوطنيين المصريين غير مرة ولكنه وقف بعد ذلك على دسائسها فاشمأز واضطر أن ينفصل منهما.
فما كادت التيمس تظهر بهذه الخطابات حتى ثارت ضجة حولها في مجلس اللوردات في جلسة 23 يونيو (3) واضطر السير اوكلند كولفن أن يصرح في أول يوليو بأنه لم يكلف السير بلنت البتة ((بمفاوضات رسمية)) وإنما كان يقول أنه توسط بناء على طلب ماليت وكولفن وساطة غير رسمية.
واستمر بلنت يجاهد فتارة يخيل إليه أنه ناجح وتارة يرى الفشل بارزاً أمام عينيه إلى أن ضربت الاسكندرية وانتهت معركة التل الكبير وسلم عرابي وزملاؤه أنفسهم للجيش البريطاني فأخذ يهتم بالدفاع عنهم أمام قضاتهم وعين لهم محاميين بريطانيين على نفقته ونفقة جماعة من أصدقائه اكتتبوا لهذا الغرض.
وبلغ ما دفعه للمحاميين قريباً من ثلاثة آلاف جنيه.
يتبع إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
(1) صفحات 13 و 17 و 19 من كتابه هذا.
(2) مذكرة فرنسا وانجلترا للخديو توفيق باشا في 7 يناير سنة 1882 وقد أرسلتاها على أثر اجتماع مجلس النواب المصري وقالتا فيها أنهما تؤيدان سلطة الخديو ولا تريان سلاماً لمصر إلا بتأييد هذه السلطة.وكان الغرض منها تحدي مجلس النواب . وسيأتي الكلام عنها.
(3) كتاب ((الحالة الدولية لمصر والسودان)).
La situation interriationale de legypte et du soudau jules cocheris لمؤلفه جول كوشيري صفحة 146.