يواجه رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” تحديًا أو بالأحرى مأزقًا كبيرًا قد تمتد تأثيراته لتطال عدة مستويات سواء في الداخل أو الخارج، وذلك على خلفية تصاعد المواجهات العسكرية في منطقة “تيجراي”. ويبدو أن مشروع “آبي أحمد” الإصلاحي الداعي للسلام قد تبخر بفعل مساعيه لتأمين وجوده في السلطة، حيث ينظر “آبي أحمد” إلى استمرار ومواصلة العمليات العسكرية باعتبارها ضرورة، ومبررًا للهجوم على المناطق الشمالية لإثيوبيا، معتبرًا أنه رد على هجمات شنها عناصر التيجراي على معسكر القيادة الشمالية للجيش، وهو ما يمثل تجاوزًا للخطوط الحمراء.
وفي ظل تصاعد الاقتتال المسلح، اتخذ “آبي أحمد” عددًا من الإجراءات لفرض مزيد من الهيمنة والسيطرة، إذ قامت حكومته بحظر الإنترنت وفرض حالة الطوارئ لمدة 6 أشهر، كما أدخل عددًا من التعديلات في المراكز الحساسة بالدولة من بينها إقالة قائد الجيش ومدير المخابرات ووزير الخارجية، بينما اعتبر البعض أن هذا الإجراء ناجم عن رفض هذه القيادات لمبدأ الحسم العسكري وتوسيع المواجهة ضد التيجراي، وعليه فقد عمل “آبي أحمد” على استبدال هذه المجموعة بأخرى مؤيدة لتوظيف الأداة العسكرية لبسط الهيمنة والنفوذ.
تأثيرات متعددة
يبدو أن الساحة الإثيوبية وما تشهده من تحولات تشير جميعها إلى أن غياب الاستقرار وتنامي ملامح الفوضى والهشاشة ستصبح السمة الغالبة والمسيطرة على المشهد خلال الفترات القادمة، الأمر الذي يمكن تحديد ملامحه كالتالي:
توترات قد تصل لمواجهة مفتوحة: لم تكن المواجهة العسكرية الدائرة بين القوات الفيدرالية الإثيوبية وعناصر التيجراي مفاجِئَة، بل تشكلت على خلفية خلاف سياسي ودستوري، بدأت ملامحه في يونيو 2020 عندما وافق المجلس الفيدرالي الإثيوبي على تأجيل الانتخابات العامة مع تمديد صلاحيات الحكومة وجميع الهيئات المعنية بسبب تفشي جائحة كورونا، وقد رفض التيجراي هذا الإجراء باعتباره غير دستوري وبدأت في التشكيك في شرعية حكومة “آبي أحمد”، وامتد الأمر إلى إجراء انتخابات إقليمية (9 سبتمبر) في تحدٍّ واضح للحكومة الفيدرالية التي اعتبرت أن ذلك بمثابة إعلان حرب.
ومن هنا بدأت الخلافات السياسية والإشكاليات الدستورية تتحول رويدًا رويدًا إلى مواجهة وصلت إلى حد الاشتباك المسلح (4 نوفمبر). وقد سبق هذا التصعيد رفض إقليم التيجراي تسليم جنرال بالجيش الإثيوبي مهامه –كنائب لقائد القوات- في إقليم تيجراي (29 أكتوبر)، بالإضافة إلى ما أعلنه رئيس التيجراي (2 نوفمبر) عن استعداد بلاده للحرب على خلفية تحركات عسكرية وتعبئة كان يقوم بها الجيش الإثيوبي. ومن ثم فقد تُمهد هذه التحولات لحرب مباشرة ومواجهة مفتوحة بين الطرفين في ظل استخدام المعدات والأسلحة الثقيلة والقصف الجوي من قبل الحكومة الفيدرالية، حيث أفاد عدد من التقديرات إلى قيام الجيش الإثيوبي بشن عشرات الغارات الجوية في عدد من المناطق داخل إقليم التيجراي، ما أسفر عن رفع التكلفة البشرية للصراع، إذ تُشير عدد من التقارير إلى مقتل نحو 500 من قوات التيجراي، فضلًا عن مئات من جانب الجيش الإثيوبي.
وتشير تلك التطورات إلى تنامي حدود واتساع نطاق المواجهة، الأمر الذي قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، في ظل الحشود والتعبئة من قبل الطرفين، علاوة على امتلاك عناصر التيجراي خبرة قتالية كبيرة وعناصر شبه عسكرية مدربة بشكل جيد على فنون القتال، فضلًا عن القدرات التسليحية والبشرية، إذ تشير التقديرات إلى أن هذه القوات تتشكل من نحو 250 ألف عنصر مُسلح، ما يعني أن المواجهة القائمة قد تطول لتتحول إلى صراع دموي كبير ما لم يتم احتواء الموقف.
تصدع في المؤسسة العسكرية: يمكن أن تصل تداعيات الصراع إلى عمق المؤسسة العسكرية والجيش الإثيوبي، إذ قد تؤدي هذه الأحداث إلى انقسام كبير داخل القوات المسلحة على أساس عرقي، حيث يرى البعض أن الأجواء مُهيَّأة لحدوث انشقاق من قبل الضباط والعناصر النظامية المنتمين لعرقية التيجراي وانضمامهم لقوات الإقليم ضد القوات الفيدرالية، وقد يتسبب ذلك حال حدوثه في تغيير معادلات القوى، خاصةً إذا ما تمكّنت قوات التيجراي من فرض سيطرتها على القيادة الشمالية -مقرها التيجراي- التي تضم أكثر من نصف أفراد الجيش ومعداته العسكرية والأسلحة الثقيلة، كما أن لديها نسبة كبيرة من الضباط التيجرانيين، ومن المتوقع ألا تدعم هذه العناصر أية تدخل ضد الإقليم في حال اتساع نطاق المواجهة.
نزاع عرقي وانفجار داخلي محتمل: يمكن أن يؤدي التصعيد بين الطرفين إلى نزاع عرقي وانفجار داخلي كبير، في ظل طبيعة وتكوين المجتمع الإثيوبي الذي يتشكل من أكثر من 80 عرقية لكل منها مطالب وتطلعات، ويمكن أن يفتح هذا الصراع وحالة السخط والهشاشة التي تعاني منها الدولة المجال أمام صراعات عرقية في عددٍ من المناطق، خاصة في ظل مطالب بعض الجماعات العرقية بالانفصال والحكم الذاتي. وقد شهدت إثيوبيا مؤخرًا عددًا من التوترات العرقية على خلفية الاعتقالات والتضييق الذي يحدث ضد الأمهرة، فضلًا عن تجدد الصراع بين الأمهرة (28% من السكان) والتيجراي (نحو 7% من السكان) بالشمال الإثيوبي، علاوة على الاشتباكات بين قومية عفار والصوماليين، كما لا يمكن تجاهل محاولة انقلاب أمهرة (يونيو 2019) ضمن سياق حالة الاحتقان والاستقطاب العرقي الذي تعيشه أديس أبابا منذ وصول “آبي أحمد” إلى السلطة. وعليه، قد تتسع المواجهات الحالية إلى صراع عرقي أكبر ينتقل بــ”إثيوبيا” إلى مربع الدولة الفاشلة غير القادرة على إدارة التنوع العرقي.
تصاعد المعاناة الإنسانية: قد تؤثر الاشتباكات الحالية وتصاعد حدة العنف إلى زيادة التكلفة المرتبطة بالأمن الإنساني، إذ قد تؤدي حالة الطوارئ المفروضة وإعاقة الوصول برًّا وجوًّا لإقليم التيجراي إلى إلحاق الضرر بنحو 600 ألف شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية مختلفة، من بينهم ما لا يقل عن 400 ألف يعانون من انعدام الأمن الغذائي داخل الإقليم. من ناحية أخرى، قد يتسبب الصراع في موجة كبيرة من النزوح، حيث حذرت الأمم المتحدة من أن 9 ملايين شخص مهددون بالنزوح على خلفية استمرار الصراع، وقد يؤثر الصراع على جهود مكافحة تفشي الجراد، حيث تُعتبر منطقة التيجراي ضمن الأقاليم الإثيوبية المعرضة لموجة جديدة من الجراد وفقًا لعدد من التقديرات، ومن ثم يمكن أن يؤثر التصعيد العسكري القائم على تعطيل أنشطة مقاومة انتشار العدوى ومن ثم التأثير على الأمن الغذائي والإنتاجية الزراعية، وهو ما قد يفاقم الأوضاع الإنسانية، خاصة وأن تفشي الجراد قد دمر نحو 3.5 ملايين قنطار من المحاصيل الزراعية في إثيوبيا وفقًا لوزارة الزراعة الإثيوبية.
توترات خارجية
قد لا تقتصر تأثيرات التصعيد الراهن على الداخل فحسب، بل قد تمتد إلى خارج الحدود الإثيوبية وذلك عبر مجموعة من الملامح، التي يمكن إجمالها فيما يلي:
أولًا- تدويل الصراع: وذلك من خلال دخول إريتريا على خط المواجهة، إذ قد ترى إريتريا أن مصلحتها في استعادة منطقة “بادمي” تكمن في تقديم مزيد من الدعم لـ”آبي أحمد” في مواجهة التيجراي باعتبارهم العدو التاريخي لها، حيث خاضت إريتريا وإثيوبيا حربًا طاحنة بين عامي 1998 و2000 في ظل سيطرة التيجراي على مقاليد الأمور. وفي هذا الإطار، وجه زعيم إقليم تيجراي اتهامًا مباشرًا لإريتريا بإرسال جنودها وتقديم الدعم العسكري للقوات الفيدرالية. كما لفت عدد من التقارير إلى أن الصراع قد يجذب عددًا من القوى الخارجية خاصة أصحاب الانتشار والنفوذ العسكري في منطقة القرن الإفريقي، حيث تمتلك الولايات المتحدة والصين قواعد عسكرية في تلك المنطقة، وفي حال تأثرت هذه القواعد بتلك التوترات فقد تتدخل هذه القوى لحماية وتأمين مصالحها.
ثانيًا- زعزعة الأمن السوداني: يمكن أن تنعكس التوترات في إثيوبيا على أمن السودان عبر تسرب المقاتلين واللاجئين الهاربين من ويلات القتال إلى الداخل السوداني، فضلًا عن احتمال تزايد فرص التهديدات الناجمة عن انتشار السلاح والتهريب والاتجار بالبشر وغيرها من التهديدات الأخرى، ما يفسر قيام السودان بإغلاق حدوده مع إثيوبيا، سواء عبر ولاية القضارف أو كسلا.
ثالثًا- تنامي نشاط التنظيمات الإرهابية: يمكن أن تقود حالة الفوضى واستمرار القتال إلى إنعاش التنظيمات الإرهابية في القرن الإفريقي، وعلى رأسها حركة الشباب الصومالية، خاصة في حال قيام إثيوبيا بنقل قواتها من المناطق القريبة من الحدود الصومالية لتقديم الدعم للعناصر المشتبكة مع إقليم التيجراي، وهو ما أكده تقرير لـ”الأمم المتحدة” التي اعتبرت أن هذا الأمر حال حدوثه سيجعل المنطقة أكثر عرضة لتوغلات محتملة لحركة الشباب.
إجمالًا، يبدو أن أديس أبابا على أعتاب مرحلة جديدة من التحولات والتغيرات الدراماتيكية، حيث تذهب كافة المؤشرات في اتجاه الصراع الممتد في ظل رفض كل طرف لشرعية الطرف الآخر، مع تزايد مؤشرات اللا يقين وسط حالة التعبئة والحشد المضاد، كما يمكن أن تمثل هذه الحالة مقدمة لأزمات أوسع في الداخل الإثيوبي، خاصة في ظل تصاعد الاحتجاجات والتمرد والصراع العرقي في الآونة الأخيرة، ومع ذلك تبقى فرص التهدئة والوساطات الدولية والإقليمية قائمة. إلا أن فرص عدم الاستقرار وتنامي حالة الفوضى قد تكون السمة الغالبة على المشهد الداخلي في الفترات القادمة، خاصة في ظل الإخفاقات المتتالية لآبي أحمد وحكومته في احتواء الغضب الشعبي المتصاعد.
https://www.ecsstudies.com/12245/