منذ أول لحظة تدرك فيها حواسنا وجود آبائنا ستبدو لنا الحياة كما هي عليه ظاهرياً.
وبدون ذنب منا ومنهم يبدأ آباؤنا عملية برمجتنا وفقا لرؤيتهم الخاصة للحياة، هذه الرؤية التي تشربوها من خلال التعليم والبيئة الاجتماعية والعمل ووسائل الإعلام.
ثم يتابع التعليم الرسمي من خلال المدارس والكليات والجامعات المنهجية بتزويدنا بالأفكار التي تعتبر وجهات النظر والتفسيرات "الصحيحة" المتعلقة بالعلوم وبالتاريخ وبالمجتمع، وهي الأفكار ذاتها التي تضمن لنا اجتياز الامتحانات النهائية وتمنحنا القدرة على السير قدماً في الحياة.
أما إتباع وجهات النظر المخالفة لما نتعلّمه رسمياً ورفض التعليم المنهجي التقليدي، فيؤدي وفقاً للاعتقاد السائد إلى تناقص فرص الفرد في الحصول على عمل ووظيفة محترمة وإلى الشقاء في الحياة نتيجة للفقر.
إن كل فهمنا للعالم والأحداث الدولية الجارية نستسيغها من خلال وسائل الإعلام، ثم يتم تحليلها وصياغتها من قبل الصحافيين والخبراء المزعومين.
لتصبح أفكارهم ببساطة هي أفكارنا وقناعاتهم هي قناعاتنا خاصة وأنه لم يتوفر لدينا أي بدائل أخرى للمعلومات.
ولنتغلب على مشاكل مجتمعاتنا اليومية والصعوبات التي نواجهها فقد وكلناها إلى النواب المنتخبين وزعماء وأشخاص مختارين، وقد سلمنا إمكانياتنا في صنع القرار لهؤلاء القلة الذين هم بعيدين جداً عنا وعن همومنا اليومية.
يتم تحديد تجربتنا في الحياة وفقاً للإطار العام الذي يحكم مجتمعنا.
هذا الإطار الذي نجهل من رسمه ومتى وكيف ولمصلحة من، ورغم أنه لا يناسبنا إلا أن علينا الالتزام به دون تذمّر وتقصير.
إن الأكثرية الساحقة من سكان العالم هم مجرد خراف تتبع القطيع بسعادة وهناء.
تتبع القطيع بشكل أعمى ودون أن تسأل عن الاتجاه، وكل ما تنشره وسائل الإعلام وتدعي بأنه مرغوبٌ به من قبل الجماهير يصبح فجأة، وبشكل لا يصدق، مرغوباً من قبل الجماهير فعلاً.
وأيا تكن ممتلكات ومنجزات جارنا فإنها تصبح موضوع حسد كبير ونتلهّف للوصول إلى ما نعتقد أنه لنا ومن حقنا.
وعندما يعرض علينا حل لمشكلة ما، أي مشكلة تكون عقبة أمام سيرنا في إتباع آخر الصرعات والعيش الملتوي المترف والرغيد، فإننا نقبله بدون مناقشة، ونتوقف عن البحث عن حل يناسبنا ويناسب وضعنا.
غالباً ما تكثر المشاكل، لكن لا بد من أن تأتي بعدها الحلول.
هذه هي سنة الحياة.
لكن الغالبية العظمى تختار أسهل الحلول وأكثرها مكسباً، أما الأقلية الباقية المعارضة لهذا الوضع البائس، فتُداس تحت الأقدام خلال السباق المجنون الهائج نحو نيل آخر المقتنيات المثيرة والصرعات التقنية السخيفة.
لقد أصبحنا مجتمعات استهلاكية تماماً.
وكما الخراف التي تتبع القطيع بشكل أعمى ودون أن تسأل عن الاتجاه ننقاد من خلال بوابات الزريبة كي نسرح وفق مزاج الراعي، إلى أن تحين الرحلة الأخيرة، ومرة أخرى وبدون تردد ومع سعادتنا بمعرفة أننا من ’ضمن الحشد’، نسير عبر البوابات، لكن هذه المرّة يكون السير نحو المسلخ!
هذا الإطار العام الذي يحكم الشعوب لم يُبنى بالصدفة ولم يظهر بشكل عرضي.
إنه سياسة مقصودة تم تطبيقها باستمرار عبر قرون.
حتى أنها اليوم في هذا العصر الحديث، أصبحت أكثر رسوخاً وأكثر سوءاً من العصور السابقة.
حيث المبدأ الأساسي أصبح توجّب اقتصار طموح الفرد إلى أن يكون جزءاً صغيراً من ماكينة الاستهلاك العالمية التي تقودها المصارف والشركات الغربية والمتعددة الجنسيات.
وجميع الاعتبارات الأخرى تدور في فلك دافع رئيسي هو الربح.
ومن الواضح أن أصحاب النفوذ (من سياسيين، ومصرفيين، ومديرو الشركات، وأباطرة الإعلام ) كانوا، وبحسب تعريفهم، "ناجحين" في ظل هذا النظام القائم، لذا فإن لديهم مصلحة في المحافظة على الوضع الراهن مهما كلف الأمر.
وهذا النظام الفكري الملتوي يصيغ جميع نواحي حياتنا من خلال التربية والإعلام والرعاية الصحية والأحداث الرياضية والثقافية والدين.... إلخ.