[b][size=200]رد الهجــوم المسمــوم
عن أبى هريرة المظلوم
(تفنيد كتاب "أبو هريرة" لشرف الدين الموسوى)
د. إبراهيم عوض
أبو هريرة (21ق. هـ- 59هـ/ 602- 679م) هو الصحابى الجليل عبد الرحمن بن صخر الدوسي، ويرجع نسبه إلى قبيلة الأزد، ونشأ يتيمًا في الجاهلية. أما بالنسبة إلى إسلامه فالمرجح أنه أسلم على يد الطفيل بن عمرو الدوسي، الذي وفد على النبي قبل الهجرة. ولم يلحق أبو هريرة رضي الله عنه بالرسول إلا عند الانتهاء من فتح خيبر. وفى هذه الرحلة صحب أبا هريرة ثمانون ممن أسلموا من قبيلة دوس، وصادف مجيئهم عودة المهاجرين من الحبشة، وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فخصهم النبي بشيء من غنائم خيبر. ولزم، رضى الله عنه، الرسول وأصبح عريف أهل الصُّفّة في مسجد النبي عليه السلام، وكان حريصا على التقاط كل ما يتحدث به رسول الله. وقد عرف قدره الخلفاءُ، فجعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاملا على البحرين، وحاول عليٌّ كرم الله وجهه أن يستعمله فأبى، ثم ولاه معاوية المدينة. وقد أُثِر عن الإمام الشافعي قوله: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره. وكان أكثر مقام أبي هريرة رضي الله عنه في المدينة، وتوفي في العقيق، وأثر عنه 5374 حديثًا مرويًّا عن رسول الله (بشىء من التصرف عن مادة "أبو هريرة" فى "الموسوعة العربية العالمية").
وقد تعرض أبو هريرة من قبل بعض ذوى الانحرافات العقدية والأهواء والعصبيات المذهبية العمياء إلى هجوم أرعن قرأت بعضا من ثماره المرة فى الفترة الأخيرة. وآخر ما قرأت من هذا القبيل الكتاب الذى سوده شرف الدين الموسوى الشيعى بمداد الحقد الأسود وحاول أن ينال فيه من الرجل الكريم. وتصادف أن عثرت على ذلك الكتاب فى أحد المواقع الشيعية منذ ليال، فقرأته فقلت لنفسى: لا بد من كتابة كلمة تنبه القراء إلى الدوافع القميئة التى وراء هذا الكتاب وما به من أخطاء بل خطايا. ومن يطالع الكتاب سوف يهوله ما يعج به من كراهية للصحابة كلهم تقريبا لا لأبى هريرة وحده، وإن كان نصيب أبى هريرة هو النصيب الأكبر لأن الكتاب إنما يدور عليه هو بالذات. ففى زعم الموسوى أن الصحابة ليسوا كلهم عدولا موثوقين، بل فيهم المنافقون ومجهولو الحال وأهل الجرائم والوضاعون (ص7)، ناسيا أننا لا نقول عن المنافقين مثلا إنهم أصحاب رسول الله، وإلا فليقل لنا الموسوى: متى وأين قيل عن ابن أبى سلول أو أحد من أشباهه إنه واحد من صحابته صلى الله عليه وسلم؟ كذلك هل كان من أصحابه صلى الله عليه وسلم من كان من أهل الجرائم؟ فمن هو يا ترى؟ إننا لسنا ممن يقدس الصحابة أو يقول بعصمتهم من الخطإ، لكن ثمة فرقا بين خطإ وخطإ، إذ لم نعرف عن أحد ممن نقول عنهم إنهم من أصحابه صلى الله عليه وسلم من زنى أو سرق أو ارتد. قد نقول إن فلانا لقى رسول الله وتحدث معه مثلا، إلا أننا لا نقول بالضرورة إنه من أصحاب رسول الله. وأيا ما يكن الأمر فأين الدليل على أن أبا هريرة كان منافقا أو مجهول الحال أو من أهل الجرائم؟ هل كان النبى عليه السلام ليقربه منه كل هذا التقريب ويختصه بأشياء لم يقلها أمام غيره ويعتمد عليه فى إفشائها بين الصحابة لو كان من هؤلاء أو أولئك؟ ويستمر المؤلف الشيعى فيقول (فى نفس الصفحة): "الواجب تطهير الصحاح والمسانيد من كل ما لا يحتمله العقل من حديث هذا المكثار". لكن هل هو جاد فى تطبيق هذا المقياس؟ إذن فعليه أن يشتغل بأحاديث الشيعة التى يزعمون أنها من رواية أهل البيت، وكثير جدا جدا جدا منها ينبغى إسقاطه، قبل أن يفكر فى الاقتراب من الأحاديث التى رواها أبو هريرة. ثم هل من اللائق وصف أبى هريرة بـ"هذا المكثار" بما فى ذلك من تحقير؟
وهو يسمى "أهل السنة" بـ"الجمهور" (فى نفس الصفحة)، فهل هذا مما يصح استخدامه لهم؟ أقول هذا رغم أنى لا أعد نفسى من التابعين لأى مذهب، بل أنا مسلم وكفى. ثم إنه لا يكتفى بهذا، بل يتهمهم بأنهم "بالغوا في تقديس كل من يسمونه صحابيا حتى خرجوا عن الاعتدال فاحتجوا بالغث منهم والسمين واقتدوا بالطلقاء وأمثالهم ممن سمع النبي أو رآه اقتداء أعمى، وأنكروا على من يخالفهم في هذا الغلو وخرجوا في الإنكار عن كل حد من الحدود". فهل معاوية مثلا ممن ينبغى تكذيبهم، وقد اتخذه النبى كاتبا لوحيه، ولم يثبت أنه خان الأمانة؟ ثم لقد تزوج النبى بأخته، فهو يمتّ له عليه السلام برباط المصاهرة فوق رباط الإسلام! ولم يقل فيه النبى شيئا يمس إيمانه أو خلقه على رغم توافر الدواعى لذلك حسب مزاعم الشيعة. فما معنى كل هذا؟ إننا نحب عليا ونفضله على معاوية، لكننا لا نسىء إلى معاوية رغم وضعنا له فى الترتيب بعد علىٍّ، رضى الله عن الاثنين. ولو كان كل من اختلف مع من هو أفضل منه ينبغى أن يدان ويحكم عليه بالخروج من الدين وبِصِلِىّ النار لخربت الدنيا كلها ولم يخرج أحد سليما من الإدانة. ثم إننا لو آخذنا معاوية على قلبه الحكم من الشورى إلى الملك العضوض فليس هو وحده الذى صنع هذا، بل الشيعة أعرق منه فى ذلك وأحرى بالمؤاخذة، إذ هو فعلها لا عن دعوى دينية كما فعل الشيعة حين جعلوا وراثة الحكم فى الهاشميين دينا لا يُقْبَل الإسلام إلا به، بل سياسةً ليس إلا، فضلا عن أن الدولة الأموية لم تكن لتدوم إلى الأبد، أما الشيعة فجعلوا من الإيمان بحق على وذريته فى حكم المسلمين على الدوام ركنا ركينا فى الإسلام لا يتم الإسلام إلا به. فليست خطورة ما صنع العاهل الأموى إذن تضارع خطورة مزاعم الشيعة.
ويلاحظ القارئ الكريم أننى جعلت الموازنة هنا بين معاوية والشيعة لا بينه وبين علىٍّ، إذ لا أتصور ولو للحظة أن عليا، كرم الله وجهه، كان يؤمن بأن الحكم ينبغى أن يكون مقصورا عليه إلى يوم القيامة هو وذريته دون المسلمين أجمعين، لا لشىء إلا لكونه ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم إيماننا أنه أفضل من معاوية كما قلنا ونقول وسنقول دائما أبدا، مثلما نقول إن الحسين رضى الله عنه أفضل من يزيد بما لا يقاس. إلا أن المشكلة فى أمر الحسين هى أن المصلحين الكرام النبلاء الطيبين من أمثاله، رضى الله عنه وأرضاه، يظنون أنهم ما داموا يعملون من أجل مصلحة الناس فسوف يهب الناس فى التو واللحظة ملبين دعوتهم إلى الإصلاح بمجرد أن تقرع هذه الدعوة آذانهم، ناسين أن الجماهير قد تعشق مستبديها وجلاديها ومصاصى دمائها وتكره اتباع من يجتهدون فى إصلاح أحوالها باذلين كل ما يملكون من نفس ونفيس فى هذا السبيل حتى لو كانت ثمرة ذلك هى رميهم فى السجون وتعليقهم على أعواد المشانق. ولقد غررتْ شيعة الحسين به أيما تغرير، ثم سرعان ما انكشفت أمام عينيه الحقيقة المرة وتبين له أن مناصرتهم إياه لا تعدو أن تكون كلاما مزوقا مما يصدق عليه قول العامة: "يا كلام الليل يا مدهونا بالزبد، يطلع عليك النهار فتسيح". لقد تركوه لمصيره المأساوى الفاجع ليقتله المجرمون الأوباش ويقطعوا رأسه، لعنهم الله ولعن من أمر بهذا أو رضى به أو شمت مجرد شماتة، ولعن الله أيضا كل من ضحك على ابن الزهراء وجعله يرمى بنفسه فى المهالك تطلعا لتصحيح الحال المائل، ثم حين جد الجِدّ ونظر حوله إذا بالمخادعين المنافقين يذوبون من يده كما يذوب فص الملح فى الماء! إننى، رغم لعنى لمن قتله وحز رأسه وباهى بذلك أو رضى به، أرى أن اللعن الأول والأكبر ينبغى أن ينصب على رؤوس أولئك المخادعين الذين انقلبوا بعدما وقعت الفأس فى الرأس يبكون سبط رسول الله ويلطمون وجوههم ويضربون صدورهم بسلاسل الحديد مما لا يقدم ولا يؤخر، فضلا عن أن هذا العمل لا يليق إلا بالبرابرة المتخلفين. ولسنا نقول هذا تعفية على ما فعله القتلة المباشرون، فهؤلاء قد وصفناهم بأنهم أوباش مجرمون ولعناهم لعنا كبيرا، بل نقوله فضحا للأوضاع الزائفة التى تخدع الشرفاء الطيبين قليلى الخبرة بالحياة وبالجماهير.
وعلى كل حال فقد قامت دولة الفاطميين فى المغرب ومصر والشام واستمرت وقتا طويلا، فهل كان انتسابها إلى فاطمة رضى الله عنها رضى واسعا بمانع لها من ارتكاب المظالم والمفاسد شأن غيرها من الدول فى ذلك الوقت، ودعنا من انحرافاتها العقيدية واختلال عقل الحاكم بأمر الله وسلوكه وغير ذلك؟ إن الـحُكْم هو نشاط بشرى يجرى عليه ما يجرى على كل أنشطة البشر من صلاح أو فساد، واستقامة أو اعوجاج. يستوى فى هذا أن يكون الحاكم من ذرية على وفاطمة أو لا يكون، إذ لا عصمة لأحد. كما أن صلاح الحكم إنما يعتمد بالدرجة الأولى على يقظة الرعية ومنافحتها عن حقوقها واستعدادها لفداء تلك الحقوق بالغالى والرخيص، وإلا فعلى الحكم العفاء، ولن ينفع حينئذ أن يكون متوليه منتسبا إلى أشرف الشرفاء. هذه هى القضية بكل صراحة واختصار، وبغير ذلك نكون كمن ينفخ فى قربة مقطوعة.
ويقول الموسوى عما نُسِب إلى أبى هريرة من أحاديث نبوية (ص9): "بين أيدينا الآن من هذه الملاحظات ألوان: بعضها يمس الطبائع في نواميسها وفطراتها، وبعضها متناقض متداحض، وبعضها خارج على قواعد العلم المشتقة من صلب الدين، وكثير منها تزلف إلى بني أمية أو إلى الرأي العام في تلك الايام، وبعضها خيال أو خبال، وهي بجملتها خروج على أصول الصحة في كل معانيها". ومما ساقه من شواهد على ذلك قوله (ص10): "فمن بلاياه (أى من بلايا أبى هريرة) أن ملك الموت كان قبل موسى يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه موسى ففقا عينه، وأرجعه على حافرته إلى ربه أعور! فكان بعد هذه الحادثة يأتي الناس خفيا! ومنها ذلك الجراد الذهبي المتراكم يتساقط على أيوب عليه السلام وهو يغتسل، فجعل يحثى منه في ثوبه. ومنها مجىء الشيطان إليه في صورة رجل في ثلاث ليالي متوالية ليسرق لعياله وأطفاله الجوعى من طعام كان أبو هريرة موكولا إليه حفظه في خرافة عجيبة. ومنها حديثه إذ كان، فيما زعم، مع العلاء في أربعة آلاف فأتَوْا خليجا من البحر ما خاضه أحد قبلهم، ولا يخوضه أحد بعدهم، فأخذ العلاء بعِنَان فرسه فسار على وجه الماء، وسار الجيش وراءه. قال أبو هريرة: فوالله ما ابتلّ لنا قدم ولا خف ولا حافر! ومنها أحاديث تناول فيها الحق تبارك وتعالى فصوَّره في أشكالٍ تعالى الله عز وجل عنها علوا كبيرا، كحديثه في أن الله خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعا في سبعة أذرع عرضا. وهذا افتتان في خيال طريف في تصوير الله تعالى وآدم ضمَّنه أدبا بارعا وتعاليم إن ننسبها إلى الدين الاسلامي نجد فيها إغرابا يثير فينا الضحك والبكاء في آن واحد. وله أحاديث عني فيها بالانبياء عليهم السلام فوصفهم بما تجب عصمتهم منه. وحسبك منها حديثه إذ وصف أهوال القيامة فصور الناس يفزعون إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى ابراهيم ثم إلى موسى ثم إلى عيسى عليهم السلام في لجلجة لم تعد عليهم بطائل لأن هؤلاء الانبياء (ع) حجبت، على زعم أبي هريرة، شفاعتهم بما فرض لهم هذا الرجل من الذنوب التي غضب الله بها عليهم غضبا بكرا فذا ما غضب مثله قبله ولن يغضب مثله بعده. وأخيرا كانت الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله. وَىْ! كأن أبا هريرة لم يجد سبيلا إلى تفضيل النبي صلى الله عليه وآله إلا بالغض من سلفه أولى العزم عليهم السلام. وحديثه المتضمن نسبة الشك إلى خليل الله ابراهيم عليه السلام إذ قال: "ربِّ، أرني كيف تحيي الموتى؟" في كلام جعل رسول الله صلى الله عليه وآله أحق بالشك من ابراهيم، وجعل يوسف أفضل من النبي بالصبر والأناة، ولم يسلم فيه لوط من التفنيد إذ قال: "أو آوِى إلى ركنٍ شديدٍ". وحديثه المشتمل على نقض سليمان حكم أبيه في أسطورة مثلت متداعيتين على ولد قضى به داود للكبرى فقال سليمان: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل! هو ابنها! فقضى به للصغرى. والتناقض بين نبيين في حكم خاص من أحكام الله تعالى لا يتفق ومباني العقائد الاسلامية الصحيحة. وأطرف ما في هذه الاسطورة حَلِف أبي هريرة أنه لم يكن سمع في حياته بـ"السكين" إلا يومئذ وأنهم ما كانوا يقولون إلا "الـمُدْية"...إلخ".
لقد روى أبو هريرة عن الرسول الأكرم آلاف الأحاديث الأخرى فى مختلف مجالات الحياة، وهذه الأحاديث تنضح بأمارات العبقرية النبوية، فكيف يتجاهل الموسوى كل تلك الآلاف التى رواها صحابينا الجليل من حديثه صلى الله عليه وسلم ولا يذكر له إلا تلك التى يظن أنها تسىء إليه؟ وهذا لو قبلنا أنها أحاديث خاطئة أولا، وأن أبا هريرة رضى الله عنه هو الذى يتحمل وزر ما فيها من خطإ ثانيا. ومن ذا الذى يا ترى فى دماغه عقل وفهم ويمكنه الإقدام على اتهامه رضى الله عنه بهذا؟ ونقرأ فى ترجمة أبى هريرة رضى الله عنه فى الطبعة الجديدة من "The Encyclopaedia of Islam: دائرة المعارف الإسلامية" أن من رَوَوْا عنه قد بلغوا 800، فلماذا نحمّله هو الخطأ إن ثبت خطأ شىء مما نُسِب إليه من حديث، ونعفى الذين يأتون بعده فى سلسلة الإسناد أو نسكت فلا نقول إن المسؤول عن ذلك هو مَنْ صَنَعَ هذه السلسة صنعا؟ لقد كان الرجل مخلصا فى إسلامه، ولم يكتف بالدخول فى دين محمد عليه السلام، بل ظل وراء أمه حتى أقنعها باعتناقه هى أيضا، فكيف يصح أن نهاجمه ونتهمه فى صدقه وإخلاصه ودينه؟
ولقد وجدتُ روبسون كاتب ترجمة أبى هريرة فى "دائرة المعارف الإسلامية" المذكورة يدفع عنه اتهام سبرنجر قائلا ما قلته قبل قليل من أن من الممكن جدا أن يكون من رَوَوُا الأحاديث باسمه هم الذين اختلقوا الخاطئ منها. أما الرواية المنسوبة إلى أبى هريرة من أنه لما شكا النسيان إلى النبى عليه السلام أمره أن يبسط رداءه... إلخ فقد كان روبسون أحكم وأعقل حين قال إن من المستحيل التحقق من صدقها أو زيفها، بخلاف الموسوى الذى حكم عليها وعلى الصحابى الكريم بالكذب قولا واحدا دون تردد ولا مثنوية. قال روبسون: "There is a story, given in slightly different forms, in which he explains why he transmitted more traditions than others. He says that while others were occupied with their business he stayed with Muhammad, and so he heard more than they. When he complained that he forgot what he heard, Muhammad told him to spread out his cloak while he was speaking and draw it round himself when he had finished. Abu Hurayra did so, and thereafter forgot nothing he heard the Prophet say. He had to defend himself against suspicions regarding his traditions; but whether this is genuine, or has merely been invented for the purpose of overcoming the suspicions of people at a later period, it is impossible to prove."
وقد عقد المؤلف الهجام هو ذاته مبحثا خاصا للأحاديث التى يرى أنها زُيِّفَتْ ثم نُسِبَتْ إلى على وغيره من آل البيت. فهل يصح أن نعصب هذه الأحاديث المزورة برأس علىّ وآل بيته لمجرد أن أسماءهم وردت على رأس سلاسل إسنادها؟ فلماذا إذن يريد أن يحمّل أبا هريرة، وأبا هريرة وحده، المسؤولية فى الأحاديث التى نُسِيَتْ إليه مما يرى هو أنه غير صحيح؟ ألا يرى القارئ أنه يكيل بمكيالين؟ وها نحن أولاء ننقل ما كتبه الموسوى عن هذا الموضوع فى المبحث الخامس من كتابه، وهو (بنص كلامه) في الاشارة إلى ما جنته الدعاية السياسية على الآثار النبوية وما اختلقته دجاجيلها (أى دجاجيل الدولة الأموية) تزلفا إليها ومازوّقوه ليشتروا به ثمنا قليلا وما افتأتوه من الأسانيد تثبيتا لحديث حميد عن أبي هريرة. قال: "كان وضع الحديث على عهد معاوية حرفة منمقة يتَّجِر بها كل متزلف إلى تلك الدولة وعمالها، وكان لأولئك المتزلفين المتجرين لباقة في تزويق تجارتهم وترويجها لا يشعر بها على عهدهم إلا أولو البصائر النافذة والأحلام الراسخة، وقليل ماهم. وكان من ورائهم من يرفع ذكرهم من الخاصة ويروّج حديثهم من حفظة السنن المستأجَرين، وحملة العلم المتزلفين، ومن المرائين بالعبادة والتقشف كحميد بن عبد الرحمان ومحمد بن كعب القرظي وأمثالهما، ومن زعماء القبائل في الحواضر وشيوخ العشائر في البوادي. وكان هؤلاء كلهم إذا سمعوا ما يحدث به أولئك الدجالون روّجوه عند العامة، وأذاعوه في رَعَاع الناس من مسلمي الفتوحات بعد النبي وخطبوا به على المنابر، واتخذوه حجة، واعتدّوه أصلا من الاصول المتبعة، وكان الثقات الأثبات من سدنة الآثار النبوية لا يسعهم في ذلك العهد إلا السكوت عن معارضة أولئك المتزلفين المؤيَّدين برعاية أولي الامر وعناية أهل الـحَوْل والطَّوْل. فكان المساكين إذا سئلوا عما يحدّث به اولئك الدجالون يخافون من مبادهة العامة بغيرها عندهم أن تقع فتنة عمياء بكماء صماء، ولا سيما إذا كان الحديث موضوعا في فضل الصِّدّيق والفاروق. فكانوا يُضْطَرّون في الجواب إلى اللِّواذ بالمعاريض من القول خوفا من تألب أولئك المتزلفين ومروجيهم من الخاصة، وتألب من ينعق معهم من العامة ورَعَاع الناس، فضاعت بذلك حقائق، وحُفِظَتْ أباطيل. وكان هذا الباطل، أعني حديث حميد عن أبي هريرة، أوفرها حظا من كل عدوٍّ لأهل البيت. اختلقوا في سبيل تأييده أحاديث ترادفه في معناه فركّبوها على أسانيد رفعوا أحدها إلى علي نفسه، ورفعوا الثاني إلى ابن عمه وخريج حوزته عبد الله بن العباس، والثالث إلى وليه وخصيصه جابر بن عبد الله الانصاري، والرابع إلى حفيده ووارث علمه الامام أبي جعفر الباقر. وهذه مكيدة اعتادها خصوم عليّ فاستمرت عليها سيرتهم في مكابرة أهل البيت ونكابة أوليائهم من حيث لا تشعر عامة الناس" (ص132 وما بعدها).
وسآخذ حديثا واحدا من تلك الأحاديث التى أوردها الموسوى هنا لأُرِىَ القراء أننا قد لا نطمئن إلى بعض الأحاديث المنسوبة إلى أبى هريرة، إلا أننا لا نقول فيه ما يقول هو: ذلك أنه يراه مبتدعا كذابا، أما نحن فأبو هريرة عندنا بآلاف من أمثال الموسوى. والحديث المذكور هو حديث الجني الذي ضبطه أبو هريرة متلبسا يسرق من تمرِ صدقةٍ كان موضوعا فى المسجد يحرسه الصحابى الجليل رضى الله عنه، فأمسك به ثلاث مرات، وفى كل مرة يتوسل إليه أن يطلق سراحه لأنه محتاج وذو عيال، واعدا إياه بأنه لن يعود. وفى المرة الثالثة ناشده أن يطلق سراحه لقاء إرشاده إلى آية ذات مقدرة على الحفظ من الأذى عجيبة، إذ أوصاه بقراءة آية الكرسى حين يصبح وحين يمسى، فيحفظه الله بقراءته لها فى أهله وماله، فعنئذ أطلق سراحه. فلما أخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال عليه السلام: صَدَقَك، وهو الكذوب. هذا ملخص الحديث الذى قد يرى فيه البعض أشياء لا يطمئن لها العقل إذا أُخِذ الحديث على ظاهره، إلا أنهم مع هذا لا يتهمون قط أبا هريرة، بل يعزون ذلك لوضاعى الحديث. وقد وجدت إشارة إليه الليلة فى فتوى للشيخ جعفر أحمد الطلحاوى بموقع "إسلام أون لا ين" بتاريخ الخميس 1/ 3 / 2007م فى باب "شرعى- فتاوى مباشرة".
ذلك أنه ليس من المعقول لدى أولئك البعض أن يصر الجنى فى كل مرة على أن يأتى المسجد فى هيئة مادية بحيث يراه أبو هريرة ويمسك به، رغم أن الجن لا يُرَوْن. ألم يقل القرآن المجيد عن الشيطان: "إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا تَرََوْنهم"؟ فكيف يترك الجنى طبيعته التى خلقه الله عليها، معطيا بذلك أبا هريرة الفرصة للقبض عليه وأخذه أسيرا؟ إن هذا عندهم أشبه بلص عقد العزم على سرقة دارة لأحد الأغنياء، وكان يستطيع أن يسطو على تلك الدارة ليلا أثناء غياب أهلها فيأخذ ما لذ وطاب من الطعام والأموال والملابس دون أن يزعجه مزعج، إلا أنه يصر على ألا يفعل هذا إلا فى عز النهار وفى وجود صاحب الدارة الذى لم يكن سوى مدير المباحث ذاته بشحمه ولحمه، ثم لا يكتفى بهذا بل يصر على أن يكون دخوله من الباب الأمامى، والأسرة كلها، وعلى رأسها عائلها كبير رجال المباحث، جالسون يتناولون طعام الغَدَاء فى الردهة. فهل هذا مما يعقله عاقل؟ ثم هل طعام الجن هو طعامنا حتى يقال إن الجنى كان يريد أن يسرق القمح من المسجد؟ وحتى لو قيل إن طعامهم هو نفسه طعام البشر، وهذا غير صحيح، ثم قلنا فوق هذا إن الجنى كان من معاتيه الجن فأتى المسجد فى شكل مرئى محسوس معرضا نفسه للقبض عليه رغم أنه كان يمكنه الإتيان فى هيئة لا تُرَى ولا تُحَسّ، فهل ضاقت الدنيا على الجنى فلم يجد إلا القمح الذى يحرسه أبو هريرة، ذلك الحارس الذى لا يغفل ولا ينام؟ ألا توجد حقول وأهراء تمتلئ عن آخرها بالقمح والشعير وكل الحبوب التى تُطْحَن وتؤكَل؟ فكيف تركها الجنى ولم يفكر إلا فى اقتحام المسجد "عينى عينك" بحيث يراه أبو هريرة ويقبض على تلابيبه ويهدده بأخذه إلى رسول الله كى يتلقى ما يستحقه من عقاب؟ وحتى لو غُضَّ الطَّرْف عن كل الاعتراضات السابقة، فكيف لم يفكر الجنى فى التسلل داخل المسجد من إحدى النوافذ بدلا من الاقتحام من الباب وتقديم نفسه لقمة سائغة للحارس اليقظ الأمين؟ وأخيرا وليس آخرا: هل يعقل أن يدل الشيطان أحدا من البشر على خير، وهو الموكَّل بالشر والإفساد والحث عليه؟ وما الذى جعل الشيطان يَصْدُق فى حديثه إلى أبى هريرة، والصحابى الجليل لن يمكنه التحقق مما قاله إلا بعد أن يكون قد طار من يده ولم يعد فى مستطاعه أن يؤاخذه حين يكتشف أنه قد كذب عليه؟ اللهم إلا إذا قيل إن الشخص الذى أمسك به أبو هريرة كان من شياطين الإنس لا الجن، وهو جائز جدا حسب استعمال القرآن لهذه الكلمة كما فى قوله تعالى: "شياطين الإنس والجن"، وحسبما ورد فى الحديث التالى من "صحيح البخارى" على سبيل ا لمثال: "حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا يونس عن حميد بن هلال عن أبي صالح عن أبي سعيد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا مر بين يدي أحدكم شيء وهو يصلي فلْيمنعه. فإنْ أَبَى فلْيمنعه. فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان".
والآن نترك القارئ مع حديث لص الصدقة حسبما ورد فى البخارى: "قال عثمان بن الهيثم: حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر الحديث فقال: إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي. لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقك، وهو كذوب. ذاك شيطان".
وهناك حديث آخر أورده الموسوى (ص62) للتشنيع أيضا على أبى هريرة، هذا نصه: "تحاجَّت الجنة والنار فقالت النار: أُوثِرْتُ بالمتكبرين والمتجبرين! وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطتهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قَطّ، قَطّ. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض... الحديث". والكلام فيه على المجاز فيما أفهم ويفهم كل عاقل. وكنا وما زلنا نسمع هذا الحديث وأمثاله فلا تذهب بنا فُهُومنا إلى أنْ سيكون ثَمَّ حِجَاج فعلا بين الجنة والنار. أما قول المؤلف (ص63) تعقيبا على ذلك: "بأي لسان تتحاج النار والجنة؟ وبأي حواسهما أدركتا ما أدركتاه وعرفتا مَنْ دخلهما؟ وأي فضل للمتجبرين والمتكبرين لتفخر بهم النار، وهم يومئذ في أسفل سافلين؟" فالرد عليه أنهما ستتحدثان بنفس اللسان الذى سوف تجيب به جهنم ربها حين يسألها: "هل امتلأتِ؟"، فتقول: "هل من مزيد؟"، وبنفس اللسان الذى سوف تردّ به الجلود على أصحابها من أهل الجحيم يوم القيامة حين تشهد عليهم فيستغربون ذلك منها ويسألونها: "لم شهدتهم علينا؟"، فترد قائلة: "أنطقَنا الله الذى أنطق كل شىء". كذلك أسند القرآن للنار شهيقا، فكيف لا نسند لها الكلام والمحاججة؟ وفى كتاب الله نراها أيضا تتميز من الغيظ، فكيف لا نقول إنها تحاجّ الجنة، وتحاجّها الجنة؟ يقول تعالى فى كتابه الكريم: "وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سمعوا لها شهيقا وهى تفور* تكاد تَمَيَّزُ من الغيظ". والموسوى هنا بالخيار: إن شاء قال بالمجاز، وإن شاء قال بالمعنى الحرفى. لكنْ عليه أن يعامل الآيات القرآنية والحديث معاملة واحدة، وإلا فليسكت.
ومثل ذلك أيضا الحديث التالى: "أخرج الشيخان من طريق ابن شهاب عن أبي عبد الله الاغر وأبي سلمة ابن عبد الرحمان عن أبي هريرة مرفوعا قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى الثلث الاخير، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟"، والكلام فيه على المجاز كما هو واضح لكل ذى بصيرة. وقد سبق أن أوردته فى كتابى: "منكرو المجاز فى القرآن والأسس الفكرية التى يستندون إليها" دليلا على أننا لا يمكننا الاستغناء عن المجاز لسببين على الأقل: الأول أن المجاز عنصر أصيل فى اللغات لا يمكنها أن تَعْرَى عنه أبدا. والثانى أننا لو لم نقل هنا بالمجاز لكان معنى هذا أن الله ينزل ويصعد، وهذا مستحيل عليه سبحانه، فهو خالق الزمان والمكان ولا يمكن أيا منهما أن يشتمل عليه، وإلا كان عز وجل محدودا له أول وآخر، وهو ما لا يناسبه سبحانه وتعالى البتة. علاوة على أننا لو قلنا بالمعنى الحرفى لترتب عليه أنه سبحانه لا يصعد أبدا من السماء الدنيا لأن الثلث الاخير من الليل لا ينتهى لحظةً من الأرض، إذ ما إن ينتهى من موضع على الكرة الأرضية إلا ويبدأ فى الموضع الذى يليه... وهكذا دواليك إلى الأبد، وهو ما لا يقول به أحد من المسلمين، لأنه لا يليق بطبيعة الألوهية جل وعلا. والمعنى لفت أنظار المؤمنين إلى أن للعبادة فى جوف الليل وسكونه والتبكير لصلاة الفجر وضعا متميزا، وأن الاستغفار فى ذلك الوقت أحرى أن يكون خارجا من القلب وأخلق أن يستجاب له. وهذه هى طبيعة اللغة لا انفكاك لها من ذلك، فضلا عن أن النصوص الدينية لا تتوجه إلى الفلاسفة وحدهم بل إلى جميع طوائف البشر من عوامّ ومتعلمين وعلماءَ وفلاسفة. ثم إن التعبير على هذا النحو أقمن أن يكون أقوى تأثيرا ونفوذا إلى القلب، وإلا فلِمَ يقول القرآن الكريم: "وجاء ربك والملَك صَفًّا صَفًّا" مثلا؟ فهل الله يذهب ويجىء؟ أو لماذا يقول سبحانه وتعالى: "ولِِتُصْنَع على عينى"؟ ترى هل لله عين؟ أو لماذا يقول جل جلاله عن المؤمنين يوم الحديبية حين مدوا أيديهم يعاهدون النبى على نصرته وطاعته والوقوف معه مهما تكن الظروف: "يد الله فوق أيديهم"؟ فهل له سبحانه يد؟ أو لماذا يقول عن نفسه جل جلاله: "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"؟ فهل له جَلَّتْ قدرته وَجْه؟ على الأقل: ليس له عين ويد ووجه على النحو الذى نعرف وتعرف لغاتنا الوجه واليد والعين.
ويقول الموسوى تحت عنوان "نقض سليمان حكم أبيه داود": "أخرج الشيخان بالإسناد إلى أبي هريرة مرفوعا قال: كانت امرأتان معهما ابنهاهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما دهب بابنك. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى. فخرجتا على سليمان بن داود عليه السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل، يرحمك الله. هو ابنها! فقضى به للصغرى. قال أبو هريرة: والله إِنْ سمعتُ بـ"السكين" إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا "المدية". في هذا الحديث نظر من وجوه: أحدها أن داود عليه السلام خليفة الله في أرضه، ونبيه المرسل إلى عباده، وقد أمره الله أن يحكم بين الناس بالحق، فقال عز من قائل: "يا داود، إنا جعلناك خليفة في الارض، فاحكم بين الناس بالحق". وقد أثنى عليه في الذكر الحكيم والفرقان العظيم فقال عز من قائل: "واذكر عبدنا داود ذا الأَيْد، إنه أَوّاب* إنا سخَّرنا الجبال معه يسبِّحْنَ بالعَشِيّ والإشراق* والطير محشورة، كُلٌّ له أَوّاب* وشَدَدْنا مُلْكَه وآتيناه الحكمة وفَصْل الخطاب"... إلى أن قال عز سلطانه: "وإن له عندنا لزُلْفَى وحُسْن مآب". وقال عز وعلا: "ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض، وآتينا داود زَبُورا". فداود ممن فضله الله بزبوره، فهو معصوم من الخطأ، ولا سيما في القضاء والحكم بما أنزل الله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون". وولده سليمان وارث علمه وحكمه، وهو نبي معصوم أيضا، فكيف ينقض حكم أبيه، وهو أعرف الناس بعصمته؟ ولو أن حاكما في هذه الأيام من قضاة الشرع جامعا لشرائط الحكومة الشرعية حكم بين اثنين ترافعا إليه لوجب على سائر حكام الشرع اعتبار حكمه بدون توقف إلا مع العلم بخطئه. والخطأ هنا مأمون لوجوب عصمة الانبياء، فلا يجوز على سليمان، وهو من أنبياء الله أن ينقض حكم أبيه، الذي ارتضاه الله رسولا لعباده وحاكما بينهم لأن نقضه رد على الله تعالى وسوء أدب مع أبيه بل عقوق له. ثانيها أن هذا الحديث صريح بتناقض الحكمين الصادرين من هذين النبيين، وذلك مما يوجب القطع بخطأ أحدهما لو كان الحديث صحيحا. والخطأ ممتنع على الانبياء، ولا سيما في مقام الحكم بما أنزل الله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون". ثالثها: ظاهر هذا الحديث أن داود عليه السلام حكم بالولد للكبرى بدون بينة ولا مستند غير أنها كبرى. وهذا لا يصدر إلا من جاهل بالموازين الشرعية بعيد عن قوانين المحاكمات، تعالى الله وتنزهت أنبياؤه عن ذلك. رابعا أن هذا الحديث صريح في أن سليمان إنما حكم به للصغرى بمجرد إشفاقها عليه من الشق بالسكين، وهذا بمجرده لا يكون ميزانا لحكمه، ولا سيما بعد إقرارها به للكبرى، وبعد حكم أبيه بذلك. خامسها: لا ينقضى والله عجبي ممن يسعه تصديق أبي هريرة في قوله: والله إن سمعت بـ"السكين" إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا "المدية". وَيْ! كأن السكين أكثر دورانا في كلام العرب من المدية بكثير! وما أظن أحدا منهم يجهل معنى السكين بخلاف المدية، فإن أكثر العامة لا يعرفونها. وَيْ! كأن أبا هريرة لم يقرأ ولم يسمع قوله تعالى في سورة "يوسف"، وهي مكية: "وآتت كلَّ واحدة منهن سكينا". وكأنه لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: من جُعِل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين" (ص64- 66).
وواضح أن المؤلف يخلط هنا بين العصمة الخلقية والعقيدية والتبليغية التى لا يمكن أن تنفك عن الأنبياء وبين العصمة فى أمور الحياة التى تحتاج إلى خبرة والتى لا يحوزها كلها على وجهها الصحيح فى جميع الأحوال أحد من البشر. ألم يحدث أن اختار النبى فى غزوة بدر موضعا يتمركز فيه الجيش الإسلامى، ثم نبهه بعض الصحابة إلى أن ثَمّ منزلا أفضل منه من الناحية الحربية، فنزل النبى على الرأى الجديد دون أى حرج أو تأفف؟ ألم يأتنا عنه صلى الله عليه وسلم فى حادثة تأبير النحل: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"؟ ألم يقل النبى ذاته عليه الصلاة والسلام عن نفسه وحكمه الشرعى: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع. فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"؟ فماذا يريد الموسوى أكثر من هذا كى يقتنع أن حكم الأنبياء يمكن أن يتأثر بالـمُعْطَيَات التى تُبْسَط أمامهم؟ ألم ينزل القرآن العظيم بمعاتبة النبى عليه الصلاة السلام فى بعض المواقف؟ ألم يقل القرآن عن داود وسليمان: "وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نَفَشَتْ فيه غنم القوم، وكنا لحكمهم شاهدين* ففهّمناها سليمان، وكُلاًّ آتينا حكما وعلما..."؟ إن هاتين الآيتين لتذكراننى بالحديث الذى يقول فيه سيدنا رسول الله: "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كلٍّ خير". وأحسب أن فى تلك الإيماءة ما يكفى لتوضيح ما أريد أن أقول. أما أن سليمان قد قضى بالطفل للصغيرة فلقد كان واضحا تمام الوضوح أنه ابنها بعدما رفضت شقه نصفين وأعلنت أنها تنزل عنه للكبرى، وإلا فلا عقل عند أحد ولا فهم إن فاتنا هذا الأمر فلم نر فيه ما رآه نبى الله سليمان. وعلى كل فإن الكبرى قد خرست بعدما أصدر سليمان عليه السلام حكمه ذاك ولم تفتح فمها بكلمة اعتراض أو مراجعة، وهو ما يدل دلالة قطعية على أن الولد إنما هو ابن الصغرى.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإن ما فعله سليمان عليه السلام، حين حكم بأن يُشَقّ الصبى نصفين، يشبهه ما فعله على بن أبى طالب رضى الله عنه فى الحديث التالى من كتاب "الكافى" للكلينى المحدث الشيعى الشهير: "عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الأحْمَرِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عِيسَى يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَرَابَةً لِسُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ الأمْرَانِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَارِسِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ حَمْزَةَ السَّلُولِيِّ قَالَ سَمِعْتُ غُلاماً بِالْمَدِينَةِ وَ هُوَ يَقُولُ يَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ احْكُمْ بَيْنِي وَ بَيْنَ أُمِّي فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَا غُلامُ لِمَ تَدْعُو عَلَى أُمِّكَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهَا حَمَلَتْنِي فِي بَطْنِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَ أَرْضَعَتْنِي حَوْلَيْنِ فَلَمَّا تَرَعْرَعْتُ وَ عَرَفْتُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ وَ يَمِينِي عَنْ شِمَالِي طَرَدَتْنِي وَ انْتَفَتْ مِنِّي وَ زَعَمَتْ أَنَّهَا لا تَعْرِفُنِي فَقَالَ عُمَرُ أَيْنَ تَكُونُ الْوَالِدَةُ قَالَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي فُلانٍ فَقَالَ عُمَرُ عَلَيَّ بِأُمِّ الْغُلامِ قَالَ فَأَتَوْا بِهَا مَعَ أَرْبَعَةِ إِخْوَةٍ لَهَا وَ أَرْبَعِينَ قَسَامَةً يَشْهَدُونَ لَهَا أَنَّهَا لا تَعْرِفُ الصَّبِيَّ وَ أَنَّ هَذَا الْغُلامَ غُلامٌ مُدَّعٍ ظَلُومٌ غَشُومٌ يُرِيدُ أَنْ يَفْضَحَهَا فِي عَشِيرَتِهَا وَ أَنَّ هَذِهِ جَارِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ وَ أَنَّهَا بِخَاتَمِ رَبِّهَا فَقَالَ عُمَرُ يَا غُلامُ مَا تَقُولُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ وَ اللَّهِ أُمِّي حَمَلَتْنِي فِي بَطْنِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْضَعَتْنِي حَوْلَيْنِ فَلَمَّا تَرَعْرَعْتُ وَ عَرَفْتُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ وَ يَمِينِي مِنْ شِمَالِي طَرَدَتْنِي وَ انْتَفَتْ مِنِّي وَزَعَمَتْ أَنَّهَا لا تَعْرِفُنِي فَقَالَ عُمَرُ يَا هَذِهِ مَا يَقُولُ الْغُلامُ فَقَالَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الَّذِي احْتَجَبَ بِالنُّورِ فَلا عَيْنَ تَرَاهُ وَ حَقِّ مُحَمَّدٍ وَ مَا وَلَدَ مَا أَعْرِفُهُ وَ لا أَدْرِي مِنْ أَيِّ النَّاسِ هُوَ وَ إِنَّهُ غُلامٌ مُدَّعٍ يُرِيدُ أَنْ يَفْضَحَنِي فِي عَشِيرَتِي وَ إِنِّي جَارِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ أَتَزَوَّجْ قَطُّ وَ إِنِّي بِخَاتَمِ رَبِّي فَقَالَ عُمَرُ أَ لَكِ شُهُودٌ فَقَالَتْ نَعَمْ هَؤُلاءِ فَتَقَدَّمَ الأرْبَعُونَ الْقَسَامَةَ فَشَهِدُوا عِنْدَ عُمَرَ أَنَّ الْغُلامَ مُدَّعٍ يُرِيدُ أَنْ يَفْضَحَهَا فِي عَشِيرَتِهَا وَ أَنَّ هَذِهِ جَارِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ وَ أَنَّهَا بِخَاتَمِ رَبِّهَا فَقَالَ عُمَرُ خُذُوا هَذَا الْغُلامَ وَ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى السِّجْنِ حَتَّى نَسْأَلَ عَنِ الشُّهُودِ فَإِنْ عُدِّلَتْ شَهَادَتُهُمْ جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي فَأَخَذُوا الْغُلامَ يُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى السِّجْنِ فَتَلَقَّاهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَنَادَى الْغُلامُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) إِنَّنِي غُلامٌ مَظْلُومٌ وَ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلامَ الَّذِي كَلَّمَ بِهِ عُمَرَ ثُمَّ قَالَ وَ هَذَا عُمَرُ قَدْ أَمَرَ بِي إِلَى الْحَبْسِ فَقَالَ عَلِيٌّ ( عليه السلام ) رُدُّوهُ إِلَى عُمَرَ فَلَمَّا رَدُّوهُ قَالَ لَهُمْ عُمَرُ أَمَرْتُ بِهِ إِلَى السِّجْنِ فَرَدَدْتُمُوهُ إِلَيَّ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ( عليه السلام ) أَنْ نَرُدَّهُ إِلَيْكَ وَ سَمِعْنَاكَ وَ أَنْتَ تَقُولُ لا تَعْصُوا لِعَلِيٍّ ( عليه السلام ) أَمْراً فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ عَلِيٌّ ( عليه السلام ) فَقَالَ عَلَيَّ بِأُمِّ الْغُلامِ فَأَتَوْا بِهَا فَقَالَ عَلِيٌّ ( عليه السلام ) يَا غُلامُ مَا تَقُولُ فَأَعَادَ الْكَلامَ فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام ) لِعُمَرَ أَ تَأْذَنُ لِي أَنْ أَقْضِيَ بَيْنَهُمْ فَقَالَ عُمَرُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَ كَيْفَ لا وَ قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) يَقُولُ أَعْلَمُكُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ يَا هَذِهِ أَ لَكِ شُهُودٌ قَالَتْ نَعَمْ فَتَقَدَّمَ الأرْبَعُونَ قَسَامَةً فَشَهِدُوا بِالشَّهَادَةِ الأولَى فَقَالَ عَلِيٌّ ( عليه السلام ) لاقْضِيَنَّ الْيَوْمَ بِقَضِيَّةٍ بَيْنَكُمَا هِيَ مَرْضَاةُ الرَّبِّ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ عَلَّمَنِيهَا حَبِيبِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله ) ثُمَّ قَالَ لَهَا أَ لَكِ وَلِيٌّ قَالَتْ نَعَمْ هَؤُلاءِ إِخْوَتِي فَقَالَ لاخْوَتِهَا أَمْرِي فِيكُمْ وَ فِي أُخْتِكُمْ جَائِزٌ فَقَالُوا نَعَمْ يَا ابْنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وآله ) أَمْرُكَ فِينَا وَ فِي أُخْتِنَا جَائِزٌ فَقَالَ عَلِيٌّ ( عليه السلام ) أُشْهِدُ اللَّهَ وَ أُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُ هَذَا الْغُلامَ مِنْ هَذِهِ الْجَارِيَةِ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَ النَّقْدُ مِنْ مَالِي يَا قَنْبَرُ عَلَيَّ بِالدَّرَاهِمِ فَأَتَاهُ قَنْبَرٌ بِهَا فَصَبَّهَا فِي يَدِ الْغُلامِ قَالَ خُذْهَا فَصُبَّهَا فِي حَجْرِ امْرَأَتِكَ وَ لا تَأْتِنَا إِلا وَ بِكَ أَثَرُ الْعُرْسِ يَعْنِي الْغُسْلَ فَقَامَ الْغُلامُ فَصَبَّ الدَّرَاهِمَ فِي حَجْرِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ تَلَبَّبَهَا فَقَالَ لَهَا قُومِي فَنَادَتِ الْمَرْأَةُ النَّارَ النَّارَ يَا ابْنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ تُرِيدُ أَنْ تُزَوِّجَنِي مِنْ وَلَدِي هَذَا وَ اللَّهِ وَلَدِي زَوَّجَنِي إِخْوَتِي هَجِيناً فَوَلَدْتُ مِنْهُ هَذَا الْغُلامَ فَلَمَّا تَرَعْرَعَ وَ شَبَّ أَمَرُونِي أَنْ أَنْتَفِيَ مِنْهُ وَ أَطْرُدَهُ وَ هَذَا وَ اللَّهِ وَلَدِي وَفُؤَادِي يَتَقَلَّى أَسَفاً عَلَى وَلَدِي قَالَ ثُمَّ أَخَذَتْ بِيَدِ الْغُلامِ وَ انْطَلَقَتْ وَ نَادَى عُمَرُ وَا عُمَرَاهْ لَوْ لا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ". ووجه الشبه هو أن كلا من سليمان بن داود وعليا كان يعرف أن الأمر لن يمضى، إذ هو مجرد حيلة أراد بها أن يستجلى الحقيقة، التى سرعان ما تجلت وانفضح الطرف الظالم فى الخصومة التى بين يديه.
أما ما كتبه الموسوى تحت عنوان "خيالية ثالثة ترمى إلى عواقب شكر النعم وعواقب كفرها"، بما يعنى أنه يتهم أبا هريرة بتأليف القصص الخيالية ونسبتها زُورًا ومَيْنًا إلى النبى عليه السلام، فإنه ضلال وحمق وعناد بلغ الغاية فى السخف والرقاعة، وليس وراءه إلا الحقد والتعصب الأعمى. قال: "أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعا قال: إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى بدا لله عزوجل أن يبتليهم فبعث إليهم مَلَكًا، فأتى الأبرصَ فقال: أي شئ أَحَبُّ إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجلد حسن. قد قَذِرني الناس! قال: فمسحه فذهب عنه، فأُعْطِيَ لونا حسنا وجلدا حسنا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الابل. فأُعْطِىَ ناقة عُشَراء، فقال: يبارك لك فيها. وأتى الأقرعَ فقال: أي شئ أحب اليك؟ قال: شَعْرٌ حسنٌ، وقد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب، وأُعْطِيَ شعرا حسنا. قال: فأي المال أحب اليك؟ قال: البقر. فاعطاه بقرة حاملا وقال: يبارك لك فيها. وأتى الأعمى فقال: أي شئ أحب اليك؟ قال: يردّ الله إلىَّ بصري. قال: فمسحه، فردّ الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم. فأعطاه الله شاة والدا. فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من ابل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم. ثم إنه أتى الأبرصَ في صورته وهيئته التي كان الأبرص أولا عليها فقال له: رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلّغ عليه في سفري،. فقال له: إن الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك. ألم تكن أبرص يَقْذَرُك الناس فقيرا، فأعطاك الله؟ فقال: ورثتُ هذا كابرا عن كابر. فقال: إن كنتَ كاذبا فصَيَّرَك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيَّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم الا بالله ثم بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري. فقال: كنت أعمى فردّ الله بصري، وفقيرا فأغناني، فخذ ما شئت. فوالله لا أجهدك اليوم بشئ أخذته لله. فقال: أَمْسِكْ مالك، فإنما ابتليتهم. فقد رضى الله عنك، وسخط على صاحبيك. قلت: هذا الحديث من منسوجات أبي هريرة. وقد رقَّشه ووشّاه فكان كأحدث رواية خيالية يمثلها المزخرفون على مسارحهم في عصرنا الحاضر يرمي بها إلى عاقبتي شكر النعمة والكفر بها" (ص164- 166). وواضح أن ما جاء فى الحديث هو مما لا يمكن أن تنتطح فيه عنزتان لأنه هو الحق فى سطوعه وبهائه، وإلا فما الذى ينكره الموسوى من هذا الحديث العظيم الذى يحذرنا من بطر النعمة والتكبر على التعساء والمعوزين وغمطهم ما لهم من حقوق فى أموالنا، ناسين معاناتنا الماضية التى كان ينبغى أن تعطفنا عليهم لا أن تتحول إلى حاجز يقوم بيننا وبين الإحساس بآلامهم والمسارعة إلى تخفيفها بما نستطيع؟
ومثله إنكاره الحديثين العظيمين التاليين المفعم أولهما بالدعوة إلى الرحمة بالحيوان الأعجم المسكين الذى لا يملك من أمر نفسه شيئا، وثانيهما بالعطف الإلهى على الضعف البشرى ومد حبال الرجاء فى عفو الله وغفرانه وبره ولطفه: "أخرج البخاري عن أبي هريرة يرفعه، قال: بينما رجل يمشي في طريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش! قال: فنزل الرجل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له وغفر له بذلك... الحديث". وقد تعلم أن هذا الحديث والذي قبله إنما هما من مخيلة أبي هريرة يمثل بهما حسن عواقب العطف والحنان ويحض بهما على البر والاحسان. أخرج مسلم عن معمر، قال: قال لي الزهري: ألا أحدثك بحديثين عجيبين؟ أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي قال: أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا متُّ فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر، فو الله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذابا ما عذب به أحدا. ففعلوا ذلك به، فقال الله للأرض: أَدِّي ما أخذتِ. فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: مخافتك يا رب. فغفر له بذلك. قال الزهري: وحدثني حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: دخلت امرأة النار في هرةٍ ربطتها: فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خَشَاش الأرض... الحديث. قلت: أما المرأة ذات الهرة فإن كانت مؤمنة كانت، كما قالت عائشة، أكرم على الله من أن يعذبها في النار بهرة، وإن كانت كافرة فانما تعذَّب بكفرها. وأما ذلك المسرف فإنه، على ما يقتضيه الحديث، لم يكن أهلا للمغفرة، إذ لم يكتف بتمرده على الله تعالى طيلة حياته وتجاوزه الحد في موبقاته حتى مات مصرا على تمرده يائسا من رَوْح الله فارًّا من سلطانه إلى حيث لا تناله، على زعمه، قدرة الله عز سلطانه التي أحاطت بكل شىء، ولذلك أوصى تلك الوصية البربرية، فهو كافر بيأسه من رحمة الله وإنكاره لقدرة الله عز وجل. والكافر لا يستحق المغفرة، ولا هو لها بأهل إجماعا وقولا واحدا. على أن أسلوب هذا الحديث إنما هو أسلوب حكاية خيالية ترمى إلى عدم اليأس من رحمة الله ولو مع الإسراف، وإلى عدم الأمن من عذاب الله ولو مع الإيمان. وهاتان الحقيقتان في غِنًى عن روايات أبي هريرة وخيالاته لثبوتهما بنص الذكر الحكيم والفرقان العظيم: "ولا تيأسوا من رَوْح الله. إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون"، "أفَأَمِنوا مكر الله؟ فلا يأمن مَكْرَ الله إلا القومُ الخاسرون"، فالسنن المقدسة تبرأ أساليبها من هذا الحديث وأسلوبه كما لا يخفى. وأيضا لو فُرِض وقوع تلك الوصية من ذلك المسرف وفُرِض أنها بمجردها كانت سببا لمغفرة ذنوبه فرسول الله صلى الله عليه وآله لا يمكن أن يحدّث بها حتى يعلق عليها بكملة تحصرها، إذ لو حدَّث بها من غير تعليق كما نقله أبو هريرة لأغرى بها المسرفين من أمته، وهذا محال كما لا يخفى".
ومن البَيِّن الـجَلِىّ أن الموسوى لا يعرف أن فى اللغات شيئا اسمه الرمز والتمثيل والتقريب والتجسيد والتشخيص... إلخ مما لا يُؤْخَذ على حقيقته بل يُنْظَر إليه على أنه مجاز، والمجاز شَطْر الـحُسْن كما قرأتُ مرة للسيوطى رضى الله عنه. أما قوله إن معنى الحديث هو مما ورد فى القرآن المجيد، ومن ثم لا حاجة بنا إلى حديث يرويه أبو هريرة، فهو أبعث ما سمعت من كلام على الضحك والقهقهة، إذ من المعروف أنه لا يوجد فى الأحاديث شىء لم يرد فى كتاب الله على نحو أو على آخر. فهل معنى ذلك أن نسقط الأحاديث كلها من حسابنا ما دام الأمر كذلك؟ ألا شاهت الأذهان الكليلة الضيقة العطن والقلوب التى ينغل فيها دود الحقد! ويبقى قوله إن المرأة إذا كانت مؤمنة فلن يضرها تعذيبها القطة، وإن كانت كافرة فهى فى النار سواء عذبت القطة أو لا. وهو قولُ من لا يفهم أن الشخص قد يكون بينه وبين الجنة أو النار مسافةٌ جِدُّ قصيرةٍ فيعمل عملا صغيرا يقطع هذه المسافة، فإذا به فى الفردوس أو فى الجحيم. وهذا لو كان تعذيب القطة أمرا هينا كما يؤكد بكل برود قلب. ألم يقرأ أن الراحمين يرحمهم الرحمن، وأنه لم تُنْزَع الرحمة إلا من قلب شقى، وأنه فى كل كبدٍ رطبةٍ أجرا؟
أما ما كتبه فى السطور التالية فينطبق عليه ما جاء فى الأمثال الشعبية من أن "العناد يولّد الكفر"، إذ المعروف لكل من هب ودب أن الإسلام يؤثر اليمين على الشمال، وأن الأول يرتبط فيه بالبركة والخير، فيما يرتبط الأخير بالشؤم واللعنة، وأن النبى كان دائما ما يأمر أتباعه بالتيامن. ومع ذلك كله فإن الموسوى، جَرّاء حمقه ونزقه وتعصبه الذميم، يزعم أن عليا حين سمع أبا هريرة يدعو إلى التيامن فى الوضوء أعلن أنه سوف يبدأ يأعضائه اليسرى لا لشىء إلا ليخالف أبا هريرة، وكأن أبا هريرة هو صاحب دعوة التيامن لا رسول الله. قال الموسوى: "إن عليا لما بلغه حديث أبي هريرة قال: ألا إن أكذب الناس (أو قال: أكذب الاحياء) على رسول الله صلى الله عليه وآله أبو هريرة الدوسي. ومنها أنه بلغ عليا أن أبا هريرة يبتدئ بميامينه فقال: لأخالفن أبا هريرة". ولا تعليق ولا تعقيب، فإن الحق أبلج، والباطل لجلج! ومن باطل المؤلف أنه نال من علىٍّ هذا النَّيْل البشع بحماقته ورعونته، وهو يحسب أنه بالتطاول على أبى هريرة إنما يحسن صنعا!
ويقول، فض الله فاه، عن نسب صحابينا الكريم (ص18 وما بعدها): "كان أبو هريرة غامض الحسب، مغمور النسب، فاختلف الناس في اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا لا يحاط به ولا يُضْبَط في الجاهلية والاسلام، وإنما يُعْرَف بكنيته، ويُنْسَب إلى دوس، وهي قبيلة يمانية تفرعت عن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن النضر بن الأزد بن الغوث. أما أبوه فقد قيل إن اسمه عمير، وإنه ابن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف بن غياث بن أبي صعب بن هنية بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس، وأمه أميمة ابنة صفيح بن الحارث بن شابي بن أبي صعب بن هنية بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس". وهو كلام لا يصح صدوره من مسلم، فالإسلام لا يعرف هذه المقاييس الجاهلية التى يتمحك فيها الموسوى، إذ العبرة فى أبى هريرة وغيره أنه مسلم يحب دينه ورسوله وينصح لهما بكل ما لديه من إخلاص ووفاء. ولقد كان القرآن حاسما فى هذا الموضوع تمام الحسم، وكذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا أريد أن أدخل فى هذه المتاهة التى يريدنا الكاتب الدخول فيها، فهى متاهة جاهلية ينكرها دين النبى الكريم إنكارا باتا لا مراء فيه، ولكنى أفترض أن كل ما قاله كلام صحيح، فهل لأبى هريرة دخل فى هذا، أو عليه فيه مسؤولية؟ لقد وجدالرجل نفسه فى مثل هذا الوضع، فما ذنبه فى ذلك؟ أم ترى أيًّا منا يمكنه اختيار الأسرة أو البيئة التى يولد فيها؟ إن كان فليقل لنا الموسوى بعلم، ونحن له من التابعين. لكنه لا هو ولا مليار مثله بل ولا البشرية كلها من لدن آدم إلى آخر ولد من أولاد آدم سوف تنقض فوق رأسه السماء يوم النفخ فى الصور يستطيع ذلك. ثم إنه عاد فقال إن أباه هو فلان بن فلان، وإن أمه هى فلانة بنت فلان. وإذن فلأبى هريرة أب وأم معروفان، ولم يكن مغمور النسب كما زعم الموسوى فى أول الأمر. وعلى كل حال ألا يكفى أن يمت إلى الرسول بنسبه؟ أقصد نسبه الإيمانى، وهو النسب الذى يضعه الإسلام فوق كل الأنساب.
ليس ذلك فحسب، بل كان أبو هريرة هو الدوسى الوحيد الذى استجاب لدعوة طفيل بن عمرو الدوسى الشاعر المشهور. وكان ذلك الشاعر قد أتى النبى وهو لا يزال بمكة فآمن به رغم كل ما صنعته قريش من أجل صده عن الدين الجديد وعن صاحبه وتنفيره منه، ثم عاد إلى بلاده فى اليمن وقد عقد العزم على دعوة قومه إلى الإسلام، فلم يسلم منهم إلا أبو هريرة, أفلا يكفى أبا هريرة شرفا أنه الوحيد الذى استجاب لنداء الحق من كل بنى قومه كما جاء فى "الإصابة" لابن حجر و"الطبقات" لابن سعد وغير ذلك، ثم لم يكتف بهذا بل ظل وراء أمه حتى أقنعها باعتناق الإسلام بعد طول شِمَاس منها وتأبٍّ وتطاول على رسول الله، ثم أقبل يعدو ليبشر رسول الله وهو يبكى من الفرح بأن الله استجاب دعاءه صلى الله عليه وسلم بهدايتها؟ كما كان رضى الله عنه لصيقا بنبى الله، الذى لم يبد عليه قط أية إشارة تدل على ضيقه به أو رغبته فى أن يبتعد عنه، بل كان على قلبه، كما تدل على ذلك الشواهد، أحلى من العسل. فهل هناك شرف أشرف من هذا الشرف؟ وإن كنيته لهى من أحلى الكُنَى وأجملها وأرقها وأخفها على اللسان والقلب والعقل جميعا. ولسوف يبقى اسم "أبى هريرة" مكتوبا على قرطاس التاريخ بحروف من نور وهاج فى الوقت الذى لا يبالى فيه أحد باسم الموسوى مهما تطاول على الصحابى الجليل من هنا ليوم الدين. يا رجل، ألا تستحى أن تتطاول على رجل أعزه الإسلام وقرّبه النبى الذى تؤمن به وعطف عليه، وقدَّر ما كان يسديه للدين من خدمات؟ أم هو مجرد تشدق بالإسلام، والسلام؟ ثم تعال بنا إلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب، الذى تجعلونه هو الإسلام وتجعلون الإسلام هو إياه، وهو ما لا نوافقكم عليه رغم حبنا وإكبارنا وإجلالنا وإعجابنا العظيم به كرم الله وجهه، إذ الإسلام أكبر من علىّ ومن كل الصحابة ومن كل المسلمين أجمعين من هنا إلى يوم الدين! فهل نَدَّ عن لسان علىٍّ شىء ينال من أبى هريرة رضى الله عنه؟ هات كلمة واحدة حقيقية عن على يبدو منها أنه، كرم الله وجهه، كان ينظر إلى أبى هريرة بعين الاحتقار أو الريبة أو الضيق. يا أخى، ألم تسمع بقول نبينا الكريم: الحياء خير كله؟
وسوف أختم كلمتى هنا بهذين الحديثين اللذين رواهما الكلينى فى كتابه: "الكافى" كى أبين أن الموسوى، حتى بمقياس كتب الأحاديث الشيعية، قد تمرد على مبادئ الإسلام الكريمة التى لا تقوّم مقادير الناس بمقياس الحسب والنسب بل بمقياس الدين والخلق الرفيع: "مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) إِذِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ فَرَحَّبَ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) وَ أَدْنَاهُ وَ سَاءَلَهُ فَقَالَ الرَّجُلُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي خَطَبْتُ إِلَى مَوْلاكَ فُلانِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ ابْنَتَهُ فُلانَةَ فَرَدَّنِي وَ رَغِبَ عَنِّي وَ ازْدَرَأَنِي لِدَمَامَتِي وَحَاجَتِي وَ غُرْبَتِي وَ قَدْ دَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ غَضَاضَةٌ هَجْمَةٌ غُضَّ لَهَا قَلْبِي تَمَنَّيْتُ عِنْدَهَا الْمَوْتَ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) اذْهَبْ فَأَنْتَ رَسُولِي إِلَيْهِ وَ قُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ( عليه السلام ) زَوِّجْ مُنْجِحَ بْنَ رَبَاحٍ مَوْلايَ ابْنَتَكَ فُلانَةَ وَ لا تَرُدَّهُ قَالَ أَبُو حَمْزَةَ فَوَثَبَ الرَّجُلُ فَرِحاً مُسْرِعاً بِرِسَالَةِ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) فَلَمَّا أَنْ تَوَارَى الرَّجُلُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) إِنَّ رَجُلا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ جُوَيْبِرٌ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) مُنْتَجِعاً لِلاسْلامِ فَأَسْلَمَ وَ حَسُنَ إِسْلامُهُ وَ كَانَ رَجُلا قَصِيراً دَمِيماً مُحْتَاجاً عَارِياً وَ كَانَ مِنْ قِبَاحِ السُّودَانِ فَضَمَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) لِحَالِ غُرْبَتِهِ وَ عَرَاهُ وَ كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ طَعَامَهُ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ بِالصَّاعِ الاوَّلِ وَ كَسَاهُ شَمْلَتَيْنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْزَمَ الْمَسْجِدَ وَ يَرْقُدَ فِيهِ بِاللَّيْلِ فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ حَتَّى كَثُرَ الْغُرَبَاءُ مِمَّنْ يَدْخُلُ فِي الاسْلامِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ بِالْمَدِينَةِ وَ ضَاقَ بِهِمُ الْمَسْجِدُ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله ) أَنْ طَهِّرْ مَسْجِدَكَ وَ أَخْرِجْ مِنَ الْمَسْجِدِ مَنْ يَرْقُدُ فِيهِ بِاللَّيْلِ وَمُرْ بِسَدِّ أَبْوَابِ مَنْ كَانَ لَهُ فِي مَسْجِدِكَ بَابٌ إِلا بَابَ عَلِيٍّ ( عليه السلام ) وَ مَسْكَنَ فَاطِمَةَ (عليها السلام ) وَ لا يَمُرَّنَّ فِيهِ جُنُبٌ وَ لا يَرْقُدْ فِيهِ غَرِيبٌ قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) بِسَدِّ أَبْوَابِهِمْ إِلا بَابَ عَلِيٍّ ( عليه السلام ) وَ أَقَرَّ مَسْكَنَ فَاطِمَةَ ( عليها السلام ) عَلَى حَالِهِ قَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) أَمَرَ أَنْ يُتَّخَذَ لِلْمُسْلِمِينَ سَقِيفَةٌ فَعُمِلَتْ لَهُمْ وَ هِيَ الصُّفَّةُ ثُمَّ أَمَرَ الْغُرَبَاءَ وَ الْمَسَاكِينَ أَنْ يَظَلُّوا فِيهَا نَهَارَهُمْ وَ لَيْلَهُمْ فَنَزَلُوهَا وَ اجْتَمَعُوا فِيهَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) يَتَعَاهَدُهُمْ بِالْبُرِّ وَ التَّمْرِ وَ الشَّعِيرِ وَ الزَّبِيبِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَعَاهَدُونَهُمْ وَ يَرِقُّونَ عَلَيْهِمْ لِرِقَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) وَ يَصْرِفُونَ صَدَقَاتِهِمْ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) نَظَرَ إِلَى جُوَيْبِرٍ ذَاتَ يَوْمٍ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ لَهُ وَرِقَّةٍ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا جُوَيْبِرُ لَوْ تَزَوَّجْتَ امْرَأَةً فَعَفَفْتَ بِهَا فَرْجَكَ وَ أَعَانَتْكَ عَلَى دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ فَقَالَ لَهُ جُوَيْبِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي مَنْ يَرْغَبُ فِيَّ فَوَ اللَّهِ مَا مِنْ حَسَبٍ وَ لا نَسَبٍ وَلا مَالٍ وَ لا جَمَالٍ فَأَيَّةُ امْرَأَةٍ تَرْغَبُ فِيَّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) يَا جُوَيْبِرُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ بِالاسْلامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَرِيفاً وَ شَرَّفَ بِالاسْلامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَضِيعاً وَ أَعَزَّ بِالاسْلامِ مَنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ذَلِيلا وَ أَذْهَبَ بِالاسْلامِ مَا كَانَ مِنْ نَخْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَ تَفَاخُرِهَا بِعَشَائِرِهَا وَ بَاسِقِ أَنْسَابِهَا فَالنَّاسُ الْيَوْمَ كُلُّهُمْ أَبْيَضُهُمْ وَ أَسْوَدُهُمْ وَ قُرَشِيُّهُمْ وَ عَرَبِيُّهُمْ وَ عَجَمِيُّهُمْ مِنْ آدَمَ وَ إِنَّ آدَمَ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ طِينٍ وَ إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَعُهُمْ لَهُ وَ أَتْقَاهُمْ وَ مَا أَعْلَمُ يَا جُوَيْبِرُ لاحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَضْلا إِلا لِمَنْ كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْكَ وَ أَطْوَعَ ثُمَّ قَالَ لَهُ انْطَلِقْ يَا جُوَيْبِرُ إِلَى زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ فَإِنَّهُ مِنْ أَشْرَفِ بَنِي بَيَاضَةَ حَسَباً فِيهِمْ فَقُلْ لَهُ إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكَ وَ هُوَ يَقُولُ لَكَ زَوِّجْ جُوَيْبِراً ابْنَتَكَ الذَّلْفَاءَ قَالَ فَانْطَلَقَ جُوَيْبِرٌ بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) إِلَى زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ وَ هُوَ فِي مَنْزِلِهِ وَ جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهِ عِنْدَهُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُعْلِمَ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ وَ سَلَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ يَا زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكَ فِي حَاجَةٍ لِي فَأَبُوحُ بِهَا أَمْ أُسِرُّهَا إِلَيْكَ فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ بَلْ بُحْ بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ شَرَفٌ لِي وَ فَخْرٌ فَقَالَ لَهُ جُوَيْبِرٌ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) يَقُولُ لَكَ زَوِّجْ جُوَيْبِراً ابْنَتَكَ الذَّلْفَاءَ فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ أَ رَسُولُ اللَّهِ أَرْسَلَكَ إِلَيَّ بِهَذَا فَقَالَ لَهُ نَعَمْ مَا كُنْتُ لاكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ إِنَّا لا نُزَوِّجُ فَتَيَاتِنَا إِلا أَكْفَاءَنَا مِنَ الانْصَارِ فَانْصَرِفْ يَا جُوَيْبِرُ حَتَّى أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) فَأُخْبِرَهُ بِعُذْرِي فَانْصَرَفَ جُوَيْبِرٌ وَ هُوَ يَقُولُ وَ اللَّهِ مَا بِهَذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَ لا بِهَذَا ظَهَرَتْ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وآله ) فَسَمِعَتْ مَقَالَتَهُ الذَّلْفَاءُ بِنْتُ زِيَادٍ وَ هِيَ فِي خِدْرِهَا فَأَرْسَلَتْ إِلَى أَبِيهَا ادْخُلْ إِلَيَّ فَدَخَلَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ مَا هَذَا الْكَلامُ الَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْكَ تُحَاوِرُ بِهِ جُوَيْبِراً فَقَالَ لَهَا ذَكَرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) أَرْسَلَهُ وَ قَالَ يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) زَوِّجْ جُوَيْبِراً ابْنَتَكَ الذَّلْفَاءَ فَقَالَتْ لَهُ وَ اللَّهِ مَا كَانَ جُوَيْبِرٌ لِيَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) بِحَضْرَتِهِ فَابْعَثِ الانَ رَسُولا يَرُدُّ عَلَيْكَ جُوَيْبِراً فَبَعَثَ زِيَادٌ رَسُولا فَلَحِقَ جُوَيْبِراً فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ يَا جُوَيْبِرُ مَرْحَباً بِكَ اطْمَئِنَّ حَتَّى أَعُودَ إِلَيْكَ ثُمَّ انْطَلَقَ زِيَادٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله) فَقَالَ لَهُ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي إِنَّ جُوَيْبِراً أَتَانِي بِرِسَالَتِكَ وَ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) يَقُولُ لَكَ زَوِّجْ جُوَيْبِراً ابْنَتَكَ الذَّلْفَاءَ فَلَمْ أَلِنْ لَهُ بِالْقَوْلِ وَ رَأَيْتُ لِقَاءَكَ وَ نَحْنُ لا نَتَزَوَّجُ إِلا أَكْفَاءَنَا مِنَ الانْصَارِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) يَا زِيَادُ جُوَيْبِرٌ مُؤْمِنٌ وَ الْمُؤْمِنُ كُفْوٌ لِلْمُؤْمِنَةِ وَ الْمُسْلِمُ كُفْوٌ لِلْمُسْلِمَةِ فَزَوِّجْهُ يَا زِيَادُ وَ لا تَرْغَبْ عَنْهُ قَالَ فَرَجَعَ زِيَادٌ إِلَى مَنْزِلِهِ وَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ فَقَالَ لَهَا مَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) فَقَالَتْ لَهُ إِنَّكَ إِنْ عَصَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) كَفَرْتَ فَزَوِّجْ جُوَيْبِراً فَخَرَجَ زِيَادٌ فَأَخَذَ بِيَدِ جُوَيْبِرٍ ثُمَّ أَخْرَجَهُ إِلَى قَوْمِهِ فَزَوَّجَهُ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ رَسُولِهِ ( صلى الله عليه وآله ) وَ ضَمِنَ صَدَاقَهُ قَالَ فَجَهَّزَهَا زِيَادٌ وَ هَيَّئُوهَا ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَى جُوَيْبِرٍ فَقَالُوا لَهُ أَ لَكَ مَنْزِلٌ فَنَسُوقَهَا إِلَيْكَ فَقَالَ وَ اللَّهِ مَا لِي مِنْ مَنْزِلٍ قَالَ فَهَيَّئُوهَا وَ هَيَّئُوا لَهَا مَنْزِلا وَ هَيَّئُوا فِيهِ فِرَاشاً وَ مَتَاعاً وَ كَسَوْا جُوَيْبِراً ثَوْبَيْنِ وَ أُدْخِلَتِ الذَّلْفَاءُ فِي بَيْتِهَا وَ أُدْخِلَ جُوَيْبِرٌ عَلَيْهَا مُعَتِّماً فَلَمَّا رَآهَا نَظَرَ إِلَى بَيْتٍ وَمَتَاعٍ وَ رِيحٍ طَيِّبَةٍ قَامَ إِلَى زَاوِيَةِ الْبَيْتِ فَلَمْ يَزَلْ تَالِياً لِلْقُرْآنِ رَاكِعاً وَ سَاجِداً حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ خَرَجَ وَ خَرَجَتْ زَوْجَتُهُ إِلَى الصَّلاةِ فَتَوَضَّأَتْ وَ صَلَّتِ الصُّبْحَ فَسُئِلَتْ هَلْ مَسَّكِ فَقَالَتْ مَا زَالَ تَالِياً لِلْقُرْآنِ وَ رَاكِعاً وَ سَاجِداً حَتَّى سَمِعَ النِّدَاءَ فَخَرَجَ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَ أَخْفَوْا ذَلِكَ مِنْ زِيَادٍ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُوهَا فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) فَقَالَ لَهُ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَرْتَنِي بِتَزْوِيجِ جُوَيْبِرٍ وَ لا وَ اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِنَا وَ لَكِنْ طَاعَتُكَ أَوْجَبَتْ عَلَيَّ تَزْوِيجَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وآله ) فَمَا الَّذِي أَنْكَرْتُمْ مِنْهُ قَالَ إِنَّا هَيَّأْنَا لَهُ بَيْتاً وَ مَتَاعاً وَ أُدْخِلَتِ ابْنَتِيَ الْبَيْتَ وَ أُدْخِلَ مَعَهَا مُعَتِّماً فَمَا كَلَّمَهَا وَ لا نَظَرَ إِلَيْهَا وَ لا دَنَا مِنْهَا بَلْ قَامَ إِلَى زَاوِيَةِ الْبَيْتِ فَلَمْ يَزَلْ تَالِياً لِلْقُرْآنِ رَاكِعاً وَ سَاجِداً حَتَّى سَمِعَ النِّدَاءَ فَخَرَجَ ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الثَّالِثَةِ وَ لَمْ يَدْنُ مِنْهَا وَ لَمْ يُكَلِّمْهَا إِلَى أَنْ جِئْتُكَ وَ مَا نَرَاهُ يُرِيدُ النِّسَاءَ فَانْظُرْ فِي أَمْرِنَا فَانْصَرَفَ زِيَادٌ وَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) إِلَى جُوَيْبِرٍ فَقَالَ لَهُ أَ مَا تَقْرَبُ النِّسَاءَ فَقَالَ لَهُ جُوَيْبِرٌ أَ وَ مَا أَنَا بِفَحْلٍ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَشَبِقٌ نَهِمٌ إِلَى النِّسَاءِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) قَدْ خُبِّرْتُ بِخِلافِ مَا وَصَفْتَ بِهِ نَفْسَكَ قَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ هَيَّئُوا لَكَ بَيْتاً وَفِرَاشاً وَ مَتَاعاً وَ أُدْخِلَتْ عَلَيْكَ فَتَاةٌ حَسْنَاءُ عَطِرَةٌ وَ أَتَيْتَ مُعَتِّماً فَلَمْ تَنْظُرْ إِلَيْهَا وَ لَمْ تُكَلِّمْهَا وَ لَمْ تَدْنُ مِنْهَا فَمَا دَهَاكَ إِذَنْ فَقَالَ لَهُ جُوَيْبِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَخَلْتُ بَيْتاً وَاسِعاً وَ رَأَيْتُ فِرَاشاً وَمَتَاعاً وَ فَتَاةً حَسْنَاءَ عَطِرَةً وَ ذَكَرْتُ حَالِيَ الَّتِي كُنْتُ عَلَيْهَا وَ غُرْبَتِي وَحَاجَتِي وَ وَضِيعَتِي وَكِسْوَتِي مَعَ الْغُرَبَاءِ وَ الْمَسَاكِينِ فَأَحْبَبْتُ إِذْ أَوْلانِي اللَّهُ ذَلِكَ أَنْ أَشْكُرَهُ عَلَى مَا أَعْطَانِي وَ أَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِحَقِيقَةِ الشُّكْرِ فَنَهَضْتُ إِلَى جَانِبِ الْبَيْتِ فَلَمْ أَزَلْ فِي صَلاتِي تَالِياً لِلْقُرْآنِ رَاكِعاً وَ سَاجِداً أَشْكُرُ اللَّهَ حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ فَخَرَجْتُ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ رَأَيْتُ أَنْ أَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَ لَيَالِيَهَا وَ رَأَيْتُ ذَلِكَ فِي جَنْبِ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ يَسِيراً وَلَكِنِّي سَأُرْضِيهَا وَ أُرْضِيهِمُ اللَّيْلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) إِلَى زِيَادٍ فَأَتَاهُ فَأَعْلَمَهُ مَا قَالَ جُوَيْبِرٌ فَطَابَتْ أَنْفُسُهُمْ قَالَ وَ وَفَى لَهَا جُوَيْبِرٌ بِمَا قَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) خَرَجَ فِي غَزْوَةٍ لَهُ وَ مَعَهُ جُوَيْبِرٌ فَاسْتُشْهِدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَمَا كَانَ فِي الانْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقُ مِنْهَا بَعْدَ جُوَيْبِرٍ"، "عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) زَوَّجَ الْمِقْدَادَ بْنَ أَسْوَدَ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا زَوَّجَهَا الْمِقْدَادَ لِتَتَّضِعَ الْمَنَاكِحُ وَ لِيَتَأَسَّوْا بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) وَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وَ كَانَ الزُّبَيْرُ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ وَ أَبِي طَالِبٍ لأَبِيهِمَا وَ أُمِّهِمَا".
ومما قاله الموسوى حقدا منه على الصحابى الجليل (ص19): "وكُنِّىَ: "أبا هريرة" بهرة صغيرة كان مغرما بها. ولعل من غرامه بها حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها فلم تُطْعِمها ولم تَدَعْها تأكل من خَشَاش الأرض". وهذا سخف وتنطع لا يؤبه بهما، إذ السنة النبوية مفعمة بالدعوة إلى الرفق بالحيوان، الحيوان كله: هِرَرًا وغير هِرَر: فهناك حديث عن كلبٍ برَّح به العطش فسقاه رجل، فغفر الله له وشكر له برحمته الكلب المسكين. و"عن أبي عمرو الشيباني قال: كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فأصاب بعضُهم فرخَ عصفور، فجعل العصفور يقع على رحالهم، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يردوا عليه فرخه، ثم قال: إن الله أرحم بعباده من هذا العصفور بفرخه". وقال عليه السلام: "من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها سأل الله عز وجل عنها يوم القيامة". وكان له صلى الله عليه وسلم هرة فكان يصغى لها الإناء حتى تشرب. وكان لأنس بن مالك أخ صغير اسمه أبو عُمَيْر، وكان له بلبل يلعب به، ثم مات البلبل، فكان كلما زارهم الرسول فى بيتهم داعبه للتسرية عنه قائلا: يا أبا عُمَيْر، ما فعل النُّغَيْر؟ كذلك هناك حديث يتحدث فيه النبى عليه السلام عن أرواح الشهداء فى الجنة وكيف أنها ستكون فى حواصل طيرٍ خُضْرٍ: "إن أرواح شهداء المسلمين في حواصل طيرٍ خُضْرٍ تغدو إلى رياض الجنة، ثم يكون مأواها إلى قناديل معلقة بالعرش". وهناك أيضا ذلك الحديث الشريف الذى يوصى المسلم برَكوبته فلا يرهقها أو يحمّلها فوق طاقتها متصورا أن ذلك أحرى أن يبلغ به غايته سريعا، فلا هو يبلغ غايته، ولا هو يُبْقِى على الرَّكوبة. ثم هناك ذلك الحديث الآخر الذى سمع فيه النبى امرأة تلعن رَكوبتها فنهاها صلى الله عليه وسلم عن لعن الحيوان. فهل كان أبو هريرة وراء ذلك كله؟
الواقع أنه لو كان أبو هريرة هو مخترع حديث الهرة لقد بلغ أبو هريرة بهذا الاختراع مرتقى نبيلا صعبا قلما يستطيع أحد من البشر الارتقاء إليه. لقد كتبت مثلا الصحافية والأنثروبولوجية الهولندية فرانسيسكا دى شاتل (Francesca De Chatel) مقالا عظيما كله إعجاب وانبهار بالرسول والإسلام جعلت عنوانه: "محمد، رائد الحفاظ على البيئة: Muhammad: A Pioneer of Environmentalism"، وكان مما سلطت الضوء عليه فى ذلك المقال دعوة الإسلام إلى الرفق بالحيوان. أفلا ينبغى أن يكون لدينا عقل ندرك به قيمة الدين الذى أكرمنا الله به كما أدركتها تلك الهولندية؟ أم لا بد أن نفسد كل شىء من أجل الزراية على أبى هريرة، رضى الله عنه رضى واسعا عريضا ولا رضى عمن يظن أنه يستطيع الإساءة إليه بهذه السخافات المتخلفة؟ ويجد القارئ هذا المقال بالإنجليزية مشفوعا بترجمتى إياه إلى العربية فى الفصل الأول من كتابى: "مختارات إنجليزية استشراقية عن الإسلام" (المنار للطباعة والنشر/ القاهرة/ 1430هـ- 2009م/ 7- 25).
ومن تنطع الموسوى أنه يحاج أبا هريرة هنا بما قال إن عائشة قد ردت به على ذلك الحديث تكذّب الصحابى الكريم. وهذا نص ما كتب: "وردّت عليه عائشة إذ بلغها حديثه هذا" (ص19). وإن لى لسؤالا هنا، إذ منذ متى تقيمون يا موسوى لما تقوله عائشة أو لعائشة ذاتها وزنا يا كارهى الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين والصحابة أجمعين إلا نفرا قليلين، رضى الله عنها وأرضاها ولا رضى عمن يختلق عليها البهتانات ويبغضها ويبغض أباها؟ أليست عائشة هذه، رضى الله عنها وأرضاها ولا رضى عمن ينالون منها ومن سمعتها غير عابئين بمحية النبى لها ولا بعِرْضه صلى الله عليه وسلم، إذ عِرْضها هو عِرْضه، وعِرْضه هو عِرْضها، لكن بعض البشر لا يفقهون، وهم على أبصارهم وبصائرهم مطموسون، نعم أليست عائشة هذه هى التى تنهشون عرضها وتظنون أنكم تتقربون إلى الشيطان بنهشكم هذا؟ لا أقر الله عين من يقول فيها الكذب والبهتان وأرداه الله فى قعر الجحيم.
ولقد ورد ذلك الحديث لدى البخارى وابن ماجة والألبانى عن أبى هريرة مرة، وعن ابن عمر مرة، وعنهما كليهما مرة ثالثة، ولم يرد فيه أن عائشة قد اعترضت على شىء منه. أى أن أبا هريرة ليس هو وحده راوى هذا الحديث، كما أن عائشة لم تعترض على الحديث. ثم إنك يا موسوى قد قلت بعظمة لسانك إن النبى رآه وهو يضع الهرة فى كمه ويحنو عليها، فهل سمع أحد رسول الله ينهاه عن ذلك أو ينكر عليه أو حتى يسخر منه مجرد سخرية؟ لقد كان صلى الله عليه وسلم يداعبه بهذا ويتخذها فرصة ليدخل البهجة على قلب الشاب المسكين الواسع القلب الكبير الرحمة، أفتأتى أنت وتقلبها مذمّة سوداء، وتهتبلها سانحة لتمضغ سمعته بأسنان الحقد وأضراسه، وتحاول عبثا النيل من قدره بلسان الزيف والبهتان رضى الله عنه؟ فمن أنت حتى تسلك سلوكا يناقض ما صنعه النبى عليه السلام؟ هلا فِئْتَ إلى العقل والذوق واللياقة واتبعت سنة النبى الذى تؤمن به؟ أَوَلا بد أن يكون الإنسان قاسى القلب لا يعطف على حيوان أعجم ولا يلعب معه حتى يعجبك؟ عجبا لك يا أخى! دع الحقد على صحابة رسول الله ولا تتخذ من نفسك معقبا عليهم ومؤاخذا لهم. فمن أنت حتى تصنع ذلك، وليس لك مُدّ أحدهم ولا نَصِيفه؟
وفى صفحتى 26- 27 يكتب الموسوى "أن عمر بعثه (أى بعث أبا هريرة) واليا على البحرين سنة إحدى وعشرين. فلما كانت سنة ثلاث وعشرين عزله وولى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولم يكتف بعزله حتى استنقذ منه لبيت المال عشرة الآف زعم انه سرقها من مال الله في قضية مستفيضة. وحسبك منها ما ذكره ابن عبد ربه المالكي "فيما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم من أوائل الجزء الاول من "عقده الفريد" إذ قال، وقد ذكر عمر: ثم دعا أبا هريرة فقال له: علمتَ أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار. قال: كانت لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت. قال: حسبتُ لك رزقك ومؤنتك، وهذا فضل، فأدِّه. قال: ليس ذلك. قال: بلى والله، وأُوجِع ظهرك. ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه، ثم قال: ائت بها. قال: أحتسبها عند الله. قال: ذلك لو أخذتَها من حلال وأديتها طائعا! أجئت من أقصى حجر البحرين يجبى الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أمسية إلا لرعية الـحُمُر. قال ابن عبد ربه: وفي حديث أبي هريرة: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله وعدو كتابه، سرقت مال الله؟ قال: فقلت: ما أنا عدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداك، وما سرقت مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال: فقلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت. قال: فقبضها مني. فلما صليت الصبح استغفرت لامير المؤمنين... الحديث".
وأعتقد أن الأمر ناتج من اختلاف الفهم والاجتهاد بين عمر وأبى هريرة: فأبو هريرة يرى أن من حق الوالى التجارة والاشتغال بتنمية ثروته الشخصية ما دام ذلك من حلال، وعمر يريد من الولاة أن يتجردوا تمام التجرد لخدمة الرعية. ولا أظن أبدا أن أبا هريرة، حاشا لله، قد سرق شيئا من بيت المال كما يزعم الموسوى، وإلا أفكان عمر يكتفى بأخذ ما سرقه ثم يتركه يمضى لحال سبيله؟ ثم لو كان عمر يرى أنه سارق فعلا فلم عاد إليه يطلب منه أن يعمل له واليا مرة ثانية؟ ولو كان أبو هريرة سارقا فلم رفض تلك الولاية متعللا بأن عمر قد أساء إليه؟ وفوق هذا فقد كان عمر يصنع ذلك مع كل صحابى تولى له عملا. هذا هو الرد الصحيح لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولننظر فى نهاية النص لنسمع تعقيب أبى هريرة على الأمر كله رغم شدته عليه، إذ قال: "فلما صليت الصبح استغفرتُ لامير المؤمنين". بالله عليكم يا أيها القراء، أهذا كلام يصدر من فم سارق؟ غفر الله لك يا أبا هريرة، وغَصَّتْ واختنقت بكراهيتك حلوقٌ وأفئدةٌ غير كريمة! وعلى أية حال لم ترد هذه الرواية فى كتب الأحاديث: لا فى الصحاح منها ولا فى الضعاف. إنما هى من كلام ابن عبد ربه فى "العقد الفريد"، وهو كتاب فى الأدب بالدرجة الأولى لا فى الحديث. كما أن الموسوى لم يجد ما يعضد به تلك الرواية إلا ما ورد فى كتاب "نهج البلاغة" (ص27)، الذى زيفت الشيعة كثيرا مما جاء فيه ونحلته ابن أبى طالب كرم الله وجهه ورضى عنه رضا عظيما كفاء ما خدم الإسلام والمسلمين واحترم إخوانه الصحابة الأطهار ولم يفتر عليهم الأكاذيب مثلما افترى عليهم ناس لا يرعوون، ثم يزعمون أنهم يحبونه ويدافعون عن حقه وحق ذريته.
أما الذى جاء فى كتب الحديث، وتحديدا فى كتاب"الأنوارالكاشفة" للمعلمى، فهو ما رواه محمد بن سيرين من "أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال أَيْ عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: لستُ بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكنْ عدُوّ من عاداهما. فقال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نتجت، وغَلّة رقيقة، وأعطية تتابعت عليَّ. فنظروا فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرا منك: طلبه يوسف عليه السلام؟ فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة ابن أميمة، وأخشى ثلاثا واثنتين. فقال عمر: فهلا قلت: خمسة؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم، أو يُضْرَب ظهري ويُنْتَزَع مالي ويُشْتم عِرْضي". فليس ها هنا اتهام بالسرقة ولا ضرب ولا شىء من ذلك الكلام الذى يغرم به الموسوى وأمثاله ما دام يشوه صورة صحابى من صحابة رسول الله. كذلك يقول الحديث إن الصحابة قد فحصوا ما أحضره معه أبو هريرة من مال فوجدوه كما قال من أنها ثمرة عمله وأنه لم يأخذها من مال المسلمين، فضلا عن أن عمر قد عرض عليه الولاية ثانية كما سبق القول فرفض رضى الله عنه. فتَبًّا لكارهى أصحاب رسول الله الشامتين فيهم المسارعين لتصديق كل ما يلطخ سمعتهم دون تمحيص أو تحقيق.
ومما قاله الموسوى فى صحابينا الكريم (ص28): "أخلص أبو هريرة لآل أبي العاص وسائر بني أمية على عهد عثمان واتصل بمروان وتزلف إلى آل أبي معيط، فكان له بسبب ذلك شأن، ولا سيما بعد يوم الدار إذ حوصر عثمان فكان أبو هريرة معه. وبهذا نال نضارة بعد الذبول، ونباهة بعد الخمول. سنحت له في تلك الفتنة فرصة الانضواء إلى الدار فأسدى بها إلى آل أبي العاص وغيرهم من الأمويين يدًا كان لها أثرها عندهم وعند أعوانهم ومقوية سلطانهم، فنَضَوْا عنه دثار الخمول وأشادوا بذكره. على أنه لم يَخْفَ عليهم كونه ما استسلم إلى الحصار ولا دخل الدار إلا بعد أن كف الخليفة أيدي أوليائه عن القتال وأمرهم بالسكينة كما قال بعض معاصريه في رثائه! فكف يديه ثم أغلق بابه وأيقن أن الله ليس بغافل، وقال لأهل الدار: لا تقتلوهم. عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل. وانما فعل ذلك احتياطا على نفسه واحتفاظا بأصحابه. وكان أبو هريرة على علم بأن الثائرين لا يطلبون إلا عثمان ومروان، وهذا ما شجعه على أن يكون في المحصورين. ومهما يكن فقد اختلس الرجل هذه الفرصة فربحت صفقته وراجت سلعته، وأكبَّ بعدها بنو أمية وأولياؤهم على السماع منه، فلم يألوا جهدا في نشر حديثه والاحتجاج به، وكان ينزل فيه على ما يرغبون. وكان مما حدثهم به عن رسول الله صلى الله عليه وآله: إن لكل نبي خليلا من أمته، وإن خليلي عثمان. وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: عثمان حِبِّي تستحي منه الملائكة. ورووا عنه مرفوعا: لكل نبي رفيق في الجنة، ورفيقي فيها عثمان. ورووا عنه مرفوعا أيضا: أتاني جبرئيل فقال لي: إن الله يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على مثل صداق رقيّة... الحديث".
وهو كلام كله تنطع وسخف، وإلا فهل ينظر أحد إلى وقوف أبى هريرة مع عثمان رضى الله عنه فى ذلك الموقف العصيب هذه النظرة إلا أن يكون حقودا لا يعمل عقله ولا ضميره أبدا فى وزن أقدار الرجال؟ وهل أخذ أبو هريرة على الله عهدا ألا يصيبه أذى، بله أن يُقْتَل، فى هذا الحصار المجنون الذى لم يكن أحد فى وسط تلك العواصف والزعازع يعرف إلام ينتهى ولا كيف؟ وعثمان، ماذا فى أن يثنى عليه سيد الخلق؟ وإذا لم يكن حقيقا بثنائه فلم يا ترى زوجه ابنتيه، وقال له بعد موت الأخيرة: لو كانت لنا ثالثة لزوجناك؟ وما الفرق بينه وبين على، كرم الله وجهه، فى إصهاره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد نال كلاهما الشرف من ذلك الإصهار، فلماذا نفرد عليا بذلك ونحرم عثمان، وعثمان لم يتزوج واحدة من بنات رسول الله بل اثنتين، ولو كانت للرسول بعد موت الثانية بنت أخرى لزوجه إياها؟ هل يتصور الشيعة أنه مما يزيد قدر علىٍّ كرامة وشرفا أن نقلل من مكانة الصحابة الباقين؟ بالعكس فأقدار العظماء إنما تزداد عظمة بوجوده وسط نظراء له لا بين صغار لا ترتفع قاماتهم إلا لأشبار. وعظمة على، وكذلك عظمة الخلفاء الراشدين الآخرين وسائر الصحابة الكبار، هى فى ارتفاع هامة كل منهم وسط هامات أولئك الآخرين. أما قول المؤلف عقب هذا: "خَفَتَ صوت أبي هريرة على عهد أمير المؤمنين، واحتبى برد الخمول، وكاد إن يرجع إلى سيرته الاولى حيث كان هَيّان بن بَيّان، وصلعمة بن قلعمة. قعد عن نصرة أمير المؤمنين فلم ينضو إلى لوائه، بل كان وجهه ونصيحته إلى أعدائه" فلنا عليه سؤال: ما دام أبو هريرة من الدهاء ومعرفة الغيب قبل وقوعه بحيث قد اتخذ لكل حال لَبُوسها وتحسَّب لبلوغ الأمويين سُدّة الحكم، وهو ما لم يكن يخطر لأحد آنذاك على بال، فكيف فاته أن يعمل حساب وصول علىٍّ لمنصب الخلافة، وهو الأمر الذى كان لا بد أن يكون بعدما خلت الساحة ممن يمكن أن يتولَّوْها قبله؟
كما اتهمه (ص30) بأنه "ربما حرف الكلم عن مواضعه كما فعل في الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله: ستكون بعدي فتنة واختلاف. قالوا: فما تأمرنا عند ذلك يارسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله، وقد أشار إلى عليّ: عليكم بالامير وأصحابه. لكن أبا هريرة آثر التزلف إلى آل أبي العاص وآل معيط وآل أبي سفيان فروى لهم ان النبي صلى الله عليه وآله أشار في هذا الحديث إلى عثمان. وقد حفظوا له هذا الصنع". والموسوى هنا لا يعترف إلا بأحاديث الشيعة ومن يجرى فى ركابهم، وهى حجة لا تلزم من يخالفونهم. ولو ثبت أن ما نُسِب لأبى هريرة فى هذا الشأن غير صحيح، فلماذا نَحْمِل خطأه عليه هو من دون باقى الرواة؟ وأين الدليل على ذلك؟ ثم هل يعقل أن النبى لم يكن يرى فيمن حوله من الصحابة الكرام العظام أحدا يستحق ثناءه إلا عليًّا على رغم إجلالنا وإكبارنا واحترامنا ال
_________________ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد . قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .
|