كتاب : حُسْنُ التَّلَطُّفِ فِي بَيَانِ وُجُوبِ سُلُوكِ التَّصَوُّفِ
تأليف : الإِمَامِ العَلاَّمَةِ المحَدِّثِ الْأُصُولِيِّ اللُّغَوِيِّ الحَافِظِ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنِ الصِّدِّيقِ الغُمَارِي الحَسَنِي
(توفي بطنجة عام 1413ھ)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي منح أولياءه جزيل عطائه، ووهب أصفياءه جليل حُبائه، تجلى لهم بمظهرٍ من مظاهر أسمائه، فتاهت عقولهم في مشاهدة عظمته وكبريائه، وطافت أرواحهم هائمةً في قدس سنائه، وأفناهم عن أنفسهم فلم يشهدوا شيئا سواه في أرضه وسمائه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضلُ رسلِه وأنبيائِه، أفاض عليه مولاه من أنواع العلوم والمعارف ما تنوءُ الجبالُ الشمُ بحمل أعبائه، صلى الله وسلم عليه صلاةً وسلامًا خالدِيْن مع خلود الدهر بَاقِيَيْنِ بعد فنائه، ورضي الله عن آله الكرام حماة الدين الدافعين عنه بالسيف والبرهان حملاتِ أعدائِه.
أما بعد، فإن التصوف كبير قدره، جليل خطره، عظيم وقعه، عميم نفعه، أنواره لامعة، وأثماره يانعة، واديه مَريع خصيب، وناديه يندو لقاصديه من كل خير نصيب، يزكي النفس من الدنس، ويطهر الأنفاس من الأرجاس، ويرقي الأرواح إلى مراقي الفلاح، ويوصل الإنسان إلى مرضاة الرحمن، وهو إلى جانب هذا ركن من أركان الدين، وجزء متمم لمقامات اليقين، خلاصته: تسليم الأمور كلها لله والالتجاء في كل الشؤون إليه، مع الرضا بالمقدور، من غير إهمال في واجب ولا مقاربة لمحظور، كثرت أقوال العلماء في تعريفه، واختلفت أنظارهم في تحديده، وذلك دليل على شُرفة اسمه ومسماه، ينبئ عن سمو غايته ومرماه.
فقيل: "التصوف الجد في السلوك إلى ملك الملوك"، وقيل: "التصوف الموافقة للحق والمفارقة للخلق"، وقيل: "التصوف ابتغاء الوسيلة إلى منتهى الفضيلة"، وقيل: "التصوف الرغبة إلى المحبوب في درك المطلوب"، وقيل: "التصوف حفظ الوفاء وترك الجفاء"، إلى غير ذلك من الأقوال التي تبلغ نحو ألف حكاها الحافظ أبو نعيم في كتاب الحلية، وسئل الإمام أبو القاسم الجنيد سيد الطائفة عن التصوف فقال: "تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الشريعة".اهـ ولعل هذا القول أبلغ ما قيل في التصوف وكشف حقيقته، ولا عجب في ذلك فهو صادر عن الإمام الجنيد- رضي الله عنه-.
وكما اختلفوا في التصوف اختلفوا في الصوفي ومعناه، فقال الإمام أبو علي الروذباري- وقد سئل عن الصوفي-: "من لبس الصوف على الصفا وأطعم الهوى ذوق الجفا وكانت الدنيا منه على القفا وسلك منهاج المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم"، وسئل الإمام سهل بن عبد الله التستري عن الصوفي فأجاب: "من صفا عن الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر"، وأنشد الإمام تقي الدين السبكي:
تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الصُّوفِيِّ وَاخْتَلَفُوا
قِدَمًا وَظَنُّوهُ مُشْتَقًّا مِنَ الصُّـوفِ
وَلَسْتُ أَنْحَـلُ هَذَا الاسمَ غَيْرَ فَتًـى
صَافَى فَصُوفِي حَتَّى لُقِّبَ الصُّوفِي
وهذان البيتان لأبي الفتح البُستي، وقال العلامة الشيخ محمد مَيَّارَة في شرح المرشد المعين: "وفي اشتقاق التصوف أقوال؛ إذ حاصله اتصافٌ بالمحامد وتركٌ للأوصاف المذمومة"، وقيل: "من الصفاء".اهـ وقال العلامة أبو حفص الفاسي: "ظهر لي أنه منسوب إلى الصوف؛ لأنه في الغالب شعاره ودثاره، ولأن هذا اللفظ مشتمل على ثلاثة أحرف منقطعة من ثلاث كلمات دالة على معان ثلاثة هي أوصافه المختصة به؛ فالصاد من الصفاء، والواو من الوفاء، والفاء من الفناء"، قال ابن الحاج: وقد أشرت إلى ذلك في ثلاثة أبيات فقلت:
صَفَا مَنْهَلُ الصُّوفِيِّ عَنْ عِلَلِ الْهَوَى
فَمَا شَابَ ذَاكَ الْوَرْدُ مِنْ نَّفْسِهِ حَظُّ
وَوَفَى بِعَهْدِ الْحُـبِّ إِذْ لَـمْ يَكُنْ لَـهُ
إِلَى غَيْرِ مَنْ يَهْوَى الْتِفَاتُ وَلاَ حَظُّ
مَحَـتْ آيَــةَ الإِظْلاَمِ شَمْسُ نَهَارِهِ
وَقَــدْ ذَهَبَتْ مِنْهُ الإِشَارَةُ وَاللَّفْظُ
إلى غير ذلك من الأقوال التي تجدها مسطورة في كتب القوم.