فلما أدركتهم رحمته وجاءتهم نصرته تابوا إليه فوقعوا في العبودة والشهوة باقية فيهم إلا أنها ضعفت وخمدت نيرانها وانطفت شعلها وتلظيها في جوارح العبد فصارت كالجمرة قد غشيها الرماد فلم يبق في العروق والجوارح حرارة من الشهوة . فصار الصدر كتنور قد سكن تلظيه وخمد تسعره ، فلم يزل هكذا يصير جمره رماداً حتى برد فإذا التزق به رغيف سقط ولم يلزق به ولم يختبز .
فكذلك الصدر إذا برد من حرارة الشهوة ، فكلما مر به ذكر شيء مما نهي عنه سقط ولم يلزق به وكلما كان التنور أحمى كان الشيء به ألزق ونضجه أسرع . فالعبد خمدت نيران شهوته بالنور الذي ورد على قلبه فظفر بالتوبة لوروده وذلك النور من رحمة الله تعالى على العبد .
وللرحمة روح وبرد حيثما حلتا انطفت النيران ، إذ كانت هذه النيران من الشهوة تورده غداً نيران العقاب .
فلما انتهى العبد عما نهي عنه وأتى ما أمر واستمر في ذلك ، لم يخل من شهوة يهوي بها وهو الذي يقال له الهوى . فإذا أتى ما أمر وكان ذلك الأمر موافقاً لشهوته خف فيه وإن كان مخالفاً لشهوته ثقل عليه وأتاه بكره . فإن انتهى عن شيء وكان ذلك النهي موافقاً لشهوته خف عليه الانتهاء وإن كان مخالفاً لشهوته ثقل عليه الانتهاء . فإنما عملت فيهم هذا العمل هذه الشهوة الباقية فيهم فعلم الله تعالى هذا منهم قبل أن يخلقهم إذ دبرهم على ذلك . فخلق الله تعالى دار النعيم والكرامة ودار البؤس والهوان وأفشى خبر ذلك على ألسنة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيهم ليهيج من نفوسهم التي فيها هذه الشهوة وهذا الهوى ، شهوة تلك الدار ويميل بأهوائهم إليها .
فإن قال العصاة غداً محتجين بين يديه : يا ربنا إنك قد ركبت فينا هذه الشهوات التي هوت بنا ومالت إلى ما حرمت ، كان من حجته عز وجل عليهم أن يقول : فقد خلقت داراً فيها من النعيم ما يتلاشى هذا في جنبها ثم أرسلت خبر ذلك على ألسنة رسلي ليهتاج من نفوسكم التي منها تشتكون شوقاً إلى هذه الدار ، فإن كانت تلك حاضرة نصب أعينكم وهذه غائبة إلى مدة فقد جعلت بينهما من التفاوت في البون ما لا يحصيه البشر علماً فكيف لم تهج من نفوسكم الشهوة إليها والرغبة فيها ولم تطفيء شهوتكم تلك لهذه الشهوة الدنيئة ؟! أو لم ينفذ في أسماعكم إشاعة هذه الأخبار من أمور الدارين على ألسنة الرسل فلم ينجع في قلوبكم ؟! فإن لي عباداً حضروا هذا الجمع قبل اليوم وهم معكم نجع هذا الخبر في قلوبهم وتصور في صدورهم حتى صارت كأنها حاضرة نصب أعين قلوبهم فرفضوا عامة دنياهم رغبة فيما رغبتهم فيه تصديقاً لي بما أخبرتهم حتى أسهروا ليلهم وأظمأوا نهارهم فضلاً على ما أمرت وتركوا ما لم أنههم عنه أيضاً رغبة فيما عندي . وقد كان في تركيب أهوائكم وشهواتكم أنكم كنتم إذا تراءى لكم زيادة شيء من عرض الدنيا وحطامها الفانية رفضتم ما بأيديكم طمعاً في نوال الزيادة ، فلو أن أحدكم قيل له : ارفض هذا الدرهم الذي بيدك وخذ ديناراً إلى سنين كثيرة وكان ذلك الضمان من الصادق الملي الوفي لسارع إلى ذلك وقال : إنه ليهون علي رفض درهم لمكان دينار أطمعني فيه فلان الملي الوفي وضمن لي ذلك ، وشهوة هذا الدينار غلب على شهوة الدرهم وعرفت منه شهوة الدرهم . فهذه معاملتكم أيام دنياكم في كل شيء فما بالكم لم ترفضوا شهواتكم التي حرمت عليكم من أجل هذه الشهوات الباقيات التي بان للعبد تفاوتها أبعد من العرش إلى الثرى .
_________________ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد . قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .
|