موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 93 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة 1, 2, 3, 4, 5 ... 7  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: كشـف المحجوب
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يوليو 07, 2005 1:15 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347



بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم ،

والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادى البشير النذير وعلى آله الكرام
الأطهار الطيبين وعلى صحبه وسلم تسليما ً كثيراً .

دعونا نتصفح سوياً كتاب " كشف المحجوب " للهجويرى ؛ فمن خلاله أبوابه
يجيب عن تساؤلات أبى سعيد الهجويرى فى علم التصوف إجابات تفصيلية
مقرونة بالدلائل العلمية والبراهين الصوفية مستندة على الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية الشريفة .

لقد ألف الهجويرى هذا الكتاب لما رأى عليه علم التصوف من ضياع بين غير
أهله وإدلاء كل جاهل فيه بدلوه . وقد استفاد فى تأليف كتابه هذا من مجموعة
كتب التصوف التى سبقته ، ومع ذلك نجده مختلفاً عن غيره فلكل كاتب أسلوبه
ورؤيته وروحانيته التى تضفى على كلماته كسوة نورانية خاصة .
فلنتذوق هذا النبع النورانى سائلين الله أن ينفعنا بكل قطرة نرتشفها من كل عين
تفيض بعلوم أهل الله .. أهل الحق .

اللهم اجعلنا بحق جاه سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد الذى لولاه ما خلقت
الأكوان من خيار رجال أهل هذا الزمان وخيار خيار جند سيدنا ومولانا رسولك الكريم
ونبيك الرؤوف الرحيم .. اللهم آمين .

يتبع بعون الله الكريم ومدد حبيبه صلى الله عليه وسلم



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 10, 2005 12:12 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347
[align=center]
الباب الأول

" فـى إثبـات العلم "

[/align]
قال الله تعالى يصف العلماء : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } فاطر28 .

وقال صلى الله عليه وسلم : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ) .
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : ( اطلبوا العلم ولو بالصين ) .

فاعلم أن المعرفة واسعة ، والحياة قصيرة ، لذلك لم يفرض علينا تعلم كل الفنون :
كالفلك والطب والرياضة وعلم البديع وغيرها ، بل وجب أن نأخذ من كل علم ما نحن
بحاجة إليه فى إقامة فرائض الشريعة السمحاء . فمن الفلك علم مواقيت الصلاة
مثلاً ، ومن الطب ما يمنعنا من الوقوع فى التهلكة ، ومن الرياضة ما يمكننا معه
قسمة المواريث واحتساب العدة وغيرها . فالمعرفة مفروضة إذ المعرفة سلوك
طريق الحق ، فقد ذم الله قوماً اشتغلوا بزائف المعرفة ، إذ قال تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ
مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } البقرة 102 . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( اللهم إنى أعوذ بك من علم لا ينفع ) وما أكثر ما يمكن عمله بقليل من المعرفة .
وينبغى ألا يفترق العلم عن العمل ، فالمتعبد بلا فقه كالحمار فى الطاحون ذلك أنه
مهما يدور فهو على خطوته الأولى لا يقطع طريقاً ، قال صلى الله عليم وسلم :
( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهر أبقى ).

ورأيت جمعاً من العامة يرون أن المعرفة أفضل من العمل ، كما فضل بعضهم العمل
على المعرفة . وكلاهما على خطأ فيما ذهب إليه . فالعمل ما لم يكن مقترناً بالعلم
لا يكون عملاً . إذن فما دام العمل يصير عملاً بالعلم فكيف يفضل الجاهل العمل على
العلم. وقد أخطأ أيضاً أولئك الذين فضلوا العلم على العمل فالعلم بلا عمل لا يكون
علماً . ذلك أن التعلم والحفظ والاستذكار ، كلها من قبيل الأعمال ، ويثاب عليها
الإنسان , ولو لم يكن علم العالم بفعله وكسبه لما أثيب عليه .

وهناك صنفان ممن يتعاطون العلم . أولهما : أولئك الذين يتعلمون العلم طلباً للجاه
عند الخلق ، ولا طاقة لهم على العمل به ، ولا يبلغون تحقيق العلم ، فيفضلونه
عن العمل ، فلا يتعلمون العلم ولا العمل ، وتسمع الجاهل يقول " لا ينبغى
المقال لك ، ينبغى لك الحال " .

وثانيهما : يرى أن العمل يكفى ولا حاجة للعلم . روى عن إبراهيم بن أدهم أنه رأى
حجراً مكتوباً عليه : " إذا كنت لا تعمل بما تعلم فلماذا تطلب علم ما لم تعلم " أى
أعمل بما تعلم حتى تعلم ببركته ما لا تعلم . وقال أنس بن مالك رضى الله عنه "
همة العلماء الرعاية وهمة السفهاء الرواية ". يحسب من الجهال ، وتنتفى عنه
صفة العلماء ذلك الذى يطلب بالعلم جاه الدنيا وعزها . فهو ليس بعالم ، ذلك أنه
طلب العز والجاه من الجهل ولا درجة هناك فوق مرتبة العلم ، الذى إذا انتفى عن
صاحبه لا يعرف شيئاً من ألطاف الله ، وإذا وجد يكون جديراً بكل المقامات
والمشاهدات والمراتب .

فصل :
اعلم أن المعرفة على نوعين : ربانية وإنسانية . فالإنسانية لا قدر لها بالنسبة
للربانية ، لأن معرفة الله تعالى صفة له سبحانه وقائمة به . أزلية دائمة .

أما المعرفة الإنسانية فهى صفة من صفاتنا ، وهى قائمة بنا تفنى بفنائنا
لقوله تعالى : { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } الإسراء85 .

وفى الجملة فالعلم من صفات المدح ، وحدُّه : الإحاطة بالمعلوم وتبينه المعلوم
وأفضل تعريف له أن العلم صفة يصير الحى بها عالماً . وقد قال الله عز وجل :
{ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } البقرة 19 ، وقال أيضاً : { وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } البقرة 282 .

وعلمه علم واحد ، يعلم به كل الموجودات والمعدومات ، لا يشاركه فيه خلق ،
كما أنه لا يتجزأ ولا ينفصل عنه ، والدليل على علمه نظام صنعه ، فإن الصنع
المحكم يقتضى علم فاعله ، فعلمه إذن بالأسرار الخفية ، والظواهر المحيطة
توجب على الطالب مشاهدة الله فى كل أعماله ، كما يتعلم أن الله ناظر إليه
وإلى كل أعماله .

حكاية :
روى أن أحد الأمراء ذهب إلى حديقة له بالبصرة ، وفيما كان بها إذ وقعت عينه
على زوجة البستانى فأعجبته ، فأرسل زوجها فى بعض شأنه ، ثم قال للزوجة :
أوصدى الأبواب . فقالت : لقد فعلت إلا باباً واحداً لا أقدر عليه ، فقال : وما هو ؟
فقالت الباب الذى بيننا وبين الله تعالى ، فلما سمع منها ذلك استغفر الأمير
وأناب إلى الله تعالى .

حكاية :قال حاتم الأصم : اخترت أن أعرف أربعة أشياء ، ولا أبالى إن جهلت ما عداها ،
فقيل له : ما هى ؟ ، فقال : الأولى أنى علمت أنى مدين لله بدين لا يقوم به
عنى غيرى ، ولذلك فأنا مشغول بأدائه ؛ والثانية أنى عرفت أن رزقى قد قسم
لى فلا يزيد ولا ينقص ، ولذلك تركت أمر تدبيره . والثالثة : أنى أعلم أن ورائى
من يطلبنى وهو الموت لا مفر منه فاستعددت لمقابلته . والرابعة أنى أعلم
أن الله مطلع ، ولذلك فإنى استحى أن أفعل ما لا ينبغى فعله ، فحينما يكون
العبد عالماً أن الله ناظر إليه لا يقترف إثماً حتى لايستحى منه يوم القيامة .


يتبـع إن شاء الله تعالى ..



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يوليو 11, 2005 12:12 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347



فصل :
أما المعرفة الإنسانية فيجب أن يكون هدفها معرفة الله تعالى وأحكامه .
ومفروض على العبد علم الوقت وما يتعلق به من ظاهر وباطن ، وهو على
نوعين الأصول والفروع ، فظاهر الأصول قول الشهادة ، وباطنها تحقيق المعرفة ،
وظاهر الفروع القيام بالمعاملات ، وباطنها تصحيح النية . ولا تقوم واحدة من
هذه دون الأخرى ، فظاهر الحقيقة بلا باطن نفاق ، وباطن الحقيقة بلا ظاهر
زندقة ، وظاهر الشريعة بلا باطن نقص ، وباطنها بلا ظاهر هوس . إذن فلعلم
الحقيقة ثلاثة أركان : الركن الأول العلم بذات الله عز وجل ووحدانيته ، ونفى
التشبيه عن ذاته المنزهة جل جلاله ؛ والثانى العلم بصفاته وأحكامها ؛
والثالث العلم بأفعاله وحكمته .

ولعلم الشريعة ثلاثة أركان : أولها الكتاب ، وثانيها السنة ، وثالثها إجماع الأمة .
والدليل على العلم بإثبات الله وصفاته المنزهة وأفعاله قوله تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } محمد19 – وقال أيضاً { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ } الأنفال40 –
وقال عز من قائل { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } الفرقان45 – وقال { أَفَلَا
يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } الغاشية17 ، ونظير هذه الآيات كثير ، وكلها دلائل
على النظر فى أفعاله تعالى وتقدس ، حتى تعرف صفاته بأفعاله ، وقال الرسول
صلى الله عليه وسلم ( من علم أن الله تعالى ربه وأنى نبيه حرم الله تعالى
لحمه على النار ) .

أما شرط العلم بذات الله فهو أن يعلم العاقل البالغ أن الله تعالى بقدم ذاته موجود ،
ولا حد له ولا حدود ، ليس فى مكان ولا جهة ، ولا تلحق بذاته آفة ، وليس كمثله
شىء من خلقه ، لا صاحبة له ولا ولد ، وكل ما يتصوره الوهم أو يدركه العقل ،
فهو خالقه جل جلاله ، ومالكه وبارؤه لقوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ البَصِيرُ } الشورى11.

وأما العلم بصفاته ، فهو أن تعلم أن صفاته قائمة به ، فهى ليست إياه ، وليست
منفصلة عنه قائمة به ، وهو بذاته قائم ودائم ، كالعلم والقدرة والحياة والإرادة
والسمع والبصر لقوله تعالى { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } الأنفال43 ، وقال أيضاً
{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } الشورى9 ، وقال أيضاً { هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } غافر65 .
وقال أيضاً { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } الشورى 11 ، وقال أيضاً { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } هود107 ،
وقال أيضاً { قَوْلُهُ الْحَقُّ } الأنعام73 .

أما العلم بأفعاله فهو أن تعلم أنه تعالى وتقدس خالق الخلق ، وخالق أفعالهم ،
وكان العالم عدماً وبفعله وجد ، وهو مقدر الخير والشر ، وخالق النفع والضر ،
لقوله تعالى : { اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } الرعد16. والدليل على إثبات أحكام
شريعته ، أن تعلم أنه قد بعث إلينا الرسل بمعجزات تنقض العادة ، وأن رسولنا
محمد صلى الله عليه وسلم رسوله حقاً ، وأن له معجزات كثيرة ، وأن كل ما
أخبرنا عن الغيب والعيان حق بجملته . والركن الأول من الشريعة هو الكتاب
لقوله تعالى { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } آل عمران7 ، والثانى السنة لقوله تعالى
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } الحشر7. والثالث إجماع الأمة
لقوله صلى الله عليه وسلم ( لا تجتمع أمتى على الضلالة ، عليكم بالسواد
الأعظم ) وفى الجملة فإن أحكام الحقيقة كثيرة ، ولو أراد أحد أن يجمعها لما
استطاع ، فليس للطائف الله سبحانه وتعالى نهاية .

فصل :
اعلم أن هناك طائفة من السفسطائية يقولون باستحالة معرفة أى شىء ،
وأن المعرفة ذاتها كلمة لا مدلول لها ، ولكنى أقول لهم أنكم تقولون باستحالة
المعرفة ، فهل رأيكم هذا صحيح أم باطل ؟ فإن قالوا بصحته فإنهم بذلك يثبتون
حقيقة المعرفة ، وإن قالوا بعدم صحته فإن الجدل فى موضوع استبان خطؤه يكون
محض افتراء وليس من العقل فى شىء مناقشة مثل هذا الشخص ، وهذا رأى
بعض الملاحدة الذين ينتمون للصوفية ، فإنهم يقولون ما دام قد استحال معرفة أى
شىء ، فإن نفى المعرفة أكمل من إثباتها .

وهى نظرية صادرة عن غاية فى الغفلة والجهل ، فإن نفى المعرفة يلزم أن يكون
نتيجة العلم أو الجهل ، ومن المستحيل أن تنفى المعرفة المعرفة ، ولذلك فالمعرفة
لا ينفيها إلا الجهل القريب من الخزى والشرك والضلال ، وذلك من حيث أن لا صلة
للحق بالجهل .

وهذا مذهب معارض لمذهب أئمة الصوفية ، ولكنه كثيراً ما ينسب إليهم على يد
من سموه أو اعتنقوه ، فحسبى الله فيهم ، العليم بما يقيمون عليه من خطأ ،
فلو نالهم الشرع بحكمه لسلكوا صراطاً سوياً ، ولم يفرقوا بين أحبابه بهذا التجديف
ولأمعنوا النظر فيما يهم أنفسهم .

وإذا كان بعض الملاحدة يدعون أنهم صوفية ، ليستروا ضلالتهم بجمال غيرهم ،
وليعيشوا فى ستر عزهم ، فلماذا يتهم الصوفية جميعاً بأنهم مثل هؤلاء المدعين ،
ويسلطون على معاملاتهم مكابرة العيان ، ويضعون أقدارهم تحت الأقدام . وقد قال
لى أحد من يحبون أن نعتبرهم من أهل السنة ، ولكنه فى الحقيقة خلو من لب
المعرفة والدين : أن هنالك اثنى عشر مذهبا للملاحدة ، وأحد هؤلاء هم المتصوفة .
فقلت له : إذا كان لنا من هؤلاء واحداً فإن لكم الأحد عشر مذهباً الباقية ، وأن الصوفية
فى إمكانهم أن يحترسوا من أرباب هذا المذهب أكثر مما تحترسون أنتم من الفرق
الإحدى عشرة . أن كل هذا الضلال نابع من الفساد والتدهور ، الذين يسودان هذا
العصر ، بيد أن الله سبحانه وتعالى قد حفظ أولياءه ، من شر ما تعودته العوام .

ولقد صدق شيخ الشيوخ ، وشمس المريدين ، على بن بندار الصيرفى إذ قال :
" فساد القلوب على حسب فساد الزمان وأهله " وسأسرد لك فيما يلى أقوال
كمل الصوفية كتذكرة لمن فى قلبه شك .

فصل :
قال محمد بن الفضل البلخى :" العلم على ثلاثة أنواع : علم من الله ، وعلم مع الله ،
وعلم بالله " فالعلم بالله هو علم المعرفة ، الذى تعرَّف به عليه رسله وأولياؤه ،
ولو لم يكن التعريف والتعرف منه ما عرفوه ، ذلك أن كل أسباب الاكتساب من الحق
تعالى ، وليس لعلم العبد فى معرفة الله علة ، ذلك أن علة معرفته تعالى هى
هدايته وتعليمه . والعلم الذى هو من الله هو علم الشريعة ، التى أمرنا الله تعالى
بها وافترضها علينا . والعلم مع الله تعالى هو علم مقامات الطريق إلى الحق وبيان
مراتب أوليائه وهذا لا يصح بغير الشريعة . وعلم الشريعة لا يتم تطبيقه إلا بمعرفة
المقامات . يقول أبو على الثقفى : " العلم حياة القلب من الجهل ونور العين من
الظلمة " أى أن العلم حياة القلب من موت الجهل ، ونور عين اليقين من ظلمة الكفر ،
وكل من ليس له نصيب من علم الشريعة فقلبه مريض بالجهل فقلوب المشركين
ميتة لأنها تجهل الحق سبحانه ، وقلوب الغافلين مرضى لأنها تجهل أمره سبحانه .

قال أبو بكر الوراق الترمذى : " من اكتفى بالكلام من العلم – دون الزهد – تزندق ،
ومن اكتفى بالفقه دون الورع تفسق "، وهذا يعنى أن التوحيد دون عبادة أو مجاهدة
يكون جبراً ، والموحد جبرى القول قدرى الفعل ، حتى تكون منزلته بين الجبر والقدر ،
وهذا مصداق لقول ذلك الشيخ رحمة الله عليه " التوحيد دون الجبر وفوق الاختيار "
إذن فكل من يقنع بالكلام دون المجاهدة زنديق .

وأما الفقه فشرطه الاحتياط والتقوى ، فكل من شغل بالرخص والتأويلات والتعلق
بالشبهات ، وحام حول المجتهدين دون اعتقاد فإنه سريعاً ما يسقط فى الفسق
بسهولة . وهذا كله ينشأ عن الغفلة ، والغفلة هى السبب فى الافتقار إلى
الوازع الدينى والأخلاقى ، وما أفضل ما قاله شيخ الشيوخ ، يحيى بن معاذ
الرازى : " اجتنب صحبة ثلاثة أصناف من الناس : العلماء الغافلين ، والفقراء
المداهنين ، والمتصوفة الجاهلين " .

فالعلماء الغافلون هو أولئك الذين اتجهوا بقلوبهم نحو الدنيا واختاروا من الشرع
أسهله ، وتملقوا الحكام والطغاة ، وطوفوا برحابهم ، وجعلوا مهارتهم فى الجدل
سبيلاً إلى مهاجمة الأئمة الأعلام ، وانشغلوا بقهر أئمة الدين بكلام ملىء
بالحشو ، فلو وضع لهم الكونان حينذاك فى كفة الميزان لما ظهرا أمامهم ،
إذ جعلوا الحقد والحسد مذهباً . وفى الجملة لا يكون هذا علماً إذ أن العلم
صفة تنفى عن الموصوف بها أنواع الجهل .

أما الفقراء المداهنون فهم أولئك الذين يمتدحون كل ما يتفق مع رغبتهم حتى
وأن كان باطلاً ، ويذمون ما يكرهون وإن كان حقاً ، يحاولون أن يتجهوا إلى الناس
عن طريق النفاق .

أما المتصوف الجاهل فهو ذلك الذى لم يلحق بشيخ ، ولم يأخذ آداب السلوك
من مرب عظيم ، ولم يذق مر الزمان ، وارتدى الأزرق عمى ، وألقى بنفسه
بينهم ، وتجرأ فى صحبتهم بالانبساط ، ودفعه حمقه لأن يظن أنهم جميعاً مثله ،
وأشكل عليه طريق الحق والباطل . هذه هى الأصناف الثلاثة من الناس الذين
بينهم هذا الموقف . وأمر المريد بالإعراض عن صحبتهم ، فهم كاذبون فى
دعاويهم ، ضالون فى طريقهم .

يقول أبو يزيد البسطامى :" عملت فى المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً
أشد على من العلم ومتابعته " ، وفى الجملة لأن يطأ المرء الجمر أيسر على
الطبيعة الإنسانية من أن يسلك طريق المعرفة ، وأن يعبر قلب الغافل الصراط
ألف مرة أيسر من أن يلم بقدر ضئيل من المعرفة . ويفضل الفاسق أن يقيم
خيمته فى السعير بدلاً من أن يقوم بتطبيق شىء مما عرف ، ولذلك فمن الواجب
عليك أن تتعلم العلم ، وتبحث عن كماله . وأن كمال المعرفة الإنسانية هو الجهل
بالمعرفة الإلهية ، إذ عليك أن تبلغ من العلم قدراً يجعلك تعلم أنك لا تعلم .
ومعنى هذا أن المعرفة الإنسانية هى وحدها ما يقدر الإنسان على تحصيله ،
وأن البشرية هى أكبر حاجز يفصله عن الربوبية كما قال الشاعر :
العجز عن درك الإدراك إدراك *** والوقف فى طرق الأخيار إشراك

أما من لا يعلم ويصر على جهله فهو مشرك ، ولكن العالم عندما تصل معرفته
إلى درجة الكمال يرى الحقيقة ، ويدرك أن معرفته ليست أكثر من مجرد عجزه
عن أن يدرك ما ستكون عليه نهايته ، إذ أن الحقائق لا تتأثر بما أطلق عليها من
أسماء . فعجزه عن اللحاق بالعلم علم والله أعلم .



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء يوليو 12, 2005 2:58 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347


[align=center]
الباب الثانى
فى الفقر
[/align]

[color=#undefined]اعلم أن للفقر مرتبة عالية فى طريق الحق ، وأن للفقراء خطراً كبيراً ، كما قال
تعالى : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ } البقرة 273 ، وقال أيضاً : { ضَرَبَ اللّهُ
مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } النحل 75 ، قال : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } السجدة 16 .

وقد اختار الرسول الفقر حين قال : ( اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا
واحشرنى فى زمرة المساكين ) وقال كذلك ما معناه : يقول الله يوم القيامة
( أدنوا منى أحبائى ) فتقول الملائكة ( ومن أحباؤك ) فيقول ( فقراء المسلمين ).

والقرآن والسنة زاخران بالآيات والأحاديث المشابهة ، وهى معروفة بحيث لا يوجد
داع لذكرها هنا . وكان من بين المهاجرين فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم
رجال فقراء ، يجلسون فى مسجده ، ويخصصون وقتهم كله لعبادة الله ، معتقدين
كل الاعتقاد أن الله تعالى سوق يقيتهم بعد أن توكلوا عليه ، وقد أمر النبى أن
يجتمع بهم ويوليهم عنايته . فقال عز من قائل : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } الكهف 28 ، ولذلك عندما كان النبى يقابل
أحدهم كان يقول ما معناه ( بأبى أنت وأمى ! ، لقد عاتبنى فيكم ربى ) .

ولذلك فقد امتدح الله الفقر ، وجعله امتيازاً خاصاً للفقراء ، الذين تجردوا عن
كل سبب ظاهرى وباطنى ، واتجهوا بكلهم نحو مسبب الأسباب ، حتى صار
الفقر مفخرة لهم ، يئنون لذهابه ، ويسرون لمجيئه ، ويأنسون إليه ويعتبرون
ما عداه محتقراً .

وللفقر رسم وحقيقة فرسمه العوز والافتقار ، ولكن حقيقته الثراء والاختيار ،
ومن ينظر إلى الرسم يبقى عند الاسم ، ويبتعد عن الحقيقة دون أن يحقق
أمله ، ولكن من يجد الحقيقة يبتعد بناظريه عن كل ما هو مخلوق ، ويسرع بفناء
الكل ، فى رؤية الكل ، ببقاء الكل . إذن من " لم يعرف سوى رسمه لم يسمع
سوى اسمه " . فالفقير هو من ليس له شىء ، وليس فى إمكانه أن يفقد
شيئاً ، وهو لا يصبح غنياً إذا حاز عرضاً ، ولا فقيراً إذا لم يكن لديه شىء ،
فالوجود والعدم سواء بالنسبة لفقره ، وقد اتفق على أنه يزداد سروراً ، حينما
لا يكون لديه شىء ، فقد قال الشيوخ :" كلما زاد فقر المرء كلما تكشفت
أمامه الأحوال ".

ذلك أنه من سوء حظ الفقير أن تكون له ممتلكات ، فإذا احتفظ بشىء لمنفعته
الخاصة كان بمثابة من يأسر نفسه ؛ ويعيش أحباب الله من ألطافه الخفية ،
وعطائه الإلهى ، ولا يحجبهم عرض الدنيا عن طريق الرضا بل عن طريق الدنيا
الغادرة التى هى دار الفجار .

حكاية :
قابل أحد الدراويش ملكاً فقال له الملك : " ما حاجتك ؟ فأجابه الدرويش : أنا لا
أطلب حاجة من أحد من عبيدى . فقال الملك : وكيف ذلك ؟ فأجابه الدرويش :
لدى عبدان هما سيداك الحرص وطول الأمل " .

وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الفقر عز لأهله ؛ إذن فما هو عز
لأهله هو ذل لغير أهله ، وعزه فى أن الله قد حفظ جوارح الفقير من أن يقع فى
الزلل ، وقلبه من الخلل ، فلا يرتكب جسده معصية أو زلة ، ولا يعتور حاله خلل
وآفة . وذلك لأن ظاهره مشغول فى التفكير فى آلاء الله ، وباطنه تحميه رحمته
الخفية ، وبذلك يصبح جسمه روحانياً وقلبه ربانياً وعندئذ تنفصم العلاقة بينه
وبين البشر ، ولا يصير غنياً فى هذا العالم ، حتى ولو منح ملكه ، ولا فى العالم
الآخر ولو منح ملكه ؛ بحيث لا يزن هذا العالم والعالم الآخر فى ميزان فقره أكثر
من جناح بعوضة ، ولا يجتذبه هذان العالمان لمجرد لحظة من الزمن .

فصل :
اختلف أئمة الصوفية أيهما أفضل : الفقر أم الغنى ، على اعتبار أنهما صفتان من
صفات الإنسان ، إذ أن الغنى الحقيقى صفة من صفات الله الكامل فى كل صفاته ،
ويرى يحيى بن معاذ وأحمد بن أبى الحوارى والحارث المحاسبى وأبو العباس بن
عطاء ورويم وأبو الحسين بن سمعون أن الغنى أفضل من الفقر . ويؤيدهم من
المتأخرين الشيخ أبو سعيد فضل الله بن أبى الخير محمد الميهنى ، فيرى أن
الغنى أفضل من الفقر . وحجتهم أن الغنى صفة من صفات الله ، بينما لا يمكن
أن تعزو الفقر إليه سبحانه ؛ ولهذا فإن الصفة التى يشترك فيها الإنسان مع الله ،
أفضل من تلك التى لا تنطبق على الله تعالى .

وأرى أن هذا اشتراك فى الاسم لا فى المعنى ، وليس له وجود فى الحقيقة ،
إذ أن الاشتراك الحقيقى فى الأسماء يقتضى وجود تشابه فى المعنى ، ولكنا
نرى أن الصفات الإلهية أزلية ، والصفات الإنسانية مخلوقة ، ولهذا فإن برهانكم
خاطىء .

وأرى – أنا على بن عثمان - ، وفقنى الله بالخير – أن الغنى صفة يوصف بها الله ،
وليس للإنسان حق فى الاتصاف بها ، بينما الفقر صفة يوصف بها الإنسان ، ولا
يوصف بها الله . وقد يوصف الإنسان مجازاً بالغنى ، ولكنه فى الحقيقة ليس كذلك .

وهناك برهان آخر يوضح هذه النقطة ، وهو أن الغنى الإنسانى صفة ترجع للأسباب ،
أما الغنى الإلهى فلا يرجع لأى سبب لأن الله هو مسبب الأسباب . ولهذا فلا يوجد
اشتراك بالنسبة لهذه الصفة وليس من المسموح أن تشبه شيئاً بالله لا فى
حقيقته ولا فى صفته ولا فى اسمه .

فغنى الله فى عدم حاجته إلى الغير ، وفى قدرته أن يفعل ما يريد ، فلا راد لقضائه ،
ولا مانع لقدرته ، فهو قادر على الضدين . وهكذا كان دائماً ، وهكذا سيكون أبدا .
أما غنى الإنسان فهو وسيلة من وسائل العيش ، أو من وسائل جلب السرور ،
أو قد يكون سبيلاً لعدم الوقوع فى المعصية ، أو التمتع بالمشاهدة ، وجميعها
عارية عرضة للتغيير ، ومادة للطلب والتحسر ، وموضع للعجز .

إذن فهذا الاسم مجاز للخلق ، وذلك لقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء
إِلَى اللَّهِ } فاطر15 ، وقال أيضاً : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء } محمد 38 .

وعلاوة على ذلك فإن بعض العوام يفضلون الغنى على الفقير ، قائلين أن الله
يتفضل برحمته على الغنى فى الدنيا والآخرة ، وأنه تعالى قد منحه مزايا الغنى
فى هذه الدار ، فإن معنى الغنى لديهم هو وفرة العرض الدنيوى ، والمتاع
واتباع الشهوات . وحجتهم أن الله قد أمرنا أن نشكره لنعمائه ، وأن نصبر على
الفقر . أى أن نصبر فى الضراء ، ونشكر فى السراء . ولهذا فإن السراء هى
بالضرورة خير من الضراء . وعلى هذا أجيب قائلاً : أنه عندما أمرنا تعالى أن
نشكر فى السراء جعل الشكر وسيلة لزيادة نعمائه ، ولكن عندما أمرنا أن
نصبر فى الضراء جعل الصبر وسيلة لأن يقربنا لجنابه العلى ، قال تعالى :
{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } إبراهيم7 ، وقال : { إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } البقرة153 .
فكل من يشكر على النعمة وهى فى الأصل غفلة ، فإنه يزداد غفلة على
غفلة ، وكل من يصبرعلى الفقر – وأصله بلاء – يزداد قرباً على قرب .

إن العلماء الذين يفضلون الغنى على الفقر ، لا يستخدمون كلمة الغنى بمعناها
العلمى ، فهم لا يعنون بها جمع النعماء ، ولكن الاتصال بالمنعم ، ويقولون أن
الاتحاد بالله شىء آخر غير الغفلة عن الله ، وقد قال الشيخ أبو سعيد رحمه الله
" الفقر هو الغنى بالله " أى هو المكاشفة الدائمة للحق .

وأجيب على ذلك قائلاً أن المكاشفة تقتضى وجود حجاب ، ولهذا فإن كان المتمع
بالمكاشفة محجوباً عن المكاشفة بصفة الغنى ، يكون إما فى حاجة إلى
المكاشفة ، أو فى غير حاجة إليها ، فإذا لم يكن فى حاجة إلى المكاشفة كان
الاستنتاج سخيفاً ، وإذا كان فى حاجة إليها فإن الحاجة لا تتفق مع الغنى ؛
ولهذا فإن هذه العبارة غير مقبولة ، وعلاوة على ذلك فليس لأى شخص غنى
بالله إلا إذا كانت صفاته أبدية ومقصده ثابت غير متغير ، إذ لا يتفق الغنى مع
وجود مقصد ، ولا مع الصفات البشرية ، إذ أن الصفات الأساسية للبشرية هى
الحاجة والعجز ، وأن من تظل صفاته قائمة ليس بغنى ، وأن من تنمحى صفاته
غير خليق بأى اسم على الإطلاق .

ولهذا فإن " الرجل الغنى هو من أغناه الله ، لأن كلمة " الغنى بالله " تشير إلى
الفاعل ، أما عبارة " من أغناه الله " فتشير إلى المفعول ، فالأول يغنى نفسه
بنفسه ، أما الثانى فيغنى عن طريق من يغنيه ، وعليه فإن السعى من أجل
العيش والثراء من صفات الإنسان ، أما العيش بالله فيقتضى الغناء عن الصفات
البشرية .

ولهذا فإنى – على بن عثمان الجلابى – أرى أنه ما دام قد ثبت أن الغنى الحقيقى
لا يتفق مع بقاء صفة ، إذ أن بقاء الصفات محل علة بالدلائل المذكورة ومعرضة للزوال ؛
وأقول أن الغنى لا يتفق كذلك مع القضاء على الصفة ، لأنه لا يمكن تسمية الصفة
التى أصبحت غير قائمة ، وأن من قضى على ماله من صفة لا يمكن اعتباره فقيراً
أو غنياً ، ولهذا فإن صفة الغنى لا يمكن تحويلها عن الله إلى الغير ، كما لا يمكن
تحويل صفة الفقر من الإنسان إلى الله.

إن أكثر أئمة الصوفية يفضلون الفقر على الغنى ، ذلك لأن القرآن والسنة قد أعلنا
ذلك بوضوح ، وعلى هذا اتفق معظم المسلمين ومن بين الحكايات التى قرأتها أن
هذا الموضوع قد نوقش مرة بين الجنيد وابن عطاء ، وكان ابن عطاء يفضل الغنى ،
ويقول أن الأغنياء سيحاسبون يوم البعث عن غناهم ، وأن مثل هذا الحساب يعنى
أنهم سيستمعون إلى الكلمة الإلهية دون وسيط على صورة عتاب ، والعتاب هو ما
يوجهه الحبيب لحبيبه .

فأجابه الجنيد : " إذا كان سيحاسب الأغنياء ، فإنه سيعذر الفقراء والأعذار أفضل
من الحساب ".

وهذه نقطة دقيقة ، ذلك أن العذر فى – مرتبة الحب الحقيقى – نوع من الغيرية ،
وأن العتاب يتنافى مع الاتحاد . ويعتبر المحبون كلا الشيئين نقيصة ، ذلك لأن المرء
يعتذر إذا هو عصى أمر محبوبه ، ويعذر لنفس السبب ، وكلاهما مستحيل وجوده
مع الحب الحقيقى ، إذ فيه لا يحتاج المحبوب إلى شرح من حبيبه ، ولا يقصر المحب
فى تنفيذ إرادة من يحب .

وفى الجملة فإن الفقراء مطالبون بالصبر ، والأغنياء مطالبون بالشكر . وفى تحقيق
المحبة لا يطلب محب من حبيبه شيئاً ، ولا يعصى محب أمراً لمحبه . وإذن فقد ظلم
من سمى ابن آدم أميراً ، وقد سماه ربه فقيراً ، فكل من اسمه من قبل الحق فقير ،
فهو فقير حتى ولو كان أميراً ، وقد هلك كل من يظن أنه ليس أسيراً حتى ولو جعل
مقامه عرشاً وسريراً ، ومن هنا فالأغنياء أصحاب صدقة ، والفقراء أصحاب صدق ،
ولا يتساوى الصدق مع الصدقة أبداً . وأن ثروة سليمان وفقره متحدان فى
أساسهما فقد قال الله لأيوب فى منتهى صبره ، ولسليمان فى أوج ثرائه :
{ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } ص30 – 44 . فعندما ما يتحقق رضى الله يستوى فقر
سليمان وغناه .

[/color]
يتبع إن شاء الله..


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء يوليو 12, 2005 10:52 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء مارس 02, 2004 5:42 am
مشاركات: 1411
[align=center] نشكر فدا النبي لتلك المشاركات القوية المركزه
وكانها بلسم للقلب او حديقه ونبع صافي نلتف حوله للعلم والاستمتاع و المعرفة
ولا تحرمينا من الصوفية احوال ومقامات فان اهل الصوفية
لا ينتهي الحوار معهم ومقاماتهم لا يعلم بها أي من النفوس أو العقول
أو الأرواح التي خربت بسبب البعد عن معرفة أحوال ومقامات اهل الله
شكرا يا فدا النبي .[/align]
[fot]
وللفقر رسم وحقيقة فرسمه العوز والافتقار ،
ولكن حقيقته الثراء والاختيار ،
ومن ينظر إلى الرسم يبقى عند الاسم ،
ويبتعد عن الحقيقة دون أن يحقق أمله ،
ولكن من يجد الحقيقة يبتعد بناظريه عن كل ما هو مخلوق ،
ويسرع بفناء الكل ،
فى رؤية الكل ، ببقاء الكل .
إذن من " لم يعرف سوى رسمه لم يسمع
سوى اسمه " .
[/fot]


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يوليو 13, 2005 2:16 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347


يقول المؤلف : سمعت أبا القاسم القشيرى رحمه الله يقول تحدث الناس كثيراً
عن الفقر والغنى ، فضلوا هذا أو ذاك ، ولكنى أختار لنفسى ما يختاره الله لى
ويجعلنى فيه . وإذا أادنى فقيراً فيجب ألا أكون حريصاً أو متمرداً .

ولهذا فإن كلاً من الغنى والفقر منحة إلهية ، وفساد الغنى هو الغفلة ، وفساد
الفقر هو الحرص . والغنى والفقر كلاهما خير ، ولكنهما يختلفان فى التطبيق .
فالفقر هو انفصال القلب عما سوى الله ، والغنى هو انشغال القلب بما لا
يمكن تحديده ووصفه .

وعندما يخلو القلب من كل ما عدا الله ، لا يصبح الفقر خيراً من الغنى ، ولا الغنى
خيراً من الفقر . أن الغنى هو وفرة المتاع الدنيوى ، والفقر نقصانه ، وكل المتاع
ملك لله فعندما يودع السالك متاعه يختفى هذا التناقض وتستوى العبارتان .

فصل :
ولكل شيخ من شيوخ الصوفية رمز فى مدلول الفقر . وسأذكر هنا بعض ما
قالوه مما يتسع له هذا الكتاب . يقول أحد المحدثين من الصوفية " ليس الفقير
من خلا من الزاد إنما الفقير من خلا من المراد "
. مثال ذلك ، أنه إذا أعطاه الله
مالاً وأراد أن يبقيه فهو غنى ، وإذا اراد أن يتركه فهو لا يقل غنى ، فكلاهما
تصرف فى الملك والفقر هو ترك التصرف .

يقول يحيى بن معاذ الرازى : " علامة الفقر خوف زوال الفقر " يعنى أن من
صحة الفقر الحقيقى ألا يخشى الإنسان ذهاب الفقر عنه ، حتى وهو فى
كمال الولاية ، وقيام المشاهدة ، وفناء الصفة . إذن فكماله ألا يخاف من زواله ،
ويقول رويم : " من نعت الفقير حفظ سره وصيانة نفسه وأداء فرائضه " يعنى
أن من صفات الفقير أن يكون سره مصوناً عن الغرض ، وروحه وجسده من
الآفات ، وأن يقوم بأداء ما فرضه دينه من واجبات . بمعنى ألا يحول تفكيره
دون عمله أو العكس وهذه علامة على أنه قد ألقى عنه صفاته البشرية ،
فيصير العبد بأجمعه لله .

يقول بشر الحافى : " أفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر "
أى أن خير مقام هو أن تكون لك عقيدة ثابتة فى أن تتحمل الفقر باستمرار .
والفقر هو محو كل المقامات ، ولهذا فإن التصميم على تحمل الفقر علامة
على اعتبارك كافة الأعمال والتصرفات غير كاملة ، ونزوعك إلى القضاء على
كافة الصفات البشرية ويتضح من هذا القول أنه يعتبر الفقر أعلى مكانة
من الغنى ، وأنه يصر على عدم التخلى عنه .

ويقول الشبلى : " الفقير لا يستغنى بشىء دون الله " أى أن الرجل الفقير
لا يقنع بشىء خلاف الله ، إذ ليس له هدف آخر . والمعنى الحرفى هو أنك
لا تصبح غنياً إلا بالله ، وأنك حين تصل إلى الله تصبح غنياً . وعليه فإن وجودك
غير وجود الله ، ذلك أنه لا يمكنك أن تحصل على الغنى بدونه ، وعندما تجده
يصير حجاباً للغنى ، وحينما تحيد عن الطريق لا تجده . فمتى تكون غنياً ؟
هذه الحكمة دقيقة غامضة ، ومعناها فى رأى أهل الحقيقة هو " الفقير
لا يستغنى عنه " ، أى أن الفقيرهو من لا يستغنى أبداً عن الله . وهذا
هو ما عناه الشيخ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن على الأنصارى
الهروى رضى الله عنه حين قال : " إن حزننا أبدى ، فلا هممنا ترقى إلى
تحقيق أهدافنا ، ولا كُلَّيتنا تفنى " . فهو ليس بجنس تغفل الأعراض عن
حديثه ، إذن تقع العراقيل دوماً والتقدم فى الطريق صعب وليس الدرويش
بغافل ، وذلك الحبيب لمن تبدى ولا طريق له ، ووصاله ليس فى مقدور
الخلق وليس فى الفناء تبدل فى الصورة ، وليس المتغير خليقاً بالبقاء ،
فلا الفانى يصير باقياً أبداً ، حتى يكون ثم وصال ، ولا يصير الباقى فانياً
حتى يكون ثم قرب ، فكل شغل أحبائه تنميق كلام برمته ، واستحداث
المقامات والمنازل فى الطريق راحة للأرواح ، فعباراتهم منهم لهم ،
ومقاماتهم خليقة بهم ، والحق تعالى منزه عن أوصاف الخلق وأحوالهم .

يقول أبو الحسين النورى : " علامة الفقير السكون عند العدم والبذل عند الوجود " .
يعنى أنه عندما لا يحصل على ما يرغب ، يكون ساكناً وعندما يحصل على شىء
يعتبر غيره أكثر استحقاقاً لهذا الشىء منه ، ولهذا يتركه . وما يشير إليه هذا
القول ذو أهمية بالغة ، ويمكن أن نستنتج منه معنين:-

1- أن سكونه عندما لا يحصل على شىء رضى ، وبذله حينما يحصل على
شىء محبة ، إذ أن كلمة " رضى " معناها قبول الخلعة ، وخلعة التشريف
رمز للقلوب ، بينما يرفض المحب الخلعة إذا كانت رمزاً للفراق .

2- سكونه حينما لا يحصل على شىء هو توقع منه أن ينال شيئاً ، وعندما
يحصل على ذلك الشىء يجد أنه غير الله ، وهو لا يقنع بشىء غير الله
فيرى تركه .

إن هذين المعنيين يظهران فى قول شيخ المشايخ أبى القاسم الجنيد : " الفقر
خلو القلب عن الإشكال " أى عندما يخلو قلب من المظاهر يصبح فقيراً ، إذ أن
وجود المظاهر غير وجود الله ، ولذلك كان نبذها هو الطريق الوحيد . ويقول
الشبلى : " الفقر بحر البلاء وبلاؤه كله عز " أى أن الفقر بحر المتاعب ، وكافة
المتاعب التى تأتى من الله عز ، والعز جزء من " الغير " ومن امتحنهم الله
يغمرون فى بحر من المتاعب ، ولا يعرفون العز إلا عندما ينسون متاعبهم ،
وينظرون إلى مسببها . وعندئذ تتحول متاعبهم إلى عز ، وتتحول عزتهم إلى
وقت ، ويتحول وقتهم إلى محبة ، وتتحول محبتهم إلى شهود ، وأخيراً يصبح
عقل المشاهد مركزاً للرؤية عن طريق خياله ، فيرى بغير عين ، ويسمع بغير إذن .

ومن ناحية أخرى فإن من عظمة الرجال أن يتحملوا الأعباء التى يحملها لهم
محبوبهم ، ذلك أن المحبة هى فى الحقيقة عزة ، والرجاء ذلة ، والعزة ما يجعل
المرء حاضراً مع الله ، والذلة هى ما يجعل المرء بعيداً عنه ، ومحنة الفقر دليل
على الحضور ، أما بهجة الغنى فهى علامة على الغيبة ، فالحاضر بالحق عزيز ،
والغائب عن الحق ذليل ، فبلاؤه مشاهدة ، ودماره أنس فالتعلق بذلك غنيمة .
يقول الجنيد : " يا معشر الفقراء إنما تقرنون بالله ، وتكرمون بالله . فانظروا كيف
تكونون مع الله إذا خلوتم به " بمعنى آخر إذا لقبكم الناس بالفقراء واعترفوا
بدعواكم ، فاهتموا بأداء ما يفرضه عليكم طريق الفقر . وإذا أعطوكم اسماً آخر ،
لا يتفق مع ما تعلنون ، فلا تقبلوه ؛ ولكن قوموا بأداء وظيفتكم ، فإن أحط الناس
من يعتبره الناس مخلصاً لله ، وهو ليس كذلك فى حقيقته ، وأنبل الناس من لا
يرى الناس فيه إخلاصاً لله ، وهو فى حقيقته مخلص له سبحانه . فالشخص الأول
يشبه دعى الطب ، الذى شهر نفسه وادعى أنه قادر على علاج الناس ، وهو فى
الحقيقة يزيد حالتهم سوءاً ، وعندما يصاب هو بالمرض يكون فى حاجة إلى طبيب
آخر يصف له العلاج . أما الشخص الثانى فلا يعرف عنه أنه طبيب ، ولا يشغل نفسه
بغيره ، ولكن يشغل نفسه بالأغذية والأشربة الزلال ، والمفرحات المتقنة ، وألوان
الهواء المعتدل حتى لا يمرض ، وقد غض الخلق كلهم عنه أطرافهم .



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يوليو 14, 2005 12:49 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347


ويقول أحد الصوفية المحدثين : " الفقر عدم بلا وجود " وليس من الممكن تفسير
هذا القول ، إذ أن ما لا وجود له لا يمكن وصفه ، ويدل ظاهر هذا القول على أن
الفقر عدم ، ولكن هذا غير صحيح ، إذ أن تفسيرات رجال الله وإجماعهم لا تقوم
على مبدأ لا وجود له ، وليس المعنى هنا هو فناء الحقيقة ، بل فناء كل ما يلوث
الحقيقة ، وكل الصفات البشرية مصدر لهذا التلوث . وعندما تتخلص من ذلك تكون
النتيجة فناء الصفات ، التى تمنع المرء من وسيلة تحقيق بغيته . ولكن عدم وصوله
للحقيقة قد يجعله يظن فى فناء الحقيقة ، ويلقى به فى الضلال . وقد قابلت بعض
المتكلمين الذين ضحكوا ساخرين من هذه الحكمة قائلين أنها محض هراء ، لأنهم
لم يتمكنوا من فهم مضمونها . كما قابلت بعض المدعين للتصوف ، الذين حاولوا
تفسيرها بصورة خاطئة متظاهرين بإقتناعهم بصحتها على الرغم من أنهم لم
يلموا بالأساس الذى تقوم عليه . إن كلا الجانبين خاطئ ، ذلك أن أحدها ينكر
الحقيقة عن جهل ، والآخر يجعل الجهل حالاً ، أن كلمتى " عدم " و " فناء " كما
يستخدمها الصوفية تعنيان اختفاء الوسيلة المذمومة ، والصفة غير الحميدة ،
عند محاولة البحث عن صفة جيدة ، وهما لا يعنيان البحث عن شىء غير قائم
بوسيلة قائمة .

إن الفقر إلى الله هو بكل معانيه فقر مجازى ، وهناك مظهر أساسى بين كافة
مظاهره الثانوية ، إن الأسرار الإلهية تأتى وتذهب للفقير ، بحيث يظهر أنه هو
الذى يكسب ويعمل ويفكر ، ولكن عندما تتحرر شئونه من قيود الكسب تصبح
أعماله منقطعة عن نفسه . وعندئذ يصبح هو الطريق لا السالك بمعنى أن
يصبح الفقير المكان الذى يسير عليه ، لا سالكاً يتبع إرادته ومشيئته هو ،
فهو لا يجلب لنفسه شيئاً ولا يدفع عنها أى شىء .

إن كل ما يؤثر عليه راجع إلى من هو سواه .

لقد قابلت بعض مدعى الصوفية من أرباب اللسان ، الذين دفعهم إدراكهم
الخاطىء لهذا الموضوع أن ينكروا وجود حقيقة الفقر ، بينما وجد أن عدم
رغبتهم فى حقيقة الفقر جعلهم ينكرون حقيقته . إنهم سموا إخفاقهم فى
البحث عن الحق والحقيقة " فقراً " و " صفاء " ويبدو أنهم كانوا يؤكدون أوهامهم
هذه وينكرون ما سواها . إن كل واحد منهم كان محجوباً عن الفقر إلى حد ما ،
ذلك أن غرور الصوفية يدفع إلى إدعاء كمال الولاية ويصبح الهدف الأسمى هو
أن يصفهم الناس بالمتصوفين ، ظانين أن هذا من كمال الولاية ، وهذا هو غاية
الغايات ، وليس على السالك إلا أن يسلك طريق التصوف ، وأن يرتقى من مرتبة
لمرتبة ويدرك تعبيراتهم الرمزية ، حتى لا يصبح من العوام بين المختارين . إن عوام
الأصول ليست لهم أرض يقفون عليها . أما من يجهلون الفروع فلهم من الأصول
ما يدعم مكانتهم .

إنى أقول هذا لأشجعك أن تقوم بهذه السياحة الروحية ، وتشغل نفسك بالالتزام
بمقتضياتها .

وفى باب التصوف سأقوم بشرح بعض الأصول والإشارات ، والتعبيرات الصوفية
لهذه الطائفة ، ثم سأقوم بعد ذلك بذكر حياة بعض كبار المتصوفين ، ثم أوضح
بعد ذلك مختلف المبادئ التى يؤمن بها شيوخ التصوف ، وبعد ذلك أتحدث عن
حقائق التصوف وعلومه وقوانينه ، وأخيراً سأتحدث عن آداب السلوك ، وأهمية
مراتبه ، حتى تتضح حقيقة هذا الموضوع لك ولكل القارئين .



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 17, 2005 1:56 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347

[align=center]البـاب الثـالث
فـى التـصوف
[/align]

قال الله تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ
الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً } الفرقان 63 . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما معناه " من سمع صوت داع ولم يؤمن على دعائه كتب عند الله من الغافلين " .
وكثيراً ما كان المعنى الحقيقى لكلمة " متصوف " موضوع نقاش ، وقد كتبت
فى ذلك كتب كثيرة . ويؤكد البعض أن الصوفى لقب بهذا الاسم ، لأنه يرتدى
رداء من الصوف ، ويقول البعض الآخر : أنه لقب بالصوفى لأنه فى الصف الأول ،
ويقول آخرون : إن السبب هو أنهم ينتمون إلى " أهل الصفة " رضى الله عنهم ،
وهناك من يقول كذلك أن الاسم مشتق من الصفاء .

ولكن هذه التفسيرات لكلمة صوفى لا توفى متطلبات الاشتقاقات اللغوية ،
وإن كان لكل رأى ما يؤيده من الحجج الدقيقة .

إن الصفاء صفة محمودة ، وعكسه الكدر ، وقال النبى صلى الله عليه وسلم
( لقد ذهب صفو الدنيا وبقى كدرها ) لطائف الأشياء صفوها ، وكثائف الأشياء
كدرها .

وبما أن الصوفية قد ظهروا بأخلاقهم وتصرفاتهم ، حاولوا أن يتجنبوا كل ما
يلطخها ، فإنهم لذلك يلقبون بالصوفية . وهذه التسمية اسم علم ، وبما أن
كرامة أهل التصوف من الوضوح بحيث لا تخفى معاملاتهم ، لهذا فإن اسمهم
فى غير حاجة إلى شرح ، وفى هذا الوقت حجب الله تعالى معظم الناس
عن الصوفية وعن اتباعها ، وأخفى أسرارها عن قلوبهم ، ولذلك فإن البعض
يتخيل أنها تتكون أساساً من التقوى الظاهرية دون تأمل داخلى ، ويعتقد
الآخرون أنها نظام لا أساس له ، حتى أنهم اتبعوا رأى الساخرين منهم من
علماء الظاهر ، والذين ينكرون الصوفية إنكاراً كاملاً دون أن يبذلوا أية محاولة
لاكتشاف حقيقتها .

إن أولئك الذين ينساقون انسياقاً أعمى مع هذا الرأى ، قد نزعوا من قلوبهم
تلك الرغبة فى الصفاء الباطنى ، ونبذوا صفات السابقين الأولين من صحابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم .

إن الصفا صفة الصديق *** إذا أردت صوفياً على التحقيق

ذلك أن للصفاء أصل وفرع : فأصله انتزاع القلب من الأغيار ، وفرعه نفض اليد
من هذه الدنيا الخادعة . كانت هاتان الصفتان تميزان الصديق أبى بكر عبد الله
بن أبى قحافة ، رضى الله عنه . فهو إمام أهل هذا الطريق ، ويكفى دليلاً
انقطاع قلبه عن الأغيار أن كل الصحابة انكسرت قلوبهم لذهاب الرسول
صلى الله عليه وسلم إلى الحضرة العلية ، والمكان الأسمى ، وسلَّ عمر
رضى الله عنه سيفه قائلاً : " من قال إن النبى قد مات جززت رأسه " وعندئذ
تقدم أبو بكر ، وقال بصوت عال : " من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ،
ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت " ، وتلا الآية الكريمة { وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ }
آل عمران144 . إن كل من يربط قلبه بالفانى فأنه يفنى ، ويضيع سعى قلبه
هباء ، وذلك الذى يمد روحه إلى الحضرة الباقية يكون دائماً قائماً بالبقاء ، حين
تفنى النفس . أما أولئك الذين ينظرون إليه بعين الحقيقة فيدركون أن وجوده
معهم وغيابه عنهم سواء ، إذ أن هاتين الحالتين راجعتان إلى الله ، وهم لا
ينظرون إلى ما حدث من تبديل ، ولكن إلى الله الذى يبدل كل شىء ، وهم
لا يبجلون محمداً إلا بالقدر الذى كرمه به الله ، ولا تتعلق قلوبهم بأحد غير الله ،
ولا يفتحون عيونهم ليروا أحداً من البشر واضعين فى اعتبارهم أن " من نظر
إلى الخلق هلك ومن رجع إلى الحق سلك " وقد برهن أبو بكر أن يده قد نفضت
من هذه الدنيا الخادعة ، فقد تبرع بماله كله ومواليه ، وارتدى رداء من الصوف ،
ثم جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فسأله : ( وما خلفت لعيالك ؟ .
فأجابه أبو بكر : تركت لهم الله ورسوله ) . أى تركت لهم خزينتين لا تنفدان
وكنزين لا ينتهيان ، أى محبة الله تعالى ، ومتابعة رسوله . وانكارهما من قبيل
انكار العيان .

لقد قلت أن " الصفاء " عكس للكدر ، والكدر من صفات الإنسان . ولهذا فإن
الصوفى الحقيقى هو من يترك الكدر وراء ظهره ، وهكذا فقد سيطرت البشرية
على نساء مصر ، عندما نظرن معجبات إلى جمال يوسف عليه السلام . ولكن
نظرتهن تغيرت حين رأينه بعد فناء بشريتهن فقلن { مَا هَـذَا بَشَراً } يوسف31.
ولذلك فأن شيوخ الصوفية رضى الله عنهم يقولون : " ليس الصفاء من صفات
البشر ، لأن البشر مدر ، والمدر لا يخلو من الكدر " ولهذا فالصفاء غير مرتبط
بالأفعال ، ويمكن القضاء على الطبيعة البشرية بالمجاهدة ، وليست صفة
الصفاء مرتبطة بالأعمال والأحوال ، ولا اسمه متعلق بالأسماء والألقاب ، بل
الصفاء سمة الأحباب ، وهو شمس بلا سحاب ، ذلك لأن الصفاء صفة المحبين ،
والمحب هو الفانى فى صفاته ، والباقى فى صفات محبوبه ، وحالاته فى نظر
أرباب الحال أشبه بالشمس الساطعة .

لقد سئل حبيب الله محمد المختار عن حال حارثة فأجاب : ( عبد نوَّر الله قلبه
بالإيمان ) أى أنه عبد أنار الله قلبه بنور الإيمان فأضاء وجهه كالقمر من النور الإلهى .


يتبع إن شاء الله تعالى ...



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يوليو 18, 2005 12:55 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347

وكذلك قال الصوفية : " ضياء الشمس والقمر ، إذا اشتركا ، نموذج من صفاء
الحـب والتوحيد إذا اشتبكا ". وليس من شـك أن ضياء الشمس والقمر لا
قيمة لهما بجانب ضوء المحبة والاتحاد مع الله تعالى ، ولا تصح المقارنة بينهما ،
ولكن ليس فى هذا العالم من الضوء ما يزيد على هذين الضوءين ، وليس فى
وسع العين أن ترى ضوء الشمس والقمر فى تمامها ، وهى ترى السماء أثناء
إشراق الشمس والقمر ، أما القلب فإنه يرى العرض بضوء المعرفة والوصول
والمحبة ، وهو يكتشف العالم الآخر رغم وجوده فى هذا العالم .

ويتفق كل شيوخ الطريقة ، رحمهم الله ، أنه عندما يتحرر الإنسان من قيود
المقامات ، ويتخلص من كدورات الأحوال ، ويرتفع عن مكان التلون والتغير ،
ويتصف بالصفات الحميدة كلها ، عندئذ ينفصل عن كافة هذه الصفات ، بمعنى
أنه لا يصبح أسيراً لأى صفة حميدة من صفاته ، وأيامه منزهة عن خطرات
الظنون فلا يهتم بها ، ولا يزداد غروره بوجودها ، ويصبح حاله بعيداً عن
متناول الفكر ، ويصبح حضوره مع الله بلا ذهاب ، ووجوده بلا أسباب .
فيكون حاضراً بلا غيبة ، واحداً بلا سبب ، ذلك أن الغيبة حينما تحل به
لا يكون حاضراً . وعلى وجده ألا يكون واجدا ، لأن الصفاء حضور بلا ذهاب ،
ووجود بلا أسباب . وعندما يصل إلى هذه الدرجة يصبح فانياً عن الدنيا
والعقبى ، ويصبح ربانياً فى درع الإنسانية ، ويصبح الذهب والمدر سواء
فى نظره ، وتسهل عليه تلك العبادات ، التى يرى الآخرون من الصعب
عليهم مزاولتها .

جاء حارثة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له الرسول : ( كيف أصبحت
يا حارثة ؟ قال : أصبحت مؤمناً حقا . فقال صلى الله عليه وسلم : أنظر ما تقول
يا حارثة ، إن لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ فقال : عزفت نفسى عن
الدنيا فاستوى عندى حجرها وذهبها وفضتها ومدرها ، فأسهرت ليلى وأظمأت
نهارى ، وصرت كأنى أنظر إلى عرش ربى بارزاً ، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة
يتزاورون فيها ، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتصارعون فيها ، وفى رواية أخرى :
يتغامزون فيها . قال : عرفت فالزم ). قالها ثلاثاً .

وقد أطلقت كلمة الصوفى على كاملى الولاية ومحققى الأولياء ، ويقول أحد
المشايخ : " من صافاه الحب فهو صاف ومن صافاه الحبيب فهو صوفى "
ولا تخضع هذه الكلمة للاشتقاقات اللغوية المعروفة إذ أن الصوفية من
الرفعة بحيث لا يكون لها أصل تشتق منه .

ذلك أن اشتقاق شىء من شىء آخر يتطلب المجانسة ، وكل ما هو موجود
عكس للصفاء ، ولا يمكن اشتقاق شىء من نقيضه . ومعنى الصوفية بالنسبة
للصوفى واضح كضوء الشمس ، وليس فى حاجة إلى شرح وتوضيح ، لأن
الصوفى ممنوع من العبارة والإشارة . وبما أن كلمة صوفى تتطلب شرحاً ،
فإن كل الناس يحاولون تفسيرها ، سواء عرفوا قدرها أم جهلوه ، أثناء
تعلمهم معناها .

ويلقب الكامل منهم " بالصوفى " ويسمى المريدون والطلاب " بالمتصوفة " ،
إذ أن تصوف على وزن " تفعل " وهو يعنى التكلف ، وهو فرع من الأصل ،
والفرق فى المعنى والاشتقاق واضح : " فالصفاء ولاية لها آية ؛ والتصوف
محاكاة للصفاء بلا شكاية " وعليه فإن الصفاء ساطع رائع ، والتصوف محاكاة له .

والناس من هذا فى درجات ثلاث : صوفى ومتصوف ومتشبه . فالصوفى من
فنى عن نفسه وعاش بالحق ، من نجا من قبضة الطبائع واتصل بحقيقة
الحقائق . والمتصوف من يحاول الوصول إلى هذا المقام عن طريق المجاهدات ،
ويحــاول أن يصحح من سلوكه ، محتذياً حذو الصوفيـة . أما المتشبه فهو من
يتشبه بالصوفية ، من أجل المال والثروة ، والجاه والعرض الدنيوى وليست له
معرفة بالصوفية أو التصوف . ولهذا قيل : المتشبه عند الصوفية كالذباب ،
وعند غيرهم كالذئاب ، أى أنه عند الصوفية حقير كالذباب ، وعند الآخرين
كالذئب المتوحش ، كل همه التمزيق وأكل الجيفة . ولهذا فإن الصوفى صاحب
وصول ، والمتصوف صاحب أصول ، والمتشبه صاحب فضول . ومن كان نصيبه
الوصول يفقد كل غاية وغرض ، بحصوله على غايته وغرضه . ومن كان نصيبه
الأصول يتمسك بأحوال الطريق ، ويخلص فى التعرف على أسرارها ، ولكن من
كان نصيبه الفضول يبقى صفر اليدين من كل ما يستحق الحصول عليه ، ويبقى
عند باب الرسم ، ولهذا فهو محجوب عن المعانى ، ويجعله هذا الحجاب محجوباً
عن الوصول والأصول ، وقد أعطى مشايخ الطريق تعريفات دقيقة للصوفية لا
يمكن إحصاؤها ، ولكن سنذكرها هنا أو بعضها حتى تتم الفائدة إن شاء الله .

فصل :
يقول ذو النون المصرى : " الصوفى من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق وإن
سكت نطقت عنه الجوارج بقطع العلائق "
أى عبرت جوارحه عن قطعه لكل
ما هو دنيوى : إن كل ما يقوله الصوفى قائم على الحقيقة ، وكل ما يفعله قائم
على التجريد ، إذا قال فقوله حقيقة ، وإذا سكت فأعماله جميعاً فقر .

ويقول الجنيد : " التصوف نعت أقيم العبد فيه . قيل نعت للعبد ؟ أم نعت للحق ؟
فقال : نعت للحق حقيقة ، ونعت للعبد رسماً "
بمعنى أن جوهر التصوف يقتضى
فناء الصفات البشرية ، ويتأتى هذا عن بقاء الصفات الإلهية ، وهى من صفات الله .
أما مظهره فيقتضى من الإنسان دوام المجاهدة ، ودوام المجاهدة من الصفات
الإنسانية على الإطلاق . إذ أن الصفات الإنسانية غير ثابتة فهى ليست إلا رسماً
لا دوام له إذ أن الفاعل هو الله ، ولهذا فهى فى الحقيقة من عمل الله ، ولهذا نجد
أن الله يأمر عبده بالصيام ويطلق عليه لقب صائم ، والصوم من الناحية الإسمية
خاص بالإنسان ، ولكنه فى حقيقته خاص بالله . قال الله فى الحديث القدسى :
( الصوم لى وأنا أجزى به ) لأن كل أفعال الله له ، وإذا نسب الناس صفات لهم ،
فإنما هذا من الناحية الشكلية المجازية ، لا من الناحية الحقيقية .

ويقول أبو الحسين النورى : " التصوف ترك كل حظ للنفس ". وهذا الترك نوعان :
ظاهرى وحقيقى . مثال ذلك أنه إذا ترك الإنسان الحظ ، ووجد الحظ فى الترك ،
فهو أيضاً حظ ، وهذا ظاهرى ، ولكن إذا تركه الحظ بتة فهذا فناء الحظ . وأصبح
ذلك من قبيل المشاهدة وعليه فإن ترك الحظ من عمل الإنسان ، ولكن فناء
الحظ من عمل الله ، فعمل الإنسان ظاهرى ، وعمل الله حقيقى . إن قول
النورى يوضح ما سبق أن ذكرناه عن الجنيد . ويقول أبو الحسين النورى أيضاً :
" الصوفية هم الذين صفت أرواحهم فصاروا فى الصف الأول بين يدى الله ".
أى صفت أرواحهم عن كدر البشرية ، وصفيت من آفات النفس ، وتخلصت
من الهوى ، حتى سكنت الصف الأول إلى الله ، وهربت ممن سواه . ويقول
كذلك : " الصوفى الذى لا يَمْلُكْ ولا يُمْـلَكْ " ومعنى هذا حقيقة الفناء ، إذ أن
من فنيت صفاته لا يملك ولا يملك ، ونقصد بالملكية هنا ملكية الأشياء الفانية
وحدها ، والمعنى أن الصوفى لا يمتلك لنفسه أى عرض من أعراض هذه
الدنيا أو أى جاه فى العالم الآخر إذ أنه لا يملك حتى نفسه .

أنه لا يرغب فى التسلط على الغير ، حتى لا يرغب الغير فى التسلط عليه ،
وهذا قول لطيف ويشير هذا القول إلى سر من أسرار الصوفية ، يسمونه
" الفناء الكلى " وسوف نذكر إن شاء الله فى هذا الكتاب المواضع التى
أخطأوا فيها حتى يصير ذلك معلوماً لديك .


يتبع إن شاء الله تعالى ..



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يوليو 20, 2005 1:00 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347


ويقول ابن الجلاء : " التصوف حقيقة لا رسم له ". إذ أن الرسم خاص بالإنسان
فى معاملاته ، أما الحقيقة فهى خاصة بالله ، وبما أن الصوفية هى الابتعاد عن
البشرية ، فلذلك كانت بلا رسم .

ويقول أبو عمرو الدمشقى رحمه الله : " التصوف رؤية الكون بعين النقص بل
غض الطرف عن الكون " فقوله : " التصوف هو النظر إلى الكون بعين النقص "
هذا دليل بقاء الصفة ، وقوله : " بل غض الطرف عن الكون " هذا هو دليل بقاء
الصفة عن النظر فى الكون فحينما لا يبقى الكون لا يبقى النظر ، وغض الطرف
عن الكون بقاء البصيرة الربانية ، أى أن كل من يعمى نفسه يبصر بالله ، ذلك
أن الكون يطلب من يطلبه ، فأعماله من نفسه وإليها ، فلا طريق خارجى يهرب
به عن نفسه ، إذن فثمة شخص يرى نفسه ولكنه لا يرى مساوئه ، وآخر يغض
الطرف عن نفسه فذلك الذى يرى ، وإن كان يرى مساوئه فبصيرته حجاب ،
وذلك الذى لا يرى لا يصير محجوباً بالعمى ، وهذا أصل قوى من أصول التصوف
عند أرباب المعانى وليس هنا مقام شرحه .

يقول أبو بكر الشبلى رحمه الله : " التصوف شرك " لأنه صيانة القلب من رؤية
الغير ولا غير ، يعنى أن رؤية غير الله فى التوحيد شرك عندما لا يكون للغير
قيمة فى القلب فمن السخف أن تحمى القلب من تذكر الغير .

ويقول الحصرى : " التصوف صفاء السر من كدورات المخالفة " ومعناها أن من
الواجب حماية القلب من الاختلاف مع الله ، إذ أن المحبة وفاق ، والوفاق عكس
الاختلاف ، وليس للمحب إلا واجب واحد فى هذا العالم ، وهو أن ينفذ أمر
محبوبه . وإذا كان القصد واحداً فكيف يقوم الخلاف . ويقول محمد بن على
بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم أجمعين " التصوف خلق
فمن زاد عليك فى الخلق زاد عليك فى التصوف " وحسن الخلق نوعان :
متعلق بالله وبالإنسان ، والأول الرضا بقضاء الله ، والثانى تحمل أعباء صحبة
الناس من أجل الله . وهذا أن المظهران خاصان بالطالب ، والله غنى عن رضا
الطالب أو غضبه وتتوقف هاتان الصفتان على إدراك الطالب لوحدة الله .

ويقول أبو محمد المرتعش : " الصوفى لا تسبق همته خطوته " بمعنى أنه
دائماً فى حضور ، إذ توجد نفسه أينما وجد جسمه ، ويوجد جسمه أينما
وجدت نفسه ، وهذه علامة الحضور دون الغيبة ؛ ويقول الآخرون عكس ذلك :
أنه يغيب عن نفسه ويحضر مع الله . وليس الأمر كذلك بل هو حاضر مع
نفسه حاضر مع الله ، والمعنى يشير إلى جمع الجمع ، إذ لا يمكن أن يكون
هناك غيبة عن النفس ما دام الإنسان ينظر إلى نفسه ، وعندما يتوقف نظر
الإنسان إلى نفسه يكون هناك حضور مع الله دون غيبة .

وهذا المعنى قريب مما قاله الشبلى : " الصوفى لا يرى فى الدارين مع الله
غير الله " وبإختصار فإن بقاء البشرية غير ، وحينما لا يرى الإنسان الغير لا
يرى نفسه ، ويصبح خالياً من النفس فى حال نفيه وإيجابه . يقول الجنيد :
" التصوف مبنى على ثمانى خصال : السخاء والرضا والصبر والإشارة
والغربة ولبس الصوف والسياحة والفقر " .

أما السخاء فلإبراهيم ، وأما الرضا فلإسماعيل ، وأما الصبر فلأيوب ، وأما
الإشارة فلزكريا ، وأما الغربة فليحيى ، وأما لبس الصوف فلموسى ، وأما
السياحة فلعيسى ، وأما الفقر فلمحمد صلى الله عليه وسلم . ويعنى أن
الصوفية تقوم على ثمانى صفات ، تتمثل فى ثمانية رسل : " كرم إبراهيم
الذى ضحى بإبنه ، ورضا إسماعيل الذى رضى بقضاء الله وضحى بحياته
الغالية ، وصبر أيوب الذى تحمل صابراً عذاب الحشرات ، وامتحان الرؤوف
الرحيم ، وإشارة زكريا الذى قال له الله تعالى : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } آل عمران 41 ، وقال أيضاً : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا *
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً } مريم 2 - 3 ، وغربة يحيى الذى كان غريباً فى بلده
وعن قومه ، وسياحة عيسى الذى أبت نفسه الأغراض الدنيوية حتى أنه
لم يحتفظ لنفسه إلا بكوب ومشط ، وقد ألقى الكوب عندما رأى شخصاً
يشرب الماء بيديه وألقى بالمشط عندما رأى شخصاً يستخدم أصابعه ،
ولبس الصوف لموسى الذى كان رداؤه من الصوف ، والفقر لمحمد الذى
أعطاه الله مفاتيح كنوز الدنيا قائلاً : " لا تأس عليهم وخذ ما تريد من متاع
هذه الكنوز . فأجاب : أشبعنى يوماً واجعنى يومين " وهذه أسمى مبادئ
السلوك .

ويقول الحصرى : " الصوفى لا يوجد بعد عدمه ولا يعدم بعد وجوده " بمعنى
أنه لا يفقد أبداً ما وجده ولا يجد أبداً ما فقده .

وهناك معنى آخر هو أن وجوده ليس فيه " لا وجود " وأن لا وجوده ليس فيه
وجود أى وقت بحيث يكون ، إما فى إثبات بغير نفى ، أو فى نفى بغير إثبات .

والغرض من كل هذه التعبيرات هو أن بشرية الصوفى يجب أن تتلاشى ،
وشواهده يجب أن تختفى ، وارتباطه يجب أن ينفصم ، حتى ينكشف سر
بشريته وتتجمع تفاريقه فى حال الجمع ، وحتى يحيا فى نفسه .

ويمكن أن تظهر نتيجة ذلك فى حياة رسولين : أولهما موسى الذى لم يكن
فى وجوده عدم ولهذا قال : { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي }
طه 25 – 26 ، وثانيهما محمد صلى الله عليه وسلم الذى لم يكن فى عدمه
وجود فقال الله تعالى : { أ َلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } الشرح 1 ، إن الأول سأل
مولاه أن يزينه وناشده تشريفه إياه . ولكن الثانى قد نال الشرف إذ لم يكن
له سؤال أو بغية يطلبها لنفسه .

ويقول على بن بندار الصيرفى النيسابورى : " التصوف إسقاط الرؤية للحق
ظاهراً وباطناً ". بمعنى أن الصوفى لا يحب أن يرى ظاهره أو باطنه بل
يعتبرهما لله . وهكذا فإذا نظرت إلى الظاهر وجدت عناية الله فى الظاهر ،
وعندئذ فإن الأعمال الظاهرية لا تساوى جناح بعوضة ، إذا قورنت بنعمة الله
ولذلك وقفت عن رؤية الظاهر .


وإذا نظرت إلى الباطن وجدت مظهراً باطنياً لعون الله ، وعندئذ فإن الأعمال
الباطنية لا تبلغ مثقال ذرة إذا قورنت بعون الله ، ولذلك توقفت عن الرؤية
للباطن وترى أن كل شىء لله . وعندما ترى أن كل شىء لله تجد أنك
لا تملك من الأمر شيئاً .

ويقول محمد بن أحمد المقرئ : " التصوف استقامة الأحوال مع الحق "
أى أن الأحوال تغرى الصوفى بعيداً عن الحق أو ترميه فى الأعوجاج إذ أن
من انعقد قلبه على محول الأحوال لا يسقط من مرتبة الاستقامة ولا
يحجب عن الوصول إلى الحق .

فصل :
قولهم فى المعاملات :

يقول أبو حفص الحداد النيسابورى : " التصوف كله آداب . لكل وقت أدب ،
ولكل مقام أدب ، ولكل حال أدب . فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال .
ومن ضيع الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب ، ومردود من حيث يظن القبول "
ومعنى هذا قريب من حكمة أبى الحسين النورى : " ليس التصوف رسوماً
ولا علوماً ولكنه أخلاق " فلو كان رسوماً لحصلت عليها المجاهدات ، ولو كان
علوماً لتوصلت إليها بالتعلم ، لكنه أخلاق ما دمت تطلب احكامها من نفسك ،
ولا تصحح معاملاتها مع نفسك ولا تعطيها الإنصاف من نفسك فلا تحصل عليها .

والفرق بين الرسوم والأخلاق ، هو أن الرسوم أعمال رسمية ، نابعة من دوافع
معينة فهى أعمال خالية من الحقيقة ، بحيث تصبح صورتها غير حقيقتها .

أما الأخلاق فهى أعمال حميدة ، ليست لها غاية أو غرض ، أعمال ليس
فيها إدعاء ، يتفق شكلها مع طبيعتها .

ويقول المرتعش : " التصوف حسن الخلق " ويتكون هذا من ثلاثة أنواع :
حسن الخلق مع الله باتباع أوامره دون نفاق ، وحسن الخلق مع الناس
باحترام الكبير ورحمة الصغير والعدل مع الأقران ، وعدم طلب الجزاء أو
العدل مع الناس بوجه عام ، وحسن الخلق مع نفسك بألا تتبع نوازع
الشيطان . ومن يوف هذه الأمور الثلاثة يصير خيراً .

ويتفق ما قلته مع قصة عائشة الصديقة رضى الله عنها فقد سُئلت عن
طبيعة النبى عليه الصلاة والسلام فأجابت : اقرأوا القرآن فقد أخبر الله
عنه حيث قال : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } الأعراف199 .
ويقول المرتعش كذلك : " هذا مذهب كله جد فلا تخلطوه بشىء من الهزل ".
أى أن مبدأ الصوفية كله جد فلا تخلطوه بالهزل ولا تتبعوا أسلوب المترسمين ،
وتجنبوا من يحاكونهم بصورة عمياء . إن العامة عندما يرون أولئك المترسمين
بين صفوف أهل التصوف فى وقتنا ، ويرون رقصهم وغناءهم وزيارتهم قصور
السلاطين ونزاعهم على صدقة أو لقمة عيش ، تفسد عقيدتهم فى كل
أهل التصوف ، يقولون : هذه هى مبادئ الصوفية المعاصرين وليست مبادئ
الصوفيين القدامى إلا صورة منها . وهم لا يدركون أن الزمن زمن فترة ،
والأيام بلاء .

وبما أن الطمع يجعل السلطان جائراً ، والشهوة تجعل العالم فاسقاً ، والرياء
يجعل الزاهد منافقاً ، والغرور يحمل الصوفى على الرقص والغناء ، فعليك
أن تدرك أن الفساد فى الرجال الذين يعتنقون هذه المبادئ ، لا فى المبادئ
ذاتها واعلم أن بعض الهازلين قد استخفوا فى رداء الصوفيين الأحرار ، وذلك
لا يجعل جد هؤلاء الأحرار هزلاً .

ويقول القرميسينى : " التصوف هو الأخلاق الرضية " والأخلاق الرضية هى
أن يرضى المخلوق عن الله فى كل الأعمال ويقنع بما قسمه الله .

ويقول أبو الحسين النورى : " التصوف هو الحرية والفتوة وترك التكلف والسخاء
وبذل الدنيا ". يعنى أن التصوف يحرر المرء من قيود الرغبة والفتوة تجرده من
غرور السخاء ، وترك التكلف فى ألا يجاهد فيما يتعلق به والسخاء أن يترك
الدنيا لأهلها .

ويقول أبو الحسين البوشنجى : " التصوف اليوم اسم بلا حقيقة وقد كان من
قبل حقيقة بلا اسم ". يعنى أن هذا الاسم لم يكن موجوداً فى عهد الصحابة
رضى الله عنهم وفى صدر الإسلام ، ولكن حقيقته كانت فى كل شخص ،
أما اليوم فقد وجد الاسم وغابت الحقيقة . ويعنى هذا أن مزاولة حقيقة
التصوف كانت سائدة فى الماضى ولم يسد الإدعاء به . أما اليوم فقد ساد
الادعاء ولم يسد العمل .

لقد ذكرت فى هذا الباب عدداً من أقوال الشيوخ عن الصوفية وقمت بشرح
هذه الأقوال حتى يتضح هذا الطريق لك – منحك الله السعادة – وحتى أقول
للمتشككين : " ماذا تعنون بإنكاركم حقيقة التصوف ؟ " فإذا كانوا ينكرون
الاسم المجرد فليس هذا مهما إذ أن الأفكار لا ترتبط بالأسماء ، وأما إذا
كانوا ينكرون الحقائق الأساسية فإن معنى هذا أنهم ينكرون كل ما جاء به
النبى وكل صفاته الحميدة وإنى أناشدك فى هذا الكتاب ، أن تضع هذه
الأفكار موضع اعتبارك حتى تبتعد عن الادعاء وتعتقد فى رجال التصوف
والله هو الموفق .



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يوليو 21, 2005 1:48 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347
[align=center]البـاب الرابـع

فى ارتـداء المرقعات
[/align]


اعلم أن ارتداء المرقعات هو شعار الصوفية ، إذ أن ارتداء مثل هذه الملابس
سنة فقد قال النبى عليه الصلاة والسلام : ( عليكم بلبس الصوف تجدون
حلاوة الإيمان فى قلوبكم ) وقال أحد الصحابة : " كان النبى صلى الله عليه
وسلم يلبس الصوف ويركب الحمار ".

وقال النبى لعائشة : " لا تضعى الثوب حتى ترقعيه ".

ويقال : أن عمر بن الخطاب كان يلبس ثوباً مرقعاً به ثلاثون رقعة وروى عن
عمر أنه قال : خير الأثواب ما قلت مئونته . ويروى عن أمير المؤمنين أنه
كان لديه ثوب أكمامه حتى أصابعه وأنه إذا لبس رداء أطول كان يقص
أطراف أكمامه .

وقد أمر النبى كذلك أن يقصر ثيابه فقد قال تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } المدثر 4
أى قصرها . ويقول الحسن البصرى :" لقد رأيت سبعين صحابياً من أهل بدر
وكانوا جميعاً يرتدون الصوف . وكان الصديق يرتدى الصوف فى تجريده . ويقول
حسن البصرى أيضاً : رأيت سلمان الفارسى يلبس رداء مرقعاً من الصوف ".
وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وأمير المؤمنين على بن أبى طالب
وهرم ابن حبان أنهم رأوا أويساً القرنى يلبس لباساً من الصوف مرقعاً .
كما أن الحسن البصرى ومالك بن دينار وسفيان الثورى كانوا يلبسون
المرقعات ، وروى عن الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان – وجاء ذلك فى
تاريخ طبقات المشايخ لمحمد بن الحكيم الترمذى – أنه كان يرتدى أول
الأمر ملابس من الصوف وأوشك أن يعتزل العالم فرأى النبى صلى الله
عليه وسلم فى منامه يقول له : " يجدر بك أن تحيا وسط الناس فبك
ستحيا سنتى " وعندئذ رجع عن العزلة ولكنه لم يلبس قط مابساً ذا قيمة .
وكان داود الطائى من المتصوفين الحقيقيين ، وكان يدعو إلى لبس الصوف .
وذهب إبراهيم بن أدهم إلى الإمام الجليل أبى حنيفة لابساً رداء من الصوف ،
فنظر إليه تلاميذ الإمام نظرة المحتقر المستنكر ، إلى أن قال أبو حنيفة :
لقد جاء سيدنا إبراهيم بن أدهم فقال اتباع الإمام : إن الإمام لا يقول هزلا ،
فكيف نال هذه السيادة ، فأجاب أبو حنيفة : بمواصلة العبادة فقد اشتغل بالله
واشتغلنا بأنفسنا فأصبح سيدنا .

وقد يحدث فى عصرنا هذا أن يرتدى بعض الناس ثياباً مرقعة من أجل الشهرة
والصيت ، وعلى الرغم من أن قلوبهم تكذب مظهرهم فليس هناك للجيش
إلا قائد واحد . والصادقون فى كل فئة قليلون ، ومع ذلك فإن الناس يعتبرون
الصوفى كل من تشبه بالصوفية ، حتى وإن كان ذلك فى صفة واحدة من
صفاتهم ويقولون أن النبى صلى الله عليه وسلم قد قال : ( من تشبه بقوم
فهو منهم ) وإذا كان بعض الناس لا يهتمون إلا بظاهر أعمالهم فإن الآخرين
يوجهون كل اهتمامهم إلى الصفاء الباطنى .

ولا يخرج من يريدون الارتباط بالمتصوفين عن أربعة أصناف :-

1- من أعانه صفاؤه واستنارته ودقة إدراكه واتزان طبعه وحسن أخلاقه على
أن يتبصر بما فى قلوب المتصوفين ، بحيث يدرك مدى اقتراب رجالهم من الله ،
ومدى ارتقاء الطاهرين منهم ، فيتصل بهم بغية الارتقاء إلى نفس المكانة ،
وأول مظهر من مظاهر سلوكهم كشف الأحوال ، وتطهير أنفسهم من
الرغبة وترك الذات .

2- من أعانته صحة بدنه ، وطهارة قلبه ، وصفاء ذهنه على رؤية أعمالهم
الظاهرية ، فيركز اهتمامه على ما يقومون به : من اتباع للشريعة المقدسة ،
وحفظ آداب الإسلام ومختلف المعاملات ، وحسن سلوكهم . ولهذا يحاول
الاتصال بهم وينهمك قلباً وقالباً فى مزاولة أعمالهم . وأول مظهر من مظاهر
سلوكه هو المجاهدة والخلق الحسن .

3- من تمكنه إنسانيته وعاداته وحسن طبعه من أن يفكر فى أعمالهم ،
ويرى فضائل حياتهم ، وكيف يعاملون كبارهم باحترام ، وصغارهم بكرم ،
ورفاقهم بمحبة وكيف لا يهمهم الكسب الدنيوى ، وكيف يعتنون بما أعطاهم
الله ، فينشد صحبتهم ، ويسهل على نفسه الطريق الدنيوى الوعر ، ويصبح
فى فراغه من الأخبار .

4- من يقوده غباؤه وضعف نفسه ؛ وحبه للسلطة على غير حق ، وللجاه
على غير علم ، أن يظن أن الأفعال الظاهرية للصوفية هى كل شىء ،
وعندما يدخل فى صحبتهم يعاملونه بعطف وتسامح ، رغم اقتناعهم بأنه
جاهل كل الجهل بالله ، وأنه لم يحاول قط أن يسير فى طريق المجاهدة ،
ولهذا يحترمه الناس احترامهم للصوفى الحقيقى ، ولأحد أولياء الله ،
ولكن مقصده هو أن يلبس لباسهم ويخفى نقائصه تحت رداء من التقوى ،
فهو مثل ( الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ) الجمعة 5 ،
وأغلبهم فى وقتنا هذا من المدعين ، الذين وصفناهم . ولهذا فخليق بك ألا
تظهر إلا بحقيقتك فلو أنك قلت بقبول الطريقة ألف عام ، لم تحسب منها إلا
إذا قبلتك ، إذ أن الحرقة هى التى تصنع الصوفى لا الخرقة .

وحينما يألف المرء الطريقة لا يفرق بين العباءة يرتديها الدرويش ، والجبة يرتديها
الشخص العادى ، وحينما يكون الشخص غريباً عن الطريقة تكون مرقعته رقعة
الأدبار ، ومنشور شقائه يوم النشور . وقد سئل أحد كبار المشايخ لماذا لا ترتدى
المرقعة فقال : " من النفاق أن تلبس لباس الفتيان ولا تدخل فى حمل أثقال
الفتوة " فإذا كنت بارتدائك لهذا الرداء تريد أن ترى الله أنك أحد المصطفين ،
فإن الله يعلم حقيقتك دون لباس ، وإذا كنت تريد أن ترى الناس أنك من أهل
الله ، فإن كنت صادقاً أصبحت مرائياً ، وإن كنت كاذباً أصبحت منافقاً .


يتبع إن شاء الله ..



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 24, 2005 2:04 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347


إن الصوفية من العظمة بحيث لا يحتاجون إلى رداء من هذا النوع ، فإن الصفاء
من الله إنعام وإكرام ، والصوف لباس الإنعام . إذن فالمحاكاة حيلة ، وفريق
يتقربون بالحيلة ، وكل ما يجعلونه لأنفسهم إنما يزينون به الظاهر أملاً فى
أن يجعلوا أنفسهم مثلهم . لقد أمر الشيوخ المريدين أن يلبسوا الملابس
المرقعة ، ولبسوها بأنفسهم ، كى يعرفهم الناس ويراقبوهم ، فإذا أخطأ
أحدهم لامه كل الناس ، وإذا أرادوا المعصية وهم يرتدون هذا الرداء منعهم
عنها الخجل . وفى الجملة : المرقعة زينة أولياء الله عز وجل ، هى عز للعامة ،
وذل للخاصة ، فهى عز لأن العامى حين يرتديها يحترمه الخلق بها ، وهى ذل
الخاص لأنه حين يلبسها يساوى الناس بينه وبين الخاص ويلومونه عليها. إذن
فهى لباس النعم للعوام ، وجوشن البلاء للخواص ، ويلجأ إليها كثير من العوام
حينما لا يصلون بأمر آخر ، ولا يكون لهم فى طلب الجاه وسيلة أخرى يطلبون بها
الرياسة ، فيجعلون منها سبباً لجمع النعمة ، وأيضاً فالخواص قالوا بترك الرياسة
واختاروا الذل على العز حتى صارت لهؤلاء القوم بلاء ولأولئك نعمى ، فالمرقعة
قميص الوفاء لأهل الصفاء ، وسربال السرور لأهل الغرور ، فأهل الصفاء بلبسها
يتجردون من الكونين ، وينقطعون عن المألوفات أما أهل الغرور فيحتجبون بها
عن الحق ، ويعجزون بها عن الصلاح . وفى الجملة هى للجميع سمت الصلاح
وسبب الفلاح ، والجميع يحصلون على رغبتهم فيها ، فهى لواحد صفاء ، وللآخر
عطاء ، وللثالث غطاء ، وللرابع وطاء ، وآمل أن تنجو بحسن صحبة بعضكم بعضاً
ومحبة أحدكم للآخر ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحب قوماً
فهو معهم ) فيوم القيامة يبعث الأخلاء معاً ، ويكون كل فى زمرته ، ولكن يجب أن
يطلب باطنك التحقيق وأن يعرض عن الرسوم ، فكل من يقنع بظاهر الأمور لا يصل
أبداً إلى لبها ، واعلم أن وجود البشرية حجاب الربوبية ، ولا يغنى الحجاب إلا فى
الأحوال وفى داخل المقامات والصفاء اسمه الفناء ، ومحال أن يكون لفانى الصفة
مجال لاختيار الثياب أو أن يتخذ زينة ما تكلفنا . فحينما يبدو فناء الصفة وتنتفى
آفة الطبيعة يتساوى أن يسمى أو لا يسمى بالصوفى .

فصل :

يجب أن تراعى البساطة والخفة فى صنع المرقعات ، وعندما يبلى الثوب الأصلى
يجب أن توضع عليه رقعة . وللمشايخ رأيان فى هذا الموضوع ، فيقول البعض
أنه ليس من الضرورى وضع الرقعة بعناية ودقة ، وأنه من الواجب خياطتها حيثما
اتفق دون كبير عناء واهتمام ، ويقول الآخرون أنه من الواجب أن تكون الخياطة
مستقيمة منتظمة ، وأن على الدرويش أن يتعلم كيف يحيكها بانتظام ، وأن يهتم
بتدريب نفسه على ذلك ، فهذه هى عبادة الفقر ، وصحة العبادة دليل على صحة
الأصل . وقد سألت – أنا على بن عثمان الجلابى – الشيخ الكبير أبا القاسم
الجرجانى فى طوس قائلاً : " ما أدنى ما على الدرويش أن يصنعه ، حتى يكون
خليقاً بالفقر ؟ فأجاب : عليه أن يكون لديه ما لا يقل عن أشياء ثلاثة : أولها أن
يحسن خياطة رقعته ، وثانيها أن يحسن الإصغاء ، وثالثها أن يحسن وضع قدمه
على الأرض . وكان عدد من الدراويش حضروا معى عندما قال هذا ، وما أن غادرنا
المكان حتى بدأ كل منا تطبيق هذا القول على نفسه ، وأقبل بعض الجهلاء
يفسرونه حسب أهوائهم ، وقال البعض " هذ هو الفقر حقيقة " وأسرعوا
يصنعون الرقع بعناية ، ويطأون الأرض بصورة صحيحة ، وتخيل كل منهم أنه يعرف
كيف يحسن الإنصات لما يقال فى التصوف ، وبما أن قلبى كان متعلقاً بالسيد ،
ولم أرد أن يذهب كلامه هدراً ، قلت : فليقل كل قوله فى هذا الموضوع ؛ فبدأ كل
واحد يشرح وجهة نظره وعندما جاء دورى قلت : " الرقعة الصحيحة هى تلك التى
تحاك من أجل الفقر لا من أجل التظاهر ، فإذا حيكت من أجل الفقر كانت صحيحة
حتى وإن كانت حياكتها خاطئة ، والكلمة الصحيحة هى تلك التى تسمع بحال أمينة ،
والتى يتم تطبيقها بجد لا بهزل ، والتى يعيها القلب لا العقل ، والخطوة الصحيحة
هى تلك التى توضع على الأرض بنشوة حقيقية لا بصورة هازلة أو متكلفة .

وقد وصلت ملاحظاتى إلى السيد أبا القاسم الجرجانى الذى قال : " لقد أحسن
على أثابه الله " . وهدف هذه الجماعة من لبس المرقعات أن يخففوا عبء هذه
الدنيا ، ويخلصوا فى فقرهم إلى الله . ويروى من الأخبار الصحيحة أن عيسى بن
مريم عليه السلام كان يلبس المرقع عندما رفع إلى السماء وقال أحد المشايخ :
لقد رأيته فى منامى لابساً حلة مرقعة من الصوف والنور يشرق من كل رقعة ،
فقلت : أيها السيد المسيح ما هذا النور الذى يخرج من ردائك ؟ فأجاب نور الرحمة ،
فقد وضعت كل رقعة من هذه الرقع بسبب حاجتى وعوزى ، وقد حول الله تعالى
كل آلامى إلى أنوار . وقد رأيت ما وراء النهر رجلاً طاعناً فى السن ، ينتمى إلى
الطائفة الملامتية ، ولم يكن يأكل أو يلبس شيئاً صنعته يد الإنسان ، وكان طعامه
مما يلقيه الآخرون ، مثل الخضروات الفاسدة واللبن الفاسد ، والجزر المتعفن ،
وما شابه ذلك ، وكانت ملابسه من الخرق التى التقطها من الطريق وغسلها ،
وصنع منها رداء مرقعاً . وسمعت أن من بين المتصوفة الحديثيين ، بمرو الروذ ،
رجلاً كبير السن ، من ذوى الحال والأخلاق الطيبة ، وكان يحيك الرقع دون عناية
على سجادة صلاته ولباس رأسه ، حتى أن العقارب كانت تربى صغارها فيها .
وسمعت كذلك أن شيخى رضى الله عنه ارتدى جبة واحدة مدة إحدى وخمسين
سنة ، وكان يضع عليها الرقع دون كبير إهتمام .

وقد قرأت هذه القصة بين قصص رجال الله فى العراق: كان هناك درويشان أحدهما
صاحب مشاهدة ، والآخر صاحب مجاهدة ، وكان أولهما لا يرتدى إلا الملابس التى
يصنعها من الخرق ، والتى يقطعها الدراويش من ملابسهم فى حال السماع ، أما
ثانيهما فكان يستخدم للغرض نفسه القطع التى يمزقها الدراويش أثناء نوبتهم ،
وهكذا كان رداء كل منهما متفقاً مع اتجاهه الباطنى ، منسجماً مع حاله .

وكان الشيخ محمد بن عبد الله بن خفيف يرتدى ملبساً خشناً من الصوف ، مدة
عشرين سنة وفى كل سنة كان يصوم أربع فترات ، كل فترة منها أربعين يوماً ،
وبعد كل أربعين يوماً كان يكتب مؤلفاً عن أسرار علوم الحقائق الإلهية ، وكان يعيش
فى زمنه أحد المتفقهين المنتمين إلى الطريقة والحقيقة يعيش بالقرب من فارس ،
وكان يدعى محمد بن زكريا ولم يلبس قط مرقعة ، وسئل الشيخ محمد بن خفيف :
ماذا يلزم بلبس المرقعة ؟ ومن الذى يسمح له بذلك ؟ فأجاب : " يقتضى ذلك ما
يقوم بها ابن زكريا فى ردائه الأبيض ويسمح له بلبس مثل هذا الرداء ".


يتبع إن شاء الله تعالى ..



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يوليو 25, 2005 1:47 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347


فصل :

ليس من عادة الصوفية أن يغيروا عاداتهم . وهناك سببان يجعلان ارتداء
رجال التصوف للملابس المصنوعة من الصوف فى الوقت الحاضر شيئاً نادراً.

1- أن الأصواف قد شحت والحيوانات التى يؤخذ منها الصوف يدفعها المغيرون
من مكان لآخر .

2- أن طائفة من المبتدعة تلبس الصوف كشعار لها ومن المستحسن أن تبتعد
عن شعار المبتدعة حتى وإن كان فى ذلك ابتعاد عن سنة مستحبة .

ومن المسموح به للصوفية الاهتمام والتكلف فى صنع المرقعات ، ذلك لأنهم قد
احتلوا مكانة مرموقة بين الناس ، وبما أن الكثيرين يقلدونهم فى لبس المرقعات ،
رغم ارتكاب هؤلاء المعاصى ، وبما أن الصوفى لا يأنس إلا لصحبة الصوفى ،
لهذا فقد ابتكروا لباساً لا يمكن أن يصنعه غيرهم ، وجعلوا منه وسيلة يعرف
به أحدهم الآخر ، واتخذوه شعاراً لهم حتى أنه إذا جاء درويش لابساً رداء مرقعاً
حيكت رقعه بغرز أكبر يجب طرده من حضرتهم .

وحجتهم أن الصفاء قائم على رقعة الطبع ودقته ، وليس من شك أن الانحراف
فى الطبع غير حميد ، إذ أنه من الطبيعى ألا توافق على الأعمال غير الصحيحة ،
وكما أنه من الطبيعى ألا تشعر بالنشوة والسرور عند سماعك للشعر الردئ
فإن الأفعال السيئة لا يستحسنها الطبع .

وهناك آخرون لا يهتمون بالملبس على الإطلاق يرتدون عباءة أو جبة عادية كما
منحهم الله ، وإذا أراد تعالى أن يجعلهم عرايا ظلوا كما أراد ، وإنى أنا على بن
عثمان الجلابى أوافق على هذا المبدأ وقمت بتطبيقه فى رحلاتى .

ويحكى أن أحمد بن خضرويه كان يلبس جبة عندما زار أبا يزيد ، وأن شاه بن شجاع
الكرمانى لبس جبة عند زيارته أبا حفص ، ولم يكن هذا رداءهما المعتاد ، إذ كانا
يلبسان المرقع فى بعض الأحيان ، ولباساً من الصوف أو قميصاً أبيض فى أحيان
أخرى ، حيثما اتفق لهم والنفس الإنسانية تحب العادة وتخضع لها ، وعندما تعتاد
شيئاً يصبح طبيعياً بالنسبة لها ، وعندما يصبح طبيعياً يصير حجاباً : قال عليه
الصلاة والسلام ( خير الصيام صيام أخى داوود فسألوه : يا رسول الله أى صيام
ذلك ؟ فقال : كان داوود يصوم يوماً ويفطر يوماً ) وذلك حتى لا تصبح نفسه معتادة
على الصيام أو على الإفطار ، وكان أخلص الأصدقاء أبو حامد الدستان المروزى
محسناً كل الإحسان فى هذا الموضوع ، فقد اعتاد تلامذته أن يضعوا عليه رداء
ولكن عندما كانوا يريدون أخذ هذا الرداء كانوا يبحثون عنه وقت راحته ووحدته
ويأخذون الرداء منه ، وكان لا يقول لمن وضعوا عليه الرداء : لماذا وضعتموه ؟
أو لمن أخذوا الرداء : لماذا اخذتموه ؟ وهناك فى الوقت الحاضر فى غزته
حفظها الله رجل طاعن فى السن ، يدعى مريد ، ليس له اختيار أو تمييز بما
يختص بما يرتديه ولا شك أنه محسن فى هذا .

أما بالنسبة للون الأزرق ، الذى يغلب على ملابسهم ، فمن أسباب ذلك أن
لهم سياحات ، فالسياحة من أسس طريقتهم ، وفى السياحة لا يحتفظ الرداء
الأبيض بلونه الأصلى ، ولا يسهل غسله علاوة على أنه موضع اشتهاء كل
شخص .

وهناك سبب آخر وهو أن اللباس الأزرق شعار الحزانى المكلومين ، وهذا العالم
مكان المتاعب ، ومأوى الأسى ، ومنزل الفراق ، ومهد الأحزان ، وعندما يرى
المريد أن ليس فى الإمكان تحقيق أمل قلبه فى هذا العالم ، يقوم بارتداء
الملابس الزرقاء ، ويجلس فى حداد الوصال مع أمله .

ويرى الآخرون فى أعمال العبادة أنها ناقصة ، وأن القلب لا يقبع فيه إلا الشر ،
وأن الحياة ليس فيها إلا الفوت ، ولهذا يرتدون الأزرق ، لأن الفوت أشد من الموت .
فهناك من يرتدى الأزرق عند موت عزيز وهناك من يرتديه عند فوت أمل محبب
إلى القلب .

سئل درويش : لماذا ترتدى الأزرق ؟ فأجاب قائلاً : " ترك الرسول ثلاثة أشياء
الفقر والمعرفة والسيف . فالسيف أخذه الملوك وأساءوا استعماله ، والمعرفة
اختارها العلماء وقنعوا بمجرد تعلمها ، والفقر اختاره الدراويش وجعلوه وسيلة
للإثراء . وإنى ألبس الأزرق حداداً على ما أصاب هؤلاء الثلاثة من مصيبة .

وكان المرتعش يسير يوماً فى أحد أحياء بغداد وشعر بالظمأ ، فاتجه إلى أحد
المنازل ، وسأل أصحابه جرعة ، فجاءت إليه إبنة صاحب البيت ببعض الماء فى
وعاء ، فأخذ المرتعش بجمالها ، ولم يرد أن يغادر المكان حتى جاءه صاحب البيت ،
فقال له المرتعش : يا سيدى !. حلت مصيبة فى شربة ماء . لقد جاءت إلىّ إبنتك
بجرعة ماء ، ولكنها سلبتنى قلبى . فأجابه صاحب البيت : هى ابنتى وإنى
أعطيها زوجة لك . فدخل المرتعش البيت ، وتم العقد . وكان أبو الفتاة رجلاً ثرياً ،
فأرسل بالمرتعش إلى الحمام ، حيث خلع عنه عباءته المرقعة وارتدى لباساً
طيباً ، وفى المساء نهض ليقوم بصلاته وعبادته ، ولكنه سرعان ما صاح قائلاً :
إلىّ بعباءتى المرقعة ، فسألوه : وماذا يضيرك ؟ فأجاب : سمعت صوتاً يقول فى
أعماقى : بسبب نظرة عاصية نزعنا عنك المرقع وهو رداء التقوى ، فإذا نظرت
مرة ثانية نزعنا رداء القرب من قلبك . فاللباس الذى يكون ارتداؤه سبباً فى القرب
من الله ، ويرتديه أولياء الله تعالى على التوفيق لا ينبغى أن تزاول الحياة مع عدم
القيام بحقه فالخيانة لا تليق برداء الأولياء وذلك بأن تكون مسلماً على التحقيق
دون ادعاء أفضل من أن تكون ولياً كذاباً ، وليس أهل لارتداء المرقع إلا نوعين من
الرجال : من ترك الدنيا ، ومن اشتاق إلى المولى .


يتبع إن شاء الله تعالى ...



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء يوليو 26, 2005 11:20 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347


ويتبع شيوخ التصوف هذه القاعدة عندما ينضم سالك جديد إليهم بغية ترك
الدنيا ، فيخضعونه لنظام روحى ثلاث سنوات ، فإذا وفى متطلبات هذا النظام
فخير ، وإلا أعلنوا أنه غير أهل للطريق ، وهم يخصصون أول سنة لخدمة الناس ،
والسنة الثانية لخدمة الله ، والسنة الثالثة لمراعاة تقلبات قلبه .

وهو لا يخدم الناس إلا إذا وضع نفسه موضع الخدم ، ووضع كافة الناس موضع
السادة . بمعنى أنه يجب أن يعتبر كافة الناس أفضل منه ، وأن واجبه خدمتهم
جميعاً على سواء .

ويجب ألا يعتبر نفسه أعلى شأناً ممن يخدمهم ، ففى هذا الخسران المبين
والخداع الواضح ، والغبن الفاحش ، وهو سبب من أسباب الضياع ، الذى لا
دواء له فى هذا العصر . ولا يمكنه أن يخدم ربه إلا حين ينزع عنه كافة رغباته
بالنسبة لهذه الدنيا وللعالم الآخرة ، ولا يعبد الله إلا لله سبحانه وحده ، إذ أن
من يعبد الله لأى غرض يعبد نفسه ولا يعبد الله . ولا يمكن أن يراعى تقلبات
قلبه إلا عندما يجمع أفكاره ، وينزع همومه من قلبه ، فيحمى قلبه من الغفلة
عند حضرة الأنس .

وعندما يحقق المريد هذه المطالب الثلاثة يمكنه أن يلبس المرقع ، ويصبح
صوفياً صحيحاً ، لا مجرد مقلد لغيره .

أما بالنسبة لمن يمنح المريد حق ارتداء المرقع ، فمن الواجب أن يكون مستقيم
الحال ، عارفاً بالطريق بعد أن قطع تلاله ووهاده ، وذاق نشوة الحال ، وأدرك
طبيعة الأعمال ، وخبر جلال العظمة الإلهية ، ورحمتها وجمالها . وعلاوة على
ذلك فعليه أن يختبر حالة المريد ، ويقدر المقام الذى يمكن أن يصله بالله ، وهل
هو من الراجعين ، أو الواقفين ، أو البالغين . وإذا أدرك أنه سوف يعتزل الطريق
فى يوم من الأيام فعليه ألا يسمح له بالسير فيه ، أما إذا أدرك أنه سيتوقف
عن السير ، ويصبح من الواقفين فعليه أن يتصل به ، ويجعله يواصل تقواه ،
وأخيراً فإذا أدرك أنه سيكون من الواصلين فعليه أن يمنحه الغذاء الروحى .
ومن ثم فإن شيوخ التصوف هم أطباء النفوس ، فإذا كان الطبيب جاهلاً بمرض
المريض قتله ، إذ لا يعرف وسيلة علاجه ولا يدرك بوادر الخطر وعلاماته ،
ويصف له من الطعام والشراب ما لا يناسب مرضه ، وقد قال النبى عليه
الصلاة والسلام : ( إن الشيخ فى قومه كالنبى فى أمته ) ، وبما أن للأنبياء
بصيرة فى دعوتهم لأمتهم ، بحيث يضعون كل فرد فى مكانه الصحيح ، فمن
الواجب على الشيخ أن تكون له بصيرة فى دعوته ويعطى كل فرد ما يناسبه
من الغذاء الروحى ، حتى يتحقق الهدف من دعوته .

لهذا فإن من وصل إلى كمال الولاية يسلك الطريق الصحيح عندما يمنح
السالك الجديد رداء مرقعاً ، بعد ثلاث سنوات يكون خلالها قد علمه آداب
السلوك .

أما المؤهلات التى تؤهله إلى لبس الرمقع ، فمن الواجب أن ينظر إلى المرقع
نظرته إلى الكفن ، بحيث يتخلى لابسه عن كافة آماله الخاصة بمسرات هذه
الحياة الدنيا ، وأن يطهر قلبه من كل شهوة ، ويخصص حياته كلها لخدمة الله ،
ويتخلى بصورة كاملة عن كل رغبة ذاتية ، وعندئذ يقوم الشيخ بتكريمه بأن
يلبسه رداء الشرف ، بينما يقوم السالك بدوره بالقيام بما يتطلبه لبس هذا
الرداء ، ويحاول بكل قوته أداءه ، ويرى أن من المحرم عليه إشباع مطالبه .

وقد وردت عدة إشارات فيما يختص بالمرقع ، وقد كتب الشيخ أبو معمر
الأصفهانى كتاباً عن هذا الموضوع ، ويظهر أن أغلب المريدين غلوا فى هذا
الموضوع ، ولا أقصد فى كتابى هذا أن أروى هذه الأقوال ، ولكنى أريد أن
أوضح مصاعب الصوفية .

وأفضل إشارة بالنسبة للمرقع هى أن جيبها الصبر ، وأكمامها الخوف والرجاء ،
وحشوها القبض والبسط ، وحزامها مخالفة النفس ، وطرفها صحة اليقين ،
وإطارها الإخلاص .

وهناك إشارة أفضل هى أن طرفها اعتزال الناس ، وأكمامها الحفظ والعصمة ،
وحشوها الفقر والصفوة ، وحزامها الإقامة فى المشاهدة ، وطرفها الأمن
فى الحضور ، وإطارها القرار فى المحل . فإذا صنعت لروحك مرقعاً من هذا
النوع كان خليقاً بك أن تصنع لظاهرك مرقعاً ترتديه . وقد كتبت كتاباً مفصلاً
فى هذا الموضوع عنوانه " أسرار الخرق والمرقعات " ، وعلى المريد أن
يحتفظ لنفسه بنسخة منه .

وإذا اضطر المريد ، الذى يلبس المرقع ، إلى تمزيق ردائه ، لغلبة الحال ، وقهر
السلطان ، فله أن يفعل ذلك . ولكن إذا قام بتمزيقه بمحض إرادته ، دون إرغام
على ذلك ، فإن قانون أهل الطريق يقضى بألا يسمح له أن يلبس المرقع فى
مستقبل أيامه ، وإذا لبسه أصبح من أولئك الذين يقنعون بلبس المرقع ، رغبة
فى التظاهر دون أن يكون له أى معنى روحى بالنسبة لهم . أما بالنسبة لتغيير
الرداء فإن المبدأ الصحيح يقتضى أن يغير الصوفى رداءه ، شكراً لله ، عندما يجتاز
مقاماً من المقامات ويبدأ مقاماً آخر أعلى منه .

ولكن إذا كانت كافة الأردية خاصة لمرحلة واحدة من المراحل ، فإن المرقع لباس
يصلح لكل المراحل الخاصة بطريق الفقر والصفاء ، ولهذا فإن انتزاعه يعنى ترك
الطريق كله . وإنى أشير هنا إشارة عابرة لهذا الموضوع ، وإن لم يكن هذا
مكانها المناسب ؛ وذلك حتى احسم هذا الأمر . وسأقوم إن شاء الله بكتابة
شرح واف له فى باب الخرق ، وفى كشف أسرار السماع . وقد قيل زيادة
على ذلك أنه من الواجب على من يمنح المرقع للمريد أن تكون له أسرار
روحية كبيرة حتى أنه إذا ظهر عطفه على الغريب صار قريباً وإذا لبس المذنب
هذا الرداء أصبح من أولياء الله .

كنت فى خدمة شيخى فى ديار أذربيجان ورأينا رجلين أو ثلاثة رجال يلبسون
المرقع ، ويقفون إلى جوار جرن ممسكين رداءهم ، أملاً فى أن يلقى إليهم
القلاع شيئاً من القمح ، وعندما رآهم الشيخ صاح قائلاً : { أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ
الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } البقرة 16.

فسألته : كيف تردَّوا إلى هذا الخزى والعار ، وافتضحوا أمام الخلائق ؟. فقال :
إن مرشديهم طمعوا فى اجتذاب الاتباع ، وكانوا هم أنفسهم فى حطام الدنيا ،
ولا يختلف حرص عن حرص . والدعوى دون أمر تزيد فى الهوى .

وقيل أن الجنيد رأى مرة عند باب الطاق شاباً مسيحياً حسن الوجه فقال الجنيد :
يا إلهى اعف عنه من أجلى فقد خلقته فى غاية الحسن , وبعد فترة قصيرة
جاء الشاب إلى الجنيد معلناً إسلامه وأصبح من الأولياء .

وسئل أبو على سياه المروذى : " من الذى يسمح له بإلباس المريد المرقع ؟
فأجاب : من يرى ملك الله بحيث لا يجرى عليه ما يوجد فى الدنيا من أحكام
وأحوال إلا بمعرفة .

إذن فالمرقعة سمت الصالحين وعلامة الطيبين ولباس الفقراء والمتواضعين .
وفى الحقيقة فقد جرى الكلام قبل ذلك عن الفقراء والصفوة ولو أن شخصاً
ما جعل من لباس الأولياء لباساً له فإنما يعد لباس فساده ولا يلحق خسارة
بأهلها الحقيقين .



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يوليو 27, 2005 1:27 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد مارس 07, 2004 12:49 pm
مشاركات: 5347
[align=center]
الباب الخامس

اختلافهم فى الفقر والصفاء

[/align]
يختلف الباحثون من أهل الطريق فى تفضيل الفقر على الصفاء . فيرى البعض
أن الفقر أكمل من الصفاء ، ويقولون أن الفقر هو الفناء الكامل ، وانقطاع الأسرار ؛
أما الصفاء فهو مقام من مقامات الفقر . وعندما يتم الوصول إلى الفناء الكامل
تتلاشى المقامات ، وهذا هو نفس الشىء بالنسبة للفقر والغنى . وقد سبق
أن فصلنا القول فيه .

أما من يضعون الصفاء فوق الفقر ، والذين يقولون أن الفقر شىء موجود يمكن
تسميته ، أما الصفاء فهو التخلى عن كل الموجودات ، وعليه فإن الصفاء هو
عين الفناء ، أما الفقر فهو روح الفناء ولهذا فإن الفقر أحد أسماء المقامات ،
أما الصفاء فهو أحد أسماء الكمال .

وقد نوقش هذا الموضوع باستفاضة فى عصرنا هذا ، ولجأ كل فريق إلى حجج
لفظية دقيقة بعيدة الغور ، ولكن الفريقين يتفقان على أن الفقر والصفاء ليسا
إلا مجرد إسمين .

إن المتنازعين قد بنوا نزاعهم على ألفاظ ، ونسوا أن يدركوا المعانى . وبذلك
تركوا مناقشة الحقيقة ، فهم يعتبرون أن نفى العرض نفى للجوهر ، وإثبات
الرغبة إثبات للحقيقة . والطريق براء من مثل هذه الأوهام ، وباختصار : فإن
أولياء الله يصلون إلى منزلة يختفى فيها المكان ، وتتلاشى عندها المقامات ،
وتنكشف المظاهر عن الحقائق ، بحيث لا يبقى شرب ولا ذوق ولا قمع ولا
صحو ولا محو .

أما هؤلاء المتجادلون فهم يبحثون عن اسم مفتعل يسترون به من الأفكار ما لا
يسمى أو يوصف ، ويحاول كل منهم أن يطلق عليها من الأسماء ما يستحسنه .
وعندما نتعامل مع الأفكار نفسها لا نجد حاجة إلى تفضيل ، ولكن عندما نطلق
عليها الأسماء يصبح من الممكن تفضيل اسم على اسم .

ولذلك فإن بعض الناس يرون أن اسم الفقر أعلى وأسمى ، لأنه مرتبط بالترك
والخضوع ، بينما يفضل غيرهم الصفاء ، ويعتبرونه أكرم بالمرء ، إذ أنه قريب
من نبذ كل الكدورات ، والفناء عن كل ما له صلة بالدنيا . وقد ابتكروا هذين
الاسمين ليعبروا بهما عن فكرة غير ملموسة ، حتى يتحادثوا فى هذا الموضوع
ويشرحوا وجهة نظرهم شرحاً وافياً ؛ أما الصوفيون فلا يختلفون فى الرأى ،
فيستخدم البعض كلمة الفقر ليعبروا عن نفس الفكرة التى يعبر عنها الآخرون
باستخدام كلمة الصفاء .

وأما أهل العبارة وأرباب اللسان ، الذين يجهلون الحقائق ، فإن الموضوع كله
بالنسبة لهم مجرد ألفاظ . وباختصار فإنه من اهتم بالحقيقة ، وتعلق بها قلبه ،
لا يهمه أن سموه فقيراً أو صوفياً ، فليس هذان الإسمان إلا تعبيرين مصطنعين ،
عن فكرة لا يمكن أن تحدد باسم من الأسماء .

وترجع هذه المناقشة إلى أيام أبى الحسن بن سمعون فعندما كان فى حالة
الكشف الشبيهة بالبقاء كان يضع الفقر فوق الصفاء . وعندما كان أرباب المعانى
يسألون : لم فعل هذا ؟. كان يجيبهم قائلاً : إنى لست أقل إهتماماً بالفناء
والخضوع بالبقاء والوجد ، لذا فإنى أفضل الصفاء على الفقر عندما أكون فى
مقام قريب من الفناء ، وأفضل الفقر على الصفاء عندما أكون فى مقام قريب
من البقاء ؛ لأن الفقر اسم البقاء ، والصفاء اسم الفناء ، ففى الحالة الأخيرة
أفنى عنى الشعور بالبقاء ، وفى الحالة الأولى أفنى عن الشعور بالبقاء ، بحيث
تموت طبيعتى عن كل من الفناء والبقاء . فإذا نظرنا إلى هذا القول على أنه
عبارة وجدناه ممتازاً ، ولكن لا يمكن إفناء الفناء أو البقاء . إذ أن كل ما يقبل
الفناء يفنى بنفسه وكل ما يقبل البقاء يبقى بنفسه .

والفناء كلمة لا تقبل المغالاة ، فإذا قال شخص : إن الفناء قد فنى ، فإنه يعبر
بصورة فيها مغالاة عن عدم وجود أثر لفكرة الفناء ، ولكن ما دام هناك أثر للبقاء
انتفى وجود الفناء ، وإذا تم الوصول إلى الفناء ، فإن عبارة " افناء الفناء " ليست
إلا مجرد ادعاء ، يتم التعبير عنه بألفاظ لا معنى لها ، وهذه ترهات أرباب اللسان
عند حب العبارات .

وقد قمت فى فترة غرور الشباب بكتابة مؤلف فى هذا الموضوع عنوانه " كتاب
الفناء والبقاء " ولكنى ساقوم بعرض الموضوع كله فى هذا الكتاب بكثير من
الحذر إن شاء الله .

هذا هو الفرق بين الصفاء والفقر بمعناهما الروحى . ويختلف هذا إذا نظرنا
إليهما من الناحية العملية ، أى عند التجريد ، وخروج الإنسان عن كل ما يملك
فهنا تصبح النقطة الحقيقية ، هى الفرق بين الفقر والمسكنة .

ويؤكد بعض المشايخ أن الفقير أعلى قدراً من المسكين ، لأن الله تعالى قال :
{ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ
الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ } البقرة 273 _ فالمسكين لديه مما يقيته ما يتجرد
عنه الفقير ، ولهذا فإن الفقر مفخرة ، والمسكنة إذلال ؛ إذ أن أهل الطريق
يرون أن من يمتلك وسائل العيش ذليل ، ويستشهدون بقول النبى عليه الصلاة
والسلام : ( تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار ، تعس عبد الخميصة
والقطيفة ) ومن يتجرد عن وسائل العيش ينال من الشرف ما يناله المتوكل
على الله . أما من لديه هذه الوسائل فإنه يعتمد عليها . ويرى آخرون أن المسكين
أفضل ، لأن النبى قال : ( اللهم أحينى مسكيناً وأمتنى مسكيناً واحشرنى فى
زمرة المساكين ) وعندما تحدث عن الفقر قال : ( كاد الفقر أن يكون كفراً ) وعلى
هذا الأساس فإن الفقراء يعتمدون على وسيلة للعيش ، أما المساكين فهم
مستغنون عنها . ويرى البعض من أرباب الشريعة المطهرة أن الفقراء أصحاب
بلغة ، وأن المساكين مجردون منها . ويرى آخرون عكس ذلك ، وعليه فإن أهل
المقامات ، الذين يؤمنون بالرأى الأول ، يلقبون المسكين بالصوفى . وهذا خلاف
متصل باتصال الفقهاء فمن يعتبر منهم الفقير مجرداً والمسكين صاحب بلغة
يفضل الفقر على الصفوة ، أما من يرى عكس ذلك فيرى أن الصفوة تفضل الفقر .



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 93 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة 1, 2, 3, 4, 5 ... 7  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 5 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط