موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 94 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 3, 4, 5, 6, 7
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أكتوبر 06, 2015 3:49 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
سورة البروج


بسم الله الرحمن الرحيم
• وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ
• وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ
• وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
• قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ
• النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ
• إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ
• وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
• وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
• الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
• إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ

• إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ
• إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ
• إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ
• وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ
• ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ
• فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
• هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ
• فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
• بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ
• وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ
• بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ
• فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ

يقول الحق جلّ جلاله: {والسماءِ ذات البروج} الأثني عشر، وهي الحَمَل، والثور، والجَوْزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. شُبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارة، وتكون فيها الثوابت ومنازل القمر، أو: عُظْم الكواكب، سُميت بروجاً لظهورها، من: التبرُّج، أي الظهور، أو: أبواب السماء، فإنَّ النوازل تخرج منها، {واليومِ الموعودِ} أي: يوم القيامة.
{وشاهدٍ ومشهودٍ} أي: وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه، والمراد بالشاهد: مَن يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود فيه: ما في ذلك اليوم من عجائبه وأهواله، إذا أُريد بالشهود: الحضور، وإذا أريد الشهادة، فيُقَدّر المعمول، أي: مشهود عليه أو مشهود به. وقد اضطربت الأقوال في الشاهد والمشهود،
قيل: الشاهد: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: سائر الأمم؛ لأنه يشهدون عليهم كما تقدّم وقيل: الشاهد: عيسى
عليه السلام، والمشهود: أمته، لقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] ، وقيل: الشاهد: جميع الأنبياء، والمشهود: أممهم، وقيل: الشاهد: الملائكة الحفظة، والمشهود: الناس، لأنهم يشهدون عليهم يوم القيامة. وقيل: الشاهد: الجوارح، والمشهود عليهم: أصحابها وقيل: الشاهد: الله والملائكة وأولو العلم، والمشهود به: الوحدانية، لقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ} [آل عمران: 18] الخ. وقيل: الشاهد: جميع المخلوقات، والمشهود به: وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة ... وغير ذلك.
وقيل: الشاهد: النجم، للحديث: " لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد " أي: النجم والمشهود: الليل، لأن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل. وقيل: الشاهد: الحجر الأسود، والمشهود: الناس يحجون، لأنه يشهد عليهم يوم القيامة لمَن قَبّله أو لمسه. وقيل: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، لأنَّ يوم الجمعة يشهده بالأعمال، ويوم عرفة يشهده الناس، وهذا مروي عنه صلى الله عليه وسلم. وقيل: الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم النحر. قاله عليّ رضي الله عنه، انظر ابن جزي. وقيل: الشاهد: الأيام والليالي، والمشهود: بنو آدم، للحديث " ما من يوم إلاَّ وينادي: أنا يوم جديد، وعلى ما يُفعل به شهيد، فاغتنمني " =وكذلك تقول الليلة، وجواب القسم إمّا محذوف يدلّ عليه: {قُتل ... } الخ، كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنّ كفار قريش ملعونون كما لُعن {أصحابُ الأخدود} أو: هو قتل بعينه على حذف اللام، لطول الكلام، أي: لقد قُتل أصحاب الأخدود، والمراد: تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان، وتصبيرهم على أذى الكفرة، وتذكيرهم بما جرى على مَن تقدمهم من التعذيب، وصبرهم على ذلك، حتى يأنسوا ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أنَّ هؤلاء الكفرة بمنزلة أولئك، ملعونون مثلهم. والأخدود: الخد في الأرض، أي: الشق.
=رُوي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان لبعض الملوك ساحر، فلمّا كبر، قال للملك: قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلّمه السحر، فضمّ إليه غلاماً ليعلّمه، وكان في طريق الغلام راهبٌ، فسمع منه وأعجبه، وكان يحتبس عنده، فيضربه الساحرُ، فقال له الراهبُ: إذاخشيت الساحرَ، فقل له: حبسني أهلي، وإذا خشيتَ أهلك، فقل: حبسني الساحرُ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس، وقيل: كانت أسداً، وقيل: ثُعباناً، فأخذ حجراً، وقال: اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها، وكان الغلام تعلَّم من الساحر اسم الله الأعظم، فكان الغلام يُبرىء الأكمه والأبرص، ويشفي من الأدواء، فعمي جليس الملكُ فأبراه، وأبصره الملكُ، فقال: مَن ردَّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فغضب، فعذّبه، فدلّ على الغلام، فعذّبه، فدلّ على الراهب، فلم يرجع عن دينه، فقدّ بالمنشار، وأبى الغلامُ، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا، فرجف بالقوم، فطاحوا، ونجا، فذهب به إلى قُرْقُورة ـ وهي السفينة ـ فلجَجوا به ليغرقوه، فدعا، فانكفأتْ بهم السفينةُ، فغرقوا، ونجا، فقال للملك: لستَ بقاتلي حتى تجمع الناسَ في صعيد، وتصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، وتقول: بسم الله ربّ الغلام، ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه، فوضع يده عليه ومات. فقال الناس: آمنا بربّ الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر، فخدّ أخدوداً، فملأها ناراً، فمَن لم يرجع عن دينه طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبيٌّ، فتقاعست، فقال الصبيّ: يا أماه! اصبري، فإنك على الحق، فاقتحمت بصبيها. وقيل لها: قعي ولا تنافقي، ما هي إلاّ غميضة " والحديث في صحيح مسلم.
واسم الغلام: عبد الله بن الثامر، واسم الراهب: فيميون، واسم الملك: ذو نواس. وقد ذكر القصة الكلاعي بتمامها. وقيل: تعددت قضية الأخدود، فكانت واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس، فنزل القرآن في الذي بنجران. انظر التثعلبي. قال سعيد بن المسيب: كنا عند عمر، إذ ورد عليه أنهم وجدوا ذلك الغلام حين حفروا خربة، وأُصْبعه على صُدْغِه كما قتل، فكلما مدت يده رجعت مكانها، فكتب عمر: أن واروه حيث وجدتموه. هـ.=

وقوله تعالى: {النارِ} ؛ بدل اشتمال من " الأخدود " فحذف الضمير، اي: فيه، وقيل: قاعدة الضمير أغلبية، و {ذات الوقود} وصَفٌ لها بغاية العظم، وارتفاع اللهب، وكثرة ما يوجبه من الحطب وأبدان الناس، {إِذ هم عليها قعودٌ} ؛ ظرف لقُتل، أي: لُعنوا حين حرّقوا المؤمنين بالنار، قاعدين عليها في مكان مشرف عليها من جنبات الأخدود،
{وهم معلى ما يفعلون بالمؤمنين} من الإحراق {شُهودٌ} يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنَّ أحداً منهم لم يُقَصِّر فيما أمر به، وفوّض إليه من التعذيب، أو:: إنهم {شهود} يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة، يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم، وقيل: " على " بمعنى " مع " أي: وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور، ولا يَرقّون لهم، لغاية قسوة قلوبهم. وهذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم، وتنطق به الروايات المشهورة.
=وقد رُوي أنَّ الجبابرة لمّا ألقوا بالمؤمنين في النار، وهم قعود عليها، علقت بهم النار، فاحترقوا، ونجّا اللهُ المؤمنين سالمين، وإلى هذا القول ذهب الربيعُ بن أنس والواحدين وعلى ذلك حملا قوله تعالى: {ولهم عذاب الحريق} =.
{وما نَقَمُوا منهم} أي: وما عابوا منهم وأنكروا عليهم، يقال: نقم ـ بالفتح والكسر: عاب، أي: عابوا منهم {إِلاَّ أن يؤمنوا بالله} وهذا كقول الشاعر:
ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ
بِهِنَّ فُلولٌ مِنْ قِرَاع الكتائبِ
وكقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40] وعبّر بلفظ المضارع، ولم يقل: إلاَّ أن آمنوا، مع أنَّ القصة قد وقعت، لإفادة أنَّ التعذيب إنما كان دوامهم على الإيمان، ولو كفروا بالرجوع عن الإيمان في المستقبل لم يعذبوهم. وقوله تعالى: {العزيزِ الحميدِ} ، ذكر الأوصاف الذي يستحقّ بها أن يؤمن به، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً، يُخشى عقابه، حميداً منعماً، يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه، ليقرر أنَّ وصف الإيمان الذي عابوا منهم وصف عظيمٌ، له جلالة، وأنَّ مَن رام صاحبه بالانتقام والعيب كان مبطلاً مبالغاً في الغي، يستحق أن ينتقم منه بعذابٍ لا يُقادر قدره.
{

الذي له ملكُ السمواتِ والأرضِ} فكل مَن فيها يحق عليه عبادته والخضوع له، {واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ} وعيد لهم شديد، يعني: أنه تعالى عَلِمَ بما فعلوا وسيجازيهم عليه.
{إِنَّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي: محقوهم في دينهم ليرجعوا عنه، والمراد بهم: إمّا أصحاب الأخدود خاصة، وبالمفتونين: المطروحين في الأخدود، وإمّا الذين بَلوْهم في ذلك بالإذاية والتعذيب على الإطلاق، وهم داخلون في جملتهم دخولاً أولياً. قال ابن عطية: الأشبه أنَّ المراد بهؤلاء قريش، حيث طانوا يُعَذَّبون مَن أسلم، ويقويه بعض التقوية: قوله تعالى: {ثم لم يتوبوا} لأنه رُوي: أنّ أصحاب الأخدود ماتوا على كفرهم، وأمّا قريش فكان منهم مَن تاب بعد نزول الآية. هـ. مختصراً. {فلهم عذابُ
جهنَّمَ} في الآخرة لكفرهم، {ولهم عذابُ الحريق} في الدنيا لِما تقدّم أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، أو: عذاب الحريق: نار أخرى عظيمة تحرقهم في الآخرة، لسبب فتنتهم للمؤمنين. والجملة: خبر " إن " ودخلت الفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط، ولا ضَرَرَ في نسخة بـ " إنَّ " وإن خالف في ذلك الأخفش. الإشارة: والسماء ذات البروج، أي: سماء الحقائق، صاحبة المنازل التي تنزل فيها السالك في ترقِّبه إليها، مَن أرض الشرائع، كمقام التوبة، ثم الصبر، ثم الورع، والزهد، ثم التكُّل، ثم الرضا والتسليم، ثم المراقبة، ثم المشاهدة، واليوم الموعود يوم الفتح الأكبر، وهو وقت الخروج من شهود الكون إلى شهود المكوِّن، وشاهد هو الذي يشهد ذات الحق عياناً، ومشهود، هو عظمة الذات العلية وأسرارها وأنوارها. وقال الورتجبي: الشاهد هو والمشهود هو، يرى نفسه بنفسه، أي: لا يراه أحد بالحقيقة سواه، وأيضاً: الشاهد هو، إذا تجلّى بتجلِّي الجمال والحس، والمشهود قلوب العارفين شاهَدَها بنعت الكشف، وأيضاً: اشاهد هو قلوب المحبين، والمشهود لقاؤه، وهو شاهدهم وهو مشهودهم، هو شاهد العارف والعارف شاهده. هـ. قُتل أصحابُ الأخدود، وهم الصادُّون عن طريق الحق أينما كانوا وكيف كانوا، المعذِّبون لأهل التوجه، وما نقموا منهم إلاّ طلب كمال الإيمان، وتحقيق الإيقان. إنّ الذي فتنوا أهل التوجه ثم لم يتوبوا فلهم عذاب البُعد ولهم عذاب الاحتراق بالحرص والتعب والخوف والجزع.
ثم ثنى بأضدادهم، فقال يقول الحق جلّ جلاله: {إِنّ الذين آمنوا} وصبروا على الإيمان {وعَمِلوا الصالحات} من المفتونين وغيرهم {لهم} بسبب ذلك الإيمان والعمل الصالح {جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ} ، إن أُريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أُريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جريها الظاهرة، فإنَّ أشجارها ساترة لساحتها، كما يعرب عنه اسم الجنة. {ذلك هو الفوزُ الكبير} الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها، والفوز: النجاة من الشر والظفر بالخير. والإشارة إمّا إلى الجنة الموصوفة بما ذكر، والتذكير لتأويلها بما ذكر، وإمّا إلى ما يفيده قوله: {لهم جنات ... } الخ، من حيازتهم لها، فإنَّ حصولها لهم مستلزم لحيازتهم لها قطعاً، وما فيه

من البُعد للإيذان بعلو درجته، وبُعد منزلته في الفضل. ومحله: الرفع، وخبره: ما بعده.
{إِنَّ بطشَ ربك لشديدٌ} ، البطش: الأخذ بعنف، فإذا وُصف بالشدة فقد تفاقم وتعاظم أمره. والمراد: أخذ الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام، وهو استئناف، خواطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنَّ لكفار قوهه نصيباً موفوراً من مضمونه، كما يُنبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره صلى الله عليه وسلم. {إِنه هو يُبدىء ويُعيد} أي: هو يُبدىء الخلق وهو يُعيده، من غير دخلٍ لأحد في شيء منها. ففيه مزيد تقرير لشدة بطشه، فقد دلّ باقتداره على البدء والإعادة على شدة بطشه، أو: هو يُبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويُعيده في الآخرة. {وهو الغفورُ} الساتر للعيوب، الغافر للذنوب، {الودودُ} المحب لأوليائه، أو: الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود، من إعطائهم ما أرادوا، {ذو العرش} أي: خالقه ومالكه، وقيل: المراد بالعرش: المُلك، أي: ذو السلطة القاهرة {المجيدُ} بالجر صفة للعرش، وبالرفع صفة لذُو، أي: العظيم في ذاته، فإنه واجب الوجود، تام القدرة {فعَّالٌ لما يُريد} بحيث لا يتخلّف عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال عباده، ففيه دلالة على خلق أفعال العباد، وهو خبر عن محذوف.
{

هل أتاك حديثُ الجنود} أي: قد أتاك حديث الطاغية والأمم الخالية. وهو استفهام تشويق مقرر لشدّة بشطه تعالى بالظَلَمة العصاة، والكفرة العتاة. وكونه فعال لما يُريد مع تسليته صلى الله عليه وسلم بأنه سيصيب قومه صلى الله عليه وسلم ما أصاب تلك الجنود. {فرعونَ وثمودَ} ؛ بدل من الجنود؛ لأنَّ المراد بفرعون هو وقومه. والمراد بحديثهم: ما صدر منهم من التمادي على الكفر والضلال، وما حلّ بهم من العذاب والنكال، أي: قد أتاك حديثهم، وعرفت ما فعل بهم، فذكّر قومك ببطش الله تعالى، وحذّرهم أن يُصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم.
{بل الذين كفروا في تكذيبٍ} ، إضراب عن مماثلتهم، وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان، كأنه قيل: ليسوا مثلهم في ذلك، بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب، فإنهم مستقرُّون في تكذيبٍ شديد للقرآن الكريم، أو كأنه قيل: ليست جنايتهم مجرد عدم التذكُّر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم، بل هم مع ذلك في تكذيب شديدٍ للقرآن الناطق بذلك، لكن لا أنهم يكذبون بوقوع تلك الحادثات، بل لكون ما نطق به قرآناً من عند الله تعالى مع وضوح أمره، وظهور حاله، بالبينات الباهرة. {واللهُ من ورائهم محيط} ؛ عالم بأحوالهم، قادر عليهم، لا يفوتونه. وهو تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوات المحاط المحيط.
{بل هو قرآن مجيد} أي: بل هذا الذي كذّبوا به قرآن شريف عالي الطبقة في الكتب السماوية، وفي نظمه وإعجازه، وهو رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم، وتحقيق للحق، أي: ليس الأمر كما قالوا، بل هو كتاب شريف {في لوح محفوظ} من التحريف والتبديل. وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن، والباقي بالجر صفة للوح، أي: محفوظ من
وصول الشياطين إليه.
= واللوح عند الحسن: شيء يلوح للملائكة يقرؤونه، وعن ابن عباس رضي الله عنه: هو من درّة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، قلمه نور، وكل شيءٍ فيه مسطور. قال مقاتل: هو عن يمين العرش، وقيل: أعلاه معقود بالعرش، وأسفله في حِجْرِ ملَك كريم= هـ.
الإشارة: إنَّ الذين آمنوا إيماناً حقيقيًّا شهوديًّا، وعملوا الصالحات بأيدي القلوب والأرواح والأسرار، يعني العمل الباطني، لهم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم، ذلك هو الفوز الكبير والسعادة العظمى. إنَّ بطش ربك بأهل الإنكار الجاحدين لأهل الخصوصية لَشَدِيد، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، إنه هو يُبدىء ويُعيد، يُبدىء الحجاب للمحجوبين، ويُعيد الشهود للعارفين، وهو الغفور للتائبين المتوجهين، الودود للسائرين المحبين. قال الورتجبي: الغفور للجنايات، الودود بكشف المشاهدات. هـ. ذو العرش: ذو السلطة القاهرة على العوالم العلوية والسفلية. قال الورتجبي: وصف نفسه بإيجاد العرش، ثم وصف نفسه بالشرف والتنزيه، أي: بقوله: {المجيد} إعلاماً بأنه كان ولا مكان، والآن ليس في المكان، إذ جلاله وجماله منزَّه عن مماسة المكان، والحاجة إلى الحدثان. هـ. قال القشيري: ويجوز أن يكون المراد بالعرش: قلب العارف المستَوي للرحمن، كما جاء الحديث: " قلب العارف عرش الله " هـ.
فعّال لما يُريد، يُقرِّب البعيد ويُبعد القريب إن شاء. قال القشيري: إنْ أراد أن يجعل أرباب الأرواح من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك، وهو عادل في ذلك، وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك. هـ. فلذا كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، هل أتاك حديث الجنود، أي: جنود النفس التي تُحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض الأسفل، ثم فسّرها بفرعون الهوى، وثمود حب الدنيا، والطبع الدني. بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب، لهذا كله، فلا يُفرقون بين الروح والنفس، ولا بين الفرق والجمع، والله من ورائهم محيط، لا يفوته شيء، لإحاطة المحيط بالأشياء ذاتاً وصفاتاً وفعلاً، بل هو ـ أي: ما يوحي إلى الأسرار الصافية، والأرواح الطاهرة ـ قرآن مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ عن الخواطر والهواجس الظلمانية، وهو قلب العارف. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أكتوبر 06, 2015 3:52 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
سورة البروج


بسم الله الرحمن الرحيم
• وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ
• وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ
• وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
• قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ
• النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ
• إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ
• وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
• وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
• الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
• إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ

• إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ
• إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ
• إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ
• وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ
• ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ
• فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
• هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ
• فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
• بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ
• وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ
• بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ
• فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ

يقول الحق جلّ جلاله: {والسماءِ ذات البروج} الأثني عشر، وهي الحَمَل، والثور، والجَوْزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. شُبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارة، وتكون فيها الثوابت ومنازل القمر، أو: عُظْم الكواكب، سُميت بروجاً لظهورها، من: التبرُّج، أي الظهور، أو: أبواب السماء، فإنَّ النوازل تخرج منها، {واليومِ الموعودِ} أي: يوم القيامة.
{وشاهدٍ ومشهودٍ} أي: وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه، والمراد بالشاهد: مَن يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود فيه: ما في ذلك اليوم من عجائبه وأهواله، إذا أُريد بالشهود: الحضور، وإذا أريد الشهادة، فيُقَدّر المعمول، أي: مشهود عليه أو مشهود به. وقد اضطربت الأقوال في الشاهد والمشهود،
قيل: الشاهد: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: سائر الأمم؛ لأنه يشهدون عليهم كما تقدّم وقيل: الشاهد: عيسى
عليه السلام، والمشهود: أمته، لقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] ، وقيل: الشاهد: جميع الأنبياء، والمشهود: أممهم، وقيل: الشاهد: الملائكة الحفظة، والمشهود: الناس، لأنهم يشهدون عليهم يوم القيامة. وقيل: الشاهد: الجوارح، والمشهود عليهم: أصحابها وقيل: الشاهد: الله والملائكة وأولو العلم، والمشهود به: الوحدانية، لقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ} [آل عمران: 18] الخ. وقيل: الشاهد: جميع المخلوقات، والمشهود به: وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة ... وغير ذلك.
وقيل: الشاهد: النجم، للحديث: " لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد " أي: النجم والمشهود: الليل، لأن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل. وقيل: الشاهد: الحجر الأسود، والمشهود: الناس يحجون، لأنه يشهد عليهم يوم القيامة لمَن قَبّله أو لمسه. وقيل: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، لأنَّ يوم الجمعة يشهده بالأعمال، ويوم عرفة يشهده الناس، وهذا مروي عنه صلى الله عليه وسلم. وقيل: الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم النحر. قاله عليّ رضي الله عنه، انظر ابن جزي. وقيل: الشاهد: الأيام والليالي، والمشهود: بنو آدم، للحديث " ما من يوم إلاَّ وينادي: أنا يوم جديد، وعلى ما يُفعل به شهيد، فاغتنمني " =وكذلك تقول الليلة، وجواب القسم إمّا محذوف يدلّ عليه: {قُتل ... } الخ، كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنّ كفار قريش ملعونون كما لُعن {أصحابُ الأخدود} أو: هو قتل بعينه على حذف اللام، لطول الكلام، أي: لقد قُتل أصحاب الأخدود، والمراد: تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان، وتصبيرهم على أذى الكفرة، وتذكيرهم بما جرى على مَن تقدمهم من التعذيب، وصبرهم على ذلك، حتى يأنسوا ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أنَّ هؤلاء الكفرة بمنزلة أولئك، ملعونون مثلهم. والأخدود: الخد في الأرض، أي: الشق.
=رُوي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان لبعض الملوك ساحر، فلمّا كبر، قال للملك: قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلّمه السحر، فضمّ إليه غلاماً ليعلّمه، وكان في طريق الغلام راهبٌ، فسمع منه وأعجبه، وكان يحتبس عنده، فيضربه الساحرُ، فقال له الراهبُ: إذاخشيت الساحرَ، فقل له: حبسني أهلي، وإذا خشيتَ أهلك، فقل: حبسني الساحرُ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس، وقيل: كانت أسداً، وقيل: ثُعباناً، فأخذ حجراً، وقال: اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها، وكان الغلام تعلَّم من الساحر اسم الله الأعظم، فكان الغلام يُبرىء الأكمه والأبرص، ويشفي من الأدواء، فعمي جليس الملكُ فأبراه، وأبصره الملكُ، فقال: مَن ردَّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فغضب، فعذّبه، فدلّ على الغلام، فعذّبه، فدلّ على الراهب، فلم يرجع عن دينه، فقدّ بالمنشار، وأبى الغلامُ، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا، فرجف بالقوم، فطاحوا، ونجا، فذهب به إلى قُرْقُورة ـ وهي السفينة ـ فلجَجوا به ليغرقوه، فدعا، فانكفأتْ بهم السفينةُ، فغرقوا، ونجا، فقال للملك: لستَ بقاتلي حتى تجمع الناسَ في صعيد، وتصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، وتقول: بسم الله ربّ الغلام، ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه، فوضع يده عليه ومات. فقال الناس: آمنا بربّ الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر، فخدّ أخدوداً، فملأها ناراً، فمَن لم يرجع عن دينه طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبيٌّ، فتقاعست، فقال الصبيّ: يا أماه! اصبري، فإنك على الحق، فاقتحمت بصبيها. وقيل لها: قعي ولا تنافقي، ما هي إلاّ غميضة " والحديث في صحيح مسلم.
واسم الغلام: عبد الله بن الثامر، واسم الراهب: فيميون، واسم الملك: ذو نواس. وقد ذكر القصة الكلاعي بتمامها. وقيل: تعددت قضية الأخدود، فكانت واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس، فنزل القرآن في الذي بنجران. انظر التثعلبي. قال سعيد بن المسيب: كنا عند عمر، إذ ورد عليه أنهم وجدوا ذلك الغلام حين حفروا خربة، وأُصْبعه على صُدْغِه كما قتل، فكلما مدت يده رجعت مكانها، فكتب عمر: أن واروه حيث وجدتموه. هـ.=

وقوله تعالى: {النارِ} ؛ بدل اشتمال من " الأخدود " فحذف الضمير، اي: فيه، وقيل: قاعدة الضمير أغلبية، و {ذات الوقود} وصَفٌ لها بغاية العظم، وارتفاع اللهب، وكثرة ما يوجبه من الحطب وأبدان الناس، {إِذ هم عليها قعودٌ} ؛ ظرف لقُتل، أي: لُعنوا حين حرّقوا المؤمنين بالنار، قاعدين عليها في مكان مشرف عليها من جنبات الأخدود،
{وهم معلى ما يفعلون بالمؤمنين} من الإحراق {شُهودٌ} يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنَّ أحداً منهم لم يُقَصِّر فيما أمر به، وفوّض إليه من التعذيب، أو:: إنهم {شهود} يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة، يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم، وقيل: " على " بمعنى " مع " أي: وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور، ولا يَرقّون لهم، لغاية قسوة قلوبهم. وهذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم، وتنطق به الروايات المشهورة.
=وقد رُوي أنَّ الجبابرة لمّا ألقوا بالمؤمنين في النار، وهم قعود عليها، علقت بهم النار، فاحترقوا، ونجّا اللهُ المؤمنين سالمين، وإلى هذا القول ذهب الربيعُ بن أنس والواحدين وعلى ذلك حملا قوله تعالى: {ولهم عذاب الحريق} =.
{وما نَقَمُوا منهم} أي: وما عابوا منهم وأنكروا عليهم، يقال: نقم ـ بالفتح والكسر: عاب، أي: عابوا منهم {إِلاَّ أن يؤمنوا بالله} وهذا كقول الشاعر:
ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ
بِهِنَّ فُلولٌ مِنْ قِرَاع الكتائبِ
وكقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40] وعبّر بلفظ المضارع، ولم يقل: إلاَّ أن آمنوا، مع أنَّ القصة قد وقعت، لإفادة أنَّ التعذيب إنما كان دوامهم على الإيمان، ولو كفروا بالرجوع عن الإيمان في المستقبل لم يعذبوهم. وقوله تعالى: {العزيزِ الحميدِ} ، ذكر الأوصاف الذي يستحقّ بها أن يؤمن به، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً، يُخشى عقابه، حميداً منعماً، يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه، ليقرر أنَّ وصف الإيمان الذي عابوا منهم وصف عظيمٌ، له جلالة، وأنَّ مَن رام صاحبه بالانتقام والعيب كان مبطلاً مبالغاً في الغي، يستحق أن ينتقم منه بعذابٍ لا يُقادر قدره.
{

الذي له ملكُ السمواتِ والأرضِ} فكل مَن فيها يحق عليه عبادته والخضوع له، {واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ} وعيد لهم شديد، يعني: أنه تعالى عَلِمَ بما فعلوا وسيجازيهم عليه.
{إِنَّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي: محقوهم في دينهم ليرجعوا عنه، والمراد بهم: إمّا أصحاب الأخدود خاصة، وبالمفتونين: المطروحين في الأخدود، وإمّا الذين بَلوْهم في ذلك بالإذاية والتعذيب على الإطلاق، وهم داخلون في جملتهم دخولاً أولياً. قال ابن عطية: الأشبه أنَّ المراد بهؤلاء قريش، حيث طانوا يُعَذَّبون مَن أسلم، ويقويه بعض التقوية: قوله تعالى: {ثم لم يتوبوا} لأنه رُوي: أنّ أصحاب الأخدود ماتوا على كفرهم، وأمّا قريش فكان منهم مَن تاب بعد نزول الآية. هـ. مختصراً. {فلهم عذابُ
جهنَّمَ} في الآخرة لكفرهم، {ولهم عذابُ الحريق} في الدنيا لِما تقدّم أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، أو: عذاب الحريق: نار أخرى عظيمة تحرقهم في الآخرة، لسبب فتنتهم للمؤمنين. والجملة: خبر " إن " ودخلت الفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط، ولا ضَرَرَ في نسخة بـ " إنَّ " وإن خالف في ذلك الأخفش. الإشارة: والسماء ذات البروج، أي: سماء الحقائق، صاحبة المنازل التي تنزل فيها السالك في ترقِّبه إليها، مَن أرض الشرائع، كمقام التوبة، ثم الصبر، ثم الورع، والزهد، ثم التكُّل، ثم الرضا والتسليم، ثم المراقبة، ثم المشاهدة، واليوم الموعود يوم الفتح الأكبر، وهو وقت الخروج من شهود الكون إلى شهود المكوِّن، وشاهد هو الذي يشهد ذات الحق عياناً، ومشهود، هو عظمة الذات العلية وأسرارها وأنوارها. وقال الورتجبي: الشاهد هو والمشهود هو، يرى نفسه بنفسه، أي: لا يراه أحد بالحقيقة سواه، وأيضاً: الشاهد هو، إذا تجلّى بتجلِّي الجمال والحس، والمشهود قلوب العارفين شاهَدَها بنعت الكشف، وأيضاً: اشاهد هو قلوب المحبين، والمشهود لقاؤه، وهو شاهدهم وهو مشهودهم، هو شاهد العارف والعارف شاهده. هـ. قُتل أصحابُ الأخدود، وهم الصادُّون عن طريق الحق أينما كانوا وكيف كانوا، المعذِّبون لأهل التوجه، وما نقموا منهم إلاّ طلب كمال الإيمان، وتحقيق الإيقان. إنّ الذي فتنوا أهل التوجه ثم لم يتوبوا فلهم عذاب البُعد ولهم عذاب الاحتراق بالحرص والتعب والخوف والجزع.
ثم ثنى بأضدادهم، فقال يقول الحق جلّ جلاله: {إِنّ الذين آمنوا} وصبروا على الإيمان {وعَمِلوا الصالحات} من المفتونين وغيرهم {لهم} بسبب ذلك الإيمان والعمل الصالح {جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ} ، إن أُريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أُريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جريها الظاهرة، فإنَّ أشجارها ساترة لساحتها، كما يعرب عنه اسم الجنة. {ذلك هو الفوزُ الكبير} الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها، والفوز: النجاة من الشر والظفر بالخير. والإشارة إمّا إلى الجنة الموصوفة بما ذكر، والتذكير لتأويلها بما ذكر، وإمّا إلى ما يفيده قوله: {لهم جنات ... } الخ، من حيازتهم لها، فإنَّ حصولها لهم مستلزم لحيازتهم لها قطعاً، وما فيه

من البُعد للإيذان بعلو درجته، وبُعد منزلته في الفضل. ومحله: الرفع، وخبره: ما بعده.
{إِنَّ بطشَ ربك لشديدٌ} ، البطش: الأخذ بعنف، فإذا وُصف بالشدة فقد تفاقم وتعاظم أمره. والمراد: أخذ الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام، وهو استئناف، خواطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنَّ لكفار قوهه نصيباً موفوراً من مضمونه، كما يُنبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره صلى الله عليه وسلم. {إِنه هو يُبدىء ويُعيد} أي: هو يُبدىء الخلق وهو يُعيده، من غير دخلٍ لأحد في شيء منها. ففيه مزيد تقرير لشدة بطشه، فقد دلّ باقتداره على البدء والإعادة على شدة بطشه، أو: هو يُبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويُعيده في الآخرة. {وهو الغفورُ} الساتر للعيوب، الغافر للذنوب، {الودودُ} المحب لأوليائه، أو: الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود، من إعطائهم ما أرادوا، {ذو العرش} أي: خالقه ومالكه، وقيل: المراد بالعرش: المُلك، أي: ذو السلطة القاهرة {المجيدُ} بالجر صفة للعرش، وبالرفع صفة لذُو، أي: العظيم في ذاته، فإنه واجب الوجود، تام القدرة {فعَّالٌ لما يُريد} بحيث لا يتخلّف عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال عباده، ففيه دلالة على خلق أفعال العباد، وهو خبر عن محذوف.
{

هل أتاك حديثُ الجنود} أي: قد أتاك حديث الطاغية والأمم الخالية. وهو استفهام تشويق مقرر لشدّة بشطه تعالى بالظَلَمة العصاة، والكفرة العتاة. وكونه فعال لما يُريد مع تسليته صلى الله عليه وسلم بأنه سيصيب قومه صلى الله عليه وسلم ما أصاب تلك الجنود. {فرعونَ وثمودَ} ؛ بدل من الجنود؛ لأنَّ المراد بفرعون هو وقومه. والمراد بحديثهم: ما صدر منهم من التمادي على الكفر والضلال، وما حلّ بهم من العذاب والنكال، أي: قد أتاك حديثهم، وعرفت ما فعل بهم، فذكّر قومك ببطش الله تعالى، وحذّرهم أن يُصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم.
{بل الذين كفروا في تكذيبٍ} ، إضراب عن مماثلتهم، وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان، كأنه قيل: ليسوا مثلهم في ذلك، بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب، فإنهم مستقرُّون في تكذيبٍ شديد للقرآن الكريم، أو كأنه قيل: ليست جنايتهم مجرد عدم التذكُّر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم، بل هم مع ذلك في تكذيب شديدٍ للقرآن الناطق بذلك، لكن لا أنهم يكذبون بوقوع تلك الحادثات، بل لكون ما نطق به قرآناً من عند الله تعالى مع وضوح أمره، وظهور حاله، بالبينات الباهرة. {واللهُ من ورائهم محيط} ؛ عالم بأحوالهم، قادر عليهم، لا يفوتونه. وهو تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوات المحاط المحيط.
{بل هو قرآن مجيد} أي: بل هذا الذي كذّبوا به قرآن شريف عالي الطبقة في الكتب السماوية، وفي نظمه وإعجازه، وهو رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم، وتحقيق للحق، أي: ليس الأمر كما قالوا، بل هو كتاب شريف {في لوح محفوظ} من التحريف والتبديل. وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن، والباقي بالجر صفة للوح، أي: محفوظ من
وصول الشياطين إليه.
= واللوح عند الحسن: شيء يلوح للملائكة يقرؤونه، وعن ابن عباس رضي الله عنه: هو من درّة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، قلمه نور، وكل شيءٍ فيه مسطور. قال مقاتل: هو عن يمين العرش، وقيل: أعلاه معقود بالعرش، وأسفله في حِجْرِ ملَك كريم= هـ.
الإشارة: إنَّ الذين آمنوا إيماناً حقيقيًّا شهوديًّا، وعملوا الصالحات بأيدي القلوب والأرواح والأسرار، يعني العمل الباطني، لهم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم، ذلك هو الفوز الكبير والسعادة العظمى. إنَّ بطش ربك بأهل الإنكار الجاحدين لأهل الخصوصية لَشَدِيد، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، إنه هو يُبدىء ويُعيد، يُبدىء الحجاب للمحجوبين، ويُعيد الشهود للعارفين، وهو الغفور للتائبين المتوجهين، الودود للسائرين المحبين. قال الورتجبي: الغفور للجنايات، الودود بكشف المشاهدات. هـ. ذو العرش: ذو السلطة القاهرة على العوالم العلوية والسفلية. قال الورتجبي: وصف نفسه بإيجاد العرش، ثم وصف نفسه بالشرف والتنزيه، أي: بقوله: {المجيد} إعلاماً بأنه كان ولا مكان، والآن ليس في المكان، إذ جلاله وجماله منزَّه عن مماسة المكان، والحاجة إلى الحدثان. هـ. قال القشيري: ويجوز أن يكون المراد بالعرش: قلب العارف المستَوي للرحمن، كما جاء الحديث: " قلب العارف عرش الله " هـ.
فعّال لما يُريد، يُقرِّب البعيد ويُبعد القريب إن شاء. قال القشيري: إنْ أراد أن يجعل أرباب الأرواح من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك، وهو عادل في ذلك، وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك. هـ. فلذا كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، هل أتاك حديث الجنود، أي: جنود النفس التي تُحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض الأسفل، ثم فسّرها بفرعون الهوى، وثمود حب الدنيا، والطبع الدني. بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب، لهذا كله، فلا يُفرقون بين الروح والنفس، ولا بين الفرق والجمع، والله من ورائهم محيط، لا يفوته شيء، لإحاطة المحيط بالأشياء ذاتاً وصفاتاً وفعلاً، بل هو ـ أي: ما يوحي إلى الأسرار الصافية، والأرواح الطاهرة ـ قرآن مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ عن الخواطر والهواجس الظلمانية، وهو قلب العارف. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء أكتوبر 21, 2015 6:14 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

سورة الطارق

بسم الله الرحمن الرحيم

1. وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ
2. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ
3. النَّجْمُ الثَّاقِبُ
4. إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ
5. فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ
6. خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ
7. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ
8. إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
9. يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
10. فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ
11. وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ
12. وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ
13. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ
14. وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ
15. إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا
16. وَأَكِيدُ كَيْدًا
17. فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا



يقول الحق جلّ جلاله: {والسماءِ والطارقِ} ، =عظّم تعالى قَدْر السماءِ في أعين الخلق؛ لكونها معدن رزقهم، ومسكن ملائكته، وفيها خلق الجنّة، فأقسم بها وبالطارق، والمراد: جنس النجوم، أو جنس الشهُب التي يُرجم بها، لعِظم منفعتها=،
ثم عظَّمه ونوّه به، فقال: {وما أدراك ما الطارقُ} بعد أن فخّمه بالإقسام به، تنبيهاً على رفعة قدره بحيث لا يناله إدراك الخلق، فلا بد من تلقَّيه من الخلاّق العليم، أي: أيّ شيء أعلمك بالطارق، ثم فسّره بقوله: {النجمُ الثاقبُ} ؛ المضيء، فكأنّه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل، كما يُقال للآتي ليلاً: طارق، أو: لأنه يطرق الجنِّيَّ، أي: يُصكّه. وقيل: المراد به كوكب معهود، قيل: هو الثريا، وقيل زُحل، وقيل الجدي.
ثم ذكر المقسَم عليه، فقال: {إِن كُلُّ نفسٍ لمَّا عليها حافظٌ} ، " إن " نافية، و " لَمَّا " بمعنى " إلاّ " في قراءة مَن شدّدها، وهي لغة هذيل، يقولون: " نشدتك الله لمّا قمت " أي: إلاّ قمت، أي: ما كل نفس إلاّ عليها حافظ مهيمن رقيب، وهو الله عزّ وجل، كما في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [الأحزاب: 52] أو: مَن يحفظ عملها، ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) } [الانفطار: 10] أو: مَن يحفظها من الآفات، ويذب عنها، كما في قوله تعالى:
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] ، =وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " وكِّل بالمؤمن ستون ومائة ملك، يذبون عنه ما لم يُقدّر عليه، كما يذب عن قصعة العسل الذبابَ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {إن كل نَفْس..} الخ.= و " ما ": صلة في قراءة من خفف، أي: إنه، أي: الأمر والشأن كل نفس لعليها حافظ.
{
فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق} ، لمّا ذكر أنَّ على كل نفسٍ حافظاً، أمره بالنظر في أوّل نشأته، وبالتفكُّر فيها حق التفكُّر، حتى يتضح له أنَّ مَن قَدَر على إنشائه من موادٍ لم تشم رائحة الحياة قط، فهو قادر على إعادته، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويُجزى به، ولا يملي على حافظه ما يُرديه، فالفاء فصيحة تُنبىء عن هذه الجُمل، أي: إذا علم أنَّ على كل إنسان حفظة يحفظونه من الآفات، أو يكتبون أعماله، خيره وشرها، دقيقها وجليلها، وأنه لم يُخلَق عبثاً، ولم يُترك سُدى، فلينظر في أول نشأته حتى يتحقق أنَّ له صانعاً، فيعبده ولا يشرك به شيئاً، ثم فسَّر أصل نشأته فقال: {خُلق من ماء دافقٍ} ، فهو استئناف بياني، كأنه قيل: مِمَّ خُلق؟ فقال: خُلق من ماء دافق، والدفق: صبٌّ فيه دفعٌ وسرعة، والدفق في الحقيقة لصاحبه، والاستناد إلى الماء مجاز، ولم يقل: من ماءين؛ لامتزاجهما في الرحم واتحادهما. {يَخرج مِن بَيْنِ الصُلب والترائب} أي: صُلب الرجل وترائب المرأة، وهي عِظام صدرها، حيث تكون القلادة، وقيل: العظم والعصب من الرَجل، واللحم والدم من المرأة، وقال بعض الحكماء: إنَّ النظفة تتولد من فضل الهضم الرابع، وتنفصل عن جميع الأعضاء، حتى تستعد لأنّ يتولّد منها مثل تلك الأعضاء ومقرها عروق مُلتف بعضها على بعض عند البيضتيْن، فالدماغ أعظم معونة في توليدها، ولذلك كان الإفراط في الجماع يُورث الضعف فيه، وله خليفة هو النخاع، وهو في الصلب، وفيه شُعب كثيرة نازلة إلى الترائب، وهما أقرب إلى أوعية المَني، فلذا خُصّا بالذكر، فالمعنى على هذا: يخرج من بين صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها، وهو الأحسن، وبه صدر ابن جزي.
{إِنه} أي: الخالق، لدلالة " خُلِق " عليه، أي: إنَّ الذي خلق الإنسانَ ابتداء من نُطفة، {على رَجْعِه} ؛ على إعادته بعد موته {لقادرٌ} بيّن القدرة. وجِيء بـ " إنّ " واللام وتنكير الخبر ليدل على رد بليغ على مَن يدّعي أنه لا حشر ولا بعث، حتى كأنه لا تتعلق القدرة بشيء إلاَّ بإعادة الأرواح إلى الأجساد، {يومَ تُبلى السرائرُ} أي: تكشف ويُتصفَّح ما فيها من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفي من الأعمال، ويتبين ما طاب منها وما خبث. والسرائر: القلوب، هو ظرف لـ " رَجْعِه "، أي: إنه لقادر على رده بالبعث في هذا
اليوم الذي تُفضح فيه السرائر، {فما له مِن قوةٍ} في نفسه يمتنع بها {ولا ناصرٍ} ينتصر به ويدفع عنه غير الله تعالى. ولمّا كان رفع المكان في الدنيا إمّا بقوة الأنسان، وإمّا بنصر غيره له، أخبر الله بنفيهما يوم القيامة.
=الإشارة: أقسم تعالى بقلب العارف، لأنه سماءٌ لشمس العرفان وقمرِ الإيمان ونجوم العلم، وبما يطرقه من الواردات الإلهية والنفحات القدسية=، ثم نوّه بذلك الطارق، فقال: {وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب} أي: هو نجم العلم الثاقب لظلمة الجهل، إمّا جهل الشرائع أو جهل الحقائق. إن كُلُّ نفس لما عليها حافظ، وهو الله، فإنه رقيب على الظواهر والبواطن، ففيه حث على تدقيق المراقبة ظاهراً وباطناً. فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق في عالم الحكمة من جهة بشريته، خُلق من ماء دافق، يخرج من محل البول ويقع في محل البول،= فإذا نظر إلى أصل بشريته تواضع وانكسر، وفي ذلك عِزُّه وشرفُه، مَن تواضع رفعه الله. وفيه روح سماوية قدسية، إذا اعتنى بها وزكّاها، نال عز الدارين وشرف المنزلين " مَن عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربه " فالإنسان من جهة بشريته أرضي، ومن جهة روحانيته سماوي، والحُكم للغالب منهما.= إنه على رجعه: أي: رده إلى أصله، حين برز من عالم الغيب، بظهور روحه، لقادر، فيصير روحانيًّا سماويًّا، بعد أن كان بشريًّا أرضيًّا، وذلك يوم تُبلى السرائر بإظهار ما فيها من المساوىء، ليقع الدواء عليها، فتذهب، فمَن لم يَفضح نفسه لم يظفر بها، فما لها من قوةٍ على جهادها وإظهار مساوئها بين الأقران إلاّ بالله، ولا ناصر ينصره على الظفر بها إلاَّ مِن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول الحق جلّ جلاله: {والسماءِ ذات الرجع} أي: المطر، لأنه يرجع حيناً بعد حين، وسمَّته العرب بذلك تفاؤلاً، {والأرضِ ذات الصَّدْع} أي: الشق، لأنها تنصدع عن النبات والأشجار، لا بالعيون كما قيل، فإنَّ وصف السماء بالرجع، والأرض بالشق، عند الإقسام بها على حقيّة القرآن الناطق بالبعث؛ للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده، وهو السر في التعبير عنه بالرجع والصدع، لأنَّ في تشقُّق الأرض بالنبات محاكاة للنشور، حسبما ذكر في مواضع من القرآن، لا في تشققها بالعيون. {إِنه} أي: القرآن {لَقَولٌ فَصْلٌ} ؛ فاصل بين الحقّ والباطل، كما قيل له: فرقاناً، وصفَه بالمصدر، كأنه نفس الفعل، {وما هو بالهزلِ} أي: ليس في شيء منه شائبة هزل، بل كله جد محض، ومِن حقه ـ حيث وصفه الله بذلك ـ أن يكون مُهاباً في الصدور، معظماً في القلوب، يرتفع به قارئه وسامعه، ويهتدي به الغواة، وتخضع له رقاب العُتاة.
{إِنهم} أي: أهل مكة {يَكيدون} في إبطال أمره، وإطفاء نوره {كيداً} على قدر طاقتهم {وأكيدُ كيداً} أي: أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده، فأسْتدرجهم إلى الهلاك من حيث لا يعلمون. فسمي جزاء الكيد كيداً، كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداءً وسيئة، وإن لم يكن اعتداءً وسيئة، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلاَّ على وجه المشاكلة، كقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] إلى غير ذلك {فَمَهِّل الكافرين} أي: لا تدع بهلاكهم، ولا تشغل بالانتقام منهم، بل اشتغل بالله يكفِك أمرهم {أمهِلهم رُويداً} أي: إمهالاً يسيراً، فـ " أمهِلهم ": بدل من " مَهِّل "، وخالف بين اللفظتين لزيادة التسكين والتصبير. و " رويداً ": مصدر أرود، بالترخيم، ولا يتكلم به إلاَّ مصغراً، وله في الاستعمال وجهان آخران: كونه اسم فعل، نحو رُويد زيداً، وكونه حالاً، نحو: سار القوم رويداً، أي: متمهلين.
=الإشارة: اعلم أنَّ الحقيقة سماء، والشريعة أرض، والطريقة سُلّم ومعراج يصعد إليها، فمَن لا طريقة له لا عروج له إلى سماء الحقائق، فأقْسَم تعالى بسماء الحقائق، وأرض الشرائع، على حقيّة القرآن، ووصف الحقيقة بالرجع، لأنه يقع الرجوع إليها بالفناء، ووصف أرض الشريعة بالصَدْع؛ لأنها تتصدّع عن علوم وأنوار تليق بها، ووصف القرآن بالفصل بين الحق والباطل، فمَن طلب الحق من غيره أضلّه الله. ووصفه أيضاً بالجدّ غير منسوب لشيء من الهزل=، =فينبغي للقارىء عند تلاوته أن يكون على حال هيبة وخشوع، لا يمزج قراءته بشيء من الهزل أو الضحك، كما يفعله جهلة القراء.=

ثم أمر بالغيبة عن الأعداء، والاشتغال بالله عنهم بقوله: {فَمَهِّل الكافرين أمهلهم رويداً} ، قال بعض العارفين: لا تشتغل قط بمَن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حرَّكه عليك ليختبر دعواك في الصدق، وقد غلط في هذا خلق كثير، اشتغلوا بإذاية مَن آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لكفاهم أمرهم. هـ.
وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.



_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء سبتمبر 13, 2022 3:00 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 4:33 am
مشاركات: 10723

صورة


_________________
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }الأحزاب33

صورة


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 94 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 3, 4, 5, 6, 7

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 23 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط