موقع د. محمود صبيح

بسم الله الرحمن الرحيم - فى يوم ما قمت بالزيارة إلى مدينة الأقصر وشدنى الشوق إلى الكتابة عن سيدى أبى الحجاج الأقصرى فهو السيد يوسف بن عبد الرحيم بن عيسى الزاهد العابد ينتهى نسبه إلى الإمام الحسين سبط النبى صلى الله عليه وسلم وهو يكنى بأبى الحجاج ثم يضاف إلى الكنية ( الأقصرى ) نسبة إلى مدينة الأقصر حيث مستقره الأخير .
ولد أبو الحجاج فى أوائل القرن السادس الهجرى فى مدينة بغداد فى عهد الخليفة العباسى المكتفى بأمر الله وهو أبو محمد بن المعتضد بالله بن الموفق بن المتوكل - وقد نشأ الحجاج وتربى فى مسقط رأسه بغداد فى اسرة ميسورة الحال على قدر كبير من التقوى والورع - فكان والده يشغل منصبا رياسيا فى الدولة - وتوفى ولم يترك له شيئا ، فاحترف صناعة الغزل والحياكة وكان له حانوت مشهور فى بغداد وله قصة ذكرها الإمام شهاب الدين الشهروردى وهى ( دخل على أبى الحجاج قائل قتل رجلا وهرب وقال له أجرنى فقال له أنزل الجوزة ( وهى كلمة فارسية والمقصود بها حجرة النول ) ثم دخل أناس على أبى الحجاج وقالوا له أين الرجل الذى دخل عليك فقال لهم فى الجوزة فقالوا أتهزاء بنا وانصرفوا فقال الرجل لأبى الحجاج أتيتك لتجيرنى فدللت على فقال أبو الحجاج : لو كنت كذبت لوجدوك وقتلوك ولكن الله نجاك لصدقى . ) على أن هذه الحرفة لم تكن تشغل كل وقت أبو الحجاج إذ نراه جادا فى طلب العلم خاصة وأن مدينة بغداد كانت مليئة بعدد كثير من كبار التصوف وعلماء الدين فمنهم الشيخ عبد القادر الجيلانى والشيخ السهروردى والشيخ أحمد الرفاعى رضوان الله عليهم جميعا بالإضافة إلى المدرسة النظامية وهى أول مدرسة مذهبية فى تاريخ الإسلام أنشأت فى بغداد وأنشأها الوزير نظام الملك وزير الدولة شاه السلجوقى فى القرن الخامس الهجرى - التحق بها أبو الحجاج حيث زامل الإمام شهاب الدين السهروردى فكان يتردد على حلقات الوعظ والتذكير التى كان يعقدها شيوخ التصوف وكان رحمة الله جادا شغوفا صبورا فى القراءة والبحث حيث جعل حشرة الجعران قدوته فى الصبر فيقول أبو الحجاج ( كنت أسهر أكتب وأحبر فإذا بأبى جعران يجهد أن يرقى منارة السراج ( زجاج المصباح ) لكى يقترب من النور فلم يزل ينزلق لكونها ملساء ، فعددت عليه تلك الليلة سبعمائة وقعة وهو لا يرجع عن غايته سثم ثم خرجت إلى صلاة الصبح ورجعت فوجدته جالسا فوق المنارة ظافرا منتصرا يرقب النور وعيناه تبرقان بالأمل فكان ذلك من جنود الله علي).
لقد تزود أبو الحجاج بقدر كافى من اعلم والثقافة الدينية ولذا ترك صناعة الغزل والحياكة ليتفرغ للوعظ والتذكير وقد أقبل عليه العراقيون إقبالا شديدا فقد امتاز برقة الأسلوب والسهولة واليسر ثم خرج من بغداد إلى الحجاز قاصدا الحج ويعود ثانية ليودعها إلى غير رجعة فكانت الحياة فى بغداد حياة مؤلمة فى عهد الخليفة الناصر لدين الله إذ تعرضت البلاد للفتن والثورات نتيجة لسوء الإدارة والظلم وكذلك وفاة والدته وزوجته وهى يفى ريعان شبابها كان سببا فى ترك العراق وكان لم يبلغ الأربعين من عمره - وكان معه أبناؤه الأربعة وهناك توفى واحد منهم ودفن فى مقابر مكة - تعرف الحجاج على مشايخ مكة وسادتها وهو الشيخ عبد المنعم الأشقر ودامت العلاقة بينهم حتى إن الشيخ الأشقر زوج بناته الثلاثة إلى أولاد أبو الحجاج حتى أراد الأشقر أن يزوج الابنة الرابعة إلى أبى الحجاج نفسه ولكنهرفض قائلا أنا لا أتزوج بعد أم الأولاد ولست فى حاجة إلى النساء - رحل أبو الحجاج ومعه بعض أشراف مكة إلى مصر لما تمتاز به من الهدوء والسكينة مما شجع كثير من المتصوفين والعباد فى العالم الإسلامى وخاصة المغاربة .
وفى أثناء توجه الحجاج إلى مصر زار قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ومنها إلى مصر ونزل بشرق الدلتا ومكث بها أياما تعرف فيها على أولاد عمه وأعطوه أطيانا ولكنه قصد إلى الجنوب وجه قبلى حتى وصل إلى أسيوط ومنها إلى جرجا ثم رحل إلى قوص وهى مدينة كبيرة ثم إلى الأقصر فمكث بجانبها القبلى هو وأولاده الثلاثة وبعض أقاربه وكان ذلك فى أواخر حكم صلاح الدين الأيوبى على مصر .- ومدينة الأقصر مدينة مصرية قديمة أسمها المصرى المقدس ( أوست ) والمدنى ( طيبة ) وأسمها القبطى ( بابه ) أو ( بابى ) كما يقول الأقصرين وكذلك عرفت باسم ( نزياكاسترا ) أى الثلاثة قصور المحصنة وجاء فى الخطط التوفيقية أن من أسمائها طيبة وأسمها على لسان العامة لقصر - وقد ذاع أمر الحجاج بين الناس لما امتاز به من التقوى والزهد والورع والصلاح وانتقل خبره إلى السلطان العزيز بالله عماد الدين أبو الفتح ثمان بن صلاح الدين الأيوبى وكان مباركا كثير الخير واسع الكرم محسنا للناس ومعتقدا فى أرباب الصلاح والتقوى فبعث رسولا يستدعى أبو الحجاج فما حضره بين يدى السلطان أعجب بشخصيته وغزارة علمه وتقواه وورعه فأسند إليه مسئولية الديوان ولكن أبو الحجاج لم يستمر طويلا فى هذه الوظيفة واتجه إلى الأسكندرية حيث قابل الشيخ الزاهد أبو محمد بن الرزق الجزولى السكندرى الذى يرجع الفضل إليه فى نشر الطريقة المدينية أول طريقة صوفية عرفتها الأسكندرية قبل الرفاعية والشاذلية وقضى أبو الحجاج فى رحاب الشيخ الجزولى فترة حتى أصبح من أخلص وأحب تلاميذه ثم ذهب إلى قوص حيث إلتقى بسيدى عبد الرحيم القناوى شثم إلى الأقصر حيث مثواه الأخير ومن أعماله العلمية الباقية منظومته فى علم اتوحيد التى ضمنتها تسعة وتسعين بابا وتقع فى 1333 بيتا من الشعر وقد استهلها بالبيت التالى :
الحمد لله العلى الصمد الأول والآخر بلا أمد
توفى ابو الحجاج عام 642 هـ فى عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب بعد أن عمر أكثر من تسعين عاما ودفن فى الأقصر بضريحه القاشم فوق معبد الأقصر .
ومن أقواله : كنت فى بدايتى أذكر لا إله إلا الله لا أغفل - فقالت لى نفسى مرة من ربك - فقلت ربى الله - فقالت لى ليس لك رب إلا أنا فإن حقيقة الربوبية امتثالك العبودية فأنا أقول لك أطعمنى ، نم .. تنم ، قم .. تقم ، أمش .. تمشى ، أسمع .. تسمع ، أبطش ..تبطش ، فأنت تمتثل أوامرى كلها قإذن أنا ربك وأنت عبدى == فقال فبقيت متفكرا فى ذلك فظهرت لى عين من الشريعة فقالت لى جادلها بكتاب الله تعالى فإذا قالت لك نم فقل ( كونوا قليلا من الليل ما يهجعون ) وإذا قالت لك كل قلأ : ( كلوا واشربوا ولا تسرفوا ) وإذا قالت لك أمشى قل : ( ولا تمشى فى الأرض ورحا ) وإذا قالت لك أبطش قل : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) فقالت لتلك الحقيقة فمالى إذا فعلت ذلك فقلت أخلع عليك هلع المتقين وأتوجك بتارج العارفين وأمنطقك بمنطقة الصديقين وأقلدك بقلائد المحقيقن وأنادى عليك فى سوق المحبين ( التائبون - العابدون - الحامدون - السائحون - الراكعون ) هذا هو العابد الزاهد الورع سيدى أبو الحجاج الأقصرى رضى الله تعالى عنه
المراجع : ( زيارتى إلى مدينة الأقصر ومسجده وضريحه - وفيات الأعيان لأبن خلكان - د. سعاد ماهر =مساجد مصر - الطبقات الكبرى للإمام عبد الوهاب الشعرانى - الخطط التوفيقية لعلى باشا مبارك ).