والعارفون يفرحون بهذه النوائب , ويستعدون لها في كسب المواهب : ــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( " إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبال معها أن قل عملك , فإنه ما فتحها عليك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك . ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك , والأعمال أنت مهديها إليه . وأين ما تهديه إليه , مما هو مورده عليك " . فتح هنا بمعنى هيأ ويسر . والغالب استعماله في الخير . فأساغ الإتيان به هنا : أن جهة التعريف من الأمور الجميلة . والوجهة هي الجهة , والمراد هنا : الباب والمدخل . والتعرف : طلب المعرفة . تقول : تعرف لي فلان إذا طلب مني معرفته . والمعرفة : تمكن حقيقة العلم بالمعروف من القلب حتى لا يمكن الانفكاك عنه بحال . والمبالاة : التهمم بفوات الشيء . قلت : إذا تجلى لك الحق تعالى باسمه الجليل أو باسمه القهار وفتح لك منها باباً ووجهة لتعرفه منها : فاعلم أن الله تعالى قد اعتنى بك وأراد أن يجتبيك لقربه ويصطفيك لحضرته فالتزم الأدب معه بالرضي ولتسليم , وقابله بالفرح والسرور . ولا تبال بما يفوتك بها معها من الأعمال البدنية . فإنما هي وسيلة للأعمال القلبية فإنه ما فتح هذا الباب , إلا وهو يريد أن يرفع بينك وبينه الحجاب . ألم تعلم أن التعرفات الجلالية هو الذي أوردها عليك لتكون عليه وارداً , والأعمال البدنية أنت مهديها إليه لتكون إليه بها واصلاً . وفرق كبير بين ما تهديه أنت من الأعمال المدخولة والأحوال المعلولة , وبين ما يورده عليك الحق تعالى من تحف المعارف الربانية والعلوم اللدنية . فطب نفساً أيها المريد بما ينزل عليك من هذه التعرفات الجلالية والنوازل القهرية , ومثل ذلك : كالأمراض والأوجاع والشدائد والأهوال , وكل ما يثقل على النفس ويؤلمها كالفقر والذل وأذية الخلق وغير ذلك مما تكرهه النفوس , فكل ما ينزل بك من هذه الأمور فهي نعم كبيرة ومواهب غزيرة تدل على قوة صدقك . إذ بقدر ما يعظم الصدق : يعظم التعرف . " أشدكم بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل " . والصدق متبوع . وإذا أراد الله أن يطوي مسافة البعد بينه وبين عبده : سلط عليه البلاء . حتى إذا تخلص وتشحر : صلح للحضرة . كما تصفى الفضة والذهب بالنار لتصلح لخزانة الملك . وما زالت الشيوخ والعارفون يفرحون بهذه النوازل , ويستعدون لها في كسب المواهب . كان شيخ شيوخنا سيدي على العمراني رضي الله عنه يسميها : ليلة القدر , التي هي خير من ألف شهر وذلك لأجل ما يجتنيه العبد منها من أعمال القلوب التي الذرة منها أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح . وقد قلت في ذلك بيتين وهما : إذا طرقت بابي من الدهر فاقة ... فتحت لها باب المسرة والبشر وقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فوقتك عندي أحظى من ليلة القدر وأعلم أن هذه التعرفات الجلالية هي اختبار من الحق ومعيار للناس , وبها تعرف الفضة والذهب من النحاس . فكثير من المدعين يظهرون على ألسنتهم المعرفة واليقين , فإذا وردت عليهم عواصف رباح الأقدار : ألقتهم في مهاوي القنوط والإنكار . من ادعى ما ليس فيه * فضحته شواهد الامتحان . وكان شيخ شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه يقول : العجب كل العجب ممن يطلب معرفة الله ويحرص عليها , فإذا تعرف له الحق تعالى : هرب منه وأنكر . وقال شيخنا البزيدي رضي الله عنه : هذه التعرفات الجلالية على ثلاثة أقسام : قسم عقوبة وطرد, وقسم تأديب , وقسم زيادة وترقٍّ . أما الذي هو عقوبة وطرد : فهو الذي يسيء الأدب فيعاقبه الحق تعالى ويجهل فيها فيسخط ويقنط وينكر فيزداد من الله طرداً وبعداً . وأما القسم الذي هو تأديب : فهو الذي يسيء الأدب فيؤدبه الحق تعالى فيعرفه فيها وينتبه لسوء أدبه وينهض من غفلته فهي في حقه نعمة في مظهر النقمة .وأما الذي هي في حقه زيادة وترقٍّ : فهو الذي تنزل به هذه التعرفات من غير سبب فيعرف فيها ويتأدب معها ويترقى بها إلى مقام الرسوخ والتمكين . قلت : ولذلك قال بعضهم : بقدر الامتحان : يكون الامتكان . وقال أيضاً : اختبار الباقي : يقطع التباقي . فائدة : إذا أردت أن يسهل عليك الجلال فقابله بضده وهو الجمال فإنه ينقلب جمالاً في ساعته . وكيفية ذلك : أنه إذا تجلى باسمه القابض في الظاهر فقابله أنت بالبسط في الباطن فإنه ينقلب بسطاً , وإذا تجلى لك باسمه القوي فقابله أنت بالضعف, أو تجلي باسمه العزيز فقابله بالذل في الباطن . وهكذا يقابل الشيء بضده قياماً بالقدرة والحكمة . وكان شيخ شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه يقول : ما هي إلا حقيقة واحدة : إن شربتها عسلاً وجدتها عسلاً , وإن شربتها لبناً وجدتها لبناً , وإن شربتها حنظلاً وجدتها حنظلاً . فاشرب يا أخي المليح ولا تشرب القبيح . ومعنى كلامه رضي الله عنه هو : كما تقابله : يقابلك . والله تعالى أعلم . ) ـــــــــــــــــــــ شرح الحكم لابن عجيبة رضي الله عنهما ــــــــــــــــــــــــــــــ اللهم صل على سيدنا محمد النور وآله وسلم
_________________ صلوات الله تعالى تترى دوما تتوالى ترضي طه والآلا مع صحب رسول الله
|