موقع د. محمود صبيح
https://www.msobieh.com:443/akhtaa/

كياسة المؤمن
https://www.msobieh.com:443/akhtaa/viewtopic.php?f=4&t=34629
صفحة 1 من 1

الكاتب:  حليمة [ الخميس مارس 25, 2021 2:01 am ]
عنوان المشاركة:  كياسة المؤمن

كياسة المؤمن
شرح حديث: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين

عن أبي هريرة رَضِيَ الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين))؛ رواه الشيخان.

المفردات:
اللدغ: كاللسْع وزنًا ومعنًى، ويُستعملان في ذوات السموم على سواء، بخلاف اللدغ، فإنه الخفيف من إحراق النار، وقيل: اللسْع لذوات الإِبَر، كالعقارب، واللدغ لذوات الفم، كالحيَّات.

والجُحْر: هو الثَّقب الذي تحتفره الهوام والسباع لأنفسها.

من جوامعِ الكلمِ وروائعِ الحكمِ:
هذا حديثٌ من جوامع كلمه، وروائع حِكمه، صلوات الله وسلامه عليه، ضربه مثلًا للمؤمن وما ينبغي أن يتكمَّل به من كياسةٍ وسياسةٍ، ويقظة وحزمٍ؛ فإنَّ نقصًا في دين المرء وعقله أن يكون أبْلَهَ مُغفَّلًا، خَدْعةً للخادعين، وطُعْمَةً للطامعين.

أبو عَزَّة الجُمحي:

وموردُ هذا المثل أبو عَزَّة الجُمَحي الشَّاعر، وكان يهجو النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويؤذي الله ورسوله، وذلك أنه أُسر في غزوة بدر فيمن أُسر من المشركين، فَضَرع إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أن يعتقه دون فداء، وقال: يا محمد، إني فقير وذو حاجة قد عرفتها، فامنُن عليَّ لفقري وبناتي، فرقَّ الرسول وأطلقَه، بعد أن أخذ عليه الميثاق ألَّا يُظاهر عليه.



فلمَّا عاد إلى مكة أبى له لُؤْمُه وسُوءُ طويَّته إلا أن ينال من المسلمين بِشِعْرِه، وأن يطيعَ المشركين في الخروج إلى أُحد، واستنفار الأعداء لمحاربة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ويشاء الله أن يقع أسيرًا في غزوة حمراء الأسد، وهي التي استجاب المؤمنون فيها لله والرسول من بعدما أصابهم القرح، فعاد سيرته الأولى، يَضْرع ويشكو، ويقول للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: امنُن عليَّ لفقري وبناتي، وأعاهدك ألَّا أعود لمثل ما فعلت.


فأجابه سيِّدُ الحكماء صَلَوات الله وسلامه عليه إجابته الخالدة: ((لا والله، لا تَمْسَح عَارضَيْك بمكة، وتقول: خدعت محمدًا مرَّتين، لا يُلدغ المؤمن من جُحْر واحد مرتين، اضرب عنقه يا زيد)).

كان صلواتُ الله وسلامه عليه في الأولى مَضْرِبَ المثل حِلْمًا وَرِفقًا ورحمةً، كما كان في الثانية مَضْرِبَ المثل كذلك سياسةً وكياسةً وحكمةً.

الخطة المثلى للذين يقودون الأمم:

وهذه هي الخطة المُثْلى للذين يقودون الأمم، ويسوسون الجماعات، ويحملون لواء الهُدى، عفوٌ في غير ضَعف، ورحمةٌ من غير عنف، وإحسانٌ لا تُكَدِّره مَسَاءَة، فإذا لم يُصادف شيءٌ من ذلك مَوْضعه، ولم يُصب مَوْقعه، وكان كالبذر الطيِّب في الأرض السَّبِخة، فلا مناصَ من الشدَّة والحزم، واليقظة والعزم؛ ليَعتبر ماكرٌ، ويرتدع غادر، ثمَّ لتنتصر الفضيلةُ، وتعلو كلمة الحق.


وما أصدق أبا الطيِّب إذ يقول:

إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ ملكتَهُ
وإنْ أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تمرَّدَا
فوضْعُ النَّدى في موضعِ السيف بالعُلا
مُضِرٌّ كوضعِ السيفِ في موضع النَّدى


الحكمةُ وضعُ كلِّ شيءٍ في موضعه:

وإذا كان من الإيمان والحكمة، بل من هدي النبوَّة والرسالة، أن يوضع كلُّ شيء في موضعه، فلا غَرابة أن يمتدحَ الله جلَّ ثناؤه عباده المؤمنين بأنهم ينتقمون ولا يعتدون، فيقول سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾ [الشورى: 39].



على حين أنه يحضُّهم على العفو في غير آية، ويقول لنبيِّه صلوات الله وسلامه عليه: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الجاثية: 14].

وكان النخعي إذا قرأ الآية الأولى قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفسَّاق.


التحلِّي بالحزم والفطانة:

وسواءٌ أكان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخبر عن حالٍ من أحوال المؤمن، أم ينهى المؤمن ويُحذِّره أن يقع في شَرَك الغفلة؛ فإنه - وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم - يدعوهم إلى أن يَتَحلَّوْا بالحزم والفَطَانة والتجريب للأمور، حتى إذا نُكب أحدهم من وَجْهٍ مرَّة، منعه تفطُّنه أن يُنكَبَ منه مرةً أخرى.



سرُّ تقييد الجُحْر بواحد:

وما أجمل تقييده الجُحْر "بواحد"، حتى لا تكون نقصًا في إيمان المؤمن، ولا ثُلْمًا في فِطنته وكياسته، أن يُلدغَ من جُحْرٍ آخر ليس من نوع الأول ولا من قبيله، وإن لم يكن من تمام الفطنة والاعتبار بالحوادث، والاتِّعاظ بالكوارث، وقياس الأمور بأشباهها.


لماذا خُصَّ المؤمنُ بهذه الوصية؟!

وإنما خُصَّ المؤمنُ بهذه الوصيَّة الحكيمة؛ لما يغلب عليه من سلامة النيَّة وحُسْن الظن، فيقع في الشَّرَك من حيث لا يدري.


الغفلة والبلاهة ليست من صفات المؤمن:

ومن العَجَب العُجَاب أن يزعم كثيرٌ من الناس.. أنَّ البلاهة والغفلة من سمات الصَّلاح والتقوى، وأنَّ الكياسة والفطنة من آيات الخُبْث والجَرْبَزَةِ.


زعمٌ باطل، ووهمٌ خاطئ جرَّ على المسلمين نكَبات وبلايا، لا يزالون يَرْزَحُون تحت أثقالها، وكيف يكون الأمر كما زعموا، والأبْلَه والمخدوع لا يصلح لأمر من أمور الدين، ولا لشأن من شؤون الدنيا، بل هو نكبةٌ أينما حَلَّ، وبليَّة حيثما ارتحل؟!


أم كيف يكون الأمر كما ظنُّوا، وقد جاء القرآن الكريم يخاطب العقول، وينبِّه الألباب على ما احتوى عليه من عِبَر، وما اشتمل عليه من حِكَم؟! كما جاءت السنة حافلة بالثناء على ذوي البصائر والعقول تنويهًا باسمهم، وحثًّا على الاقتداء بهم.



ثم لم يصْطَفِ الله تعالى رسولًا أو نبيًّا إلا وهو قدوة مُثلى في اليقظة والحزم، وأخذ الأمور بالتي هي أقوم.

ولم تأذن الشريعة الغرَّاء للمسلمين أن يولُّوا أمرهم أميرًا أو قاضيًا، إلا إذا كان معروفًا برجاحة العقل، وإصابة الرأي، وبُعْد النظر.


الجمع بين هذا الحديث وبين وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن غرٌّ كريم)):

ولا يُعارض هذا الحديث ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن غِرٌّ كريمٌ، والمنافق خِبٌّ لئيمٌ))... على أنَّ وصف المؤمن فيه بالغَرارة جاء مُقابلًا لوصف المنافق بالخِبِّ والخِداع، وهذا جَليٌّ في أنَّ المراد من غرارة المؤمن: غفلتُه عن الشَّرِّ، وبُعدُه عن الخُبْثِ والمكر، وهذه خَلَّة كريمة لا تَحولُ بينه وبين الاحتراس من المكايد واليقظة في الأمور.


ومهما يكن من أمر، فلا جدال في أنَّ المؤمن الفَطِنَ الحَذِر، الكيِّس الرشيد، خيرٌ من المؤمن العاجز الضعيف..


وإذا امتدح صلى الله عليه وسلم في المؤمن كياستَه، فلا يريد أن تصلَ به إلى منزلةٍ من الخُبْث والمكر وسوءِ الظنِّ، فإنَّ هذه من صفات المنافقين الذين يَمْقُتهم الله ورسوله، وإنما يريد الكياسة التي نبَّهْنا إليها، وهي التي تُعرِّفه الشرَّ لئلَّا يقع فيه، وتُبصِّره عواقب الأمور؛ ليكون منها على حَذَر.


جواز الخداع والكذب في الحرب:

نعم، أجاز صلوات الله وسلامه عليه الخداع في الحرب.. وقال فيما رواه الشيخان عن جابر رضي الله عنه: ((الحرب خدعة))؛ لأنَّ الغاية من الحرب كَسرُ شوكة الأعداء، ويعلم كلٌّ من الخَصْمَيْن أنَّ صاحبَهُ لا يألو جهدًا في الكَيْد له، وإذا كان للشجاعة، وكثرة الجند، وجودة السلاح أثرٌ عظيم في الفوز والغَلَبة، فقد تكون الخدعة في الحرب أعظم أثرًا، وأبقى على النفوس والأموال.


ويشهد لهذا ما فعل نُعيم بن مسعود الأشجعي رضي اللَّه عنه في واقعة الأحزاب؛ إذْ سعى بين المشركين وبين بني قريظة بما فرَّق بينهم حتى صَرَف الله كَيْدهم، ﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾ [الأحزاب: 25].


وفي خدعة الحرب يقول المُهَلَّب لبنيه: "عليكم في الحرب بالمكيدة؛ فإنها أبلغ من النَّجْدة"، على أنَّ الخَدْع في الحرب أو الكذب فيها، لا يجوز ألبتةَ فيما يؤدِّي إلى نقض عهدٍ أو أمان.


على هذه اليقظة الحميدة والكياسة السَّديدة، سار النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، ثمَّ المسلمون الأوَّلون في تصريف شؤونهم وتدبير دولتهم، حتى كانوا بحقٍّ سادةَ الأمم وملوك الدنيا.


التفطُّن لمكايد الشيطان الرجيم عدوِّ الإنسان:

وإذا كان جديرًا بالمؤمن أن يتفطَّن لمكايد عدوِّه الذي يُبصره، فما أحراه أن يكون دائم اليقظة والفطنة لعدوِّه اللدود الذي لا يُبصره، ذلك هو الشيطان الرجيم، وعدوُّ الإنسان المبين.


حذَّر الله عبادَه إغراءَه وإضلالَه، وضَربَ لهم أمثالًا من فِتنه ومكايده، وقال جلَّ شأنه: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴾ [الأعراف: 27].



كما بيَّن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأُمَّته طريقَ النَّجاة من دَسَائسه وَوَساوسه، حتى أخبرهم أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ كما روى الشيخان من حديث أم المؤمنين صفيَّة.



ومع هذا فليس من أحد - ما خلا النبيِّين والصِّدِّيقين - إلا أوقعه في مكايده، وَصَادَه بمصايدِه، ثمَّ يأبى - وقد أفلته الله منه - إلا أن يغترَّ به، ويقع في مخالبه.


الحثُّ على التفطُّن واليقظة في شؤون الدنيا والآخرة:

وقد اسْتَبَان ممَّا قدَّمنا أنَّ الحديثَ يتناول الحثَّ على التفطُّن واليقظة في شؤون الدنيا والآخرة معًا، فليس مقصورًا على أمور الدين خاصَّة، كما زعم بعض الشَّارحين، وما مِن شكٍّ في أنَّ من خُدع في إحداهما أَوْشَكَ أن يُخدع في أخراهما.


... أما بعد:

فإن لم يكن مِن مَطْمَع في يقظة المؤمنين جميعًا، وكياستهم في دينهم ودنياهم، وشؤونهم كلِّها، فلا أقلَّ من أن يَسْتيقظَ أُولو الأمر منهم وذوُو الرأي فيهم، حتى يستعيدوا لأُمَّتهم بعضَ عِزَّتها، ويَسْتردُّوا لها شَطْرًا من مَجْدِها وكرامتها، ولن يُغَيِّر الله ما بقومٍ ﴿ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].



https://www.alukah.net/sharia/0/128228/


الكاتب:  فراج يعقوب [ الاثنين سبتمبر 20, 2021 7:49 am ]
عنوان المشاركة:  Re: كياسة المؤمن

جزاكم الله خيرا
ــــــــــــــــــــــــــ
(( اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد
باب الاستجابة ,
نبي التوبة و الإنابة ,
صاحب طيبة المستطابة ,
ذي والرفعة المهابة ,
وعلى آله و الصحابة ))

الكاتب:  حامد الديب [ الاثنين سبتمبر 20, 2021 11:31 am ]
عنوان المشاركة:  Re: كياسة المؤمن

فراج يعقوب كتب:
جزاكم الله خيرا
ــــــــــــــــــــــــــ
(( اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد
باب الاستجابة ,
نبي التوبة و الإنابة ,
صاحب طيبة المستطابة ,
ذي والرفعة المهابة ,
وعلى آله و الصحابة ))

الكاتب:  حليمة [ الثلاثاء سبتمبر 21, 2021 11:18 pm ]
عنوان المشاركة:  Re: كياسة المؤمن

مولانا الفاضل الشيخ فراج يعقوب
الأستاذ الفاضل حامد الديب
جزاكم الله خيرا وشكرا على مروركم الكريم

صفحة 1 من 1 جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين
Powered by phpBB © 2000, 2002, 2005, 2007 phpBB Group
http://www.phpbb.com/