موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 9 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: قصة الإسراء والمعراج مجمعه
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس مارس 04, 2021 4:48 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس إبريل 09, 2015 7:45 pm
مشاركات: 2368

الباب الثامن في سياق القصة

اعلم رحمني الله وإياك أن في حديث كل من الصحابة السابق ذكرهم في الباب السابع ما ليس في الآخر، فاستخرت الله تعالى وأدخلت حديث بعضهم في بعض ورتبت القصة على نسق واحد، لتكون أحلى في الآذان الواعيات، وليعمّ النفع بها في جميع الحالات. فإن قلت إن أحاديث المعراج كل حديث منها مخالف للآخر. فقد يكون المعراج تعدّد بعددها فلم جعلت الكلّ قصّة واحدة؟.
فأقول: قال في «زاد المعاد» : «هذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النّقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الرواة جعلوه مرّة أخرى فكلما اختلفت عليهم الرواة عدّدوا هم الوقائع والصواب الذي عليه أئمة النقل إن الإسراء كان مرّة واحدة بمكة بعد البعثة، ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه وقع مرارا كيف ساغ لهم أن يظنّوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردّد بين ربّه وبين موسى حتى تصير خمسا، ثم يقول: «أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي» ، ثم يعيدها في المرة الثانية خمسين ثم يحطها عشرا عشرا؟.

قال الحافظ عماد الدين بن كثير رحمه الله تعالى في تاريخه، بعد أن ذكر أنه لم يقع في سياق مالك بن صعصعة ذكر بيت المقدس: «وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه، أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو ينشط تارة فيسوقه كلّه، وتارة يحدّث مخاطبه بما هو الأنفع له» «ومن جعل كل رواية خالفت الأخرى مرّة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب» ، «وذلك أن كل السياقات فيها تعريفه بالأنبياء، وفي كلها تفرض عليه الصلوات، فكيف يدّعى تعدد ذلك؟ هذا في غاية البعد» ، «ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف ولو تعدّد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمّته ولنقله الناس على التكرار» . انتهى.

وقال الحافظ في الفتح نحوه وزاد: «ويلزم أيضا وقوع التعدد في سؤاله صلّى الله عليه وسلم عن كل نبي وسؤال أهل كل باب: هل بعث إليه؟ وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك، فإن تعدد مثل ذلك في القصة لا يتّجه، فيتعيّن ردّ بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح إلا أنه لا يعدّ وقوع مثل ذلك في المنام توطئة ثم وقوعه يقظة» . انتهى ملخّصا.

إذا علم ما تقرر فأقول: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت في الحجر، إذ أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر، فقال أوّلهم: أيّهم؟ فقال أوسطهم هو خيرهم. فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى ليلة أخرى. فقال الأول: هو هو. فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيّد القوم الأوسط بين الرجلين. فرجعوا عنه حتى إذا كانت الليلة الثالثة، رآهم، فقال الأول: هو هو، فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين. فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم، فألقوه على ظهره فتولّاه منهم جبريل» .

وفي رواية: «فرج سقف بيتي، فنزل جبريل، فشقّ من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه، ثم قال جبريل لميكائيل: ائتيني بطست من ماء زمزم كيما أطهّر قلبه وأشرح صدره، فاستخرج قلبه، فغسله ثلاث مرات، ونزع ما كان فيه من أذى، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسوت من ماء زمزم، ثم أتى بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدره، وملأه حلما وعلما ويقينا وإسلاما. ثم أطبقه ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة، ثم أتي بالبراق مسرجا ملجما، وهو دابة أبيض، طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، مضطرب الأذنين، إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه، له جناحان في فخذيه يحفز بهما رجليه» .

وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما: «له خدّ كخدّ الإنسان وعرف كعرف الفرس وقوائم كالإبل وأظلاف وذنب كالبقر» . انتهى.
«فاستصعب عليه» وفي رواية «فشمس ، وفي رواية كأنها صرّت أذنيها فرزّها جبريل وقال: مه أبمحمد تفعلين هذا؟» وفي رواية: «فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال: «ألا تستحي يا براق؟ فوالله ما ركبك خلق» - وفي رواية- عبد لله قط أكرم على الله منه. فاستحى حتى ارفضّ عرقا، وقرّ حتى ركبها» - وفي رواية- ركبه. وكانت الأنبياء تركبها قبله» . وقال أنس بن مالك: «كانت الأنبياء تركبها قبله» . وقال سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: «وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام» .
فانطلق به جبريل- وفي رواية- فانطلقت مع جبريل. وعند أبي سعيد النيسابوري في الشرف: فكان الآخذ بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل- وفي رواية: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره.
فساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل. فقال له جبريل: انزل فصلّ ههنا، ففعل، ثم ركب. فقال له جبريل: أتدري أين صلّيت؟ قال: لا. قال: صلّيت بطيبة وإليها المهاجر. فانطلق البراق يهوي به، يضع حافره حيث أدرك طرفه. فقال جبريل: إنزل فصلّ، ففعل. ثم ركب. فقال جبريل: أتدري أين صلّيت؟ قال: لا. قال: صلّيت بمدين عند شجرة موسى. ثم ركب. فانطلق البراق يهوي. ثم قال: انزل فصلّ. ففعل. ثم ركب. فقال: أتدري أين صلّيت؟ قال: لا. قال: صلّيت بطور سينا حيث كلّم الله موسى.
ثم بلغ أرضا بدت له قصورا. فقال له جبريل: انزل فصلّ. ففعل، ثم ركب وانطلق البراق يهوي. فقال له جبريل: أتدري أين صلّيت؟ قال: لا. قال: صلّيت ببيت لحم، حيث ولد عيسى. وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن، يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت رآه. فقال له جبريل: ألا أعلمك كلمات تقولهن، فإذا قلتهن طفئت شعلته وخرّ لفيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، فقال جبريل: «قل أعوذ بوجه الله الكريم، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن» . فانكبّ لفيه وانطفأت شعلته.


فساروا حتى أتوا على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه.

ووجد ريحا طيبة، فقال: يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، بينا هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط، فقالت: بسم الله، تعس فرعون. فقالت ابنة فرعون: أولك ربّ غير أبي؟ قلت: نعم، ربّي وربّك الله. وكان للمرأة ابنان وزوج فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما، فقال: إني قاتلكما، فقالا: إحسانا منك إن قتلتنا أن تجعلنا في بيت- وفي رواية قالت:إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولديّ، فتدفنّا جميعا. قال:
ذلك لك بما لك علينا من الحق، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها لتلقى فيها هي وأولادها، فألقوا واحدا، واحدا، حتى بلغوا أصغر رضيع فيهم، فقال: يا أمه قعي ولا تقاسي فإنك على الحق. قال: وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم عليه السلام.


ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم، كلما رضخت عادت كما كانت. ولا يفتر عنهم من ذلك شيء. فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين تتشاغل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة.

ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم، ويأكلون الضّريع والزّقّوم ورضف جهنّم وحجارتها. فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال:
هؤلاء الذين لا يؤدّون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله شيئا، ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور، ولحم آخر نيء خبيث، فجعلوا يأكلون من النّيّئ الخبيث ويدعون النضيج.

فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمّتك تكون عنده المرأة الحلال الطّيّب، فيأتي امرأة خبيثة، فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا، فتأتي رجلا خبيثا فتبيت معه حتى تصبح.


ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب ولا شيء إلا خرقته. فقال: ما هذا يا جبريل؟ فقال: هذا مثل أقوام من أمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه، وتلا: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُون[الأعراف: 76] ورأى رجلا يسبح في نهر من دم، يلقم الحجارة، فقال:
من هذا؟ قال: آكل الرّبا.

وأتى على قوم قد جمع الرجل منهم حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمّتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها، ويريد أن يتحمّل عليها.


ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عاد، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة من أمتك يقولون ما لا يفعلون. ومرّ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.

وأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. وأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة كريح المسك، وسمع صوتا، فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب ايتني بما وعدتني، فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي، وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي، وأكوابي وصحافي وأباريقي ومراكبي وعسلي ومائي، ولبني وخمري. قال: لك كلّ مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي، وعمل صالحا، ولم يشرك بي، ولم يتخذ من دوني أندادا، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين. قالت: قد رضيت.

وأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنة، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب ايتني بما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغسّاقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتدّ حرّي، فأتني بما وعدتني. فقال:
لك كلّ مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وخبيث وخبيثة، وكلّ جبّار لا يؤمن بيوم الحساب:قالت: قد رضيت.

ورأى الدّجّال في صورته رؤية عين لا رؤيا منام، فقيل: يا رسول الله كيف رأيته؟ فقال:«رأيته فيلمانيا أقمر هجان إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري، كأن شعر رأسه أغصان شجرة، أشبّهه بعبد العزى بن قطن».

ورأى عمودا أبيض كأنه لؤلؤة، تحمله الملائكة، فقال:ما تحملون؟ قالوا: عمود الإسلام، أمرنا أن نضعه بالشام. وبينا يسير إذ دعاه داع عن يمينه: يا محمد، أنظرني أسألك. فلم يجبه. فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا داعي اليهود، أما إنك لو أجبته لتهوّدت أمّتك. وبينا هو يسير إذ دعاه عن شماله: يا محمد أنظرني أسألك، فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا داعي النصارى، أما إنك لو أجبته لتنصّرت أمّتك.

وبينا هو يسير، إذا بامرأة حاسرة عن ذراعها وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى.فقالت: يا محمد أنظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: تلك الدنيا، أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.

وبينا هو يسير فإذا هو بشيء يدعوه متنحيا عن الطريق، يقول: هلمّ يا محمد، فقال جبريل، سر يا محمد، فقال: من هذا؟ هذا عدو الله إبليس، أراد أن تميل إليه. وسار فإذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقالت: يا محمد أنظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: من هذه يا جبريل؟ قال: أنه لم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر هذه العجوز.

وبينا هو يسير إذ لقيه خلق من خلق الله، فقالوا: السلام عليك يا أوّل، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال جبريل: اردد السلام، فردّ، ثم لقيه الثانية فقال له مثل ذلك، ثم لقيه الثالثة فقال له مثل ذلك. فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: إبراهيم وموسى وعيسى.

ومرّ على، موسى وهو يصلي في قبره الكثيب الأحمر، رجل طوال سبط آدم كأنه من رجال شنوءة، وهو يقول يرفع صوته: أكرمته وفضّلته، فدفع إليه، فسلّم عليه فردّ عليه السلام، وقال: من هذا معك يا جبريل؟ فقال: هذا أحمد، فقل: مرحباً بالنبي العربيّ الذي نصح لأمته ودعا له بالبركة وقال: سل لأمتك اليسر.

فساروا فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا موسى بن عمران، قال: ومن يعاتب؟ قال:يعاتب ربّه. قال: أو يرفع صوته على ربه؟ قال جبريل أن الله تعالى قد عرف له حدّته ثم مرّ برجل قائم يصلي قال: من هذا معك يا جبريل قال جبريل: هذا أخوك محمد، فرحب به ودعا له ببركة فقال: سل لأمتك اليسر، فقال من هذا يا جبريل: قال هذا أخوك عيسى. ومرّ على شجرة كان ثمرها السرح، تحتها شيخ وعياله، فرأى مصابيح وضوءا. فقال: من هذا يا جبريل؟ قال:هذا أبوك إبراهيم. فسلّم عليه فردّ عليه السلام. وقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا ابنك أحمد. فقال: مرحباً بالنبي العربيّ الذي بلّغ رسالة ربه ونصح لأمته، يا بنيّ إنك لاق ربّك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلّها في أمتك فافعل. ودعا له بالبركة.

فسار حتى أتى الوادي الذي في المدينة يعني بيت المقدس، فإذا جهنم تنكشف عن مثل الروابي. فقيل: يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال: «مثل الحمم» ثم سار حتى انتهى إلي المدينة، فدخلها من بابها اليماني، وإذا عن يمين المسجد وعن يساره نوران ساطعان. فقال: يا جبريل ما هذان النوران؟ قال: أما الذي عن يمينك فإنه محراب أخيك داود، وأما الذي عن يسارك فعلى قبر أختك مريم. فدخل المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس، فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشدّ بها البراق، وفي رواية مسلم، فربطه بالحلقة التي تربط بها الأنبياء. فلما استوى بها النبي صلى الله عليه وسلم في صخرة المسجد، قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: نعم، قال جبريل: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلّم عليهن، وهنّ جلوس عن يسار الصخرة، فانتهى إليهن، فسلّم عليهن، فرددن عليه السلام. فقال: من أنتنّ؟ فقلن: «خيرات حسان» ، ساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا لم يظعنوا، وخلّدوا فلم يموتوا.

ثم صلّى هو وجبريل كل واحد ركعتين فلم يلبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثيرون، فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أذّن مؤذّن وأقيمت الصلاة، فقاموا ينتظرون من يؤمّهم، فأخذ جبريل بيده فقدّمه فصلّى بهم ركعتين. وفي رواية: ثم أقيمت الصلاة، فتدافعوا حتى قدّموا محمدا. وعند الواسطي عن كعب: فأذن جبريل ونزلت الملائكة من السماء وحشر الله له المرسلين، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالملائكة والمرسلين، فلما انصرف، قال جبريل:يا محمد، أتدري من صلّى خلفك؟ قال: لا. قال: كلّ نبيّ بعثه الله تعالى.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند الحاكم وصححه البيهقي: فلقي أرواح الأنبياء، فأثنوا على ربهم. فقال إبراهيم: «الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمّة قانتا يؤتمّ بي، وأنقذني من النار، وجعلها عليّ بردا وسلاما. ثم إن موسى أثنى على ربه تبارك وتعالى فقال: «الحمد لله الّذي كلّمني تكليما وجعل هلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمّتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون» . ثم إن داود أثنى على ربه فقال: «الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما، وعلّمني الزبور، وألان لي الحديد، وسخّر لي الجبال يسبّحن والطير، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب» .
ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال: «الحمد لله الذي سخّر لي الرياح وسخّر لي الشياطين والإنس يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات، وعلّمني منطق الطير وأتاني من كل شيء فضلا، وسخّر لي جنود الشياطين والإنس والجن والطير، وفضّلني على كثير من عباده المؤمنين، وأتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي ملكا طيبا ليس فيه حساب ولا عقاب» .
ثم أن عيسى بن مريم أثنى على ربه تبارك وتعالى فقال: «الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب. ثم قال له: كن فيكون، وعلّمني الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، ورفعني وطهّرني.
وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل» .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم أثنى على ربه وإني مثن على ربي» ، فقال: «الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافّة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليّ الفرقان فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمّتي وسطا، وجعل أمّتي هم الأولون والآخرون، وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحاً وخاتماً» .
فقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: «بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم» .

ثم تذاكروا أمر الساعة، فردّوا أمرهم إلى إبراهيم فقال: «لا علم لي بها» . فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بها» . فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: «أما وجبتها فلا يعلمها إلا الله، وفيما عهد إليّ ربي إن الدجال خارج، ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، فيهلكه الله تعالى إذا رآني، حتى أن الحجر ليقول: يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله، فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج.وهم من كل حدب ينسلون فيطأون بلادهم لا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، ثم يرجع الناس فيشكونهم إليّ، فأدعو الله تعالى عليهم، فيهلكهم ويميتهم حتى تحوي الأرض من ريحهم، فينزل الله تعالى المطر، فيجرف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر.
ففيما عهد إليّ ربيّ أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتمّ لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادتها ليلاً أو نهاراً» .

وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من العطش أشد ما أخذه، فأتي بقدحين أحدهما عن اليمين والآخر عن الشّمال في أحدهما لبن والآخر عسل- وفي رواية أتي بآنية ثلاث مغطّاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا، وفي لفظ أنه لم يشرب منه شيئا، ثم دفع إليه إناء آخر فشرب منه حتى روي،
ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر، فقيل له: اشرب فقال: «لا أريده قد رويت» .
فقال جبريل: «إنها ستحرّم على أمّتك» .
وفي رواية: فعرض عليه الماء والخمر واللبن، وفي رواية العسل بدل الماء فشرب من العسل قليلا، وتناول اللبن فشرب منه حتى روي، فضرب جبريل منكبيه وقال: «أصبت الفطرة، ولو شربت الخمر لغوت أمّتك ولم يتبعك منهم إلا القليل، ولو شربت الماء لغرقت أمّتك» ، وفي رواية قال شيخ «متّكئ على منبر له لجبريل:
«أخذ صاحبك الفطرة، وإنه لمهتد» . ثم أتي بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم ير الخلق أحسن من المعراج، له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب. وفي رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى أنه أتي بالمعراج من جنة الفردوس منضّد باللؤلؤ، عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة، فصعد هو وجبريل حتى انتهيا إلى باب من أبواب السماء الدنيا يقال له باب الحفظة وعليه ملك يقال له إسماعيل، وهو صاحب السماء الدنيا- وفي حديث جعفر بن محمد عند البيهقي: «يسكن الهواء فلم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الأرض قط إلا يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم» ، انتهى- وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف.

فاستفتح جبريل باب السماء: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:
محمد، قيل: أو قد أرسل إليه؟ - وفي رواية: بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به وأهلا، حيّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء ففتح لهما. فلما خلصا إلى السماء، فإذا فيها آدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته، تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيّبة، اجعلوها في عليّين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الكفّار، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين وعن يمينه أسودة وباب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله أسودة وباب تخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله حزن وبكى.
فسلّم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فردّ عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أبوك آدم،
وهذه الأسودة نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، وأهل الشمال منهم أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر من يدخله من ذرّيته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر من يدخله من ذريته بكى وحزن.
ثم مضى صلى الله عليه وسلم هنيهة، فإذا هو بأخونة عليها لحم مشرح ليس يقربه أحد، وإذا بأخونة عليها لحم قد أروح وأنتن، عنده ناس يأكلون منه. فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمّتك يتركون الحلال ويأتون الحرام. وفي لفظ: وإذا هو بأقوام على مائدة عليها لحم مشوي كأحسن ما رؤي من اللحم، وإذا حوله جيف، فجعلوا يقبلون على الجيف يأكلون منها ويدعون اللحم. فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة يحلّون ما حرم الله عليهم ويتركون ما أحل الله لهم.


ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام بطونهم أمثال البيوت فيها الحياة ترى من خارج بطونهم، كلما نهض أحدهم خرّ، فيقول: اللهم لا تقم الساعة، قال: وهم على سابلة آل فرعون، فتجيء السابلة فتطؤهم فسمعتهم يضجون إلى الله تعالى. فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275] .
ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل، فتفتح أفواههم ويلقمون حجرا، وفي رواية: يجعل في أفواههم صخر من جهنم، ثم يخرج من أسافلهم، فسمعهم يضجون إلى الله تعالى. فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء: 10]

ثم مضى هنيهة فإذا هو بنساء معلّقات بثديّهنّ ونساء منكّسات بأرجلهن، فسمعهنّ يضججن إلى الله تعالى، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن.

ثم مضى هنيهة إذا هو بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه، فيقال له: كل كما كنت تأكل من لحم أخيك. فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الهمّازون من أمّتك اللّمّازون..

ثم صعدا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به وأهلا، حيّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء. ففتح لهما. فلما خلصا فإذا هو بابني الخالة: عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا، شبيه أحدهما بصاحبه: ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما. وإذا بعيسى جعد مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشّعر كأنما أخرج من ديماس أي حمّام شبهه بعروة بن مسعود الثقفي.
فسلّم عليها فردّا عليه السلام، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعوا له بخير.

ثم صعدا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟. قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به وأهلا، حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء. ففتح لهما فلما خلصا فإذا هو بيوسف ومعه نفر من قومه فسلّم عليه، فردّ عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعا له بخير، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، وفي رواية أحسن ما خلق الله، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب. قال: من هذا يا جبريل؟ قال: أخوك يوسف.

ثم صعدا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به وأهلا حيّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء. فلما خلصا فإذا هو بإدريس فقد رفعه الله مكانا عليا، فسلّم عليه فردّ عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم دعا له بخير.

ثم صعدا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ فقال: جبريل. قيل:
ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به وأهلا، حيّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء. ففتح لهما، فلما خلصا فإذا هو بهارون، ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء، تكاد تضرب إلى سرّته من طولها، وحوله قوم من بني إسرائيل، وهو يقص عليهم فسلم عليه فردّ عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم دعا له. فقال: يا جبريل من هذا؟ فقال: الرجل المحبّب في قومه هارون بن عمران.

ثم صعدا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به وأهلا، حيّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ففتح لهما، فجعل يمرّ بالنبي والنبيين معهم الرهط، والنبي والنبيين معهم القوم، والنبي والنبيين ليس معهم أحد. ثم مرّ بسواد عظيم، فقال: «من هذا» قيل له موسى وقومه ولكن ارفع رأسك فإذا بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب فقيل له: هؤلاء أمتك وسوى هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب. فلما خلصا فإذا بموسى بن عمران، رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة، كثير الشّعر، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دونهما.
فسلّم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فردّ عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم دعا له بخير، وقال: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا، بل هذا أكرم على الله مني. فلما جاوزه النبي صلى الله عليه وسلم بكى. فقال: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل الجنة من أمتي، ويزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله.
وهذا رجل من بني آدم خلفي في دنيا وأنا في أخرى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن معه كل أمته. ثم صعد.
فلما انتهينا إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق، فاستفتح جبريل، قيل:
من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل:
مرحبا به وأهلا، حيّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء. ففتح لهما فسمع تسبيحا في السموات العلا مع تسبيح كثير: سبّحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات، سبحان العليّ الأعلى، سبحانه وتعالى. فلما خلصا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم بإبراهيم رجل أشمط، جالس عند باب الجنة، على كرسيّ مسندا ظهره إلى البيت المعمور، ومعه نفر من قومه، فسلّم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فردّ عليه السلام، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح وقال: مر أمّتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيّبة وأرضها واسعة. فقال له: وما غراس الجنة؟ قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . وفي رواية: «أقرئ على أمّتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التّربة عذبة الماء وأن غراسها؟ سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر» . وهو أشبه ولده به، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، فدخلوا نهرا، فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلصت ألوانهم وصارت مثل ألوان أصحابهم. فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم فقال: يا جبريل من هؤلاء البيض الوجوه ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء وما هذه الأنهار التي دخلوها؟
فقال: أما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم، وأما هذه الأنهار فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الإنسان: 21] وقيل له: هذا مكانك ومكان أمتك، وإذا هو بأمّته شطرين: شطر عليهم ثياب كأنها القراطيس، وشطر عليه ثياب رمد ، فدخل البيت المعمور، ودخل معه الآخرون الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرّمد وهم على خير، فصلّى ومن معه من المؤمنين في البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، آخر ما عليهم، ثم خرج ومن معه.


سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد(3 /79-89)


_________________
اللهم صل على سيدنا محمد
باب الاستجابة
نبي التوبة و الإنابة
صاحب طيبة المستطابة
والرفعة المهابة
وعلى آله وسلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: قصة الإسراء والمعراج مجمعه
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت مارس 06, 2021 4:42 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس إبريل 09, 2015 7:45 pm
مشاركات: 2368

وفي حديث عند الطبراني بسند صحيح: «مررت ليلة أسري بي على الملأ الأعلى فإذا جبريل كالحلس البالي من خشية الله، وفي رواية عند البزار «كأنه حلس لاطئ» . انتهى،
ثم أتي بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فشرب اللبن، فقال جبريل: اختارت أمّتك الفطرة،
وفي رواية: هذه الفطرة التي أنت عليها وأمّتك. ثم رفع إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يعرض من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوق فيقبض منها. وإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها. وإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها كآذان الفيلة، تكاد الورقة تغطّي هذه الأمة، وفي رواية: الورقة منها مغطّية للأمة كلها. وفي لفظ عند الطبراني: الورقة منها تظل الخلق، على كل ورقة ملك، تغشاها ألوان لا يدري ما هي، فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيّرت، وفي رواية: تحوّلت ياقوتا وزبرجدا فما يستطيع أحد أن ينعتها من حسنها، فيها فراش من ذهب، وفي رواية يلوذ بها جراد من ذهب.

فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد من أمتك خلا على سبيلك، وإذا في أصلها أربعة أنهار: نهروان باطنان ونهران ظاهران، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. وفي رواية: فإذا في أصلها عين تجري يقال لها السلسبيل، ينشقّ منها نهران: أحدهما الكوثر، يطّرد عجاحا مثل السّهم، عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طيور خضر أنعم طير، رأى فيه آنية الذهب والفضة، تجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشدّ بياضا من اللبن، فأخذ من آنية، فاغترف من ذلك الماء، فشرب فإذا هو أحلى من العسل، وأشدّ ريحا من المسك، فقاله جبريل: هذا هو النهر الذي حباك به ربّك، والنهر الآخر نهر الرحمة فاغتسل فيه، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر.

وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عند السدرة له ستمائة جناح، جناح منها قد سد الأفق، تتناثر من أجنحته التهاويل: الدرّ والياقوت مما لا يعلمه إلا الله تعالى. انتهى. ثم أخذ على الكوثر حتى إذ دخل الجنة فإذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،فرأى على بابها مكتوبا: الصّدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر. فقال: يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يسأل إلا من حاجة. فاستقبلته جارية فقال: لمن أنت يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة.

ورأى الجنّة من درّة بيضاء وإذا فيها جنابذ اللؤلؤ. فقال: يا جبريل، إنهم يسألوني عن الجنة. فقال: أخبرهم أنها قيعان ترابها المسك، وسمع في خارجها وجسا ، فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: بلال المؤذن. فسار فإذا هو بأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى، وإذا رمّانها كالدّلاء،وفي رواية: وإذا فيها رمّان كأنه جلود الإبل المقتّبة، وإذا بطيرها كالبخاتي.
فقال أبو بكر: يا رسول الله إن تلك الطير لناعمة. قال: أكلتها أنعم منها وإني لأرجو أن تأكل منها.

وبينا هو يسير بنهر على حافيته الدرّ المجوّف، وإذا طينة مسك أذفر فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هو الكوثر.
ثم عرضت عليه النار فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته، ولو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها، فإذا بقوم يأكلون الجيف، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس. ورأى رجلا أحمر أزرق فقال: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا عاقر الناقة.
ورأى مالك خازن النار، فإذا رجل عابس يعرف الغضب في وجهه، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام، ثم أغلقت دونه، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، فغشيها من أنوار الخلائق ومن أنوار الملائكة أمثال الغربان حين يقضّ على الشجرة وينزل على كل ورقة ملك من الملائكة فغشيها سحابة من كل لون.

وفي حديث إن جبريل قال له: إن ربك يسبّح. قال: وما يقول؟ قال: يقول: «سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي» . فتأخر جبريل، ثم عرج به حتى ظهر لمستوى سمع فيه صريف الأقلام.

ورأى رجلا مغبّبا في نور العرش، فقال: من هذا؟ ملك، قيل: لا، قال: نبي، قيل: لا، قال: من هو؟ قيل: هذا رجل كان في الدنيا لسانه رطب من ذكر الله، وقلبه معلّق بالمساجد، ولم ينتسب لوالديه قط، فرأى ربه سبحانه وتعالى، فخرّ النبي صلى الله عليه وسلّم ساجدا، وكلّمه ربه تعالى عند ذلك. فقال له: يا محمد. قال: لبّيك يا رب. قال: سل: فقال:
إنك اتّخذت إبراهيم خليلاً، وأعطيته ملكا عظيما وكلّمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما وسخرت له الجن والإنس والشياطين وسخرّت له الرياح وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. وعلّمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك، وأعذته وأمّه من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان عليهما سبيل.
فقال الله سبحانه وتعالى: قد اتخذتك حبيبا. قال الراوي: وهو مكتوب في التوراة:
حبيب الله. وأرسلتك للناس كافة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، لا أذكر إلا وذكرت معي وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلت أمتك أمّة وسطا، وجعلت أمتك هم الأولون والآخرون، وجعلت أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أنا جيلهم، وجعلتك أوّل النبيين خلقاً وآخرهم بعثاً، وأوّلهم يقضى له، وأعطيتك سبعا من المثاني لم أعطها نبيا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي لم أعطها نبيا قبلك، وأعطيتك الكوثر، وأعطيتك ثمانية أسهم: الإسلام والهجرة والجهاد والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأني يوم خلقت السموات والأرض، فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فقم بها أنت وأمتك.

قال أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضّلني ربي: أرسلني رحمة للعالمين، وكافّة للناس بشيرا ونذيرا، وألقى في قلوب عدوّي الرّعب من مسيرة شهر، وأحلّ لي الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، وعرضت علي أمتي فلم يخف علي التابع والمتبوع ورأيتهم على قوم ينتعلون بالشّعر، ورأيتهم أتوا على قوم عراض الوجوه صغار الأعين كأنما أخرمت أعينهم بالمخيط فلم يخف علي ما هم، لا قويّ من بعدي، وأمرت بخمسين صلاة» .انتهى.
وأعطي ثلاثا: أنه سيد المرسلين وإمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين.


وفي حديث ابن مسعود: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات .
ثم انجلت عنه السحابة وأخذ بيده جبريل، فانصرف سريعا، فأتى على إبراهيم، فلم يقل شيئاً، ثم أتى على موسى، قال: ونعم الصاحب كان لكم، فقال: «ما صنعت يا محمد؟ ما فرض عليك ربّك وعلى أمتك؟» قال: فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة كل يوم وليلة» .
قال: «فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف عنك وعن أمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني قد خبرت الناس قبلك وبلوت بني إسرائيل وعالجتهم أشدّ المعالجة على أدنى من هذا فضعفوا وتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وأبدانا وقلوبا وأبصارا وأسماعا» . فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل يستشيره، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، فرجع سريعا حتى انتهى إلي الشجرة، فغشيته السحابة، وخرّ ساجدا.
وقال: «ربّ خفّف عنا» ، وفي لفظ: «عن أمتي فإنها أضعف الأمم» . قال: «قد وضعت خمسا» ، ثم انجلت السحابة، ورجع إلى موسى فقال: «وضع عني خمسا» . قال: «ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك» . فلم يزل يرجع بين موسى وبين ربه، يحطّ عنه خمسا خمسا، حتى قال: «يا محمد» ، قال: «لبّيك وسعديك» قال: «هنّ خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة لا يبدّل القول لديّ ولا ينسخ كتابي تخفيفها عنك كتخفيف خمس صلوات، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة» . فنزل حتى انتهى إلي موسى، فأخبره فقال: «ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك» . قال له: «قد راجعت ربي حتى استحييت منه ولكن أرضى وأسلّم» .
فناداه مناد أن «قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي».
فقال له موسى: «اهبط بسم الله» . ولم يمر على الملأ من الملائكة إلا قالوا له: «عليك بالحجامة » . وفي لفظ: «مر أمتك بالحجامة» . ثم انحدر، فقال جبريل: «ما لي لم آت لأهل السماء إلا رحّبوا بي وضحكوا إليّ، غير واحد سلّمت عليه فردّ السلام ورحّب بي ودعا لي، ولم يضحك إليّ. قال: قال: «مالك خازن النار، لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك لأحد لضحك إليك» .

فلما نزل إلى السماء الدنيا نظر أسفل منه، فإذا هو برهج ودخان، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم، لا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب.

ثم ركب منصرفا، فمرّ بعير لقريش بمكان كذا وكذا، منها جمل عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلما حاذى العير نفرت واستدارت وصرخ ذلك البعير وانكسر، ومرّ بعير قد ضلّوا بعيرا لهم قد جمعه فلان، فسلّم عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد.
ثم أتى أصحابه قبيل الصبح بمكة، فلما أصبح قطع وعرف أن الناس تكذّبه، فقعد حزينا، فمرّ عليه عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قال: نعم. قال: ما هو؟ قال: أسري بي الليلة. قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس.
قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم. فلم ير أنه يكذّبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه. قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ قال: نعم، قال يا معشر بني كعب بن لؤي.
فانفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما. فقال: حدّث قومك بما حدّثتني
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني أسري الليلة بي» . قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم، فمن بين مصفّق ومن بين واضع يده على رأسه متعجّبا، وضجّوا وأعظموا ذلك.
فقال المطعم بن عدي: كل أمرك قبل اليوم كان أمما غير قولك اليوم، أنا أشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى البيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا، أتدّعي أنت أنك أتيته في ليلة؟ واللّات والعزّى لا أصدقك. فقال أبو بكر لمطعم: بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته وكذبته، أما أنا فأشهد أنه صديق صادق. فقالوا: يا محمد صف لنا بيت المقدس، كيف بناؤه وكيف هيئته؟ وكيف قربه من الجبل؟ وفي القوم من سافر إليه. فذهب ينعت لهم بناءه كذا وهيئته كذا، وقربه من الجبل كذا، فما زال ينعته لهم حتى التبس عليه النّعت فكرب كربا ما كرب مثله، فجيء بالمسجد وهو ينظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال، فقالوا: كم للمسجد من باب؟ ولم يكن عدّها، فجعل ينظر إليه ويعدّها بابا بابا، ويعلمهم، وأبو بكر يقول: صدقت صدقت، أشهد أنك رسول الله. فقال القوم: أمّا النعت فوالله لقد أصاب.
ثم قالوا لأبي بكر: أفتصدّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟
قال: نعم إني لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فبذلك سمي أبو بكر الصديق. ثم قالوا: يا محمد أخبرنا عن عيرنا. فقال «أتيت على عير بني فلان بالرّوحاء قد ضلّوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم، فليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه، ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم يقدمها جمل أورق عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان وها هي ذه تطلع عليكم من الثّنيّة» . قالوا: فمتى تجيء؟ قال يوم الأربعاء. فلما كان ذلك اليوم، انصرفت قريش ينظرون وقد ولّى النهار، ولم تجيء. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فزيد له في النهار ساعة، وحبست عليه الشمس، حتى دخلت العير، فاستقبلوا الليل. فقالوا: هل ضلّ لكم بعير؟ قالوا: نعم. فسألوا العير الأخر فقالوا: هل انكسر لكم ناقة حمراء؟ قالوا: نعم. قالوا: فهل كان عندكم قصعة من ماء؟ فقال رجل: أنا والله وضعتها فما شربها أحد، متأوّلا أهريقت في الأرض. فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد، فانزل الله تعالى:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60] .

فائدة: أخرج ابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أسري به ريحه ريح عروس وأطيب من ريح عروس. شعر ويرحم الله تعالى من قال:

ساد الأنام محمّدٍ خير الورى ... بفضائل جلّت عن الإحصاء

وجوامع الكلم الّتي ما نالها ... أحد من الفصحاء والبلغاء

وإلى الخلائق كلّهم إرساله ... فشفى القلوب الجمّة الأدواء

وله الشّفاعة والوسيلة في غد ... ومقامه السّامي على الشّفعاء

ويجيء يومئذ كما قد قاله ... أنا راكب والرّسل تحت لوائي

ولقد دنا من ربه لمّا دنا ... في ليلة المعراج والإسراء

سمع الخطاب بحضرة قدسيّة ... ما حلّها بشر من العظماء

وبرؤية الجبّار فاز ويا لها ... من نعمة عظمت على النّعماء

ما نال موسى والخليل ومجتبى ... ما نلته يا سيّد الشّفعاء

يا كنز مفتقر وملجأ عائذ ... يا أفضل الأجواد والكرماء

أنت الوسيلة للإله فسل لنا ... عفوا عن الزّلّات والأهواء

ودخولنا الجنّات أوّل وهلة ... وشفاعة للمفسد الخطّاء

بك نستغيث ونستجير ونلتجي ... من ذي البلاء وفتنة الأهواء

ونروم فضلا من جنابك سيّدي ... وشفاعة يا سيّد الشّفعاء

فإليك ساق [الله] سحب صلاته ... وجزاك ربّ النّاس خير جزاء

وعلى صحابتك الرّضى متعدّدا ... والآل والأتباع والعلماء

ولله درّ البوصيري حيث قال مخاطبا للذات الشريفة:

سريت من حرم ليلا إلى حرم ... كما سرى البدر في داج من الظّلم

وبتّ ترقى إلى أن نلت منزلة ... من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم

وقدّمتك جميع الأنبياء بها ... والرّسل تقديم مخدومٍ على خدم

وأنت تخترق السّبع الطّباق بهم ... في موكب كنت فيه صاحب العلم

حتى إذا لم تدع شأوا لمستبق ... من الدّنوّ ولا مرقى لمستنم

خفضت كلّ مقام بالإضافة إذ ... [نوديت] بالرّفع مثل المفرد العلم

كيما تفوز بوصل أيّ مستتر ... عن العيون وسرّ أي مكتتم

فحزت كلّ فخار غير مشترك ... وحزت كلّ مقام غير مزدحم

وجلّ مقدار ما ولّيت من رتب ... وعزّ مقدار ما أوليت من نعم

بشرى لنا معشر الإسلام إنّ لنا ... من العناية ركنا غير منهدم

لمّا دعا الله داعينا لطاعته ... يا أكرم الرّسل كنّا أكرم الأمم


الباب التاسع في تنبيهات على بعض فوائد تتعلق بقصة المعراج

الأول:
قال ابن المنير: كانت كرامته صلى الله عليه وسلم في المناجاة على سبيل المفاجأة كما أشار إليه بقوله: «بينا أنا» . وفي حق موسى عليه الصلاة والسلام عن ميعاد واستعداد فحمل عنه صلى الله عليه وسلم ألم الانتظار. ويؤخذ من ذلك أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مقام موسى مقام المراد بالنسبة إلى مقام المريد.

الثاني:
قال ابن دحية في قوله: «فرج سقف بيتي» ، يقال: لم لم يدخل من الباب مع قوله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [البقرة: 189] ، فالحكمة في ذلك المبالغة في المناجاة، والتنبيه على أن الكرامة والاستدعاء كانا على غير ميعاد، ولعل كونه فرج عن سقف بيته توطئة وتمهيد لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك، بإفراجه عن السقف فالتأم السقف على الفور، كيفيّة ما يصنع به، وقرّب له الأمر في نفسه بالمآل المشاهد في بيته لطفا في حقه وتبيينا لبصره، ولعله فرج عن سقف بيته حتى لا يعرج الملك، وقد جاء في هذا الأمر المهم العظيم على شيء سواه، فانصبّ له من السماء انصبابة واحدة وهي خرق الحجاب.
ولو أنه جاء على العادة من الباب لاحتاج أن يلج صحن الدار، ثم يعرج إلى البيت الذي هو فيه وقال الحافظ: قيل الحكمة في نزوله عليه من السقف المبالغة في مفاجأته بذلك والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج به إلى جهة العلوّ.

الثالث:
الرجلان اللذان كان النبي صلى الله عليه وسلم نائما بينهما تلك الليلة: حمزة وجعفر رضي الله عنهما، نبه عليه الحافظ. قال ابن أبي جمرة: وفي هذا تواضعه صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه، إذ أنه في الفضل حيث هو، ومع ذلك كان يضطجع مع الناس ويقعد معهم، ولم يجعل لنفسه المكرّمة مزيّة عليهم، وفيه دليل على جواز نوم جماعة في موضع واحد، ولكن يشترط في ذلك أن يكون لكل واحد منهم ما يستر به جسده عن صاحبه.

الرابع:
تقدم في أبواب صفاته الكلام على شقّ الصّدر وخاتم النبوة والطست والذهب وزمزم.

الخامس:
في الكلام على جبريل وفيه فوائد:

الأولى:
في لغات اسمه وهي إحدى وعشرون: الأولى: جبريل بكسر الجيم والراء وياء ساكنة وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر ، وحفص عن عاصم وهي لغة الحجازيين.
الثانية: جبريل كذلك إلا أنه بفتح الجيم وهي قراءة ابن كثير.
الثالثة: جبرءل كذلك إلا أنه بزيادة همزة مكسورة بعد الراء وحذف الياء وهي قراءة أبي بكر عن عاصم.
الرابعة: جبرئيل كذلك إلا أنه بزيادة ياء بعد الهمزة وهي قراءة حمزة والكسائي ولغة تميم وقيس وكثير من أهل نجد كما قاله الفرّاء.
الخامسة: جبرايل كذلك إلا أنه بزيادة ألف بعد الراء وهي رواية حمزة ونعيم بن سعيد وغيرهما عن الأعمش ورواية أبان بن تغلب بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام- وأبان بن يزيد العطار من رواية الثلاثة: بكّار ويونس وعبيد، عنه كلاهما عن عاصم وأبو رجاء وأبو غزوان عن طلحة ذكره الأهوازي.

السادسة: جبرائيل كذلك إلا أنه بكسر الجيم على وزن إسرائيل وهي إحدى الروايات عن عكرمة ورواها عنه الزبير، وقرأ بها ابن صدقة عن يحيى ذكره ابن عيسى.

السابعة:جبراءل بفتح الجيم والراء وهمزة بدون ياء، وفي رواية رزين وابن قيس وابن خثيم وأبي عمران وإسماعيل عن الحسن وغيرهم وإسحاق بن سويد بخلاف عنه والحسن الرازي عن أصحابه وأحمد بن يزيد وهي إحدى الروايات عن عكرمة أيضا.

الثامنة: جبرايل كذلك إلا أنه بياء ساكنة بدل الهمزة على الجمع بين التقاء الساكنين وهي قراءة طلحة بن مصرف اليامي.

التاسعة: جبرييل بفتح الجيم والراء وياءين أولهما مكسورة والثانية ساكنة وهي إحدى الروايتين عن ابن محيصن ويحيى بن يعمر وأبان بن يزيد العطار عن عاصم.

العاشرة: جبرئيل كذلك إلا أنه بهمزة عوض الياء الأولى وتشديد اللام وهي إحدى الروايات عن ابن محيصن ويحيى بن يعمر وأبان بن يزيد العطار عن عاصم. الحادية عشرة: جبرءلّ كذلك إلا أنه بحذف الياء بعد الهمزة وقرئ بها شاذا.

الثانية عشر: جبريل بفتح الجيم والراء وياء ساكنة لا غير، وهي قراءة محمد بن طلحة بن مصرف وابن محيصن في إحدى الروايات عنه.
الثالثة عشر: جبرإل كذلك إلا أنه بهمزة بدل الياء مشدّدة مكسورة ولام لا غير، وقد نقلها أبو عمر الداني في المجتبى في الشواذ عن ابن يعمر أيضا.

الرابعة عشرة: جبرال بفتح الجيم والراء وألف ولام لا غير.

الخامسة عشرة: جبرال كذلك إلا أنه بكسر الجيم.

السادسة عشرة:جبرين بفتح الجيم وكسر الراء ونون بدل اللام. السابعة عشرة: جبرين كذلك إلا أنه بكسر الجيم. قال الفرّاء هي لغةبني أسد.

الثامنة عشرة: جبرئين بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة ونون، نقلها ابن الأنباري في كتاب الرد على من خالف مصحف عثمان.

التاسعة عشرة: جبرين كذلك إلا أنه بكسر الجيم نقلها ابن الجوزي وبرهان الدين الجعبري.

العشرون: جبرئيل بفتح الجيم والراء وهمزة ساكنة بعدها ياء.

الحادية والعشرون: جبراييل على وزن ميكاييل، نقل جميع ذلك الإمام العلّامة محب الدين بن شيخ الحساب والفرائض الإمام العالم العلامة شهاب الدين بن الهائم في الغرر، ومن خطه نقلت.

سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد (3 /89-98)


_________________
اللهم صل على سيدنا محمد
باب الاستجابة
نبي التوبة و الإنابة
صاحب طيبة المستطابة
والرفعة المهابة
وعلى آله وسلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: قصة الإسراء والمعراج مجمعه
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد مارس 07, 2021 4:34 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس إبريل 09, 2015 7:45 pm
مشاركات: 2368

الفائدة الثانية:
قال في الروض الأنف: «ومعنى جبريل: عبد الرحمن أو عبد العزيز، هكذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا ومرفوعا أيضا والوقف أصحّ.
وأكثر الناس أن آخر الاسم منه أعجمي وهو «إيل» ، وكان شيخنا يعني ابن العربي يذهب مذهب طائفة من أهل العلم في أن هذه الأسماء إضافتها مقلوبة وكذلك الإضافة في كلام العجم يقولون في «غلام زيد» . زيد غلام فعلى هذا يكون «إيل» عبارة عن العبد ويكون أول الاسم عبارة عن اسم من أسماء الله تعالى.

قلت: روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن المنذر عن عكرمة، وأبو الشيخ عن علي بن الحسين قالوا: اسم جبريل عبد الله وميكائيل عبيد الله، وكل شيء راجع إلى «إيل» فهو معبّد لله عز وجل، زاد علي بن الحسين وإسرافيل عبد الرحمن، زاد عكرمة:
«والإيل» : الله.
قال الماوردي: «ولا يعلم لابن عباس مخالف في ذلك» ، وقال السهيلي: «إنه قول الأكثر» . وقال الشيخ شهاب الدين الحلبي رحمه الله تعالى في شرح الشاطبية: «اختلف الناس في هذا الاسم هل هو مشتق أم لا؟ والذي عليه الجمهور أنه لا اشتقاق» إذ الأسماء الأعجمية لا اشتقاق لها. وقال آخرون: بل هو مشتق من جبروت الله تعالى.

وكذلك اختلفوا فيه هل هو اسم بسيط لا تركيب فيه أو هو مركّب؟ فإن جبر» معناه «عبد» ، «وإيل» هو اسم الباري تعالى وقد قيل ذلك في إسرافيل، ثم اختلفوا في تركيبه، هل هو مركّب تركيب إضافة أو تركيب مزج؟ فذهب بعضهم إلى الأول، وردّ بأنه كان ينبغي أن يعرب إعراب المتضايفين، فيجري الأول منهما مجرى الإعراب، ويجرى الثاني وينوّن، إذ لا مانع له من الصّرف، كما انصرف «إلّ» في قول من جعله اسما لله تعالى من قوله عز وجل: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة: 10] وهذا كما تقول: جاءني عبد الله، ورأيت عبد الله ومررت بعبد الله.

وذهب آخرون كأبي العباس المهدوي إلى أنه مركّب تركيب مزج كبعلبك وحضر موت، وهذا قريب إلا أن بعضهم ردّ عليه بأنه كان ينبغي أن يبنى الأول على الفتح ليس إلا، وأنت كما رأيتهم يكسرون الراء في بعض اللغات. وردّ عليه بعضهم أيضا بأنه لو كان مركّبا تركيب مزج لجاز أن يعرب إعراب المتضايفين أو يبنى على الفتح كأحد عشر، فإنه مركب تركيب مزج يجوز فيه هذه الأوجه، فكونه لم يسمع فيه البناء ولا جريانه جريان المتضايفين دليل على عدم تركيبه تركيب مزج. وهذا الردّ مردود لأنه جاء على أحد الجائزين، واتفق أنه لم يستعمل إلا كذلك. انتهى.

قال السهيلي: «واتفق في اسم جبريل عليه السلام أنه موافق من جهة العربية لمعناه وإن كان أعجميا، فإن الجبر هو إصلاح ما وهي، وجبريل موكّل بالوحي، وفي الوحي إصلاح ما فسد وجبر ما وهي من الدين، ولم يكن هذا الاسم معروفا بمكة ولا بأرض العرب، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة به انطلقت تسأل من عنده علم الكتاب كعدّاس ونسطور الراهب وورقة.

فقالوا لها: قدّوس قدّوس أنّى لهذا الاسم أن يذكر في هذه البلاد» كما تقدم بيان ذلك.

الفائدة الثالثة:
في بعض فضائله: ذكره تعالى في كتابه في خمسة وثلاثين موضعا بالصريح وغيره، وذكره باسمه في ثلاثة مواضع: في البقرة في موضعين قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة: 97] ، مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] ، والثالث في التحريم وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ [التحريم: 4] ، وذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم في أربعة مواضع الأول والثاني والثالث في آل عمران فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [آل عمران: 39] ، وهو جبريل وحده بدليل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ
[آل عمران 42] إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران: 45] والرابع في النحل: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ يعني جبريل والروح الوحي. وذكر بلفظ الروح في ثمانية مواضع بلفظ الروح مطلقا، وبإضافته إلى نفسه وبإضافته إلى القدس وهو الطهارة، وبوصفه بالأمانة، فقال: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: 4] يعني جبريل تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها [القدر: 4] ، فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[مريم: 17] ، وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 87] وفي المائدة إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [المائدة: 110] وفي النحل قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102] ، وفي الشعراء نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 193، 194] ، ووصفه في موضع واحد بسبع صفات جميلة وهي: الرسالة والكرم والقوة والقربة والمكانة وطاعة الملائكة والأمانة، وذلك في سورة التكوير في قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19، 20، 21] .
وروى أبو الشيخ في العظمة عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقرب الخلق إلى جبريل وميكائيل وإسرافيل وإنهم من الله بمسيرة ألف سنة» .
وروى أبو الشيخ عن وهب. قال: هؤلاء الأربعة أملاك: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، أول من خلقهم الله من الملائكة وآخر من يميتهم، وأول من يحييهم وهم المدبرات. وروى أبو الشيخ عن خالد بن أبي عمران قال: جبريل أمين الله تعالى إلى رسله، وميكائيل يلقي الكتب التي ترفع من أعمال الناس وإسرافيل بمنزلة الحاجب.

وروى أبو الشيخ عن عكرمة بن خالد أحد التابعين أن رجلا قال: يا رسول الله أي الملائكة أكرم على الله؟ قال: لا أدري فجاءه جبريل فقال: يا جبريل أي الملائكة أكرم على الله؟ قال: لا أدري، فعرج جبريل، ثم هبط فقال: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك لموت، فأما جبريل فصاحب الحرب وصاحب المرسلين وأما ميكائيل فصاحب كل قطرة تسقط وكل ورقة، وأما ملك الموت فهو موكل بقبض روح كل عبد في بر أو بحر، وأما إسرافيل فأمين الله بينه وبينهم.

التنبيه السادس:
في لغات ميكائيل وهي سبع: الأولى وهي الأفصح: ميكال بوزن ميقات وميعاد وبها قرأ أبو عمرو. الثانية: مكائيل: بهمزة فياء وهي قراءة نافع. الثالثة: ميكائيل بياءين وهي قراءة باقي السبعة. الرابعة: ميكئيل بهمزة بعد الكاف فمثنّاة تحتية وهي قراءة ابن محيصن. الخامسة: كذلك [أي ميكئل] إلا أنه لا ياء بعد الهمزة وبها قرأ بعضهم. السادسة:
ميكاييل بياءين صريحتين بعد الألف وبها قرأ الأعمش. السابعة: ميكاءيل بهمزة مفتوحة بعد الألف.

التنبيه السابع:
في الكلام على البراق، وهو بضمّ الموحّدة وتخفيف الراء مشتقّ من البريق فقد جاء في لونه أنه أبيض أو من البرق لأنه وصف بسرعة السّير أو من قولهم: شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء، ولا ينافيه وصفه في الحديث بالبياض لأن البرقاء من الغنم معدودة في البيض. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد والحارث: «أبرقوا فإنّ دم عفراء أزكى عند الله من دم سوداوين» ، فجعل البرقاء مقابلة السوداوين تفضيلا للبياض، فلهذا يكون البراق أفضل الألوان ويجوز أن يجمع بين المعنيين فيسمى براقا للونه ولسرعة مسيره فيكون ذلك من قبيل مجملي اللفظ المشترك دفعة واحدة في اللفظ ويحتمل ألا يكون مشتقا.
قال ابن أبي جمرة: وإنما كان ركوب النبي صلى الله عليه وسلم على البراق إشارة إلى أن الاختصاص به لأنه لم ينقل أن أحدا ملكه بخلاف جنسه من الدوابّ. قال: والقدرة صالحة لأن يصعد بنفسه بغير براق، لكن كان البراق بشارة له في تشريفه، لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماش، والراكب خلاف الماشي. وقال ابن دحية: ربّما مزج خرق العادة بالعادة تأنيسا، وقد كان الحقّ قادرا على أن يرفع نبيه صلى الله عليه وسلم بدون البراق، ولكن الركوب وصفة المركوب المعتاد تأنيس في هذا المقام العظيم بطرف من العادة، ولعل الإسراء بالبراق إظهار للكرامة العرفيّة، فإن الملك العظيم إذا استدعى وليّا له وخصيصا به، وأشخصه إليه بعث إليه بمركوب سنّي، يحمله عليه في وفادته إليه. ولم يكن البراق بشكل الفرس ولكنه بشكل البغل وكان ذلك- والله تعالى أعلم- للإشارة إلى أن الركوب في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة في الإسراع العجيب من دابة ما يوصف شكلها بالإسراع الشديد عادة.
فإن قيل: فقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم البغلة في الحرب، فالجواب: كان ذلك لتحقيق نبوته عليه الصلاة والسلام في مواطن الضرب والطعن والانتشاب في نحر العدو، ولما كان الله تعالى خصه بمزيد من الشجاعة والقوة. وإلا فالبغال عادة من ركوب الطمأنينة والأمنة، فبيّن أن الحرب عنده كالسّلم قوّة قلب وشجاعة نفس، وثقة وتوكّل. وركبت الملائكة في الحرب على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك عرفا دون غيرها من المركوبات. ولطف شكل البراق لما وصفه، عن شكل البغل، وما لطف من البغال واستدار أحمد وأحسن من المطهمات منها، وذلك بخلاف الخيل.

ولم يسمّ الله سبحانه وتعالى سير البراق برسوله صلى الله عليه وسلم طيرانا، وإنما سمّاه بما يسمّى به السير المعتاد وسير الليل عند العرب سرى، فيؤخذ من هذا أن الوليّ إذا طويت له الأرض البعيدة في الساعة الواحدة يتناوله اسم المسافر، ويشمله أحكام السّفر باعتبار القصر والفطر.
وإنما لم يذكر البراق في الرجوع لأن ذلك معلوم بذكره في الصعود، كقوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] يعني والبرد.

قال في فتح الصفا: فإن قيل: هلّا كان الإسراء على أجنحة الملائكة والريح كما كانت تحمل سليمان عليه الصلاة والسلام أو الخطوة كطيّ الزمان؟ قلت المراد اطلاعه على الآيات الخارقة للعادة، وما يتضمّن أمرا عجيبا، ولا عجب في حمل الملائكة أو الريح بالنسبة إلى قطعة هذه المسافة، بخلاف قطعها على دابّة في هذا الحجم المحكيّ عن صفتها، ووقع من تعظيمه بالملائكة ما هو أعظم من حمله على أجنحتها فقط. فقد أخذ جبريل بركابه وميكائيل بزمام البراق، وهما من أكابر الملائكة، فاجتمع له صلى الله عليه وسلم حمل البراق، وما هو كحمل البراق من الملائكة وهذا أتمّ في الشرف.

واختلفت الأقاويل في صفته، فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ما ذكر. وقال صاحب الاحتفال: إنه دون البغل وفوق الحمار، وجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال.
وقال غيره: جسده كجسد الإنسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل وأظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة حمراء وظهره كأنه درّة بيضاء. له جناحان في فخذيه وهذا كله لم يصحّ منه شيء، وما ذكره عن ابن عباس أمثلها، ولعل السّرّ في كونهما في فخذيه لثقل مؤخّر الدابّة، أو لأن ذلك جار على هذا الأمر في خرق العادة، أو لأجل الراكب، لأنّهما لو كانا في جنبيه على العادة لكانا تحت فخذي الراكب أو فوقهما، ويحصل له من ذلك مشقة بضمّهما ونشرهما خصوصا مع السرعة العظيمة.

وفي بعض الآثار أنه ليس بذكر ولا أنثى، فاقتضى ذلك أن يكون مفردا بالخلق بهذه الصفة من غير توليد، وقد قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات: 49] ونقل الشيخ سعد الدين إن الملائكة الكرام لا ذكور ولا إناث إلى آخر ما ذكره. وفي أثر آخر أن جبريل خاطبه خطاب المؤنث.

واختلف في الحكمة في استصعاب البراق، فقال ابن بطّال: إنما استصعب عليه لبعده بركوب الأنبياء قبله، ويؤيده ما في المبتدأ لابن إسحاق رواية وثيمة بن موسى في ذكر الإسراء، «فاستصعب البراق وكانت الأنبياء تركبها قبلي» وكانت بعيدة العهد بركوبهم فلم تكن ركبت في الفترة.
وقال ابن دحية وابن المنير: «إنما استصعب تيها وزهوا بركوب النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد جبريل بقوله: أبمحمد تستصعب؟ استنطاقه بلسان الحال إذ أنه لم يقصد الصعوبة، وإنما تاه بركوب النبي صلى الله عليه وسلّم، ولهذا قال: فارفضّ عرقا، فكأنه أجاب بلسان الحال، فبرئ من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب، وذلك قريب من رجفة الجبل به حتى قال: اثبت فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيد، فإنها هزّة طرب لا هزّة غضب، كما سيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في المعجزات.
قال الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي رحمه الله تعالى: ولا يبعد أن يقال إنما كان استصعابه فرقا من هيبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التنبيه الثامن:
قال الحافظ: من الأخبار الواهية أن البراق لما عاتبه جبريل عليه السلام اعتذر إليه البراق بأنه مسّ الصّفراء اليوم، وأن الصفراء صنم من ذهب عند الكعبة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ به فقال: «تبّا لمن يعبدك من دون الله» ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى زيد بن حارثة أن يمسّه بعد ذلك، وكسره يوم الفتح.
وقال في الزهر: هذا لا ينبغي أن يذكر ولا يعزى لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام أحمد- روى عنه ابنه عبد الله أنه قال: «هو موضوع» وأنكره جدا.

التنبيه التاسع:
قال الحافظ: من الأخبار الواهية ما ذكره الماوردي والثعلبي والقرطبي في التذكرة من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الموت والحياة جسمان، فالموت ليس يجد ريحه في شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أنثى وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها لا تمرّ بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي.

التنبيه العاشر:
اختلف في ركوب جبريل على البراق مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى القول به هل ركب أمام النبي صلى الله عليه وسلم أم خلفه؟ فعند الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق فلم يزايل ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس. وفي رواية عنه عند ابن حبّان أن جبريل حمله على البراق رديفا له، وفي لفظ «فركبه خلف جبريل فسار بهما» . وفي حديث أبي ليلى أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق فحمله بين يديه، رواه الطبراني.
وفي حديث ابن مسعود، رفعه: «أتيت بالبراق فركبته خلف جبريل» .
والصحيح أنه كان معدّا لركوب الأنبياء قبل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى الفاكهي بسند حسن عن علي رضي الله عنه قال: «كان إبراهيم يزور إسماعيل وأمه على البراق» .

وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «وكانت الأنبياء تركبها قبلي» . رواه البيهقي وغيره.
وقال أنس رضي الله عنه: «وكانت تسخّر للأنبياء قبلي» . رواه النسائي وابن مردويه.
وقال سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن: «أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم على البراق، وهي دابّة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام» ، رواه ابن جرير.

التنبيه الحادي عشر:
قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «وتكلم أربعة وهم صغار» فذكر ابن الماشطة وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى بن مريم.
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة» ، فذكر عيسى وصاحب جريج وابن الماشطة.
وفي حديث مسلم عن صهيب رضي الله عنه في قصة أصحاب الأخدود: أن امرأة جيء بها لتلقى في النار أو لتكفر ومعها صبيّ يرضع فتقاعست فقال: يا أماه اصبري فإنك على الحقّ. وفي رواية عند ابن قتيبة: إنه كان ابن سبعة أشهر.
وروى الثعلبي عن الضحاك أن يحيى بن زكريا تكلم في المهد وذكر البغوي في تفسيره أن إبراهيم الخليل عليه السلام تكلم في المهد.
وفي سير الواقدي إن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في أوائل ما ولد. وقد تكلم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مبارك اليمامة كما سيأتي في المعجزات، فهذه عشرة، وتقدم نظمهم في أبواب المولد، وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في المعجزات. وإذا علم ذلك
فقوله صلى الله عليه وسلم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»
، قاله قبل أن يعلم الزيادة على ذلك.

التنبيه الثاني عشر:
ذكر في القصة نزوله صلى الله عليه وسلم عن البراق وصلاته بعدّة مواضع كما هو مذكور في القصة. وقال حذيفة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزايل ظهر البراق هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس» . قال الحافظ: «وهذا لم يسنده حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد» . قلت: ويدل على ذلك إنكاره ربط البراق والصلاة في بيت المقدس، مع ورود الأحاديث الصحيحة عن جماعة من الصحابة بوقوع ذلك كما سيأتي.

التنبيه الثالث عشر:
أنكر حذيفة رضي الله عنه ربط البراق، فروى الإمام أحمد والترمذي عنه أنه لما قيل له: ربط البراق قال: أخاف أن يفرّ منه وقد سخّره له عالم الغيب والشهادة؟ قال البيهقي والسهيلي: والمثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق في بيت المقدس معه زيادة علم على من نفى، فهو أولى بالقبول. قال الإمام النووي: وفي ربط البراق الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التّوكّل إذا كان الاعتماد على الله سبحانه وتعالى. وقال السهيلي: وفي هذا من الفقه التنبيه على الأخذ بالحزم مع صحّة التوكل وأن الإيمان بالقدر كما روي عن وهب بن منبه لا يمنع الحزم من توقّي المهالك، قال وهب: وجدته في سبعين كتابا من كتب الله القديمة، وهذا نحو من
قوله صلى الله عليه وسلم:
«اعقلها وتوكّل».

فإيمانه صلى الله عليه وسلم بأنه قد سخّر له كإيمانه بقدر الله تعالى وعلمه بأنه قد سبق في أم الكتاب ما سبق، ومع ذلك كان يتزود في أسفاره، ويعدّ السلاح في حروبه، حتى لقد ظاهر بين درعين في غزوة أحد وربطه للبراق من هذا الفن.

التنبيه الرابع عشر:
في بعض فضائل بيت المقدس وفيه فوائد: الأولى: في مبدأ خلقه: روى أبو بكر الواسطي عن علي رضي الله عنه قال: كانت الأرض ماء، فبعث الله تعالى ريحا فمسحت الماء مسحا، فظهرت على الأرض زبدة فقسّمها أربع قطع، خلق من قطعة مكة ومن أخرى المدينة ومن أخرى بيت المقدس ومن أخرى الكوفة. وتقدم حديث أبي ذر في الباب الأول من أبواب بعض فضائل بلده المنيف فراجعه.

وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سليمان عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل ربّه خلالا ثلاثا فأعطاه إياها: سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد يعني بيت المقدس خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه» .

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ونحن نرجو أن يكون الله تعالى قد أعطاه ذلك».

وروى ابن أبي شيبة والواسطي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «إن بيت المقدس لمقدّس في السموات السبع بمقداره في الأرض» وروى الواسطي عن عطاء الخراساني قال: «لما فرغ سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام من بناء بيت المقدس أنبت الله شجرتين عند باب الرحمة أحدهما تنبت الذهب والأخرى تنبت الفضّة، فكان كل يوم تنزع من كل واحدة مائة رطل ذهب وفضّة، ففرش المسجد، بلاطة ذهبا وبلاطة فضة.
فلما جاء بختنصر خرّبه واحتمل منه ثمانين عجلة ذهبا وفضة فطرحهما برومية» .
وروى الواسطي عن سعيد بن المسيّب رحمهما الله تعالى أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس فرّغ له عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل: خمسة آلاف بالليل وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل أو نهار إلا والله تعالى يعبد فيه.

وروى الواسطي عن كعب الأحبار إن سليمان بن داود عليهما السلام لما فرغ من بناء المسجد خرّ ساجدا شكرا لله وقال: «يا رب من دخله من خائف فأمّنه أو من داع فاستجب له أو مستغفر فاغفر له» ، فأوحى الله تعالى إليه: «إني قد أجبت لآل داود الدعاء» . قال: فذبح أربعة آلاف بقرة وسبعة آلاف شاة، وصنع طعاما كثيرا ودعا بني إسرائيل إليه.
والآثار في هذا كثيرة، وقد ذكر المؤرخون في عمارته وما فيه من الجواهر والمعادن واليواقيت في سمائه وأرضه وجدرانه ما تعجز عنه ملوك الدنيا. فلما دخل بختنصر خربه وأخذ تلك النفائس التي فيه، وذكر ذلك هنا ليس من غرضنا. الثانية: في بعض فضله، قال الله سبحانه وتعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [الإسراء: 1] وهذه الآية هي المعظّمة لقدره بإسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه قبل عروجه إلى السماء وإخبار الله تعالى بالبركة حوله. وتقدم الكلام على ذلك. وقال تعالى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 71] .
روى أبو المعالي المشرف بن المرجّى المقدسي في فضائله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «الجنّة تحن إلى بيت المقدس، وصخرة بيت المقدس من جنة الفردوس» .

وروى الواسطي عن مكحول قال: «من صلى في بيت المقدس ظهرا وعصرا ومغربا وعشاء، ثم صلّى الغداة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» .

وروى أيضا عن كعب قال: «في بيت المقدس، اليوم فيه كألف يوم وشهر فيه كألف شهر والسّنة فيه كألف سنة، ومن مات فيه كأنما مات في السماء» .

وروى الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في بيت المقدس لنعم المصلّى، وليوشكن ألا يكون للرجل مثل بسط فرشه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعا أو قال خير من الدنيا وما فيها» .

وروى الواسطي عن كعب قال: «إن الله ينظر إلى بيت المقدس كل يوم مرتين» . والآثار في فضله كثيرة.

الثالثة: في أسمائه الأول: المسجد الأقصى وتقدم الكلام عليه. الثاني: مسجد إيلياء بوزن كبرياء. وحكى البكري وغيره قصر ألفه، وحكى ابن يونس في شرح التعجيز. وابن الأثير في النهاية بتشديد الياء. وحكى صاحب المطالع وغيره حذف الياء الأولى وكسر الهمزة وسكون اللام والمدّ، قال محمد بن سهل الكاتب: معنى إيلياء بيت الله. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسند أبي يعلى: «الإيلا» بالألف واللام، قال النووي: وهو غريب.

الثالث والرابع: «بيت المقدس» بفتح الميم وإسكان القاف وكسر الدال مخفّفة، «والبيت المقدّس» بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة. قال الواحدي: «معناه المطهّر» ، قال: أبو علي المقدسي: «وأما بيت المقدس يعني بالتخفيف فلا يخلو إما أن يكون مصدرا أو مكانا، فإن كان مصدرا كان كقوله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [يونس: 4] ونحوه من المصادر، وإن كان مكانا فالمعنى بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة أو بيت مكان الطهارة، وتطهيره على معنى إخلائه من الأصنام وإبعاده منها» ، وقال الزّجّاج: «البيت المقدّس أي المكان المطهّر، وبيت المقدس أي المكان الذي يطهّر فيه من الذنوب، هذا ما ذكره الواحدي» ، وقال غيره: «البيت المقدّس وبيت المقدس لغتان الأولى على الصفة والثانية على إضافة الموصوف إلى صفته كصلاة الأولى ومسجد الجامع.
قال ابن سراقة: «ويقال الأرض المقدسة ثلاثة: فلسطين- بفاء مفتوحة فلام مفتوحة- والأردن- بهمزة مضمومة فراء ساكنة فدال مهملة مضمومة فنون، قال البكري: مشدّدة- ودمشق، وهو ما أدرك بصر إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين رفع على الجبل وقيل له: «ما أدرك بصرك فهو ميراث لك ولولدك من بعدك» .

الخامس: بيت القدس: بضم الدال وإسكانها بغير ميم، ذكره الحازمي في أسماء الأماكن ونقل عن ابن الأثير أيضا.
السادس: سلّم بتشديد اللام لكثرة سلام الملائكة فيه. قال ابن بريّ: وأصله «شلم» بالشين المعجمة لأن الشين المعجمة في العربية سين، فالسلام شلام واللسان لشان والإسلام أشم، وقال البكري في حرف الشين المعجمة: «شلّم» بفتح أوله وثانية وتشديده على وزن فعّل اسم لبيت المقدس. وقال الهمداني: «سلّم» : وقد تعرّبها العرب فنقول: شلم. وحكى ابن القطّاع: شلّام على وزن فعّال. وقال ابن الأثير: «شلّم» بالمعجمة وتشديد اللام اسم لبيت المقدس ويروى بالمهملة وكسر اللام سلم كأنّه عرّبه. ومعناه بالعبرانية: بيت السلام.

السابع: روي عن كعب الأحبار، أن الجنة في السماء السابعة بحيال بيت المقدس والصخرة، ولو وقع حجر منها لوقع على الصخرة ولذلك دعيت: أوري شلم، ودعيت الجنة:
دار السلام الثامن: أوري شلم، بضم الهمزة وسكون الواو وكسر الراء وسكون التحتية وفتح الشين المعجمة وكسر اللام المخففة، كذا قال أبو عبيدة معمر بن المثنى، والأكثرون بفتح الشين واللام. التاسع: كورة إليا،
العاشر: أوري شلم. الحادي عشر: بيت إيل، أي بيت الله.
الثاني عشر: «صهيون» : بصاد مهملة مكسورة فهاء ساكنة فمثناة تحتية فواو فنون، ذكره البكري. قال:
وهو بفتح الصاد اسم قبيلة.
الثالث عشر: «مصرث» بميم فصاد فراء فثاء مثلثة. الرابع عشر:«بابوش» : بموحدتين وآخره شين معجمة. الخامس عشر: «كورشيلاه» .
السادس عشر:«صلعون» : ذكر هذه الأسماء ابن خالويه.
السابع عشر: سليم.
الثامن عشر: «فسط مصر» بضم الفاء.
التاسع عشر: أرض المحشر والمنشر.
العشرون: المحفوظة. الحادي والعشرون: المفرّقة. الثاني والعشرون: مدينة الجنة.
الرابعة: في خصائصه: الأولى في مضاعفة الصلاة فيه: وقد اختلف الأحاديث في مقدارها: الأول: خمسمائة صلاة:
روى الإمام أحمد وابن ماجة والبزّار والقاسم الحافظ أبي القاسم بن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة » .
الثاني: ألف صلاة:
روى ابن ماجة عن ميمونة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة » .
قال النووي: لا بأس بإسناده، وقال الذهبي: حديث منكر. الثالث: خمسون ألف صلاة:
روى ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمّع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة» .
وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة » .
الرابع: مائتان وخمسون: روى الطبراني في معجمه عن أبي ذر رضي الله عنه، مرفوعاً: «صلاة في مسجدي أفضل من أربع فيه » ، يعني بيت المقدس، فدل على أن الصلاة في بيت المقدس بمائتين وخمسين صلاة.
الخامس: بعشرين ألف صلاة، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ولهذا مزيد بيان في أبواب فضائل المدينة الشريفة.
الثانية: استحباب شدّ المطيّ إليه لما رواه الشيخان: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى » .
الثالثة: استحباب ختم القرآن فيه: روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي مجلز بكسر الميم وحكي فتحها وإسكان الجيم وفتح اللام وبالزاي- واسمه لاحق بن حميد، قال:«كانوا يستحبون لمن أتى المساجد الثلاثة أن يختم بها القرآن قبل أن يخرج» .
الرابعة: استحباب المجاورة به: روى الحاكم عن ثور بن يزيد عن مكحول قال:«كان عبادة بن الصامت وشدّاد بن أوس رضي الله عنهما يسكنان بيت المقدس» . وقد سكنه عدّة من الصحابة رضي الله عنهم.

الخامسة: يستحبّ الصيام فيه فقد روي: «صوم في بيت المقدس براءة من النار» .
السادسة: استحباب الإحرام بالحج والعمرة منه:
روى أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أهلّ بحجّة أو عمرة من المسجد الأقصى غفر له ما تقدم من ذنبه وما » .
السابعة: يستحب لمن لم يقدر على زيارته أن يهدي له زيتا،
روى أبو داود وابن ماجة واللفظ له عن ميمونة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله: أفتنا في بيت المقدس.قال: «أرض المحشر والمنشر، ايتوه فصلّوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره» . قلت: يا رسول الله أرأيت إن لم أستطع أن أصل إليه؟ قال: «فتهدي إليه زيتا ليسرج فيه فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه» .
المحشر مفعل من الحشر وهو الجمع يعني يوم القيامة، فإذا فتحت الشين فهو المصدر، وأمّا الموضع فهو بالكسر. قال الجوهري: المحشر بالكسر موضع الحشر. انتهى.
وذكر صاحب مختصر العين أن المحشر بالكسر والفتح الموضع الذي يحشر إليه الناس والمنشر موضع النشور وهو قيام الموتى من قبورهم.
الثامنة: حكي عن بعض السلف أن السيئات تضاعف فيه، روي ذلك عن كعب الأحبار وأنه لما كان يأتي من حمص للصلاة فيه، فإذا صار منه قدر ميل اشتغل بالذّكر والتلاوة والعبادة حتى يخرج منه بقدر ميل أيضا ويقول: «السيئات تضاعف فيه» ، أي تزداد قبحا وفحشا لأن العاصي في زمان أو مكان شريف أشد جرأة وأقل خوفا من الله تعالى. وذكر أبو بكر الواسطي عن نافع قال: قال لي ابن عمر: «أخرج بنا من هذا المسجد فإن السيئات تضاعف فيه كما تضاعف الحسنات» .
التاسعة: أن الدّجّال لا يدخل بيت المقدس.
روى ابن أبي شيبة في المصنف عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الدّجّال فقال: «وإنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس وأنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس قال: فيهزمه الله وجنوده حتى إن جذم الحائط وأصل الشجرة ينادي: يا مؤمن: هذا كافر يستتر بي تعالى اقتله إلى آخره.
العاشرة: أن الصخرة في المسجد الأقصى كالحجر الأسود في المسجد الحرام.
روى أبو نعيم عن وهب بن منبه قال: «إن الله تعالى قال لصخرة بيت المقدس: لأضعنّ عليك عرشي ولأحشرنّ إليك خلقي وليأتينّك يومئذ داود راكبا، وروى أبو بكر الواسطي وابن عساكر عن يزيد بن جابر في قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق 41] ، قال:
«يقف إسرافيل على صخرة بيت المقدس فينفخ في الصور فيقول: «يا أيتها العظام النّخرة والجلود المتمزّقة والأشعار المتقطّعة إن الله يأمرك أن تجتمعي لفصل الخطاب» .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والواسطي عن قتادة في الآية قال: «كنا نتحدث أنه ينادى من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض» ، وحدثنا أن كعبا قال: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
الحادية عشرة: يكره استقبال بيت المقدس واستدباره بالبول والغائط ولا يحرم قاله في الروض.
الثانية عشرة: روي أنه من دفن في بيت المقدس وقي فتنة القبر وسؤال الملكين ومن دفن في زيتون الملّة [يعني بإيلياء] فكأنما دفن في السماء الدنيا.
وروى أبو نعيم في تاريخه عن أحمد بن جعفر بن سعيد قال حدثنا يحيى بن مطرّف حدثنا محمد بن بكر، حدثنا يوسف بن عطية، عن أبي سفيان، عن الضحاك بن عبد الرحمن ابن عرزب- بفتح المهملة وسكون الراء وفتح الزاي ثم موحّدة، وقد تبدل ميما- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات في بيت المقدس فكأنما مات في السماء».

الثالثة عشرة:
روى الخطيب في الموضّح عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من يدخل الجنة الأنبياء ثم مؤذنو البيت ثم مؤذنو بيت المقدس ثم مؤذنو مسجدي ثم سائر المؤذنين».
الرابعة عشرة: ليحذر من اليمين الفاجرة فيه وكذا في المسجد الحرام ومسجد المدينة فإن عقوبتها معجّلة. روي أن عمر بن عبد العزيز أمر بحمل عمّال سليمان بن عبد الملك إلى الصخرة ليحلفوا عندها فحلفوا إلا واحدا، فدى يمينه بألف دينار، فما مرّ الحول على واحد منهم بل ماتوا كلهم.
الخامسة عشرة:
روى ابن جرير عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم». قيل:فأين هم يا رسول الله؟ قال: «ببيت المقدس أو بأكناف بيت المقدس» .

وروى أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله لا يضرهم خذلان من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة».
السادسة عشرة: روى أبو المعالي المشرف بن المرجّى المقدسي قال: «من حجّ وصلّى في مسجد المدينة، ومسجد الأقصى في عام واحد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» .
وإذا ثبت ذلك فقول النووي: «إنه لا أصل لذلك» فيه نظر.
السابعة عشرة: ذكر الدارمي: «أنه لا يجوز الاجتهاد يمنة ولا يسرة بمحراب بيت المقدس» وألحقه بمسجد المدينة.
الثامنة عشرة: نصّ الصيدلاني والماوردي والروياني والبغوي والبندنيجي- بفتح الموحّدة وسكون النون الأولى وكسر الثانية ثم تحتية والجيم- والجويني في مختصره والغزالي في الخلاصة والخراساني في كافيه على استحباب صلاة العيد في مسجد بيت المقدس وأن فعلها فيه أولى من المصلّى.
التاسعة عشرة: قال ابن سراقة في كتاب الأعداد: «أكبر مساجد الإسلام واحد وهو بيت المقدس» . وقيل: «ما تمّ فيه صفّ واحدّ قط لا في عيد ولا في جمعة ولا غير ذلك» .
العشرون: يستحب لزائره زيارة الأماكن المشهورة بآثار الأنبياء لا سيما مواضع صلاة نبينا صلى الله عليه وسلم.
الحادية والعشرون: حشر الكعبة إلى بيت المقدس: روى الواسطي في فضائل بيت المقدس عن خالد بن معدان- بفتح الميم- قال: «لا تقوم الساعة حتى تزفّ الكعبة إلى الصخرة زفّ العروس، فيتعلّق بها جميع من حجّ واعتمر، فإذا رأتها الصخرة قالت: مرحبا بالزائرة والمزور إليها» . وروى أيضا عن كعب قال: «لا تقوم الساعة حتى يزفّ البيت الحرام إلى بيت المقدس فيتغادان إلى الجنّة، فيها أهلها، والعرض والحساب ببيت المقدس»
وروى ابن مردويه والأصفهاني في ترغيبه والديلمي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة زفّت الكعبة: البيت الحرام إلى قبري فتقول الكعبة:
السلام عليك يا محمد، فأقول: عليك يا بيت الله، ما صنع بك أمتي بعدي؟ فتقول: يا محمد من أتاني فأنا أكفيه وأكون له شفيعا، ومن لم يأتني فأنت تكفيه وتكون له شفيعا
».
وروى الجندي عن الزّهري نحوه.

سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد ( 3/ 98- 112)


_________________
اللهم صل على سيدنا محمد
باب الاستجابة
نبي التوبة و الإنابة
صاحب طيبة المستطابة
والرفعة المهابة
وعلى آله وسلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: قصة الإسراء والمعراج مجمعه
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء مارس 09, 2021 3:17 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس مارس 29, 2012 9:53 pm
مشاركات: 45857

بارك الله فيكم وكل عام وانتم ومن تحبون بخير


_________________
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: قصة الإسراء والمعراج مجمعه
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء مارس 09, 2021 4:46 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس إبريل 09, 2015 7:45 pm
مشاركات: 2368
حامد الديب كتب:

بارك الله فيكم وكل عام وانتم ومن تحبون بخير


وحضرتك طيب وبخير والأسرة الكريمة وجميع الأهل والأحباب
وبارك الله فيكم د/حامد الديب ...وجزيتم كل خير
وشرفني مروكم الكريم

_________________
اللهم صل على سيدنا محمد
باب الاستجابة
نبي التوبة و الإنابة
صاحب طيبة المستطابة
والرفعة المهابة
وعلى آله وسلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: قصة الإسراء والمعراج مجمعه
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء مارس 09, 2021 5:07 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس إبريل 09, 2015 7:45 pm
مشاركات: 2368

التنبيه الخامس عشر:
أنكر حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس تلك الليلة، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه. قال البيهقي وابن كثير: والمثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت الصلاة في بيت المقدس، وهم الجمهور من الصحابة معه زيادة علم على من نفى ذلك، فهو أولى بالقبول. والجواب عما استند إليه حذيفة رضي الله عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله كتب عليكم الفرض، وإن أريد التشريع فيلتزمه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس، فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شدّ الراحلة وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث.

التنبيه السادس عشر:
تظافرت الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بالأنبياء قبل العروج وهو أحد الاحتمالين للقاضي، وقال الحافظ: «إنه الأظهر» ، والاحتمال الثاني «أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم بعد أن هبط من السماء أيضا فهبطوا. وصححه الحافظ ابن كثير، وقال صاحب السراج: «وما المانع من أنه صلّى الله عليه وسلم صلى بهم مرتين، فإن في بعض الأحاديث ذكر الصلاة بهم بعد ذكره المعراج» .

التنبيه السابع عشر:

قيل: كيف يصلي الأنبياء وهم أموات في الدار الآخرة وليست دار عمل؟ وأجاب القاضي وتبعه السبكي بجوابين: الأول: إنا نقول: إنهم كالشهداء بل أفضل، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يبعد أن يحجّوا وأن يصلّوا كما ورد في الحديث الآخر، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا لأنهم وإن كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدّتها، وتعقبها الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل، وحاصله أن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور. الثاني ولفظه للسبكي رحمه الله تعالى: «إنا نقول إن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف على سبيل التلذذ بها والخضوع لله تعالى. ولهذا ورد أنهم يسبّحون ويدعون ويقرأون القرآن وانظر إلى سجود النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشفاعة، أليس ذلك عبادة وعملا؟
وعلى كلا الجوابين لا يمتنع حصول هذه الأعمال في مدة البرزخ» .
وقد صح عن ثابت البناني التابعي أنه قال: «اللهم إن كنت أعطيت أحدا أن يصلي في قبره فأعطني ذلك» . فرؤي بعد موته يصلي في قبره، ويكفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لموسى قائما يصلي في قبره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء لم يقبضوا حتى خيّروا بين البقاء في الدنيا وبين الآخرة فاختاروا الآخرة. ولا شك أنهم لو بقوا في الدنيا لازدادوا من الأعمال الصالحة ثم انتقلوا إلى الجنة، فلو لم يعلموا أن انتقالهم إلى الله تعالى أفضل لما اختاروه، ولو كان انتقالهم من هذه الدار يفوت عليهم زيادة فيما يقرب إلى الله تعالى لما اختاروه. انتهى ولهذا مزيد بيان يأتي في باب حياته في قبره صلى الله عليه وسلم.

التنبيه الثامن عشر:
هذه الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الصواب أنّها الصلاة المعروفة لأن النص يحمل على حقيقتها الشرعية قبل اللغوية إلا إذا تعذّر حمله على الشرعية، ولم يتعذّر هنا فوجب حمله على الشرعية. وعلى هذا قال بعضهم: «كانت الصلاة التي صلاها العشاء» وقال بعضهم: «إنها الصبح» .
قلت: وليسا بشيء سواء قلنا صلّى بهم قبل العروج أو بعده لأن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس مطلقا الظّهر بمكة باتفاق، ومن حمل الأولية على مكة فعليه الدليل، والذي يظهره والله تعالى أعلم أنها كانت من النّفل أو كانت من الصلاة المفروضة عليه قبل ليلة الإسراء، وفي فتاوى النووي ما يؤيد الثاني.

التنبيه التاسع عشر:

قال بعضهم: ورؤيته إياهم صلى الله عليه وسلم في السماء محمولة على رؤيته أرواحهم إلا عيسى، لما صحّ أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضا ذلك. وأما الذين صلّوا معه في بيت المقدس فيحتمل الأرواح خاصة، ويؤيده ما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عند الحاكم والبيهقي، «فلقي أرواح الأنبياء» ، وفيه دليل على تشكّل الأرواح بصور أجسادها في علم الله تعالى، ويحتمل الأرواح بالأجساد ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عن أنس رضي الله عنه عند البيهقي. وبعث الله له آدم فمن دونه من الأنبياء. وعند البزار والطبراني: «فنشر لي الأنبياء، من سمّى الله تعالى ومن لم يسمّ، فصلّيت بهم» .

التنبيه العشرون:
قول سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم: «وأعطاني ملكا عظيما» : قال ابن دحية: لا يعهد لإبراهيم ملك عرفي، فإما أن يراد بالملك الإضافة إليه نفسه وذلك لقهره لعظماء الملوك، وناهيك بالنمرود، وقد قهره الله تعالى لخليله وأعجزه عنه، وغاية الملك العظيم قهر الملك العظيم، فالقاهر أعظم من المقهور قطعا. ويحتمل أن يراد الإضافة إلى نبيّه وذريّته وذلك نحو ملك يوسف الصّدّيق صلى الله عليه وسلم وهلم جرّا كملك داود وسليمان والكل من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفي التنزيل: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً
[النساء: 54] والإشارة هنا إلى ذرّيته. وإما أن يراد ملك النفس في مظنّة الاضطراب مثل ملكه لنفسه. وقد سأله جبريل فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.

التنبيه الحادي والعشرون:

اختلف في تقديم الآنية هل هو قبل العروج أو بعده؟
واختلف في عددها فأكثر الروايات أنه كان قبله. روى أحمد والشيخان والنسائي والترمذي من حديث أنس عن مالك بن صعصعة رضي الله تعالى عنه: «ثم رفع إلى البيت المعمور» ، إلى أن قال: «ثم أتيت بإناءين: أحدهما خمر والآخر لبن» ، وعند البخاري في الأشربة من طريق شعبة عن قتادة عن أنس مرفوعا: «رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا فيها أربعة أنهار» قال: «وأتيت بثلاثة أقداح». لم يذكر شعبة في الإسناد مالك بن صعصعة. وعند ابن عائذ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في حديث المعراج بعد ذكر رؤيته إبراهيم في السماء السابعة: «ثم انطلقنا فإذا نحن بثلاثة آنية مغطّاة» .
قال السهيلي وابن دحية وابن المنير وابن كثير والحافظ: «لعلّه قدّم مرّتين جمعا بين الروايات» . قال ابن كثير والحافظ: «وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر، ومجموعها أربعة آنية فيها تعرض الآنية مرّتين وأربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي تخرج من أصل سدرة المنتهى» .

التنبيه الثاني والعشرون:
إذا قلنا بعرض الآنية مرتين ففائدة عرض الخمر [مع] إعراضه عنها في المرة الأولى وتصويب جبريل له، تكثير التصويب والتحذير. وهل كانت الخمر من خمر الجنّة أو من جنس خمر الدنيا؟ فإن كان الأول فسبب تجنّبها صورتها ومضاهاتها للخمر المحرّمة، ويكون ذلك أبلغ في الورع. وإن كان الثاني فاجتنابها واضح.
وعلى التقدير الأول يستفاد منه فائدة: وهو أن من وضع من الماء ونحوه من الأشربة ما يضاهي الخمر في الصورة وهيّأه بالهيئة التي يتعاطاها [بها] أهل الشهوات من الاجتماعات والآلات فقد أتى منكرا وإن كان لا يحدّ. وذكر أصحابنا أن إدارة كأس الماء على شاربه تشبّها بشارب الخمر حرام، ويعزّر فاعله.

التنبيه الثالث والعشرون:

قال ابن دحية: اعلم أن التّخيير قد يكون بين واجبين كخصال الكفّارة وقد يكون بين مباحين، وأما التّخيير بين واجب وممنوع أو مباح وممنوع فمستحيل، فانظر في إحضار اللبن والخمر، هل أريد به الإباحة لهما والإذن فيهما؟ كما لو أحضرت طعامين لضيف وأبحتهما له، فما معنى إختياره لأحدهما؟ وما معنى قول جبريل:
«اخترت الفطرة» أو «أصبت، أصاب الله بك» ؟ وإن كان المراد الإذن في أحدهما لا بعينه، بحيث يكون الآخر ممنوعا لزم التّحيير بين ممنوع ومباح، وذلك لا يتصوّر، والذي يرفع الإشكال إن شاء الله تعالى أن يكون المراد تفويض الأمر في تحريم ما يحرّم منها وتحليل ما يحلّ إلى اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وسداد نظره المعصوم. فلما نظر فيها أدّاه اجتهاده إلى تحريم الخمر وتحليل اللبن، فوافق الصواب في علم الله تعالى، فقال له جبريل: «أصبت» ، وعلى تقدير ألا تكون الخمر محرّمة لأنها إنما حرّمت بالمدينة فيكون توقّيها ورعا وتعريضا بأنها ستحرّم.

التنبيه الرابع والعشرون:
قال أبو الخطاب الكلبي: «الفطرة تطلق على الإسلام وتطلق على أصل الخلقة، فمن الأول
قوله صلّى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة».
ومن الثاني قوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] ، وقال تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 1] ، أي مبدئ خلقهما، وقول جبريل: «اخترت الفطرة» أي اخترت اللبن الذي عليه بنيت الخلقة وبه ينبت اللحم، أو اخترته لأنه الحلال الدائم في دين الإسلام، وأما الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر، وقد تكون الإشارة بتقديم اللبن إلى أن شعار العلم في التعبير،
كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال: «رأيت كأني أتيت بقدح من لبن فشربت حتى أرى الرّيّ يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر بن الخطاب» ، قالوا: يا رسول الله ما أوّلته؟
قال: «العلم»
.
والإسراء وإن كان يقظة إلا ربما وقعت في اليقظة إشارة إلى حكم الفأل يعبّر كما يعبر في المنام. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، فكأنه لما ملئ قلبه إيمانا وحكمة أردف ذلك بالعلم مطلقا، ويجعل الله تعالى ذلك اللبن سببا في ترادف العلم وأشجان القلب النبوي بأنوارها. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون تسمية اللبن فطرة لكونه أوّل شيء يدخل بطن المولود ويشقّ أمعاءه، والسّرّ في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره لكونه مألوفا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، وافهم قول جبريل «أصبت» ، فإن اختيار الخمر خطأ عصم منه النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت المسألة حينئذ اجتهادية لأن الخمر لم تكن حرّمت بعد، فقد وقع تخييره في ملك الله الأعظم.

التنبيه الخامس والعشرون:
ظاهر قوله: «ثم أتي بالمعراج» أن العروج كان لا على البراق وفي ذلك خلاف، فظاهر حديث مالك بن صعصعة أنه استمر على البراق حتى عرج به إلى السماء، وهو مقتضى كلام ابن أبي جمرة وابن دحية. قال الحافظ: «لكن في غير هذه الرواية من الأخبار أن العروج لم يكن على البراق بل رقي في المعراج وهو السّلّم، ويؤيده قوله في حديث ثابت عن أنس كما في صحيح مسلم: «ثم أتيت بالمعراج» .
وقال الحافظ ابن كثير: «إنه لمّا فرغ صلى الله عليه وسلم من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السّلّم، فصعد فيه إلى السماء، ولم يكن الصعود على البراق كما قد توهّمه بعض الناس، بل كان البراق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة» .
وقال الشيخ رحمه الله تعالى: «إنه الصحيح الذي تقرّر من الأحاديث الصحيحة» .

التنبيه السادس والعشرون:
نوّع ابن دحية المعراج إلى عشرة أنواع على عدد سني الهجرة، منها سبعة معاريج إلى السموات السبع، والمعراج الثامن إلى سدرة المنتهى والمعراج التاسع الذي سمع فيه صريف الأقلام في تصريف الأقدار، والمعراج العاشر إلى العرش والرّفرف والرؤية وسيأتي ما أبداه من الحكم في ذلك.

التنبيه السابع والعشرون:
ورد أن بين الدرجة والدرجة في الجنّة خمسمائة عام وأن الدرجة تهبط كالإبل ليصعد عليها ولي الله تعالى ثم ترفع به إلى مكانها والظاهر أن درج المعراج كذلك.

التنبيه الثامن والعشرون:
لا يتوهّم بما تسمعه في قصة المعراج من الصعود والهبوط أن بين العبد وربّه مسافة، فإن ذلك كفر، نعوذ بالله من ذلك، وإنما هذا الصعود والهبوط بالنسبة إلى العبد لا إلى الرّبّ، والنبي صلى الله عليه وسلم مع انتهائه ليلتئذ إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى، لم يجاوز مقام العبودية، وكان هو ونبيّ الله يونس بن متّى صلى الله عليه وسلم إذا التقمه الحوت وذهب به إلى البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر، في مباينة الله تعالى خلقه وعدم الجهة والتحيز والحدّ والإحاطة سواء. وقد ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة ذكره الإمام البغوي وغيره.
وإذا علمت ذلك فالمارد بترقّيه صلى الله عليه وسلم وقطع هذه المسافات إظهار مكانته عند أهل السموات وأنه أفضل المخلوقات. ويقوّي هذا المراد بكونه أركبه البراق ونصب له المعراج وجعله إماما للنبيين والملائكة، مع أنه تعالى قادر على أن يرفعه بدون البراق والمعراج.
ويقال لأصحاب الجهة: إنما منعكم من اعتقاد الحق استبعادكم موجودا إلا في جهة، فأحلتم ذلك. فأخبرونا عن العرش والفوق هل ذلك قديم؟ أو محدث؟ فإن قالوا قديما جاهروا بقدم العالم وأدّى ذلك إلى محالين: أحدهما أن يكون مع الباري تعالى في الأزل غيره، والقديمان ليس أحدهما بأن يكون مكانا للثاني بأولى من الآخر. ثانيهما أن الجهة والمكان إما أن يكونا جسمين، وهذا يؤدّي إلى جواز وجود الأجساد كلها، وهو قول من قال بقدم العالم، نعوذ بالله من ذلك. وإن قالوا: محدث، قل فقد صدقتم بأن الرّبّ تعالى كان موجودا أولا ولا جهة، والمستحيل [لا] ينقلب جائزا أو واجبا لأن الحادث لا يحتاج إليه القديم، فإنه قبل كونه كان مستغنيا عنه، وهو على استغنائه عنه لم يزل وكذلك لا يزال، ومحال أن يكون خالق الكل مفتقرا إلى بعض مخلوقاته. وما ورد من الاستواء والنزول وغير ذلك من الصفات التي يشكل إجراؤها على ظاهرها، نؤمن به ونكل علم معناه إلى الله تعالى، ولا نشبهه تعالى بخلقه ولا ننفي الصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التنبيه التاسع والعشرون:

نقل ابن دحية عن ابن حبيب، والحافظ عن ابن المنير عن ابن حبيب وأقرّه: أن بين السماء والأرض بحرا يسمى المكفوف تكون بحار الدنيا بالنسبة إليه كالقطرة من المحيط، فعلى هذا يكون ذلك البحر انفلق لنبينا صلّى الله عليه وسلم فهو أعظم من انفلاق البحر لموسى عليه الصلاة والسلام.

التنبيه الثلاثون:
في قدر ما بين السماء والأرض:
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وابن خزيمة في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتدرون كم بين السماء والأرض» ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر من أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش وبين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض ثم الله تعالى فوق ذلك.
وروى إسحق بن راهويه والبزار بسند صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين السماء والأرض خمسمائة عام وغلظ كل سماء خمسمائة عام كذلك إلى السماء السابعة، والأرضون مثل ذلك. وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك».
وروى ابن جرير وابن المنير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم قالوا:
إن الله عز وجل كان عرشه على الماء لم يخلق شيئا غير ما خلق، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسمّاه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين: الأحد والاثنين، فخلق الأرض على الحوت، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة على الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرّك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرّت وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين: الثلاثاء والأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، والدّخان من تنفّس الماء حين تنفّس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين: الخميس والجمعة وإنما سمّي الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض وأوحى في كل سماء أمرها أي خلق خلقها من الملائكة والخلق الذي فيهما من البحار والجبال والبرد وما لا يعلم، ثم زيّن السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا من الشياطين.
وروى ابن أبي حاتم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: «إن الله تعالى علي عرشه وعرشه على سمواته، وسمواته على أرضه هكذا» ، وقال بإصبعه: «مثل القبّة» وروى ابن حاتم عن القاسم بن أبي بزّة- بالزاي المعجمة- قال: «ليس السماء مربّعة ولكنها مقبوّة يراها الناس خضراء» وروى ابن راهويه والطبراني في الأوسط، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: «السماء الدنيا موج مكفوف والسماء الثانية زمرّدة بيضاء والثالثة حديد والرابعة نحاس والخامسة فضّة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء» ، زاد ابن أبي حاتم: «وما فوق ذلك صحاري من نور، ولا يعلم ما فوق ذلك إلا الله تعالى وملك هو موكّل بالحجب يقال له ميطاطروس» . وروى أبو الشيخ وابن أبي حاتم عن كعب قال: «السماء أشدّ بياضا من اللبن واخضرّت من خضرة جبل قاف» .

شرح الغريب
«الموج» - بميم فواو فجيم- ما ارتفع من فوران الماء. «المكفوف» - بميم فكاف بفاءين بينهما واو- المحبوس.

التنبيه الحادي والثلاثون:
استفتاح جبريل باب السماء يحتمل أن يكون بقرع أو صوت. قال الحافظ: «والأشبه الأول لأنه صوت معروف» . قلت: في حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه: «فقرع الباب» . قال ابن دحية: وفي استفتاح جبريل لأبواب السماء دليل على أنه صادف أبوابها مغلقة، وإنما لم تهيّأ للنبي صلى الله عليه وسلم بالفتح قبل مجيئه، وإن كان أبلغ في الإكرام، لأنه لو رآها مفتّحة لظنّ أنها لا تزال كذلك، ففعل ذلك ليعلم أن ذلك فعل من أجله، وأن الله تعالى أراد أن يطلعه على كونه معروفا عند أهل السموات، وقول أمين الوحي لما قبل له: من هذا؟ «جبريل» : سمّى نفسه لئلا يلتبس بغيره ولا يحتاج إلى موقف للمراجعة في المرّة، فإنه معهود عندهم نزوله وصعوده ولذلك قدّم اسمه لأنه الرسول بإحضار النبي صلى الله عليه وسلم.
واستنبط ابن دحية وتبعه ابن المنير من قول الملك: «مرحبا» إلى آخره، جواز ردّ السلام بغير لفظه. وتعقّبا بأن قول الملك: مرحبا، ليس ردّ السلام، فإنه كان قبل أن يفتح الباب، والسياق يرشد إليه. وقد نبه على ذلك ابن أبي جمرة. ووقع في رواية إن جبريل قال له عند كل نبيّ: «سلّم عليه» ، فردّ عليه السلام.

التنبيه الثاني والثلاثون:
ينبغي للمستأذن إذا قيل له هذا أن يسمّي نفسه فيقول: محمد الشامي مثلا، ولا يقتصر على قوله: محمد، مثلا، لأن المسمّى بمحمد كثير، فيشتبه عليه، ولا يقول: «أنا» فإن جبريل ههنا لم يقل: «أنا» ، بل سمّى نفسه، ولم يرد أن أحدا من الملائكة سمّى جبريل غير أمين الله تعالى على وحيه.
وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الذي استأذن عليه فقال:
«من هذا؟» فجعل يقول: «أنا» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا إنكارا لذلك
. وكرهت هذه اللفظة لوجهين: أحدهما أن فيها إشعارا بالعظمة. وفي الكلام السائر أول من قال: أنا إبليس فشقي حيث قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، [الأعراف: 12] ، وتعس فرعون حيث قال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النزعات: 24] والثاني أنها مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهي غير كافية في البيان، والضمير إذا عاد وتعيّن مضمرة كان أعرف المعارف، والمستأذن محجوب عن المستأذن عليه غير متعيّن عنده فكأنه أحاله على جهالة.

التنبيه الثالث والثلاثون:

قول الخازن: «وقد بعث إليه؟» أراد الاستفهام فحذف الهمزة للعلم بها أي: «أو قد بعث إليه؟» قال العلماء: ليس هذا الاستفهام عن البعث الذي هو الرسالة لأنه كان مشهورا في الملكوت الأعلى، بل البعث للمعراج، وقيل: بل سألوا تعجبا من نعمة الله تعالى بذلك أو استبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقّى هذا الترقي إلا بإذن الله تعالى وأن جبريل لا يصعد بمن لا يرسل إليه. وقول الخازن: «من معك؟» يشعر أنّهم أحسّوا معه برفيق وإلا لكان السؤال: «أمعك أحد؟» وذلك الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفّافة، وإما لأمر معنوي بزيادة أنوار، ولزم من البعث إليه صلى الله عليه وسلم الإذن في إزالة الموانع وفتح أبواب السماء. ولم يتوقّف الخازن على أن يوحى إليه بالفتح، لأنه لزم عنده من البعث الإذن، وفي قول الخازن: «مرحبا به» إلى آخره ما يدل على أن الحاشية إذا فهموا من سيدهم عزما لإكرام وافد أن يبشّروه بذلك وإن لم يأذن لهم فيه، ولا يكون في ذلك إفشاء للّسّر، لأن الخازن أعلم النبي صلى الله عليه وسلم حال استدعائه أنه استدعاء إكرام وإعظام، فعجّل بالبشرى والفراسة الصادقة عند أهلها وفي محلها يحصل [بها] العلم كما يحصله الوحي، ولم يخاطبه الخازن بصيغة الخطاب فيقول: «مرحبا بك» وإنما أراد التحية بصيغة الغيبة، والسر في ذلك أنه حيّاه قبل أن يفتح الباب وقبل أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم خطاب، ولهذا قال الملك لجبريل: «ومن معك؟» فخاطبه بصيغة الخطاب، لأن جبريل خاطب الملك، فارتفع حكم الغيبة بالتخاطب من الجانبين، ويجوز أن يكون حيّاه بغير صيغة الخطاب تعظيما له لأن هاء الغيبة ربما كانت أفخم من كاف الخطاب.

التنبيه الرابع والثلاثون:
قول جبريل حين سئل: «من معه» فقال: «محمد» ، دليل على أن الاسم أرفع من الكنية لأنه أخبر باسمه ولم يخبر بكنيته، وهو عليه الصلاة والسلام مشهور في العالمين العلوي والسفلي، فلو كانت الكنية أشرف من الاسم لأخبر بها.

التنبيه الخامس والثلاثون:

قال ابن أبي جمرة: «استفهام الملائكة» : «وقد أرسل إليه؟» دليل على أن أهل العالم العلوي يعرفون رسالته ومكانته لأنهم سألوا عن وقتها: هل جاء؟ لا عنها، ولذلك أجابوا بقولهم: «مرحبا ونعم المجيء جاء» وكلامهم بهذه الصيغة أدلّ دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالة مكانته وتحقيق رسالته لأن هذا أجلّ ما يكون من حسن الخطاب، والترفيع على المعروف من عادة العرب. وقد قال العلماء في معنى قوله تعالى:
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] إنه رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت فإذا هو عروس المملكة» .

التنبيه السادس والثلاثون:
وقع في رواية أنس ومن رواية أبي ذر رضي الله عنهما:
«قلت لجبريل: من هذا؟ قال: أبوك آدم» . وظاهره أنه سأل عنه بعد أن قال له آدم: «مرحبا» .
ورواية مالك بن صعصعة بعكس ذلك، وهي المعتمدة، فتحمل هذه عليها، وليس في رواية أبي ذرّ ترتيب. وفي قول آدم: «مرحبا بالابن الصالح» ، إشارة إلى افتخاره بأبوّته للنبي صلى الله عليه وسلم.
وظاهر قوله في رواية آدم: «تعرض عليه أرواح ذرّيته» إلى آخره أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء. قال القاضي: «وهو مشكل، فقد جاء أن أرواح المؤمنين منعّمة في الجنة وأن أرواح الكفّار في سجّين، فكيف تكون مجتمعة في السماء؟ وأجاب بأنه يحتمل أنها تعرض أوقاتا فصادف وقت عرضها مرور النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على أن كونهم في النار في أوقات دون أوقات قوله تعالى: النَّارُ، يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، [غافر: 46] واعترض بأن أرواح الكفار لا تفتح لهم أبواب السماء كما هو نص القرآن» ، والجواب ما أبداه القاضي احتمالا أن الجنة كانت في جهة يمين آدم والنار كانت في جهة شماله وكان يكشف له عنهما.
وقال الحافظ: «ويحتمل أن النّسم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بعد وهي مخلوقة قبل الأجساد ومستقرها عن يمين آدم وشماله، وقد أعلم بما سيصيرون إليه فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من على يمينه ويحزن إذا نظر إلى من على يساره، بخلاف التي في الأجساد فليست مرادة قطعا وبخلاف التي نقلت من الأجساد إلى مستقرها من الجنة أو النار فليست مرادة أيضا فيما يظهر، وبهذا يندفع الإيراد، ويعرف أن قوله: «نسم بنيه» عام مخصوص أو أريد به الخصوص» . انتهى.
وقال في الفتح في باب المعراج: «وظهر لي الآن احتمال آخر وهو أن يكون المراد من «خرجت من الأجساد لا أنها مستقرة ولا يلزم من رؤية آدم لها وهو في السماء الدنيا أن تفتح لها أبواب السماء ولا أن تلجها، ويؤيد هذا ما رواه ابن إسحاق: فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيّبة ونفس طيّبة اجعلوها في عليّين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجّار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجّين. وفي حديث أبي هريرة: فإذا عن يمينه باب بخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، فهذا لو صحّ لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم ولكن سنده ضعيف وظاهرها عدم اللزوم المتقدم» انتهى.
وقال السهيلي: «فإن قيل كيف رأى عن يمينه أصحاب اليمين؟ ولم يكن إذا ذاك منهم إلا نفر قليل، ولعله لم يكن مات تلك الليلة منهم أحد، وظاهر الحديث يقتضي أنهم كانوا جماعة، والجواب أن يقال: إن كان الإسراء رؤيا بقلبه فتأويلها أن ذلك سيكون وإن كانت رؤيا عين فمعناها أن أرواح المؤمنين رآها هنالك لأن الله يتوفّى الخلق في منامهم كما قال في التنزيل اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 42] «فصعد بالأرواح إلى هنالك ثم أعيدت إلى أجسادها» .
وقال ابن دحية: «فإن قيل: كيف تكون نسم السّعداء كلهم في السماء، وقد كان حين الإسراء جماعة من الصحابة رضي الله عنهم في الأرض وهم من السعداء؟ فالجواب: أن آدم إنما رآهم في مواضعهم ومقارّهم في الأرض، ولكنه يراهم من الجانب الأيمن فالتقييد للنظر لا للمنظور» .
وفي قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: «هذا أبوك آدم فسلّم عليه» ما يقتضي أن القادم يبدأ بالسلام على المقيم.

التنبيه السابع والثلاثون:
وقع في رواية شريك: «فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطّردان- أي يجريان- النيل والفرات، ويجمع منصرفهما» - أي أصلهما. وظاهر هذا يخالف حديث مالك بن صعصعة فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى: «فإذا أصلها أربعة» ، فذكر منها النيل والفرات، ويجمع بينهما بأن أصل منبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما في السماء الدنيا ومنها ينزلان إلى الأرض.

التنبيه الثامن والثلاثون:
وقع في رواية شريك أيضا: «ثم مضى النبي صلى الله عليه وسلم في السماء الدنيا فإذا هو بنهر آخر عليه قصور من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فيه فإذا طينه مسك أذفر فقال:
يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا الكوثر الذي خبّأ لك ربّك،
وهذا مما استشكل في رواية شريك، فإن الكوثر في الجنة وإن الجنة في السماء السابعة.
وقد روى الإمام أحمد عن طريق حميد الطويل عن أنس، رفعه: «دخلت الجنة فإذا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي في مجرى مائه فإذا هو مشك أذفر» . فقال جبريل: «هذا الكوثر الذي أعطاك الله تعالى» .
وأصل هذا الحديث عند البخاري بنحوه، وأخرجه في التفسير عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، ولكن ليس فيه ذكر الجنة. ورواه أبو داود من طريق سليمان التيمي عن قتادة ولفظه: «لما عرج بنبي صلى الله عليه وسلم عرض له في الجنة نهر» ، قال الحافظ: ويمكن أن يكون في هذا الموضوع شيء تقديره: ثم مضى به في السماء الدنيا إلى السماء [السابعة] فإذا هو بنهر، قال تلميذه الحافظ قطب الدين الخيضري في الخصائص: «وهذا بعيد إذ بينه وبين السماء السابعة خمس سماوات أخرى وكل منها له صفة خلاف صفة الأخرى ولها أبواب وخدّام غير الأخرى، فإطلاق المسير إليها وذكرها بعد السادسة مما يبعده أيضا، ولكن يقال من غير استبعاد: إن أصل النهر- الذي هو الكوثر- في الجنة، وجعل الله تعالى منه فرعا في السماء الدنيا عجّل لنبيه صلى الله عليه وسلم رؤيته استبشارا لأنها أول المراتب العلوية، ويؤيد هذا قول جبريل: «خبّأ لك ربّك» . انتهى.

التنبيه التاسع والثلاثون:
في قول آدم: «مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح» ، ثناء جميل جليل للنبي صلى الله عليه وسلم، ووصفه بالصلاح مكررا مع النبوة، أي صالح مع النبيين جميعا، وفيه تنويه بفضيلة الصلاح وعلو درجته، ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم: وصلاح الأنبياء صلاح خاصّ لا يتناول عموم الصالحين. واحتج على ذلك بأنه قد تمنّى كثير من الأنبياء أن يلحق بالصالحين، ولا يتمنّى الأعلى أن يلحق بالأدنى، ولا خلاف في أن النبوة أعلى من صلاح الصالحين من الأمم. وبهذا تحقق أن الصلاح المضاف إلى الأنبياء غير الصلاح المضاف إلى الأمم، فصلاح الأنبياء صلاح كامل لأنه يزول بهم كل فساد، فلهم كل صلاح ومن دونهم الأمثل فالأمثل، فكل واحد يستحق اسم الصلاح على قدر ما زال به أو منه من الفساد، واقتصر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم على وصفه صلى الله عليه وسلم بالصلاح وتواردوا على ذلك لأن الصلاح يشمل خصال الخير، ولذلك كررها كل منهم عند وصفه.
والصالح هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فمن ثمّ كانت كلمة جامعة مانعة شاملة لسائر الخصال المحمودة، ولم يقل له أحد: مرحبا بالنبي الصادق ولا بالنبي الأمين لما ذكرنا من أن الصلاح شامل لسائر أنواع الخير.

التنبيه الأربعون:
إنما رأى أكلة الربا منتفخة بطونهم لأن العقوبة مشاكلة للذنب، فآكل الربا يربو بطنه كما أراد أن يربو ماله بأكل ما حرّم عليه فمحقت البركة من ماله وجعلت نفخا في بطنه حتى يقوم كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ. وإنما جعلوا بطريق آل فرعون يمرّون عليهم غدوّا وعشيّا، لأن آل فرعون هم أشدّ الناس عذابا فضلا عن غيرهم من الكفّار، وهم لا يستطيعون القيام. ومعنى كونهم في طريق جهنّم بحيث يمرّ بالكفار عليهم أن الله سبحانه وتعالى قد أوقف أمرهم بين أن ينتهوا فيكون خيرا لهم وبين أن يعودوا ويصرّوا فيدخلهم النار، وهذه صفة من هو في طريق النار، قال الله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 275] وفي بعض الأحاديث أنه رأى بطونهم كالبيوت يعني أكلة الربا، وفيها حيّات ترى من خارج البطون.

سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد(3/ 112-123)


_________________
اللهم صل على سيدنا محمد
باب الاستجابة
نبي التوبة و الإنابة
صاحب طيبة المستطابة
والرفعة المهابة
وعلى آله وسلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: قصة الإسراء والمعراج مجمعه
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء مارس 10, 2021 5:02 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس إبريل 09, 2015 7:45 pm
مشاركات: 2368

التنبيه الحادي والأربعون:
فإن قيل: هذه الأحوال التي ذكرها عن أكلة الربا، إن كانت عبارة عن حالهم في الآخرة، فآل فرعون قد أدخلوا أشدّ العذاب وإنما يعرضون على النار غدوّا وعشيّا في البرزخ، وإن كانت الحال التي رآهم عليها فأيّ بطون لهم وقد صاروا عظاما ورفاتا ومزّقوا كل ممزّق؟ فالجواب أنه إنما رآهم في البرزخ، وهذه الحال هي حال أرواحهم بعد الموت. وفيها تصحيح لمن قال: الأرواح أجساد لطيفة قابلة للنعيم والعذاب، فخلق الله تعالى في تلك الأرواح من الآلام ما يجده من انتفخ بطنه حتى وطئ بالأقدام ولا يستطيع معه قياما. وليس في هذا دليل على أنهم أشدّ عذاباً من آل فرعون، ولكن فيه دليل على أنه يطؤهم ال فرعون وغيرهم من الكفار الذين لم يأكلوا الربا، ما داموا في البرزخ إلى أن يقوموا يوم القيامة كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، ثم ينادي منادي الله تعالى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] . وكذلك ما رأى من النساء المعلّقات بثديّهن يجوز أن يكون رأى أرواحهنّ وقد خلق من الآلام ما يجده من هذه حاله، ويحتمل أيضا أن يكون مثلت له حالهنّ في الآخرة.

التنبيه الثاني والأربعون:
ذكره لإدريس في السماء الرابعة مع قوله تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] ، مع أنه قد رأى موسى وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهما في مكان أعلى من مكان إدريس، فذلك- والله تعالى أعلم- لما ذكر عن كعب الأحبار أن إدريس خصّ من بين جميع الأنبياء بأنه رفع قبل وفاته إلى السماء الرابعة، رفعه ملك كان صديقا له وهو الملك الموكّل بالشمس. وكان إدريس سأله أن يريه الجنة فأذن له الله في ذلك، فلما كان في السماء الرابعة رآه هنالك ملك الموت فعجب وقال: أمرت أن أقبض روح إدريس الساعة في السماء الرابعة فقبضه هنالك، فرفعه حيّا إلى ذلك المكان العليّ الذي خص به دون سائر الأنبياء، قاله السهيلي.
وتقدم الكلام في النسب النبوي على قوله: «مرحبا بالأخ الصالح» .

التنبيه الثالث والأربعون:

قال العلماء: «لم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاهم الله تعالى، بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتّب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم والمستلزمة لتنقيص أجره، لأن لكل نبيّ أجر من تبعه، ولهذا كان من اتّبعه في العدد دون من اتّبع نبيا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة.
وقال ابن أبي جمرة: «قد جعل الله تعالى في قلوب أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الرحمة والرأفة لأمتهم، وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم، فسئل عن بكائه فقال: «هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» . والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أخذوا من رحمة الله تعالى أوفر نصيب، فكانت الرحمة في قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم. فلأجل ما كان لموسى عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته لأن هذا وقت إفضال وجود وكرم.
فرجا لعله يكون وقت القبول والإفضال فيرحم الله تعالى أمته ببركة هذه الساعة. فإن قيل:
كيف يكون هذا وأمته لا تخلو من قسمين: قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر فالذي مات على الإيمان لا بد له من دخول الجنة والذي مات على الكفر لا يدخل الجنة أبدا، فبكاؤه لأجل ما ذكرتم لا يسوغ إذ أن الحكم فيه قد مرّ ونفذ. قيل في الجواب: وكذلك قدّر الله عز وجل قدره على قسمين، كما شاءت حكمته، فقدّر قدرا وقدّر أن ينفذ على كل الأحوال وقدّر قدرا وقدّر ألا ينفذ، ويكون وقوعه بسب دعاء أو صدقة أو غير ذلك» .
ومثاله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوات الثلاث لأمته وهي: ألّا يظهر عليهم عدوّ من غيرهم، وألّا يهلكهم بالسنين، فأعطيهما ودعا بألّا يجعل بأسهم بينهم، فاستجيب في الاثنتين ولم يستجب له في الثالثة، وقيل له: هذا أمر قدّرته أي أنفذته ، فكانت الاثنتان من القدر الذي قدرّه الله تعالى وقدّر ألا ينفذه بسبب الدعاء وكانت دعوته الثالثة من القدر الذي قدرّه الله تعالى وقدرّ إنفاذه على كل الأحوال لا يردّه رادّ. وسيأتي لهذا مزيد إيضاح.
فلأجل ما ركّب في موسى عليه الصلاة والسلام من اللطف والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذي قدّره الله تعالى وقدّر ارتفاعه بسبب الدعاء والتّضرّع.
وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى لأنه وقت أسري فيه بالحبيب ليخلع عليه خلع القرب والفضل العميم، فطمع الكليم لعل أن يلحق لأمته نصيبا» .
وبوجه آخر وهو البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم وإدخال السرور عليه يشهد لذلك بكاؤه حين ولّى النبي صلى الله عليه وسلّم وقبل أن يبعد عنه لكي يسمعه، لأنه لو كان البكاء خاصا بموسى لم يكن ليبكي حتى يبعد عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمعه لأن البكاء والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فيه شيء من التهوين عليه.
فلما إن كان المراد بذلك ما يصدر عن البشارة له صلى الله عليه وسلم بسبب البكاء بكى والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه، والبشارة التي يتضمّنها البكاء هي قول موسى عليه الصلاة والسلام للّذي هو أكثر الأنبياء اتباعا: «إن الذي يدخل الجنة من أمة محمد أكثر ممن يدخلها من أمّتي» .
«وقد وقع من موسى عليه السلام من العناية بهذه الأمة في أمر الصلاة ما لم يقع لغيره ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعا: «كان موسى أشدّهم عليّ حين مررت به وخيرهم حين رجعت إليه» . وفي حديث أبي سعيد: فأقبلت راجعا فمررت بموسى ونعم الصاحب كان لكم» .

التنبيه الرابع والأربعون:
قول موسى عليه الصلاة والسلام: «لأن غلاما..» ليس على سبيل النّقص بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه، إذ أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك السّنّ ما لم يعطه أحدا قبله ممّن هو أسنّ منه.
وقال الخطّابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السّنّ: غلاما ما دامت فيه بقيّة من القوة [في الكهولة] وقال ابن أبي جمرة: العرب إنما يطلقون على المرء غلاما إذا كان سيّدا فيهم. فلأجل ما في هذا اللفظ من الاختصاص على غيره من ألفاظ الأفضلية ذكره موسى دون غيره تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: ويظهر أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليه السلام من استمرار القوة في الكهولة إلى أن دخل في سنّ الشيخوخة ولم يدخل على بدنه هرم ولا عرا قوّته نقص، حتى أن الناس لما رأوه مردفا أبا بكر عند قدومه المدينة أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبي بكر اسم الشيخ مع كونه عليه السلام في العمر أسن من أبي بكر.

التنبيه الخامس والأربعون:
قول موسى: «رب لم أظنّ أن ترفع عليّ أحدا- بفتح المثناة الفوقية و «أحدا» بالنّصب، ورواته في الصحيح بضم المثناة التحتية و «أحد» بالرفع. قال ابن بطال: «فهم موسى عليه الصلاة والسلام من اختصاصه بكلام الله تعالى في الدنيا دون غيره من البشر لقوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:
144] أن المراد بالناس هنا البشر كلهم، وأنه استحق بذلك ألا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام من المقام المحمود وغيره ارتفع على موسى وغيره بذلك.

التنبيه السادس والأربعون:
قال ابن أبي جمرة: الظاهر أن القائل لموسى: «ما أبكاك» ؟
هو الباري تبارك وتعالى، يدل على ذلك قوله في الجواب: «ربّ [هذا غلام بعثته من بعدي، يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي» ] .

التنبيه السابع والأربعون:

أكثر الروايات على أن موسى عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة بتفضيل الله تعالى، وهذا مطابق لقوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي وهذا يدل على أن شريكا ضبط كون موسى في السابعة، وحديث أبي ذر يوافقه فإن فيه [فيما رواه ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك قال: «فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم] ولم يثبت منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة» . فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال ومع عدمه فقد يجمع بأن موسى كان حالة العروج في السماء السادسة وإبراهيم في السماء السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة وعند الهبوط كان موسى في السابعة، لأنه لم يذكر في القصة أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلّمه في شيء مما يتعلّق بما فرض على أمته من الصلاة كما كلّمه موسى عليه السلام والسماء السابعة هي أول شيء انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون موسى بها لأنه هو الذي خاطبه في ذلك كما ثبت في جميع الروايات ويحتمل أن يكون لقي موسى في السادسة فأصعد معه إلى السماء السابعة تفضيلا له على غيره من أجل كلام الله تعالى وظهرت فائدة ذلك في كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته في الصلاة.

التنبيه الثامن والأربعون:
وقع في رواية شريك عن أنس رضي الله عنه أن كل سماء فيها أنبياء قد سمّاهم «فوعيت منهم إدريس في السماء الثانية وهارون في السماء الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة» . وفي رواية أنس عن أبي ذر رضي الله عنهما قال: «فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وابراهيم» ، ولم يثبت منازلهم، غير أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة» . انتهى. وهذا موافق لرواية شريك في إبراهيم، وهما مخالفان لرواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة، والأكثر وافقوه، وسياقه يدلّ على رجحان روايته، فإنه ضبط اسم كل نبي والسماء التي هو فيها، ووافقه ثابت البناني عن أنس، كما هو عند مسلم فقال في روايته:
«ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية وفيها فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة» ، وذكر في الثالثة يوسف وفي الرابعة إدريس وفي الخامسة هارون وفي السادسة موسى وفي السابعة إبراهيم، وفي سياق الزّهري في روايته ن أنس عن أبي ذر أنه لم يثبت أسماءهم، وسياق شريك فيه أنه لم يضبط منازلهم.
ولا شك أن رواية من ضبط أولى، ولا سيما مع اتفاق قتادة وثابت وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك عن أنس إلا أنه خالف في إدريس وهارون، فقال: هارون في الرابعة وإدريس في الخامسة، ووافقهم أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، في رواية إلا أنه قال: «رأى يوسف في الثانية وعيسى ويحيى في الثالثة» . قلت: والأول أثبت، وأما إبراهيم فالأرجح من الروايات أنه في السماء السابعة لقوله فيها: إنه رآه مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وهو في السابعة بلا خلاف.
وأما «ما جاء عن علي رضي الله عنه أن البيت المعمور في السماء السادسة عند شجرة طوبى فإن ثبت حمل على البيت الذي في السادسة بجانب شجرة طوبى لأنه جاء عنه إن في كل سماء بيتا يحاذي الكعبة وكل منها معمور بالملائكة، وكذا القول فيما جاء عن الربيع بن أنس وغيره أن البيت المعمور في السماء.

التنبيه التاسع والأربعون:
اختلفت طرق المتكلمين على حديث الإسراء في ذكر من ذكر من الأنبياء وترتيبهم في السموات، فمن العلماء من لم ير الكلام على سرّ ذلك أصلا، ومنهم من تكلم فيه، ثم اختلف هؤلاء، فمنهم من قال: اختص من ذكر من الأنبياء بلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على عرف الناس إذا تلقّوا الغائب مبتدرين للقائه، فلا بدّ غالبا أن يسبق بعضهم بعضا، ويصادف بعضهم اللقاء ولا يصادفه بعضهم وإلى هذا جنح ابن بطّال وهذا زيّفه السهيلي فأصاب. وذهب غير ابن بطّال إلى أن ذلك تنبيه على الحالات الخاصة بهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وتمثيل لما سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم مما اتفق لهم مما قصّه الله تعالى عنهم في كتابه. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل الحسن ويستدل على حسن العاقبة وبالضدّ من ذلك. والفأل في اليقظة نظير الرؤيا في المنام. وأهل التعبير يقولون من رأى نبيا من الأنبياء بعينه في المنام فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي من شدّة أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث.
قال ابن أبي جمرة: «الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا لأنه أول الأنبياء وأول الآباء فهو أصل فكان الأوّل في الأولى، ولأجل تأنيس النبوّة بالأبوة» وقال السهيلي رحمه الله:
«فآدم وقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض بما سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقّة وكراهة فراق ما لقيه في الوطن، ثم كان لكل منهما أن يرجع إلى وطنه الذي خرج منه» .
وقال ابن دحية: «إن في ذلك تنبيهاً على أنه يقوم مقامه في مبدأ الهجرة لأن مقام آدم التهيئة والنشأة وعمارة الدنيا بأولاده، وكذا كان مقام المصطفى أول سنة من الهجرة مقام تنشئة الإسلام وتربية أهله واتخاذ الأنصار لعمارة الأرض كلها بهذا الدين الذي أظهره الله على الدين كله، وزوى الأرض لنبيّه حتى أراه مشارقها ومغاربها،
فقال صلى الله عليه وسلم: «وليبلغنّ ملك أمّتي ما زوى لي منها» .
واتفق ذلك في زمن هشام بن عبد الملك حتى جيء إليه خراج الأرض شرقاً وغرباً، وكان إذا نشأت سحابه يقول: «أمطري حيث شئت فسيصل إليّ خراجك» .
ثم رأى في السماء الثانية عيسى ويحيى وهما الممتحنان باليهود. أما عيسى فكذّبته اليهود وآذته وهمّوا بقتله فرفعه الله تعالى، وأما يحيى فقتلوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان. وكانت محنته فيها باليهود [آذوه] وظاهروا عليه وهمّوا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه فنجّاه الله تعالى كما نجّى عيسى منهم ثم سمّوه في الشاة، فلم تزل تلك الأكلة تعاده حتى قطعت أبهره [كما قال عند الموت] .
وقال ابن أبي جمرة: لأنهما أقرب الأنبياء عهدا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن دحية: كانت حالة عيسى ومقامه معالجة بني إسرائيل والصبر على معاداة اليهود وحيلهم ومكرهم، وطلب عيسى الانتصار عليهم بقوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي مع الله؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ
[آل عمران: 52] فهذه كانت حالة نبينا صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة، ففيها طلب الأنصار للخروج إلى بدر العظمى فأجابوا ونصروا، فلقاؤه لعيسى في السماء الثانية تنبيه على أنه سيلقى مثل حاله ومقامه في السنة الثانية من الهجرة.
وأما لقاؤه ليوسف عليه السلام في السماء الثالثة فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حال يوسف بما جرى له مع إخوته الذين أخرجوه من بين أظهرهم ثم ظفر بهم فصفح عنهم وقال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92] وكذلك نبيّنا عليه الصلاة والسلام أخرجه قومه ثم ظفر بهم في غزوة الفتح فعفا عنهم وقال: «أقول كما قال أخي يوسف: (لا تثريب عليكم) » .
قال ابن أبي جمرة: لأن أمة محمد صلّى الله عليه وسلم يدخلون الجنة على صورته، زاد ابن أقرص وإشارة إلى جعله على خزائن الأرض. وقال ابن دحية: مناسبة لقائه ليوسف في السماء الثالثة أن السنة الثالثة من سني الهجرة اتفقت فيها غزوة أحد وكانت على المسلمين لم يصابوا بنازلة قبلها ولا بعدها مثلها، فإنها كانت وقعة أسف وحزن.
وأهل التعبير يقولون: من رأى أحدا اسمه يوسف آذن ذلك من حيث الاشتقاق ومن حيث قصة يوسف عليه السلام بأسف يناله. قال ابن دحية: فإن كان يوسف النبي فالعاقبة حميدة والآخرة خير من الأولى.
ومما اتفق في غزوة أحد من المناسبة شيوع قتل المصطفى فناسب ما حصل للمسلمين من الأسف على فقد نبيهم ما حصل ليعقوب من الأسف على يوسف لاعتقاده أنه فقد إلى أن وجد ريحه بعد تطاول الأمد. ومن المناسبة أيضا بين القصتين أن يوسف كيد وألقي في غيابة الجبّ حتى أنقذه الله تعالى علي يد من شاء. قال ابن إسحاق: وكبّت الحجارة على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش حتى سقط لجنبه في حفرة كان أبو عامر الفاسق قد حفرها مكيدة للمسلمين، فأخذ علي كرم الله وجهه بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتضنه طلحة حتى قام.
قال السهيلي: «ثم لقاؤه لإدريس عليه السلام في السماء الرابعة وهو المكان الذي سمّاه الله مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم فكان ذلك مؤذنا بحال رابعة وهي علوّ شأنه عليه السلام حتى خافه الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى ما رأى من خوف هرقل: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر، [وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي وملك عمان، ومنهم من هادنه وأهدى إليه وأتحفه كهرقل والمقوقس، ومنهم من تعصّى عليه فأظهره الله عليه، فهذا مقام عليّ وخط بالقلم كنحو ما أوتى إدريس عليه السلام] .
«ولقاؤه في السماء الخامسة لهارون المحبّب في قومه يؤذن بحبّ قريش وجميع العرب له بعد بغضهم فيه» . وقال ابن أبي جمرة: إنما كان هارون في الخامسة لقربه من أخيه موسى، وكان موسى أرفع منه بفضل كلام الله تعالى. وقال ابن دحية ما نال هارون من بني إسرائيل من الأذى ثم الانتصار عليهم والإيقاع بهم وقصر التوبة فيهم على القتل دون غيره من العقوبات المنحطّة عنه، وذلك أن هارون عند ما تركه موسى في بني إسرائيل وذهب لموعد المناجاة تفرّقوا على هارون وتحزّبوا عليه وداروا حول قتله ونقضوا العهد وأخلفوا الموعد واستضعفوا جانبه كما حكى الله تعالى ذلك عنهم وكانت الجناية العظمى التي صدرت منهم عبادة العجل فلم يقبل الله تعالى منهم التوبة إلا بالقتل فقتل في ساعة واحدة سبعون ألفا كان نظير ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم ما لقيه في السنة الخامسة من الهجرة من يهود قريظة والنّضير وقينقاع، فإنهم نقضوا العهد وحزّبوا الأحزاب وجمعوها وحشدوا وحشروا وأظهروا عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله. وذهب إليهم قبل الوقعة بزمن يسير يستعينهم في دية قتيلين فأظهروا إكرامه وأجلسوه تحت جدار ثم تواعدوا أن يلقوا عليه رحى، فنزل جبريل فأخبره بمكرهم الذي همّوا به. فمن حينئذ عزم على حربهم وقتلهم، وفعل الله تعالى ذلك، وقتل قريظة بتحكيمهم سعد بن معاذ، فقتلوا شرّ قتلة وحاق المكر السّيء بأهله. ونظير استضعاف اليهود لهارون استضعافهم المسلمين في غزوة الخندق كما سيأتي بسط ذلك.
ولقاؤه في السماء السادسة لموسى يؤذن بحالة تشبه حالة موسى حين أمر بغزو الشام، فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم، وكذلك غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك من أرض الشام وظهر على صاحب دومة حتى صالحه على الجزية بعد أن أتي به أسيرا، وافتتح مكة ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه.
وقال ابن دحية: «يؤذن لقاؤه في السادسة بمعالجة قومه فإن موسى ابتلي بمعالجة بني إسرائيل والصبر على أذاهم، وما عالجه المصطفى في السنة السادسة لم يعالج قبله ولا وبعده مثله، ففي هذه السنة افتتح خيبر وفدك وجميع حصون اليهود وكتب الله عليهم الجلاء وضربهم بسوط البلاء وعالج النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة كما عالج موسى من قومه، أراد أن يقيم الشريعة في الأرض المقدسة وحمل قومه على ذلك فتقاعدوا عنه وقالوا: إن فيها قوما جبّارين وإنا لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها. وفي الآخر سجّلوا بالقنوط فقالوا: إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فغضب الله عليهم وحال بينهم وبينها، وأوقعهم في التيه. وكذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة أن يدخل بمن معه مكة يقيم بها شريعة الله وسنّة إبراهيم، فصدّوه فلم يدخلها في هذا العام، فكان لقاؤه لموسى تنبيها على التّأسي به وجميل الأثر في السنة القابلة.
ثم لقاؤه في السماء السابعة لإبراهيم عليه السلام لحكمتين: إحداهما أنه رآه عند البيت المعمور مسندا ظهره إليه. والبيت المعمور حيال الكعبة وإليه تحج الملائكة، كما أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة وأذن في الناس بالحجّ إليها والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم حجة إلى البيت الحرام وحج معه في ذلك العام نحو من سبعين ألفا [من المسلمين] . ورؤية إبراهيم عند أهل التأويل تؤذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد [الكعبة المحجوجة] .
قال ابن أبي جمرة: «وإنما كان إبراهيم في السماء السابعة لأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدد للنبي صلى الله عليه وسلم بلقائه أنس لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وأيضا فمنزلة الخليل تقتضي أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته فلذلك ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين أو أدنى» .
وقال ابن دحية: «مناسبة لقائه لإبراهيم عليه السلام في السماء السابعة إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة، ودخل مكة وأصحابه ملبّين معتمرين محييا لسنّة إبراهيم ومقيما لرسمه الذي كانت الجاهلية أماتت ذكره وبدّلت أمره. وفي بعض الطرق أنه رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة، وذلك- والله أعلم- إشارة إلى أنه يطوف بالكعبة في السنة السابعة وهي أول دخلة دخل فيها مكة بعد الهجرة. والكعبة في الأرض قبالة البيت المعمور. وفي
قوله صلّى الله عليه وسلم في وصف البيت المعمور: «فإذا هو يدخله كل يوم سبعون/ ألفا لا يرجعون إليه إلى آخر الدهر إشارة إلى أنه إذا دخل البيت الحرام لا يرجع إليه لأنه لم يدخله بعد الهجرة إلا عام الفتح ولم يعاوده في حجة الوداع.

التنبيه الخمسون:
فإن قيل كيف أمّ الأنبياء في بيت المقدس وسلّم عليهم وعرفهم ثم سأل عنهم ثم يراهم تلك الليلة في السموات ويسأل عنهم جبريل؟ فإنه لو رآهم وعرفهم لما احتاج إلى سؤال جبريل عنهم. والجواب أنه لما اجتمع بهم ببيت المقدس وأمّهم على الهيئة البشرية تحقق وجودهم في الأرض، ثم لما وصل إلى الملكوت العلوي لم يجدهم على تلك الحالة التي شاهدهم عليها، وإنما هم على صفات روحانية يشكّل الله تعالى لهم أشكالا لائقة بالملكوت العلوي تأنيسا لهم بأصلهم البشري وتكريما لهم وتعظيما للقدرة الإلهية حيث شاهدهم تلك الساعة في الأرض ثم رآهم في منازلهم في السماء، فلذلك سأل عنهم استثباتا لا تعجبا، فإنه عالم أن الله تعالى الذي أصعده إلى هذا المكان في لحظة قادر على نقلهم إلى السموات في أسرع من طرفة عين سبحانه وتعالى.

التنبيه الحادي والخمسون:
استشكل رؤية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في السموات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم في الأرض. وأجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم، أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفا وتكريما ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عند البيهقي وغيره: «وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء» .
وقال ابن أبي جمرة: «رؤيته لهؤلاء الأنبياء تحتمل وجوها: الأول: أن يكون عليه السلام عاين كل واحد منهم في قبره في الأرض على الصورة التي أخبر بها عن الموضع الذي عاينه فيه فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك. ويشهد لهذا الوجه
قوله صلى الله عليه وسلم: «رأيت الجنة والنار في عرض الحائط» .
وهو محتمل لوجهين أحدهما: أن يكون صلى الله عليه وسلم رآهما من ذلك الموضع كما يقال رأيت الهلال من منزلي من الطاق والمراد من موضع الطاق، الوجه الثاني: أن يكون مثّل له صورتهما في عرض الحائط، والقدرة صالحة لكليهما. الثاني: أن يكون صلى الله عليه وسلم عاين أرواحهم هناك في صورهم. الثالث: أن يكون الله عز وجل لما أراد الإسراء بنبينا رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكراما لنبيه عليه السلام وتعظيما له حتى يحصل له من قبلهم ما أشرنا إليه من الأنس والبشارة وغير ذلك مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن، وإظهارا له عليه الصلاة والسلام القدرة التي لا يغلبها شيء ولا تعجز عن شيء وكل هذه الأوجه محتملة ولا ترجيح لأحدها على الآخر لأن القدرة صالحة لكلها.
وقال ابن القيم في كتاب الروح «الأرواح قسمان: أرواح معذّبة وأرواح منعّمة، فالمعذّبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي. والأرواح المنعّمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح معها رفيقها الذي هو على مثل عملها. وروح نبينا صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى. قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] وهذه المعيّة ثابتة في الدنيا وفي دار البرزخ وفي دار الجزاء والمرء مع من أحب.
ثم ذكر حديث أبي هريرة: «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا أمر الساعة» . الحديث. قال: فهذا نص في تذاكر الأرواح العلم، وقد أخبر الله تعالى عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل هذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه: أحدها أنهم أحياء عند الله وإذا كانوا أحياء عند الله فهم يتلاقون.
الثاني: أنهم إنما يستبشرون بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم. الثالث: أن لفظ يستبشرون يفيد في اللغة أنهم يبشّر بعضهم بعضا مثل يتباشرون وقد تواترت المرائي بذلك فذكر عدة منامات. ثم قال: وقد جاءت سنّة صريحة بتلاقي الأرواح وتعارفها. قال ابن أبي الدنيا:
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيغ أنبأنا الفضيل بن سليمان النميري حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن أبي أنيسة عن جده قال: لما مات بشر بن البراء بن معرور- بمهملات- وجدت أم بشر عليه وجدا شديدا، فقالت: يا رسول الله أنه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة، فهل يتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم والذي نفسي بيده يا أم بشر، إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطير في رؤوس الشجر» .
وذكر الحديث وآثارا تؤيد ذلك، ثم قال: «والروح ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن، وعلى هذا أكثر من مائة دليل قد ذكرناها في كتابنا: معرفة الروح والنفس، وبيّنّا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة، وأن من قال غيره لم يعرف نفسه وقد وصفها الله تعالى بالدخول والخروج، والقبض والتّوفيّ والرجوع، وصعودها السماء وفتح أبوابها وغلقها عنها، وقد ذكرت آيات وأحاديث كثيرة تشهد بما قاله» .
ثم قال: «وأما إخباره صلّى الله عليه وسلم عن رؤية الأنبياء ليلة الإسراء به، فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم. قال: فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون. وقد رأى المصطفى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ورأى موسى قائما في قبره يصلي، وقد نعت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لما رآهم بنعت الأشباح» .
ونازعهم آخرون وقالوا: هذه الرواية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجساد في الأرض قطعا وإنما تبعث يوم تبعث الأجساد، ولا تبعث قبل ذلك، إذا لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقّت عنهم الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور، وهذه موتة ثالثة وهذا باطل قطعا، ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم الله تعالى إليها، بل كانت في الجنة وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله إن الله تعالى حرّم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو، فهو أول من يستفتح باب الجنة، وأول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق، ولم تنشق عن أحد قبله، ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طري.

وقد سأله أصحابه: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد بليت؟ فقال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»
ولو لم يكن جسده في ضريحه طريا لما أجاب بهذا الجواب. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى وكلّ بقبره ملائكة يبلّغونه عن أمته السلام، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم لما خرج بين أبي بكر وعمر قال: «هكذا نبعث» .
هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى علّيّين مع أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وقد صح أنه رأى موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره ليلة الإسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراق عليه وتعلّق به بحيث تصلي في قبره وتردّ سلام من سلم عليه وهو في الرفيق الأعلى.
ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، فأنت تجد الروحين المتلائمتين المتناسبتين في غاية التجاور والقرب وإن كان بين بدنيهما غاية البعد، وتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين في غاية البعد وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين، وليس نزول الروح وصعودها، وقربها وبعدها من جنس ما للبدن فهي تصعد إلى فوق سبع سموات ثم تهبط إلى الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره، وهو زمن يسير لا يصعد البدن وينزل في مثله، وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة. وقد مثّلها بعضهم بالشمس في السماء وشعاعها في الأرض.
قال شيخنا- يعني أبا العباس الحرّاني: وليس هذا مثالا مطابقا فإن نفس الشمس لا تزول من السماء والشعاع الذي على الأرض لا هو الشمس ولا صفتها بل عرض حصل بسبب الشمس والجزم المقابل لها، والروح نفسها تصعد وتنزل وبسط الكلام على ذلك ولهذا مزيد بيان في باب حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره.

سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد(3 /123-134)


_________________
اللهم صل على سيدنا محمد
باب الاستجابة
نبي التوبة و الإنابة
صاحب طيبة المستطابة
والرفعة المهابة
وعلى آله وسلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: قصة الإسراء والمعراج مجمعه
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس فبراير 16, 2023 11:07 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مارس 29, 2012 9:53 pm
مشاركات: 45857
ترفع وكل عام وانتم بخير

_________________
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: قصة الإسراء والمعراج مجمعه
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء فبراير 07, 2024 11:17 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مارس 29, 2012 9:53 pm
مشاركات: 45857
حامد الديب كتب:
ترفع وكل عام وانتم بخير

_________________
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 9 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 12 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط