موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 5 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: مقومات العيش المشترك في الخطاب الإسلامي
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت أغسطس 13, 2016 10:34 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2011 10:41 am
مشاركات: 2825
مقومات العيش المشترك في الخطاب الإسلامي (1)

(1) من قيم الخطاب القرآني، اللين في القول، والرد بالتي هي أحسن عند المجادلة.

من أصول الخطاب الإسلامي ، إعلاء قيمة التقارب الإنساني من خلال مباديء تقوم على الإحسان في القول والمجادلة بالحسنى، لإعطاء فرصة لحوار بناء بين قوى المجتمع على نحو يُمَكِّن للسلم العام والعدالة الاجتماعية كأساس لبناء الدولة.

إعلان مبدأ اللين في القول، والرد بالتي هي أحسن، كإطار للعيش المشترك، دلت عليه نصوص القرآن والسنة، قال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.[فصلت:34]

تهدف الآية الكريمة، إلى إعلاء قيمة التقارب الإنساني عن طريق الإحسان إلى من أساء، فربما قاده الإحسان إليه إلى تحوّل قلبه من الضغينة إلى الصفاء، ومن الجفاء إلى الحنوّ، حتى يصير كأنه قريب لمن أحسن إليه.

وفي الصحيح عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».

بل إن القرآن الكريم جعل اللين في القول والفعل، أحد مقومات رسالة الإسلام وسمة من السمات الشخصية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران:159].

فقد كشفت الآية، أن من صفات القادة وأصحاب الرسالات، أن يدركوا أن الرحمة في الخطاب تؤلف، وأن الغلظة في القول تفرق، وبطبيعة الحال فإن بناء العيش المشترك إنما يقوم على التآلف والتعارف، لا على التقاطع والتناكر، وهو ما يحتاج إلى فن تطييب النفوس عن طريق اللين في القول، والتشاور في القواسم المشتركة، نبذاً للتفرق، واعتصاما بوحدة الدولة، وتفعيلا للأخوة الإنسانية، إعمالا لقوله تعالى :{ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }.

وعلى نفس النهج، أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحماية أيضا،ً وجعلها ميثاقاً واضحاً في آخر عهده بالدنيا في يوم الحج الأكبر، حيث قال في الصحيح: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟»، قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: «فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟»، قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: «فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟»، قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ "، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا»، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ".

فقول الرسول: أيها الناس يؤكد أن الخطاب للناس جميعاً وأن الحماية للنفس، والمال، والعِرض في منهج الإسلام، مقررة لكل الناس.

ورداً لوحدة الأصل والنشأة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1].

فآية بهذا التأصيل لوحدة النشأة، تحمل خطاباً شرعياً لبنى آدم جميعاً على اختلاف عقائدهم، وأصنافهم، وصفاتهم، وألوانهم، ولغاتهم، أن يتقوا الله الخالق، فيصلوا الرحم الإنسانية ولا يقطعوها.

ذلك أن جميع الناس لهم شرف النسب إلى آدم وحواء فالأخوة الإنسانية حاضرة- في هذه الآية الكريمة-بقوة.

قال ابن عباس في معنى الآية: اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به واتقوا الأرحام الإنسانية أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها. [مختصر تفسير ابن كثير1/283].

http://www.azhar.eg/details-multi-porta ... 85%D9%8A-1






_________________
مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: مقومات العيش المشترك في الخطاب الإسلامي
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت أغسطس 13, 2016 5:10 pm 
غير متصل

اشترك في: الأربعاء فبراير 03, 2010 12:20 am
مشاركات: 8042
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وسلم
جزاكم الله خيرا
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

_________________
صلوات الله تعالى تترى دوما تتوالى ترضي طه والآلا مع صحب رسول الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: مقومات العيش المشترك في الخطاب الإسلامي
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت أغسطس 13, 2016 11:07 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2011 10:41 am
مشاركات: 2825
فراج يعقوب كتب:
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وسلم
جزاكم الله خيرا
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم


مولانا الفاضل الشيخ فراج يعقوب وجزاكم الله خيرا

وشرفني مروركم العطر الكريم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

_________________
مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: مقومات العيش المشترك في الخطاب الإسلامي
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت أغسطس 13, 2016 11:14 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2011 10:41 am
مشاركات: 2825
مقومات العيش المشترك في الخطاب الإسلامي (2)

(2) فتح باب الحوار مع الأغيار كمكون أساس للعيش المشترك.


من الأهمية بمكان التعريف بأصول الإسلام التي تؤسس لمبدأ الحوار بين الحضارات في المجالين الديني والإنساني، كاستحقاق شرعي لتدعيم العيش المشترك بين المسلمين وبعضهم، وبين المسلمين وغيرهم.

ففي المجال الديني قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].

وفي نفس السياق قال عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46].

ففي هذين النصين يعلن القرآن الكريم بكل وضوح، أن الحوار في المجال الديني جائز شرعا لكشف مقومات المعتقد الصحيح في الدين على أن يكون لكل فريق في نهاية الحوار الحرية في التمسك بمعتقداته دون إضرار أو إكراه، إعمالاً لقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256].
وتنفيذاً لمضمون الآيتين في نهاية الحوار { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، أي هذا ما يخصنا.

أما مبدأ الحوار مع الآخر في المجال الإنساني، فقد طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في موطن كان الحق فيه له، فهو المنتصر الأعزّ، وأعداؤه الذين أخرجوه من دياره وآذوه في بدنه، وعذبوا أصحابه، هم الأذلّ، ذلك هو يوم الفتح المبين لمكة – بلد الله الحرام- في شهر رمضان عام 8 هجرية = 630 ميلادية، وبلغة راقية ونظرة حانية حوّل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلّهم إلى عزّ، بعد أن وصّى أصحابه وهم على أبواب مكة قائلا: " لا تقاتلوا إلا من قاتلكم"، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة، وانتهى إلى الكعبة فكبّر وكبّر المسلمون معه، وطاف حولها وطاف المسلمون معه، والمشركون فوق الجبال ينظرون متحسبين لما يأمر به صلى الله عليه وسلم فيهم، فوقف على باب الكعبة ونادى بصوت عال ، يدعوهم للحوار: "يا معشر قريش، إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكَبُّرَهَا بِآبَائِهَا، كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ".
وتلا قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
ثم قال: " يا معشر قريش مَا تَظُنُّونَ أني فاعل بكم"؟ قَالُوا: خيرا، أَخٍ كريم وابن أخ كريم، قَالَ: " اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ ". وأردف قائلا: " أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].

وكان صلى الله عليه وسلم قد أعطى الأمان لأهل مكة وهو في الطريق إليها، وعهد بذلك إلى أبي سفيان فدخل أبو سفيان مكة سريعا، ثم صاح: " يا قوم إن محمدا جاءكم بما لا قبل لكم به، ولكنه أمنّكم، فقال : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ».

فاجتمع الناس لبيعته صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فجلس لهم على جبل الصفا، وبايعوه على السمع والطاعة، لله وللرسول فيما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فبايعهم على ذلك، ثم اجتمع إليه النساء فبايعهن كما بايع الرجال، مما يدل على تحمل المسئولية في الإسلام لا تفرق بين الرجال والنساء، ولما اطمئن صلى الله عليه وسلم إلى تغيّر حال أهل مكة من إسقاط للباطل في نفوسهم، إلى تشرّب للحق عن عقيدة ويقين. أمر بكسر الأصنام وإخراجها من المسجد الحرام. وقرأ قوله تعالى: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء:81].

ولم يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم قبل البيعة الجماعية له حتى لا يُحدث فتنة، والناس قريب عهد بعبادة الأصنام، وسلوك الجاهلية، وهذه هي قمة الحكمة في منهج التغيير في الإسلام.

ونخلص من هذه الوقائع الإنسانية، وهذا الحوار البنّاء أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يُعلي مبدأ التسامح في الإسلام، فلم ينتقم ممن اضطهدوه، وأخرجوه من بلده وتآمروا على قتله، بل صفح عنهم، ولم يشهر السيف في وجوههم للتخويف، أو الترويع، بل إنه صلى الله عليه وسلم عنّف سعد بن عبادة وكان يحمل الراية عند دخوله مكة حين قال: " اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ، اليوم أذل الله قريشا" فرُفع أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب ثم قال: " «كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ»، وأخذ منه الراية ودفعها إلى ابنه قيس، فكانت النتيجة أن تغيّر الحال والمكان، فدخل الناس في دين الله أفواجا وطُهِّرت الكعبة من الأصنام، وباتت العزة لله وللرسول وللمؤمنين، ولعب إعلام النبوة في ذلك دورا عظيما.


http://www.azhar.eg/details-multi-porta ... 85%D9%8A-2



_________________
مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: مقومات العيش المشترك في الخطاب الإسلامي
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد أغسطس 14, 2016 12:19 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2011 10:41 am
مشاركات: 2825
مقومات العيش المشترك في الخطاب الإسلامي (3)


(3) منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التأسيس لبناء دولة قوية، من خلال السلم العام والعدالة الاجتماعية.


بوصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، بدأت الفترة التي تؤسس للدولة الإسلامية ذات الأبعاد العالمية فبدأ صلى الله عليه وسلم بتأسيس البناء الذي تنطلق منه الدبلوماسية الإسلامية والديوان الذي يمارس فيه صلى الله عليه وسلم السلطات الثلاث- التشريعية، والقضائية، والتنفيذية-فضلاً عن إقامة الشعائر الدينية. ذلك هو المسجد النبوي الشريف الذي اشترك صلى الله عليه وسلم في بنائه بنفسه، وهو ينشد:" اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ، فَارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَالمُهَاجِرَهْ " [صحيح البخاري 5/60-رقم 3906].

وقبل أن يصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة (يثرب سابقا) كان قد عقد بيعتين مع جماعة من أهل المدينة من الأوس والخزرج، التقاهم صلى الله عليه وسلم بالعقبة مرتين في موسمين للحج وبايعوه على الإسلام وواعدوه بالنصرة له، فقالوا في البيعة الثانية: تَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ، وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَلَا وَدَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ» قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فبايعهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإسلام، وهذا من باب السياسة، حتى إذا هاجر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة يكون قد سبقه أمره، وأذيع خبر بعثه بين الناس، فإذا ما وصل وجد من يستقبله، فيكون ذلك أدعى للالتفاف حوله، وقد سجل القرآن الكريم نموذجا لهذه البيعة فيما سميت ببيعة النساء في سورة الممتحنة، فقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12].

فلما قدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، أقبل عليه الناس وفي مقدمتهم النساء والصبيان.
ففي الصحيح عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مُقْبِلِينَ - قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ - مِنْ عُرُسٍ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْثِلًا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ». قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ. [صحيح البخاري 5/32 رقم: 3785].
وجاء عبد الله بن سلام سيد اليهود بالمدينة، مستقبلا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أشهد أنك نبي الله حقا، وأنك جئت بحق".

وحيثيات هذه الشهادة استوحاها عبد الله بن سلام من المنهج الجديد الذي ارتبط برسالة الإسلام وأوجزه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلمته، وهو مشرف على المدينة.
حيث روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ نفسه قَالَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَكُنْتُ فِيمَنْ انْجَفَلَ فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ:" أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ".[مسند أحمد: 23784].

وهكذا أسس الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للبعد الثقافي والفكري للدولة الإسلامية، إفشاء السلام، بدلاً من الحرب والصدام، سد حاجة الفقراء ونشر ثقافة التعاون على البر والتقوى بدلاً من التقاطع والتدابر، الاعتصام بالدين، وإحياء العبادة لتغذية الروح ليلاً، لينشط البدن نهاراً للكسب والمعاش.

وفي الصحيح عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا». [صحيح مسلم: 4/1983- رقم: 2559].

وحتى تكون البيئة المدنية صالحة لنشر رسالة الإسلام، لابد أن تسترد عافيتها، وتستجمع قوتها، وتؤمن مسيرتها، ويقوم تحالف القوى فيها على الخير، وفقاً لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ذلك أن الوضع السياسي في المدينة (يثرب) كان يقوم على قُوى ثلاث: الأوس، والخزرج، واليهود، وكانت الحرب بين الأوس والخزرج تشتعل أحيانا بتدخل اليهود. فتارة كان النصر للخزرج، وأخرى للأوس، وكانت العداوة بينهما ظاهرة نظراً لتمسك العرب بعادة الثأر والانتقام، وكانت آخر الحروب بينهما حرب يوم بُعاث، وكانت الهزيمة من نصيب الخزرج..إلى أن حلّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، فحالف بين الأوس والخزرج، وأنعم الله تعالى عليهم بنعمة الإسلام. [محمد رسول الله ص157-158].

فنزع منهم حُبُّ الإسلام الميل إلى العصبية والحميّة، ثم آخى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين ومجموع الأوس، والخزرج [الأنصار]، وكتب كتاباً بذلك.

روى الإمام أحمد عن عمرو بن شُعَيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار: أن يعقلوا مَعَاقلهم، وأن يَفْدُوا عانِيَهم بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين.[مسند أحمد3/113- رقم: 2442].

وقد سجل القرآن الكريم الحالة التي كان عليها الأوس والخزرج قبل الإسلام، إلى أن غيّر الله وضعهم بعد الإسلام، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا.
وهي مرحلة من مراحل تغيير الوضع السياسي، أعلنها القرآن في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [آل عمران:103].

وفي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }. [الأنفال:72].

ومن باب التشجيع على الولاء والتحالف بين عناصر الأمة كمقوّم من مقومات الاستقلال السياسي، امتدح الله عز وجل المهاجرين والأنصار، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.[الأنفال:74].

وبهذه الأخوة في الدين، والمعاش، تغيّر الوضع السياسي للمدينة من تفرق وعداوة إلى ولاء وانتماء.
وانصهر الجميع في أمة واحدة، قامت على أكتافها الدولة الإسلامية في مراحلها المبكرة، وامتدحها الله عز وجل في القرآن الكريم فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران:110].

وبهذا النسيج الاجتماعي الجديد، باتت الأمة كأنها الجسد الواحد، فشكلت القوة الصالحة لحمل رسالة رب العالمين، إلى العالمين.

وعلى الأمة الإسلامية المعاصرة أن تراجع نفسها، وتستصحب الحال الذي كان عليه أهل المدينة، قبل الإسلام وبعده، لتغيّر الأمة من وضعها الحالي الذي يتسم بالتقاطع والتدابر، إلى وضع تستحق فيه أن يلفها شعار { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }.

وإكمالا للجانب السياسي، التفت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشريك في الوطن –ولو كان من غير المسلمين-ليضمه إلى عناصر القوة في المجتمع، ويؤمن وجوده لمصلحة الوطن. لذلك وادع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهود المدينة وعقد معهم معاهدة سجلها في وثيقة رسمية، تُعد نموذجا فريداً في حقوق الإنسان العامة، وحقوق غير المسلمين خاصة، وكتب لذلك كتاباً، أمَّن فيه اليهود على دينهم، وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم.

ومما جاء في نص المعاهدة: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ «هَذَا كِتَابٌ مِنْ محمد النبي الأمي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ، ... وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مَنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرٍ عَلَيْهِمْ، ... وَإِنَّ الْيَهُودَ يتفقون مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَإِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ وَبَنِي الْحَارِثِ وَبَنِي سَاعِدَةَ وَبَنِي جُشَمَ وَبَنِي الْأَوْسِ وَبَنِي ثعلبة وجفنة وبنى الشطنة مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ،... وَإِنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمِ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَإِنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ حرفها لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٍ، وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوِ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى محمد رسول الله، وان الله على من أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ.."[البداية والنهاية 3/225].

وهكذا عقد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الألفة بين عناصر الأمة المتنافرة، وجعل الأمن والحماية هما عنصر القوة في أي أمة، تريد أن تعظّم شخصيتها بين العالمين، وأعلن بذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن طبيعة النظام السياسي لكل أمة في المنهج الإسلامي. الولا، والانتماء، والوحدة والاتفاق، التلاحم الاجتماعي بين أبناء الأمة الواحدة مسلمين وغير مسلمين، أخذاً من قوله تعالى: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52].


http://www.azhar.eg/details-multi-porta ... 85%D9%8A-3



_________________
مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 5 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: [AhrefsBot] و 20 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط