( المناظرات في الأدب
حدثنا أبو ناظرة البصري عن المازني قال: بينا أنا قاعد في المسجد إذا صاحب بريد قد دخل وهو يسأل عني ويقول: أيكم المازني؟ فأشار الناس إليّ، فقال: أجب، قلت: من ومن أجيب؟ قال: الخليفة، فذعرت منه وكنت رجلاً فاطمياً فظننت أن اسمي رُفع فيهم فقلت: أصلحك الله! تأذن لي أن أدخل منزلي فأودع أهلي وأتأهب لسفري؟ فقال: افعل. فعلمت أنه لو كان شراً لما أذن لي فسكنت إلى قوله ودخلت المنزل فودّعتهم وخرجت إليه، فحملني على دابة من دواب البريد حتى وافى بي باب الواثق، فما كان إلا قليلاً حتى أذن لي فدخلت إلى بهوٍ وإذا رجل قاعد وعلى رأسه سبعون وصيفاً. فذهبت أسلّم عليه بالخلافة. فقيل لي: هذا بغا. ثم تقدمت إلى بهو آخر فإذا رجل قاعد على كرسي وبين يديه سبعون وصيفاً. فذهبت أسلم عليه بالخلافة فقيل: هذا وصيف. حتى دفعت إلى الستر فما زال يقول: اذهب ادن ادن، حتى حاذاني بسريره، ثم قال: ما اسمك؟ قلت: بكر بن محمد. قال: ممن سمعتها؟ يعني اللغة. قلت: من مزاحم العقيلي، فقال حدثني. فلم أدر بما أحدثه وقلت: لعل حديثي على البديهة يعجبه، قلت: يا أمير المؤمنين قال رؤبة بن العجاج: لا تعلواها وادلواها دلوا ... إنّ مع اليوم أخاه غدوا فكأنه فطن لما أردت فقال: أجل أتدري لم دعوناك؟ قلت: لا. قال: وقع بيني وبين جارية لي شجار في بيت أردت لها إعرابه فامنتعت عليّ وقالت: سل المازني. قلت: فأسمعني يا أمير المؤمنين. قال: نعم. وأومأ إلى خادم بين يديه فضرب ستارة كادت عيني تلتمع من كثرة ذهبها ثم سمعت وراءها نقراً لولا جلالة أمير المؤمنين لرقصت عليه، ثم غنت: أظليم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحيةً ظلم فقال: كيف ما سمعت؟ قلت: صواب. قال: فقد أخطأنا إذاً، قلت: وكيف؟ قال أمير المؤمنين قلت: أظليم إن مصابكم رجلٌ ... أهدى السلام تحيةً ظلم فقلت: وأصاب أمير المؤمنين. قال: فكاد يقوم إليّ فرحاً، ثم أدخل رأسه في الستارة فأومأ إليّ الخادم في الخروج فخرجت فناولني صرةً فيها خمسمائة دينار وحملت على البريد حتى رددت إلى منزلي بالبصرة. والشعر لأبي دهبل الجمحي يقول فيه: عُقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عُقْم فلا يلدن شبيهه أجود.
وحدثنا علي بن يزيد عن إسحاق بن المسيب بن زهير قال: حدثني المفضل قال: كنت يوماً عند الصراة ببغداد وكنت في الصحابة فأتاني رسول المهدي فقال لي: أجب. فخفت أن يكون ساعٍ سعى بي، فدخلت منزلي ولبست ثيابي وهممت أن أخبر أهلي ثم قلت: لم أعجل لهم الهمّ؟ إن كان خير سيأتيهم وإن كان غير ذلك فلا أكون عجّلته لهم. فمضيت حتى دخلت عليه وأنا مرعوب فسلمت عليه ورد السلام، وإذا عنده الفضل بن الربيع وعلي بن يقطين وغيرهما، فقال: إن هؤلاء زعموا أنك أعلم الناس بالشعر فأخبرني ما أشعر بيت قالته العرب؟ فوقعت في شيء لم أدر كيف هو فجهدت والله أن أنشده بيتاً من شعر فما قدرت عليه. فقال لي: ما لك لا تتكلم؟ فجرى على لساني ذكر الخنساء فقلت: لقد أحسنت الخنساء في قولها: وإن صخراً لمولانا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتوا لنحّار وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار قال: فاستبشر بذلك، وسر سروراً شديداً، ثم قال: أنت والله أعلم الناس وقد قلت هذا لهؤلاء فأبوا عليّ. فقال القوم: كان أمير المؤمنين أولى بالصواب. فقال لي: يا مفضّل أسهرتني البارحة أبيات حسين بن مطير الأسدي. قلت: وأي أبياته؟ قال قوله: وقد تغدر الدنيا فيضحي غنيها ... فقيراً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرها وكم قد رأينا من تغير عيشةٍ ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها قلت: مثل هذه فليسهرك يا أمير المؤمنين زادك الله توفيقاً وتسديداً! قال: حدثني يا مفضّل. قلت: أي الأحاديث تحب؟ قال: أحاديث الأعراب. فما زلت أحدثه حتى بلغت الشمس منه، ثم قال: ما لك، قلت: يا سيدي ما تسأل عن رجل مأخوذ بعشرة آلاف درهم ليست عنده! قال: عليك عشرة آلاف درهم؟ قلت: نعم. فقال: يا ربيع احمل إليه عشرة آلاف درهم لقضاء دينه وعشرة آلاف درهم يبني بها داره وعشرة آلاف ينفقها على عياله، فرجعت ومعي ثلاثون ألف درهم.
وقال النضر بن شميل: دخلت على المأمون بمرو وهو في بهو له في يوم صائف وعليّ قميص مرقوع فقال: يا نضر تدخل على أمير المؤمنين في خلقان ثيابك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين حرّ مرو وأنا شيخ كبير لا أحتمل الحر ولا البرد. ثم أنشدته: لو يُشترى الشباب لاشتريته ... شبابي النضر الذي أبليته بكل ما لي ثم ما استغليته ثم أجرينا الحديث فقال: يا نضر أي النساء أحب إليك؟ قلت: البيضاء الفرعاء المديدة، فقال: حدثني هشيم بن بشير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان له فيها سَداد من عوزٍ. قلت: صدق هشيم. حدثني عوف عن الحسن عن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها كان له فيها سِداد من عوز. قال: يا نضر والسَّداد خطأٌ؟ قلت: خطأٌ يا أمير المؤمنين! قال: وما يدريك؟ قلت: السَّداد بالفتح القصد في الدين وفي السبيل، والسِّداد البلغة، وكل شيء سددت به شيئاً فهو سداد. قال: أتعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان، رحمه الله، حيث يقول: أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسِداد ثغر فاستوى جالساً وقال: قبح الله من لا أدب له! ثم أقبل عليّ فقال: أخبرني بأخلب بيت قالته العرب، قلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان: تقول لي والعيون هاجعةٌ ... أقم علينا يوماً فلم أقم متى يقل صاحب السرادق هـ ... ذا ابن بيضٍ بالباب يبتسم قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات أُدخل وأعطني سلمي
قال: لقد أحسن وأجاد، فأخبرني بأنصف بيت قالته العرب، قال: قول أبي عروبة: إني وإن كان ابن عمي واغداً ... لمداهنٌ من خلفه وورائه ومفيده نصري وإن كان امرأً ... متباعداً من أرضه وسمائه فأكون والي سرّه وأصونه ... حتى يحين عليّ وقت أدائه وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرّبتُ جلّتنا إلى جربائه وإذا دعا باسمي ليركب مركباً ... صعباً ركبت له على سيسائه وإذا رأيت عليه برداً ناضراً ... لم يلفني متمنياً لردائه
فقال: لقد أحسن وأجاد، فأخبرني عن أعز بيت قالته العرب. قلت: قول راعي الإبل: أطلب ما يطلب الكريم من ال ... رزق لنفسي وأُجمل الطلبا وأحلب الثرّة الصفيّ ولا ... أطلب في غير خلفها حلبا إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغّبته في صنيعه رغبا والنذل لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا مثل الحمار الموقّع السوء لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا
فقال: والله لقد أحسن وأجاد. ودعا بالدواة فما أدري ما يكتب ثم قال: يا نضر كيف تقول من الإتراب؟ قلت: أقول اترب القرطاسَ والقرطاسُ متروب. قال: فلم كسرت الألف؟ قلت: لأنها ألف وصل تسقط في التصغير. قلت: فكيف تقول من الطين؟ قلت: طِن الكتاب والكتابُ مطينٌ. قال: هذه أحسن من الأولى. ثم دفع ما كتب إلى خادم ووجهه معي إلى ذي الرياستين الحسن بن سهل، فقال لي ذو الرياستين: ما الذي جرى بينك وبين أمير المؤمنين؟ فقد أمر لك بخمسين ألف درهم. فقصصت عليه القصة. فقال: ويحك لحّنت أمير المؤمنين. قلت: معاذ الله بل لحّنت هشيماً لأنه كان لحّانة، فوقّع لي أيضاً من عنده بثلاثين ألف درهم فانصرفت بثمانين ألف درهم في حرف واحد سِداد وسَداد. )اهـ
_________________ مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
|