جهاد الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنهفى معركة المنصورة
"رجال الله فى عين الحدث"
تحرص الطريقة الشاذلية دائما على أن تربط أتباعها بمجتمعهم وواقعهم، وذلك انطلاقا من البعد الاجتماعى، الذى كان راسخا فى شخصية مؤسسها منذ حداثة سنه ؛ حيث كان الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه قدوة لأتباعه فى تفاعله مع مجتمعه الذى يعيش فيه[76].
فعندما حضر الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه إلى الديار المصرية، تفاعل مع أهم مشكلة فى مصر، وهى وقتذاك مشكلة الغزو الصليبى لمصر، كان المصريون جميعا فى ذلك الوقت فى هم عظيم يترقبون نتائج الحرب بنفوس ملؤها الهلع والخوف، وكانت الأنظار كلها تتجه إلى مدينة المنصورة مقر الدفاع، ووجد علماء البلد أن من واجبهم أن لا يتخلفوا عن موضع الخطر، فسارعوا جميعا إلى مدينة المنصورة يثبتون من جأش الشعب، ويبعثون الحمية فى نفوس الجند المحاربين. ويثيرون فيهم روح الجهاد للذود عن الوطن وحريته، وكان فى مقدمة هؤلاء العلماءالاجلاء الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه[77].
الذى فزع إلى المنصورة مع علماء الإسلام للجهاد مع أهل المنصورة ضد الحملة الصليبية بقيادة لويس التاسع سنة 648ه، تلك الحملة التى انتصر فيها المسلمون، وأسروا لويس التاسع فى دار ابن لقمان (الصوفى)[78].
وليس هناك أدل على عناية واهتمام الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه بفريضة الجهاد فى سبيل الله عز وجل، من ذلك الموقف الجليل الصارم، الذى اتخذه تجاه قاضى الإسكندريةالفقيه ناصر الدين بن المنير[79]؛ بسبب تخلف ابن المنير عن الخروج معه للجهاد فى المنصورة، وترتب على ذلك حصول جفوة بين الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه، وبين ابن المنير، وقد استمرت هذه الجفوة، إلى أن انتقل الشيخ الشاذلى رضى الله تعالى عنه إلى الرفيق الأعلى، ثم سافر ابن المنير إلى ضريح الشيخ الشاذلى رضى الله تعالى عنه واعتذر عنده [80].
وسنرى كيف شارك الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه، الشعب المصرى فى جهاده للغزاة والمستعمرين، ووقوفه مع المجاهدين، بل ذهابه مع نفر من العلماء والفقهاء لميدان الوغى ليبث فى الأبطال روح الجهاد وحلاوة الإيمان [81].
ومن الشواهد والأدلة التاريخية التى تؤكد لنا تواجد الشيخ أبى الحسن الشاذلى فى ساحة معركة المنصورة ما قرره الشيخ تقى الدين ابن دقيق العيد حيث قال : "حضرت بالمنصورة مع الشيخ أبى الحسن وما رأيت أعرف بالله منه"[82]
ويؤكد هذه الواقعة ما ذهب إليه الشيخ ابن عطاء الله السكندرى فى لطائف المنن، قال : أخبرنى الشيخ مكين الدين الأسمر قال : "حضرت فى المنصورة فى خيمة – فى معسكر القتال – فيها : سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، والشيخ تقى الدين بن دقيق العيد، والشيخ مجد الدين على بن وهب، والشيخ محى الدين بن سراقة، والشيخ مجد الدين الأخميمى، والشيخ أبو الحسن الشاذلى، ورسالة القشيرى تقرأعليهم"[83]
ومما تجدر الإشارة إليه فى هذه المناسبة، أن الشيخ أبا الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه، قد حضر المعركة الفاصلة بين المسلمين والصليبين فى المنصورة سنة 648ه، حيث كانت مدينة المنصورة قاعدة لإدارة حركات الجيوش الإسلامية التى وقفت هناك لتمنع جيوش الصليبين، الذين احتلوا ثغر دمياط من قبل، عن التغلغل إلى داخل البلاد المصرية، وكان يقود جيوش المسلمين فى هذه المعركة الظاهر بيبرس البندقدارى وفارس الدين أقطاى، فى عهد الملك توران شاة ابن الملك الصالح أيوب، وكان يقود جيوش الصليبين فيها لويس التاسع ملك فرنسا، الذى قاد بعد ذلك الحملة الصليبية على تونس سنة 668هـ[84].
ولما وصلت أخبار نزول الفرنج بفارسكور إلى معسكر المنصورة، سارع الأمير فخر الدين ابن شيخ الشيوخ بإبلاغ القاهرة بتلك الأخبار، فى رسالة من إنشاء الكاتب الشاعر بهاء الدين زهير، يحض فيها الناس جميعا على الجهاد، افتتحها بالآية القرآنية الكريمة : (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) وقرئت هذه على الناس فى صلاة الجمعة بالجامع الأزهر الشريف. وكان لهذه الرسالة أثرها ؛ إذ أوضحت للناس ضرورة تقديم كل المساعدات الممكنة للقوات المصرية المدافعة عن المنصورة، حتى تستطيع هذه القوات المقاومة والثبات ضد الزحف الصليبى الغاشم [85].
و حينئذ، كان للشيخ أبى الحسن الشاذلى الدور البارز والأثر الكبير، فى تعبئة المجاهدين للجهاد فى معركة المنصورة ؛فلا غرابة إذاَ، ولا عجب، إذا مارأينا الإمام الصوفي العظيم «الشيخ أبا الحسن الشاذلي» رضى الله تعالى عنه، قد هب داعيا الناس إلى الجهاد والنفير العام، ودقت طبول الحرب بين يديه، وسار إلى موكبه كبار أئمة الدين في عصره، ومنهم سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، وإمام المحدثين الشيخ زكي الدين المنذرى «صاحب الترغيب والترهيب»، ومكين الدين، وابن دقيق العيد، ورجاله من الصعيد، وابن الصلاح إمام علماء الأصول رضوان الله تعالى عليهم، وغيرهم من الخاصة، فضلًا عن الجماهير الهائلة.
و قد أثار خروج الشيخ أبى الحسن الشاذلى لساحة الجهاد حماس المسلمين وغيرتهم،من أهل مصر فتابعه الآلاف يخرجون إلى كفاح الصليبين بأموالهم وأنفسهم، وقد اتخذت كل بلدة أو أسرة راية لها، تعرف بها، ويتجمع تحتها رجالها.[86]
فها هم أولئك العلماء الصوفية، أو الصوفية العلماء، بسمتهم الملائكى، وبإيمانهم الذى لا يتزعزع، يسيرون وسط الجند، يحثون ويشجعون، ويرشدون ويذكرون بالله، ويبشرون – كما وعد الله – بإحدى الحسنيين : النصر أو الجنة. وإذا لزم الأمر عملوا بأيديهم مع العاملين. لقد كان مجرد سيرهم فى الحوارى والشوارع، تذكيرا بالنصر أو الجنة، وكان حفزا للهمم، وتثبيتا للإيمان، وتأكيدا لصورة الجهاد الإسلامية التى قادها فى عصور الإسلام الأولى، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخلفاؤه الراشدون، رضوان الله تعالى عليهم [87].
وأعلن النفير العام في البلاد وراحت المساجد تحرض الناس على الجهاد مرددة " انفروا خفافا وثقالا، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" [88]فهرول المسلمون أفواجاً من كافة أنحاء مصر إلى المنصورة لأجل الجهاد ضد الغزاة[89]ضد الجيش الصليبي المتحصن خلف الأسوار والخنادق،[90].
وقد لبى داعى الجهاد، عدد كبير من العربان وعامة المسلمين،وجاءت الغزاة والرجال من عوام الناس الذين يريدون الجهاد، من كل النواحي، وتوافد على مدينة المنصورة أفواج من المجاهدين، الذين نزحوا من بلاد الشام والمغرب الإسلامي، استعداداً لملاقاة الصليبيين،وقد وصف ابن تغري بردي نفرة الجهاد التى أعلنها الشيخ أبو الحسن الشاذلى وعلماء الأمة، فقال : " ووقع النفير العام في المسلمين، فاجتمع بالمنصورة أمم لا يحصون من المطوعة والعربان؛ وشرعوا في الإغارة على الفرنج ومناوشتهم وتخطفهم، واستمر ذلك أشهراً " [91].
وقد أثمرتواجد سادات الوقت وكبرائه من المتصوفة وعلماء الدين، جنبا لجنب مع جند المسلمين ورجال المقاومة،عن شد أزر المجاهدين، وإذكاء روح التضحية و الفداء، بل كان لوقوفهم بجوار القواد، يديرون رحى المعركة، بالغ الأثر الطيب فى تقوية عزيمة الأمة، وثقتها فى قادتها، وتأييد الله تعالى لهم، حتى حدثت فى المعركة الخوارق، وذلك فضل الله يمد به جنده المخلصين له [92].
وعلى هذا الأساس، كثرت الغارات التي يشنها الفدائيونالمسلمون على معسكر الصليبيين، واختطاف كل من تصل إليه أيديهم، وقدأبدعت أذهان المجاهدين ضروبا من الحيل دفاعا عن العقيدة والأرض، فابتكروا لذلك وسائلتثير الدهشة والإعجاب، من ذلك أن مجاهدا من المسلمين قوّر بطيخة خضراء، وأدخل رأسهفيها، ثم غطس في الماء إلى أن اقترب من معسكر الصليبيين، فظنه بعضهم بطيخة عائمة فيالماء، فلما نزل لأخذها خطفه الفدائي المسلم، وأتى به أسيرا. إلى غير ذلك من صور الجهاد والاستبسال، التى تبين أن الشعوب حين تقاد باسم الاسلام، وحين يكون بينها وبين أئمتها و رعاتها حب ووئام، يكون البذل وتظهر التضحية بأجلى صورها ويكون النصر والتقدم [93].
وشن المجاهدون غارات و هجمات على معسكرات الصليبيين،يأسرون مقاتليهم وينقلونهم إلى القاهرة، فأصابوهم بخسائر فادحة [94].
ويروي المؤرخ الصليبي "جوانفيل" (joinvill)"الذي رافق الحملة، أن المسلمين كانوا يتسللون أثناء الليل إلي المعسكر الصليبي ويقتلون الجنود وهم نيام ويهربون بروؤسهم [95].
ويذكر المؤرخ ابن أيبك الدوادارى أن الصليبيين كانوا يخافون من العوام المتطوعين أكثر من الجنود [96].
وعبر العمليات الفدائية، نجح المجاهدون المسلمون في أسر العديد من الفرنج، ويصف لنا المقريزى ذلك قائلا :"فلما كان يوم الاثنين سلخ شهر ربيع الأول: وصل إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العرب ستة وثلاثون أسيراً، منهم فارسان، وفى خامس شهر ربيع الآخر، وصل سبعة وثلاثون أسيراً، وفى سابعه وصل اثنان وعشرون أسيراً، وفى سادس عشر، وصل خمسة وأربعون أسيراً، منهم ثلاثة من الخيالة، ووصل في ثامن عشر جمادى الأولى خمسون أسيراً،وفى ثالث عشر شهر رجب، وصل إلى القاهرة سبعة وأربعون أميراً من الفرنج، وأحد عشر فارساً منهم " [97] وتعددت مواكب أسرى الصليبيين في شوارع القاهرة على نحو زاد من حماسة الناس، ورفع معنويات المقاتلين إلى السماء.
وهكذا رأينا كيف حارب أئمة التصوف و العلماء جنبا لجنب مع الأهالى والجنود فى ساحة الجهاد، لم يستقر هؤلاء العلماء فى دورهم البعيدة عن الخطر، وإنما هبوا جميعا للجهاد فى سبيل الله، لقد هاجروا إلى المنصورة ليكونوا بين المجاهدين، وبرغم أن العارف بالله الشيخ أبا الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه كان فى آخر حياته، وكان قد كُف بصره، إلاأنه كان فى مقدمة الذاهبين إلى المنصورة![98] يلهب حماس المجاهدين، ويحرك قلوبهم، وينادى بالشهادة، وينادى ببيع النفوس لله تعالى، الذى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ؛ فأبدى المجاهدون ضروبا من الشجاعة والاستبسال منقطعة النظير فى جهاد الأعداء. وهذا يبين لنا مكانة العلماء العاملين عند الله تعالى، وأثرهم فى استدرار رحمة الله تعالى، ونصره للأمة وإعلاء شأنها.
ويكشف لنا عن مكانة علماء الأمة العاملين فى قلوب الأمة، تلك المكانة التى عرفها و قدرها الملوك والسلاطين لهم، فاحترموهم وجعلوا لهم الصدارة فى الناس، وأفسحوا لهم المجال فى التوجيه والإرشاد [99].
وثمة ملمح آخر، يتجلى لنا من خلاله، حرص واهتمام الإمام الكبير، والصوفى المجاهد، الشيخ أبى الحسن الشاذلى، بأمر الإسلام والمسلمين ؛ فمن أداب الصوفية وأخلاقهم الاهتمامالبالغ بأمر المسلمين، وقد استقى الصوفية هذا الأدب العظيم، وهذا الخلق الكريم من القبس النبوى الشريف،الذى رواه حذيفة رضى الله تعالى عنه، عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :"من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم " [100].
وتأسيسا على هذا القبس النبوى الشريف، يقول الإمام الصوفى الكبير الشيخ عبدالوهاب الشعرانى رضى الله تعالى عنه : " من لبس جديدا، وأكل هنيئا، وأضحك فى نفسه، أوسعد فى بيته، والأمة الاسلامية فى كرب وشدة، فقد برئ منه الاسلام "[101]
و يقول فى السياق نفسه : "سمعت الشيخ عليا الخواص رضى الله تبارك وتعالى عنه مرات يقول : من ضحك, أو جامع زوجته, أو لبس ثوبًا مبخرًا أو ذهب إلى مواضع التنزهات أيام نزول البلاء على المسلمين, فهو والبهائم سواء"[102]
ويقول أيضا : " وممن روينا عنه أنه كان إذا نزل بالمسلمين هم أو بلاء يمرض له أيامًا أميرا المؤمنين عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنهما, والشعبى[103] رضى الله تعالى عنه, فكانوا يمرضون ويعادون كما تعاد المرضى, فإذا ارتفع ذلك الهم أو البلاء عن المسلمين خلصوا من المرض لوقتهم, حتى كأنه لم يكن بهم مرض " [104].
وإذا علمنا أن السنة النبوية المطهرة، تحظى بمكانة رفيعة، و تعظيم بالغ، عند المدرسة الشاذلية،وشيخها أبو الحسن الشاذلى ؛ الذى كان النبى صلى الله عليه وآله وسلم، هو مثله الأعلى، وأسوته الحسنة، فى أوامره وأفعاله وأخلاقه، وكان النبراس الذى يهتدى به فى حياته الروحية، ويسير على ضوئه فى سلوكه الإنسانى[105].
إذا علمنا ذلك، فلا غرابة ولا عجب، إذا ما رأينا الشيخ أبا الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه، وهويروى لنا، عن مدى ما أصابه من هم وحزن إزاء الغزو الصليبى لمصر، وقد شُغِلَ بأمر المسلمين، فكان ليله ونهاره مشغولا بالله فى أمرهم، بل كان يقضى وقته كله فى المنصورة – مستيقظا ونائما – ولا تشغل باله وفكره، إلا هذه الملمة التى توشك أن تنزل بمصر والإسلام، ولا يشغل فكره إلا هذه الحرب الطاحنة، الدائرة رحاها بين عدو وافد من الخارج، وجيش مجاهد باسل يدافع عن الوطن والإسلام، فكان الشيخ رضى الله تعالى عنه إذا نام تكاثرت عليه الأحلام، يرى فيها ما يشغله فى اليقظة، ويلتمس فى عالم الروح مخرجا من هذه الأزمة [106]، حتى إذا ما أخذته سِنَةٌ من النوم فى ليلة من الليالى، رأى فيما يراه النائم، رؤيا تتعلق بحالة المسلمين فى المنصورة،، يقول صاحب كتاب درة الأسرار :
" قال الشيخ أبو الحسن : كنت بالمنصورة، فلما كانت ليلة الثامن من ذى الحجة، بت مشغولا بأمر المسلمين وبأمر الثغر، وقد كنت أدعو الله وأضرع إليه فى أمر السلطان[107] والمسلمين[108] .
فلما كان آخر الليل، رأيت فسطاطا واسع الأرجاء، عاليا فى السماء، يعلوه نور ويزدحم عليه خلق من أهل السماء، وأهل الأرض عنه مشغولون، فقلت : لمن هذا الفسطاط ؟
فقالوا : لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبادرت إليه بالفرح، ولقيت على بابه عصابة من العلماء والصالحين نحوا من السبعين، أعرف منهم الفقيه عز الدين بن عبد السلام، والفقيه مجد الدين مدرس قوص، والفقيه الكمال بن القاضى صدر الدين، والفقيه المحدث محى الدين ابن سراقة، والفقيه عبد الحكيم بن أبى الحوافز، ومعهم رجلان لم أعرف أجمل منهما، غير أنى وقع لى ظن فى حالة الرؤيا : أنهما الفقيه زكى الدين عبد العظيم المنذرى المحدث، والشيخ مجد الدين الأخميمى !!
وأردت أن أتقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزمت نفسى التواضع والأدب مع الفقيه ابن عبد السلام، وقلت : لا يصح لك التقدم قبل عالم الأمة فى هذا الزمان، فلما تقدم وتقدم الجميع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليهم يمينا وشمالا : أن اجلسوا وتقدمت، وأنا أبكى بالهم وبالفرح. أما بالفرح : فمن أجل قربى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وأما الهم فمن أجل المسلمين والثغر- دمياط -، وهَم طلبى إليه صلى الله عليه وسلم، فمد يده حتى قبض على يدى، وقاتم كل هذا الهم من أجل "الثغر" وعليك بالنصيحة لرأس الأمر – يعنى السلطان – فإن ولى عليهم ظالم فما عسى ؟ وجمع أصابع يده الخمسة فى يده اليسرى كأنه يقلل المدة.
وإن ولى عليهم تقى ف " الله ولى المتقين " وبسط يده اليمنى واليسرى.
وأما "المسلمون" فحسبك الله ورسوله وهؤلاء المؤمنون – أى العلماء والفقهاء والصالحون الذين بالمجلس – وقال :
(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)
وأما السلطان فيد الله مبسوطة عليه برحمته ما والى أهل ولايته ونصح المؤمنين من عباده، فانصحه واكتب له وقل فى الظالم عدو الله قولا بليغا.
(واصبر إن وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون).
فقلت : نصرنا ورب الكعبة. وانتبهت [109].
هذه الرؤيا تدل على أن الشيخ أبا الحسن كان يؤرق مضجعه هذا الخطر الجاثم على ثغر دمياط والزاحف نحو الجنوب، يدعو الله مخلصا فى يقظته وفى منامه، أن يكشف الغمة ويغيث الأمة. ولم تنقض أيام قليلة حتى تحققت بشرى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ونصر الله عز وجل المسلمين نصرا مؤزرا، وهزم المصريون الفرنجة وأسروا ملكهم لويس التاسع كما أسروا الكثير من قواده، ثم جلوا جميعا عن مصر بعد قليل.
وتكشف لنا هذه الرؤيا أيضا عن أدب جم من أداب الصوفية ، وخلُق رفيع من أخلاقهم : أما الخُلق الرفيع، فهو نصحهم للسلطان و اهتمامهم لهمه، فيما يتعلق بأمر المسلمين من جهاد ودفع للأعداء ؛ فقد كانوا على الدوام مراجع المشورة للملوك والسلاطين في القضايا المصيرية للأمة،ومما يدل على تحلى الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه بهذا الخلق الرفيع ما ورد فى الرؤيا من قوله :
" وقد كنت أدعو الله وأضرع إليه فى أمر السلطان "وما جاء فيها من توجيه النبى صلى الله عليه وآله وسلم له :"عليك بالنصيحة لرأس الأمر – السلطان – .....وأما السلطان فيد الله مبسوطة عليه برحمته ما والى أهل ولايته ونصح المؤمنين من عباده، فانصحه واكتب له وقل فى الظالم عدو الله قولا بليغا "[110].
ويعد هذا الخلق الكريم عند السادة الصوفية رضوان الله تعالى عليهم من النعم الجسام، ولنستمع إلى الصوفى الكبير الإمام عبد الوهاب الشعرانى يصف لنا هذه النعمة العظيمة، فيقول : " ومما أنعم الله تبارك وتعالى به علي: مرضي لمرض السلطان، واهتمامي به إذا كان في هم من جهاد، أو قتال بغاة، فلا أكل إلا لضرورة، ولا أنا م إلا عن غلبة، ولا أضحك إلا لأمر مشروع، ولا أجامع، ولا ألبس ثوبًا نظيفًا إلا بنية صالحة، وذلك لأرتباطي بإمامي إتباعًا للشرع في ذلك، فاعلم أن من خالف ماذكرناه فهو ناقص الإيمان، قليل الأدب مع السلطان، فافهم يا أخي ذلك ترشد، والحمد لله رب العالمين" [111].
وأما الأدب الجم فهو أدبهم وتواضعهم مع العلماء والفقهاء، رغم أنهم شاركوا العلماء والفقهاء فى علمهم ولم يشاركهم العلماء والفقهاء فى أذواقهم ومعارفهم !!!ومما يدل على تحقق الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه بهذا الأدب العالى الرفيع ما ورد فى الرؤيا من قوله : "وأردت أن أتقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فألزمت نفسى التواضع والأدب مع الفقيه ابن عبد السلام، وقلت : لا يصح لك التقدم قبل عالم الأمة فى هذا الزمان"[112].
وتظل الفهوم عاجزة عن إدراك فحوى أدب وتواضع القطب الربانى الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه، حتى تدركأن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، الذى كان شيخا للإسلام وقاضيا للقضاة، وكان من كبار علماء الشريعة والفقه فى القرن السابع الهجرى[113] وكان يلقب بشيخ العلماء وبسلطان العلماء،و انتهت إليه الإمامة، وبلغ منزلة الاجتهاد مع الزهد والورع، وأخذ التصوف عن شهاب الدين السهروردى رضى الله تعالى عنه، ثم سلك على يد الشيخ أبى الحسن الشاذلى، يقول : ما عرفت الإسلام الكامل إلا بعد اجتماعى على الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله عنه وأرضاه[114].
كما لاتزال الأفهام مترددة فى ريبها حتى، تنصت إلى شهادة سلطان العلماء بعلو مكانة الشيخ الشاذلى رضى الله تعالى عنه، وذلك حين استمع لتقريره فى الحقائق، وشاهد حسن إفصاحه عن العلم اللدنى، فصاح قائلا : " تأملوا هذا الكلام القريب العهد من الله "[115].
لم تنقض أيام قليلة حتى تحققت بشرى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ونصر الله عز وجل المسلمين نصرا مؤزرا، وهزم المصريون الفرنجة وأسروا ملكهم لويس التاسع كما أسروا الكثير من قواده، ثم جلوا جميعا عن مصر بعد قليل.
وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه أشد الناس فرحا بهزيمة الصليبيين ورحيلهم عن مصر، وقد عاد بعد هذا إلى الإسكندرية، وتابع فيها سيرته الأولى فى الحياة، يدرس ويعظ ويتعهد أرواح تابعيه ومريديه بالتهذيب.
وأصبحت للشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه، مكانة مرموقة فى المجتمع المصرى، بناء على جهاده المشرف، ودوره القيادى البارز فى حشد المجاهدين لمعركة المنصورة، فصار يقصده رجال الدولة والعلماء والعامة، يقصده رجال الدولة، يلتمسون المشورةفي قضايا الأمة المصيرية، و يقصده العلماء يستزيدون من علمه وتعاليمه، ويقصده العامة يلتمسون منه نصرة المظلوم، ويستشفعون به لدى رجال الدولة ؛ لقضاء حوائجهم و مطالبهم [116]
لقد كان الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه مكافحا بمعنى الكلمة، وبنضاله المجيد الذى يذكره له التاريخ، هدم الفكرة السيئة التى أشيعت عن الصوفية من جانب خصومهم، بأنهم سلبيون فى الحياة، وأن تصوفهم ضعف وانعزال[117].
وأثبت أن التصوف الحق عموده الجهاد الذى هو: ذروة سنام الإسلام، وليس في دين الإسلام سلبية ولا تواكل؛ وأنه لايمكن تحقيق خلافة الله تعالى على الأرض بالسلبية والتواكل والاستسلام [118].
وحينما نتحدث عن كفاح الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه - برغم أنه كان يعتذر له عن التخلف لكبر سنه، ولأنه قد كُف بصره - يتلاشى على الفور، ما يتوهمه بعض الناس من أن الصوفية قوم كسالى، وأن التصوف مظهر من مظاهر الضعف [119]، فما كان للشيخ أبى الحسن الشاذلى أن يتخلف عن فرض، وما كان يتأتى له أن يتخلف عن مؤزارة المسلمين.
والواقع أن الشخصية الجهادية للشيخ أبى الحسن الشاذلى حين يتأملها الإنسان، تظهر وكأنها معول يهدم فكرة السلبية عن الصوفية والتصوف، كماي هدم ما يبنيه أعداء التصوف من شبهات حوله ؛ فالتصوف حليف للكفاح ( وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ) هذه الصورة المشرفة، نضعها أما أنظار علماء المسلمين فى العصر الحاضر، وأمام رجال التصوف الإسلامى، لعل فيها لهؤلاء وأولئك ذكرى كريمة ومثلا يحتذى![120]
وإلى الذين ينقدون الصوفية فيما يتعلق بالجهاد، نسوق هذه الصفحة من تاريخ الصوفى المجاهد الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضى الله تعالى عنه بإزاء الجهاد ؛ ليعلموا أن التصوف الحق لا يمنع من أداء الواجب الوطنى والدينى، كما نسوق هذه الواقعة لنبرهن أن الصوفية لا يتخلفون أبدا عن الميدان، فها هو ذا شيخهم وقدوتهم نراه بين صفوف المجاهدين فى ميدان المعركة، متأسيا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم، باعتبارهم القدوة الحسنة والمثل العليا للصوفية، ما تخلف أحدهم عن الجهاد فى سبيل الله عز وجل[121].
ولا يتأتى أن نختم الحديث عن الجهاد، دون أن نشيرإلى مبدأ الشاذلية فى الجهاد وهو: "الأولياء لايكرهون الموت" فالولى على الحقيقة لا يكره الموت إن عرض عليه، وفى هذا المعنى يقول الشيخ أبوالحسن الشاذلى : " من ثبتت ولايته من الله لا يكره الموت، ويُعلم ذلك من قوله تعالى : ( قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين )[122]