سُئل سهل بن عبد الله عن رجل يقول:
- أنا كالباب لا أتحرك إلا إذا حُرِّكت.
فقال سهل:
- هذا لا يقوله إلا أحد رجلين: إما صدِّيق، وإما زنديق، لأن الصدِّيق يقول هذا القول إشارة إلى أن قوام الأشياء بالله تعالى مع إحكام الأصول ورعاية حدود العبودية.. والزنديق يقول ذلك إحالة للأشياء على الله تعالى، وإسقاط اللوم عن نفسه، وانخلاعًا عن الدين ورسمه.
***
القول واحد فى الظاهر.. مختلف فى الباطن.. مما فرّق بين صاحبى القول الواحد.. كالفرق ما بين السماء والأرض.. فجعل الأول صدِّيقا.. والثانى زنديقا..
الصِّديق يعلم أن الله خالق عمله.. لأنه واحد لا شريك له.. ولا خالق غيره.. خلق أعمال العباد وأمرهم بالقيام بها.. ثم يحاسبهم عليها.. فهو يعمل جهده امتثالا لأمر ربه وخضوعا لمشيئته ورضا بحكمه..
أما الآخر فزنديق لأنه أخذ ما أحب وترك ما كرهت نفسه.. فترك العمل بالكلية بحجة أن الله لو شاء لجعله يعمل..
هذه المسألة وما شابهها من مسائل تستنير أمام بصائرنا إذا عرفنا شقى الدين:
الشـريعة والحقيقة..
***
خلقَ الله الإنسان من جسد وروح.. وكذلك جعل الدين.. له جسد وروح.. وهو ما اصطلح عليه العلماء بالشريعة والحقيقة.. ولا تُفْهم قضايا الإيمان ـ التى منها موضوع القضاء والقدر ـ إلا بوجودهما معًا.
فالشريعة والحقيقة جناحا الإيمان.. والمؤمن الكامل هو الذى يوفق للجمع بينهما.
الشريعة ـ وهى جسم الدين ـ قام على أمرها الفقهاء.. والحقيقة ـ وهى روحه ـ قام على أمرها الصوفية العارفون بالله.
شرح هذا الأمر الشيخ أبو الأعلى المودودى فى كتابه مبادىء الإسلام فقال:
إن علاقة الفقه (الشريعة) إنما هى بظاهر عمل الإنسان فقط.. ولا ينظر الفقيه إلا: هل قمت بما أمرت به على الوجه المطلوب أم لا؟ فإن قمت به فلا تهمه حالُ قلبك وكيفيته.
أما الشىء الذى يتعلق بالقلب، ويبحث عن كيفيته فهو التصوف.
إن الفقه لا ينظر فى صلاتك مثلاً إلا: هل قد أتممتَ وضوءك على الوجه الصحيح أم لا؟.. وهل صلَّيت موليًا وجهك شطر المسجد الحرام أم لا؟.. وهل أدَّيتَ أركان الصلاة كلها أم لا؟.. وهل قرأتَ فى صلاتك بكل ما يجب أن تقرأ فيها أم لا؟.. فإن قمتَ بكل ذلك فقد صحت صلاتك بحكم الفقه.
إلاَّ أن الذى يهم التصوف هو ما يكون عليه قلبك حين أدائك هذه الصلاة من الحالة..
هل أَنبْتَ فيها إلى ربك أم لا؟.. وهل تجرَّد قَلبُك فيها عن هموم الدنيا وشُئُونها أم لا؟.. وهل أنشأت فيك هذه الصلاة خشيةَ الله، واليقين بكونه خبيرًا بصيرًا، وعاطفة ابتغاء وجهه الأعلى وحده أم لا؟.. وإلى أىِّ حدٍّ نزهت هذه الصلاة روحه؟.. وإلى أى حد أصلحتْ أخلاقه؟.. وإلى أى حد جعلته مؤمنًا صادقًا عاملاً بمقتضيات إيمانه؟..
فعلى قَدْر ما تحصل له هذه الأمور، وهى من غايات الصلاة وأغراضها الحقيقية، فى صلاته تكون صلاته كاملة فى نظر التصوف.. وعلى قَدْرِ ما ينقصها الكمال من هذه الوجهة، تكون ناقصة فى نظر التصوف.
ويمكنك أن تُدرك هذا الفرق بين الفقه والتصوف بِمَثَلٍ أضْربه لك:
إنك إذا أتاك رجل، نظرت فيه من وجهتين:
إحداهما: هل هو صحيح البدن، كامل الأعضاء؟.. أم فى بدنه شىء من العرج أو العمى؟.. وهل هو جميل الوجه أو دميمه؟.. وهل هو لابس زيـًّا فاخرًا أو ثيابًا بالية؟..
والوجهة الأخرى: إنك تريد أن تعرف أخلاقه وعاداته وخصاله، ومبلغه من العلم والعقل والصلاح..
فالوجهة الأولى وجهة الفقه.. والوجهة الثانية وجهة التصوف.
***
إذا تمسك الإنسان بالتصوف (أو الحقيقة) فقط انحرف.. وإن تمسَّك بالفقه (أو الشريعة) فقط جاء عمله ناقصًا.. وربما سقط فى النفاق..
لذلك يقول الإمام مالك:
من تصَوَّفَ ولم يتفقه فقد تزندق..
ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق..
ومن جمع بينهما فقد تحقق.
قال الشيخ عبد القادر عيسى فى كتابه "حقائق عن التصوف" تعليقًا على كلمة الإمام مالك:
تزندق الأول لأنه نظر إلى الحقيقة مجردةً عن الشريعة، فقال بالجَبْر، وأن الإنسان لا خيار له فى أمْرٍ من الأمور، فهو يتمثل قول القائل:
ألقاه فى اليمِّ مكتوفا وقال له إيــاك إيــاك أن تبتـلّ بالمـــــاءِ
فعطل بذلك أحكام الشريعة والعمل بها.. وأبطل حكمتها والنظر إليها..
***
قال الإمام ابن عجيبة:
جعل الله سبحانه فى القلب عينين تسمى البصيرة .. إحداهما تنظر للحكمة فتقوم بالشرائع.. والأخرى تنظر للقدرة فتقوم بالحقائق..
قوم أحبهم الله.. ففتح لهم عين الحقيقة.. فأسندوا الأفعال كلها إلى الله، ولم يروا معه سواه.. فتأدبوا فى الباطن مع الأشياء كلها.. وفتح لهم عين الشريعة فقاموا بوظائف العبودية على المنهاج الشرعى وهم الأولياء العارفون بالله..
فمن تمسك بالحقائق العلمية دون الشرائع كان زنديقا.. ومن تمسك بالشرائع دون الحقائق كان فاسقا.. ومن تمسك بهما كان صديقا..
***
إذن الشريعة إسلام.. والحقيقة استسلام..
الشريعة طاعة بالجوارح.. والحقيقة إعظام للآمر..
الشريعة حظ الظواهر.. والحقيقة حظ الباطن..
فإذا تدرع المؤمن بالاثنين معا.. الشريعة والحقيقة..
فمن أين يأتيه الاعتراض..
أو يتسرب إلى قلبه الريب..
والحمد لله أولا وأخيرا..
الحمد لله الذى لم يدع أمرنا إلى غيره.. ولم يجعل فى الكون إرادة مع إرادته.. ولا مشيئة مع مشيئته..
(وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك
ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا).
_________________ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
|