موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ مشاركة واحده ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: عمر المختار وشيخ المجاهدين المرابطين
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة نوفمبر 16, 2012 1:10 am 
غير متصل

اشترك في: الجمعة إبريل 28, 2006 11:18 pm
مشاركات: 4171
مكان: الديار المحروسة
عمر المختار

من قال إن النصر على العدو هو غاية المؤمن المجاهد الصادق؟
من كان النصر غايته، إنما طلب حظوظ نفسه وهواه.
ومن كان الله غايته لم يختر إلا مُختار الله له.
إن الله لم يرض أن يكون النصر على الأعداء هو المكافأة التى يكافئ بها المجاهدين فى سبيله. كيف والدنيا كلها لا تساوى عنده جناح بعوضه!.
لو جمعت الدنيا فى لقمة واحدة، لم يبال الله أن يضعها فى فم كافر،وما ذلك إلا لهوانها عليه.
إنما يكافئهم بما يليق به سبحانه وتعالى:
}يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة فى جنات عدن ذلك الفوز العظيم{ "الصف:12".
وأعظـم نصر المؤمن أن ينصره الله على نفسه، وأن ينـزع من قلبه الخوف من غير الله.
فأنصت الآن ـ أيها القارئ الكريم ـ إلى خبر هذا البطل من أبطال الإسلام؛ المجاهد العظيم، أسد برقة الصامد سيدى عمر المختار، ثم سل نفسك بعد ذلك إن كنت ممن يؤمنون بالغيب: أى الفريقين المنصور حقا؟!
واسمح لى ـ فى غضون ذلك أن أسوق هذا المثل السائر على ألسنة الناس:
"من يضحك أخيرًا .. يضحك طويلاً".
* * *
إن الصادقين لا تخفى أحوالهم، أما الكاذبون فإنهم مهما حسنوا ظواهرهم، ونمقوا كلامهم فلابد أن تفضحهم أعمالهم.
كان عمرالمختار نموذجًا فذًا لأهل الصدق، الذين تربوا فى معاهد الصدق، وعلى أيدى رجال الصدق واليقين.
وُلد الأسد بإحدى قبائل برقة، وحفظ القرآن بزاوية الجغبوب، وبها تلقى علومه الدينية، وتربى التربية الصوفية.
وشب على الطهر والعفاف، وأخلاق الإسلام الجميلة، ورأى فيه مشايخه علامات الصلاح، فأقامه الإمام المهدى السنوسى شيخًا على إحدى الزوايا السنوسية "زاوية القصور" بالجبل الأخضر. ثم أخذه معه إلى السودان نحوًا من أربع سنوات، ثم عاد إلى برقة ليتولى مشيخة زاوية القصور مرة أخرى. وظل بها حتى دهم الطليان مدينة بنغازى سنة 1329هـ ـ 1911م، فكان من أوائل من هب لتلبية نداء الجهاد.
قاد البطل معارك الجهاد فى برقة لمدة عشرين عامًا، وكان أثناءها متحصنا بالجبل الأخضر، ويهاجم الطليان فى أنحاء متعددة، ويغزوهم فى كل مكان، وينزل بهم الهزائم تلو الهزائم، ويغنم منهم الأسلحة والمؤن، ولا زالت ذاكرة التاريخ تعى أسماء المعارك التى زينت إلى آخر الزمان جبين الدهر بمعانى البطولة والشرف.
قال القائد العام الإيطالى "جراسيانى" فى بيان له عن الوقائع التى وقعت بين جيوشه وبين عمر المختار أنها كانت مائتين وثلاثا وستين معركة فى مدة لا تتجاوز عشرين شهرًا أى بمعدل ثلاث عشر معركة فى كل شهر.
* * *
حسبنا هذه المقدمة الخاطفة فى سيرة البطل أسد برقة الشهيد، فإن تفاصيلها تستغرق صفحات وصفحات، ونحن فى عجلة من أمرنا،لا نكاد نصبر عن خبره المبهر، ومشهده الخالد فى أخريات أيام الجهاد، الأيام الصعبة القاتمة، أيام الهول والشدة التى تسبر أغوار الرجال.
* * *
ها هى ذى أيام الجهاد قد طالت، وطوت سنواته الطويلة أيام الراحة والاستقرار، كما طوت معها أعمار الآلاف من المجاهدين وأضعاف أعدادهم من النساء والشيوخ والأطفال من الأهل والأحباب والجيران.
صحيح أن قتلى الطليان وجرحاهم كانوا يُعدُّون بمئات الألوف إلا أنهم كانوا كلما هلك منهم جندى أتوا مكانه بواحد أو اثنين، وكلما فقدوا سلاحا عوضوه بخير منه.
يا أيام الشدة.. كم لك على أمة الحبيب من أيادٍ!!
راح الطليان يضربون حصارًا حديديًا خانقًا على المجاهدين، ويحاولون أن يعزلوهم (بالكلية) عن العالم حتى يمنعوا عنهم إمدادات الرجال والسلاح والمؤن.فجمعوا من بقى على قيد الحياة من أهالى القرى والبلاد فى معسكرات اعتقال على الساحل، ثم مضوا فى إقامة أسلاك شائكة على طول الحدود بين برقة ومصر، وهذه هى تفاصيل هذه الخطة كما بينها الأستاذ محمد الطيب الأشهب:
[فى أواخر سنة 1349هـ وبعد احتلال (الكفرة) فى يناير سنة 1931م وضم الأهالى فى المعتقلات شرع غراسيانى فى مد الأسلاك الشائكة على طول الحدود المصرية الليبية كى يقف الدخول والخروج من وإلى هذين القطرين وجاء للعمل فى ذلك بشركات خاصة من إيطاليا تعهدت كل منها بقطعة من الأرض ليتم العمل بسرعة تحت مهندسى وفنانى الحكومة الإيطالية وجيئ بجميع الأدوات الصناعية الفنية على مختلف أنواعها وأشكالها ثقيلة كانت أو خفيفة فمن ذلك ما استورد خصيصا من ألمانيا.
وجيئ لهذا العمل بعشرات آلالاف من العمال عدا الجنود الإيطالية وجعلت مراكز قوية محصنة على طول خط الحدود من البحر إلى ما بعد الجغبوب جنوبا وطولها هذا أكثر من ثلاثمائة كيلو مترا.
وتتصل هذه النقاط ليلا ونهارا بالداوريات الاستطلاعية استعدادا للضربة الأخيرة وغدت هذه النقاط ترابط هناك على طول الخط المحكم القوى ويبلغ عرض الأسلاك الشائكة أكثر من ثلاثة أمتار فأصبحت المسافة الواقعة من البحر شمالا إلى الجغنوب جنوبا لا يمكن الافلات منها فى جميع الأوقات ولا يمر أحد بتلك الجهات إلا ويقع تحت نظر تلك القوات المرابطة ويستهدف للموت الزُّؤام ويضاء هذا الخط على طوله بالكهرباء ليلا وإذا قدر فى القليل النادر لأحد أن يصل إلى هذا الخط فيكون بين معركتين شديدتين أحداهما محاولة اجتياز الخط الصعب والأخرى الدفاع عن نفسه، ولم يخترق تلك الأسلاك إلا أفراد قليلون.
كانت هذه الأسلاك الشائكة عاملا قويا فى القضاء على الحركة بالجبل، لأن المعسكرات كانت تبتاع ما يلزمها من أسواق القطر المصرى، وتبيع بأسواقه ما تغنمه من الطليان، ورغم انتقال الأهالى كان المجاهدون لا يقاسون أتعابا كثيرة من جهة المؤنة، كما حصل بعد وضع الأسلاك الشائكة، إذ كانوا يستجلبون مؤنهم وكساءهم من السلوم وكانت الحالة يومئذ لا تخلو من الخطر، والاشتباك مع العدو، إلا أن بعض الشر أهون من بعض، أما وجود هذا الحصار الشديد الذى لقى كل من كتب له اجتيازه من العناء والمشقه والعذاب ألوانا وشاهد الموت جاثما أمامه فهو الضربة الشديدة التى نزلت بالمجاهدين.
وعند إتمامه وتكميله أخذت القوات الإيطالية المؤلفة من مختلف التشكيلات يضاف إليها الصوماليون وجنود الأرتريا والوطنيون الذين استجلبوا خصيصا من طرابلس وأنحآئها ومن برقة تهاجم المعسكرات المرة تلو الأخرى والفينة بعد الفينة فكانت تصيب المرمى حينا وتخطىء أحيانا وما من نوع من أنواع الفتك إلا وقد استعمل بالجبل.
كل هذا والمجاهدون صامدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذين كنتم توعدون، فلم يرهبهم هول المصاب واشتداد الحالة وكانوا يقضون جل أوقاتهم بدون أكل فيكتفون بأقل شىء يجدونه ولو من نبات الأرض قائلين نأكل لنعيش كى نقاتل عدونا ولا نعيش لنأكل فيأكلنا عدونا، وكانت خيولهم تموَّن مما يأكلونه وهو حشايش الأرض وكانوا يفرحون ويستبشرون بلقاء عدوهم لأنهم يغنمون الأسلحة التى يضربونه بها والمؤنة التى يقتاتون بها.
ورغم تحكيم هذا الخط المذكور فكر غرسيانى أن يشعل النار فى غابات الجبل كلها إن لم تفدهُ الأسلاك الشائكة لكى يبقى المجاهدون فى الفضاء ولكن القبض على السيد عمر المختار جعله يعدل عن فكرته].
[برقة العربية أمس واليوم 486ـ487]


ويضيف محمد أسد إلى هذه الصورة القاتمة تفاصيل أخرى. ومحمد أسد هذا صحافى نمساوى يهودى أسلم وحسن إسلامه، وعاش فترة طويلة من حياته فى بلاد العرب كما رأينا فى الفصل السابق، وعن السيد أحمد الشريف السنوسى. يقول محمد أسد:
[كان الموقف فى برقة على وجه التقريب، كما يلى: كانت جميع المدن الساحلية وعدد من النقاط فى القسم الشمالى من الجبل الأخضر ـ فى برقة الوسطى ـ فى قبضة الإيطاليين الشديدة. وكان هؤلاء يُسيِّرون، بين هذه النقاط المحصنة، دوريات مستمرة من السيارات المصفحة وعددًا كبيرًا من المشاة، ومعظمهم من عسكر أريتريا، تدعمها أسراب جوية كانت تقوم بغارات متكررة على الأرياف.
وكان البدو (الذين كانوا يشكلون نواة المقاومة السنوسية) غير قادرين على أن يتحركوا دون أن يكتشفوا حالاً وتفتح عليهم النار من الجو، وكثيرًا ما حدث أن طائرة استطلاعية أبرقت إلى أقرب مركز إليها بوجود مخيم للبدو، وبينما كانت مدافع الطائرة الرشاشة تمنع الناس من التفرق كانت بضع سيارات مصفحة تظهر فجأة وتندفع جارفة فى طريقها بيوت الشعر والجمال والناس، فتقتل دون تمييز كل ما يعترض طريقها من الرجال والنساء والأطفال والمواشى.
وما تبقى من الناس والمواشى على قيد الحياة كان يساق معًا نحو الشمال إلى المعسكرات المحاطة بالأسلاك الشائكة، والتى كان الأيطاليون قد أنشأؤُها بالقرب من الشاطئ.
فى ذلك الوقت، فى نهاية سنة 1930م تقريبًا، بلغ عدد الأسرى ما يقرب من ثمانين ألف بدوى حشروا جميعًا مع مئات الألوف من المواشى، فى مساحة من الأرض لم تكن توفر من الغذاء ما يكفى لربع هذا العدد، فكانت النتيجة أن معدل الوفيات بين الإنسان والحيوان ارتفع ارتفاعًا يبعث على الدهش والفزع.
وبالإضافة إلى هذا فقد كان الإيطاليون يقيمون حاجزًا من الأسلاك الشائكة على طول الحدود المصرية من الشاطئ جنوبًا إلى جغبوب لكى يجعلوا من المستحيل على المجاهدين الحصول على المؤن والذخائر من مصر.
وكانت قبيلة المغاربة الباسلة، بقيادة زعيمها المغوار الأطيويش ـ ساعد عمر المختار الأيمن ـ لا تزال تقاوم مقاومة ضارية بالقرب من شاطئ برقة الغربى، ولكن معظم أفراد القبيلة كانوا قد أسقط فى أيديهم بالنظر إلى تفوق الإيطاليين فى العدد والعدة.
أما فى أعماق الجنوب، فإن قبيلة الزوية بقيادة شيخهم أبى كريّم ذى التسعين عامًا، كانت لا تزال تقاتل ببأسٍ رغم فقدها مركزها القبلى ـ واحة جالو ـ وأما فى الداخل فقد كان الجوع والمرض يهلكان عددًا عظيمًا من السكان البدو]. [الطريق إلى الإسلام ص 344]
* * *
كان الأمل فى إنقاذ مجاهدى برقة يتمثل فى تأمين إمدادات المتطوعين والمؤن، وكذلك بعض الأسلحة المتطورة التى يمكنها التعامل مع الدبابات والطائرات، وببعض الفنيين المدربين عليها لتدريب المجاهدين، ثم توفير وسائل الاتصال اللاسلكية بين جماعات المجاهدين.
وكان هذا الأمر أكثر ما يشغل السيد أحمد الشريف وقد استقر الآن بأرض الحجاز، وانتهى إلى أن خير مركز يمكن أن يلجأ إليه المجاهدون هو واحة كفرة فى جنوب الصحراء الليبية حيث يمكن تأمين خطوط إمداد مع مصر. وأراد السيد أحمد أن يذهب بنفسه فى رحلة المخاطر والأهوال ليكون مع المجاهدين المحاصرين فى الجبل الأخضر، وبعد مداولة بينه وبين أحد أعيان الحركة السنوسية، ومحمد أسد وقع الاختيار على الأخير أن يقوم بهذه الرحلة حاملاً رسالة إلى أسد برقة من السيد أحمد.
وكانت رحلة محمد أسد ـ ومن كانوا فى رفقته ـ شاقة حقًا، خصوصًا عبور الحاجز المنيع من الأسلاك الشائكة.
يقول محمد أسد عن سبب قبوله هذه المهمة الخطيرة، أن جهاد الطريقة السنوسية هو :
"تمامًا كما فعل صحابة النبى r منذ ثلاثة عشر قرنا مضت وإذن فإن إسداء المعونة إليها ـ أى السنوسية ـ فى صراعها العنيف المر، مهما كانت النتيجة مشكوكًا فيها أمرٌ ضرورى لى كالصلاة سواء بسواء..".
[الطريق إلى الإسلام 350]
ها هو ذا ـ أخيرًا ـ محمد أسد ـ بعد أن نجح بأعجوبة فى قطع رحلة الأهوال ـ يقف وجهًا لوجه أمام عمر المختار بين صخور الجبل الأخضر فى ليلة مظلمة..
يصف محمد أسد هذا اللقاء فيقول:
[وما لبث عمر أن جاء على جواد صغير لُفت حوافره بالقماش. وكان يحيط به رجلان من كل جانب، ويتبعه كذلك عدد آخر. وعندما وصل إلى الصخور التى كنا ننتظر عندها، ساعده أحد رجاله على النـزول، ورأيت أنه كان يمشى بصعوبة (عرفت بعدئذ أنه قد جرح أبان إحدى المناوشات قبل ذلك بعشرة أيام تقريبا).
وعلى ضوء القمر المشرق استطعت الآن أن أراه بوضوح: كان رجلاً معتدل القامة قوى البنية ذا لحية قصيرة بيضاء كالثلج تحيط بوجهه الكئيب ذى الخطوط العميقة. وكانت عيناه عميقتين، ومن الغضون المحيطة بهما كان باستطاعة المرء أن يعرف أنهما كانتا ضاحكتين براقتين فى غير هذه الظروف، إلا أنهما لم يكن فيهما الآن شىء غير الظلمة والألم والشجاعة.
واقتربت منه لأحييه، وشعرت بالقوة التى ضغطت بها يده على يدى.
ـ "مرحبًا بك، يا ابنى".
قال ذلك وأخذ يجيل عينيه فىَّ متفحصًا. لقد كانتا عينى رجل كان الخطر خبزه اليومى.
وفرش أحد رجاله حِرامًا على الأرض فجلس سيدى عمر عليه متثاقلاً. وانحنى عبد الرحمن ليقبل يده ثم شرع، بعد استئذانه، يوقد نارًا خفيفة تحت الصخرة التى كنا محتمين بها. وعلى ضوء النار الخافت، قرأ سيدى عمر الكتاب الذى حمَّلنيه السيد أحمد إليه. لقد قرأه باهتمام وعناية، ثم طواه ووضعه لحظة فوق رأسه ـ وهى أمارة الاحترام والحب لا يكاد المرء يراها فى جزيرة العرب ولكنه كثيرًا ما يراها فى شمالى أفريقيا ـ ثم التفت إلىّ مبتسمًا وقال:
ـ "لقد أطراك السيد أحمد، أطال الله عمره، فى كتابه. أنت على استعداد لمساعدتنا، ولكننى لا أعلم من أين يمكن أن تأتينا النجدة إلا من الله العلى الكريم. إننا حقًا على وشك أن نبلغ نهاية أجلنا.."
فقلت: "ولكن.. هذه الخطة التى وضعها السيد أحمد، ألا يمكن أن تكون بداية جديدة؟ وإذا أمكن تدبير الحصول على المؤن والذخائر من كفرة بصورة ثابتة، أفلا يمكن صد الإيطاليين؟".
لم أر فى حياتى ابتسامة تدل على ذلك القدر من المرارة واليأس كتلك الابتسامة التى رافقت جواب سيدى عمر:
ـ "كفرة.. ؟ لقد خسرنا كفرة، فالإيطاليون قد احتلوها منذ أسبوعين تقريبًا..".
وأذهلنى الخبر، ذلك أننى والسيد أحمد، طوال تلك الأشهر الماضية، كنا نبنى خططنا على افتراض أن كفرة يمكن أن تكون نقطة تجمع لتقوية المقاومة. أما وقد ضاعت كفرة فإنه لم يبق للسنوسيين سوى نجد الجبل الأخضر ـ لا شىء سوى كماشة الإيطاليين التى كانوا يضيقونها بثبات واستمرار.. وخسارة نقطة بعد نقطة.. واختناق بطىء!
ـ "وكيف سقطت كفرة؟".
فأومأ سيدى عمر إيماءة متعبة إلى أحد رجاله أن يقترب : "دع هذا الرجل يقص عليك الخبر.. إنه واحد من أولئك القلائل الذين هربوا من كفرة، ولم يصل عندى إلا بالأمس".
وجلس الكفرى على ردفيه أمامى وجذب برنسه البالى حوله وتكلم ببطء دون أن يبدو فى صوته أى أثر للانفعال، ولكن وجهه الناحل كان يعكس جميع الأهوال التى شهدها:
ـ "لقد خرجوا علينا فى ثلاث فرق ومن ثلاث جهات، وكان معهم سيارات مصفحة ومدافع ثقيلة كثيرة. أما طائراتهم فقد حلقت على علومنخفض ورمت بالقنابل البيوت والمساجد وغياض النخيل. لم يكن لدينا سوى بضع مئات من الرجال يستطيعون حمل السلاح، أما الباقون فقد كانوا نساء وأطفالا وشيوخًا. لقد دافعنا عن أنفسنا بيتًا بيتًا، ولكنهم كانوا أقوى كثيرًا منا، وفى النهاية لم يبق لنا إلا قرية الهوارى. لم تنفع بنادقنا فى سياراتهم المصفحة فطغوا علينا، وتمكن عدد قليل جدًا من الهرب. أما أنا فقد اختبأت فى حدائق النخيل، مترقبًا الفرصة لشق طريقى خلال الخطوط الإيطالية. وكنت طوال الليل أسمع ولولة النساء اللواتى كان الجنود الإيطاليون والعساكر الاريتريون يغتصبونهن. وفى اليوم التالى أحضرت لى امرأة عجوز بعض الماء والخبز، وأخبرتنى أن الجنرال الإيطالى قد حشد كل ما تبقى على قيد الحياة أمام قبر السيد محمد المهدى وأمام أعينهم مزق نسخة من القرآن ثم رماها إلى الأرض وداس عليها بحذائه صائحًا: "دعوا نبيكم البدوى يساعدكم الآن، إذا استطاع"! ثم أمر بقطع أشجار النخيل فى الواحة وبهدم آبارها وإحراق كل ما كان فى مكتبة السيد (المهدى) من كتب. وفى اليوم التالى أصدر أمره بوضع بعض شيوخنا وعلمائنا فى طائرة حلقت بهم ورمتهم من علو شاهق. وطوال الليلة التالية كنت أسمع من مخبئى صرخات النساء وضحكات الجنود وطلقات بندقياتهم.. وأخيرًا زحفت إلى الصحراء فى ظلام الليل فوجدت جملاً شاردًا امتطيته ووليت فرارًا..".
وعندما انهى الكفرى قصته المخيفة قربنى سيدى عمر إليه بلطف وكرر قوله: "إنك تستطيع أن ترى، يا ابنى، إننا قد اقتربنا فعلاً من نهاية أجلنا." ثم أضاف كأنما يجيب على السؤال الذى كانت تنطق به عيناى: "إننا نقاتل لأن علينا أن نقاتل فى سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت، وليس لنا أن نختار غير ذلك. إنّا لله وإنّا إليه راجعون".
وسمعنا هديرًا خافتًا ينبعث من مكان ما من السماء السوداء. وبحركة فجائية، رمى أحد رجال سيدى عمر الرمل على النار فأطفأها. ومرت الطائرة، التى لم تكن سوى شبح غامض فى الغيوم المضاءة بنور القمر الخافت، على علو منخفض، واتجهت نحو الشرق، واختفى هديرها قليلا قليلاً.
قلت: "ولكن يا سيدى عمر، أليس من الأفضل لك وللمجاهدين أن تنسحبوا إلى مصر بينما لا يزال هناك طريق مفتوح أمامكم؟".
فأجاب : "كلا يا ابنى.. إذا ذهبت وأتباعى الآن إلى مصر فإننا لن نتمكن مطلقًا من العودة ثانية، وكيف نستطيع أن نتخلى عن قومنا ونتركهم ولا زعيم لهم لأعداء الله يفترسونهم؟].
[الطريق إلى الإسلام 360ـ363]
ما هذا الذى تقول يا أسد برقة، ويا بطل الأبطال؟
الرجل يعرض عليك أن تنجو بحياتك وحياة من معك بالخروج من كمين الموت، فتقول له، أخشى إن خرجت أن لا أتمكن من العودة إليه مرة أخرى؟
أى شأنك أعجب؟
صمودك العظيم وصبرك الذى لا ينفد، كأنك قد وقعت على منجم للصبر والصمود تغترف من جوانبه ما تشاء؟
أم حرصك على أن تموت فى ساحة القتال، لتُرى الله من أمرك ما يحب ويرضى؟
لك ما تشاء يا عمر يا مختار!!
ولقد قال ربنا جل جلاله: "أنا عند ظن عبدى بى".
وقد كنت ـ دائما ـ "عبدًا" صادقًا صالحًا..
واليوم.. لن تجد من ربك إلا ما تحب!
. . . . . . . . . . . . .
وها هوذا ـ أخيرًا ـ مشهد الختام، ترسمه ريشة القدر كأبدع ما تكون لوحات المبدعين جمالاً وشموخًا وبهاء.
* * *
من حضروا أحداث اليوم الأخير تناقلوا خبره، ونقله إلينا محمد أسد كما سمعه ممن شاهد ووعى.
قال الشيخ محمد الزوى:
[كان سيدى عمر ونفر من رجاله متوغلين فى بعض الأراضى التى كانت فى قبضة الإيطاليين عندما قرروا أن يزوروا قبر سيدى الرافعى صاحب النبى صلى الله عليه وسلم، على مقربة منهم. وبطريقة ما عرف الإيطاليون بوجوده وسدوا الوادى من الجانبين بعدد كبير من الرجال. ولم يكن هناك أمل بالهرب، ولكن سيدى عمر والمجاهدين دافعوا عن أنفسهم إلى أن لم يبق منهم سواه واثنين آخرين. وأخيرًا سقط جواده من تحته قتيلاً برصاصة بندقية، فوقع على الأرض ورجله تحت الجواد الميت بحيث لم يستطع النهوض. إلا أن الأسد العجوز استمر فى إطلاق النار من بندقيته إلى أن أصابته رصاصة فى إحدى يديه، وعندئذ استمر يطلق النار بيده الأخرى حتى نفدت ذخيرته. عندئذ قبضوا عليه وحملوه، مكبلاً، إلى "سلوق"].
وهناك فى "سلوق" أقبل غرازيانى يتلمظ أحقاده، ويستخفه الفرح والسرور، ودار بينه وبين البطل حوار أدهش الدنيا ولا يزال: إيهما المنتصر وأيهما المهزوم، القائد المحاط بالجند والأعوان، أم الأسير المكبل بالسلاسل والأغلال؟ ويكمل محمد الزوى روايته قائلا:
"أُخذ إلى الجنرال غرازيانى الذى سأله:
"ماذا تقول لو أن الحكومة الإيطالية، رأفة كبرى منها بك، سمحت لك أن تعيش؟ هل أنت على استعداد لأن تعد بأنك ستمضى ما تبقى لك من أيامك فى سلام؟".
ولكن سيدى عمر أجاب:
"لن أتوقف عن قتالك وقومك حتى تغادروا بلادى أو أفارق حياتى. وأقسم لك بالله الذى يعلم ما فى القلوب أنه لو لم تكن يداى مغلولتين فى هذه اللحظة بالذات، إذن لقاتلتك بيدى العزلاء أنا الشيخ المحطم العجوز..".
وعندها ضحك الجنرال غرازيانى وأعطى الأمر بأن يشنق سيدى عمر فى سوق "سلوق". وهكذا كان. فقد جمع الإيطاليون آلافًا كثيرة من رجال المسلمين ونسائهم من المعسكرات التى كانوا مسجونين فيها وأجبروهم بالقوة على أن يشهدوا شنق قائدهم…" [الطريق إلى الإسلام 342]
* * *
ترى كيف مضت بقية القصة؟
لعل البطل عندما اعتلى منصة الشنق، أطل على جموع الشعب البائس التى راحت ترمق قائدها ورمز نضالها بعيون قد نضبت دموعها منذ زمن بعيد.
ولعله إذ نظر إليهم نظرته الأخيرة ملأها بوصاته لهم، وهى الوصية التى أودعها لديه مشايخه السادة السنوسية الأماجد، وهى الوصية التى تلقفوها عن مشايخهم.. عن سلف الأمة كابرًا عن كابر.. عن الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه:
"أفضل الناس مؤمن يجاهد فى سبيل الله بنفسه وماله".
ولعلهم إذ فهموا ذلك عنه شهدوا جميعًا له:
اللهم إنا نشهد أنه قد جاهد فى سبيلك بنفسه وماله وأدى الذى عليه.
ونحن بدورنا ـ إن فهمنا عنه ـ دعونا ربنا:
اللهم وفقنا إلى ما وفقته إليه.
(عن كتاب مدارس الحب مصانع الرجال ص277)

_________________
صورة


أنا الذى سمتنى أمى حيدره

كليث غابات كريه المنظره

أوفيهم بالصاع كيل السندره


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ مشاركة واحده ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: [AhrefsBot] و 12 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط