اشترك في: الجمعة إبريل 28, 2006 11:18 pm مشاركات: 4171 مكان: الديار المحروسة
|
السيد أحمد الشريف السنوسى
رجل المحراب وبطل الحروب، سيدى أحمد الشريف السنوسى رضى الله عنه وأرضاه ينتهي نسبه الشريف الي الامام الحسن عليه السلام . ختم أمير البيان: الأمير شكيب أرسلان مقالاً طويلاً عنه بهذا الدعاء: "اللهم إنه كان من أجلِّ العارفين بك، وأبر القائمين بأوامرك ونواهيك، وأشدِّ المحبين لعيالك خلق الله، وأصلب المتمسكين بكلمتك الحق، وإنه كان القدوة المثلى بين خلائقك، والحجة الوثقى بحقائقك، والرجل الذى أدى إلى آخر نفسٍ من أنفاسه جميع الواجب عليه لدينه ولقومه ولناسه، وللإنسانية التى كان لها مثالاً. فأعل درجته يارب فى جوار قدسك، ونِّور وحشة قبره بأنُسك". [حاضر العالم الإسلامى 4/396] * * * كان محمد أسد صحافيًا نمساويًا يهودى الديانة، ثم أسلم وحسن إسلامه، وعاش فترة طويلة فى العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين فى البلاد العربية، والتقى بالملوك والزعماء ورجالات الأمة، وخالطهم عن قرب، وكان من أقرب المقربين إلى الملك عبد العزيز آل سعود. وصف السيد أحمد الشريف بقوله: "ليس فى الأمة العربية كلها شخص أحببته كما أحببت السيد أحمد. ذلك أنه ما من رجل ضحى بنفسه تضحية كاملة مجردة عن كل غاية فى سبيل مثل أعلى، كما فعل هو. لقد وقف حياته كلها، عالمًا ومحاربًا، على بعث المجتمع الإسلامى بعثا روحيًا، وعلى نضاله فى سبيل الاستقلال السياسى". ويقول فى موضع آخر: "ولم يكن اهتمامى البالغ بمصير السنوسيين ناشئًا عن إعجابى ببطولتهم المتناهية فى قضية عادلة مقسطة فحسب، بل إن ما كان يهمنى أكثر من ذلك هو ما كان يمكن أن يحدثه انتصار السنوسيين من تأثير على العالم العربى بأكمله إذ أننى لم أستطع أن أرى فى العالم الإسلامى كله إلا حركة واحدة كانت تسعى صادقة إلى تحقيق المجتمع الإسلامى المثالى: الحركة السنوسية التى كانت تحارب الآن معركتها الأخيرة فى سبيل الحياة". [الطريق إلى الإسلام لمحمد أسد، ترجمة عفيف البعلبكى، ص331،347] فمن ياترى سيدى أحمد الشريف السنوسى، وما قصته؟ * * * تبدأ قصتنا بالسنوسى الكبير، الشيخ محمد بن على السنوسى عميد السادة السنوسية ومؤسس طريقتهم، والذى كان يربى المريدين على العبادة ومجاهدة النفس حتى تصفو من الأهواء، ولا يبقى لها تعلق إلاَّ بالله. وكان يقول "إن الطرق إلى الله كثيرة بعدد أنفاس الخلائق، ولكنها فى الحقيقة واحدة". وُلد الشيخ ببلدة مستغانم بالجزائر، ورحل شرقًا بحثًا عن المعرفة الصوفية حتى التقى بشيخه السيد أحمد بن إدريس ـ رضى الله عنه ـ بمكة. وبعد وفاة شيخه بنى لنفسه زاوية على جبل أبى قبيس بمكة وبدأ فى تربية المريدين، ومنها انتقل إلى برقة بليبيا واتخذ واحة جغبوب مركزا لدعوته حيث قام بنشر طريقته وبناء الزوايا فى أنحاء البلاد. [الموسوعة الصوفية للحفنى ص 210] والزاوية تمثل نواة مجتمع متكامل وصفها ابن السنوسى بقوله: "والزاوية إذا حلت بمحل نزلت فيه الرحمة وتعمر بها البلاد، ويحصل بها النفع لأهل الحاضرة والباد، لأنها ما أسست إلا لقراءة القرآن ولنشر شريعة أفضل ولد عدنان صلى الله عليه وسلم". ويقول: "رتبنا لكل واحدة خليفة يقوم فيها بما ذكر من صلاة الجمعة، وتعليم القرآن، ودرس العلم، ودلالة الخلق على دينهم، وعودتهم إلى ربهم.." ثم يقول: "وبذلك تبتهج الأرض حولها بأنواع الأشجار، ويكثر بها السكان لكثرة الثمار، وتنتشر العمارة وتتسع الإدارة". وتتكون الزاوية من المسجد ومدرسة تعليم القرآن، ومسكن الشيخ وبيوت الضيفان، ومساكن المريدين، ومخازن لحفظ المؤن، واصطبل ومتجر وفرن وحجرة خاصة بالفقراء الذين لا مأوى لهم. قال أحد المستشرقين: "إن من يدرس توزيع الزوايا السنوسية فى برقة يلاحظ أنها أقيمت وفق خطة سياسية اقتصادية". فكل زاوية عبارة عن مركز اقتصادى للمنطقة المحيطة بها، كما أنها مركز دفاعى عنها، لذلك كانت تقام فى المواقع الحصينة، وكذلك تحصن مبانيها، فإن الشيخ السنوسى كان يتوقع هجوم الكفار، وقد تحقق ما توقعه من هجوم الفرنسيين على زوايا السنوسية فى الجنوب، وهجوم الايطاليين فى الشمال. وكان لكل زاوية أرضها الخاصة بها وتكون موقوفة عليها فلا تباع ولا تشترى، ويقوم على زراعتها أهل الزاوية، وكانت فى معظمها أراضا بورا وقام المريدون باستصلاحها، وحفر الآبار بها.. والأرض المحيطة بالزاوية تعتبر حرمًا آمنا لكل من يدخله أو يستجير به، ولا يجوز الاعتداء على أحد داخله، ولا حتى على الحيوان. [الحركة السنوسية لأحمد صدقى الدجانى ص236ـ243] وقام السنوسيون بالدعوة على أكمل وجه حتى نشروا الإسلام بين الملايين من أبناء القبائل الهمجية فى الصحراء الكبرى إلى أواسط أفريقيا، وانتشرت مئات الزوايا السنوسية فى تلك الأصقاع النائية تنشر الخير والاستقرار والعمران وتعيد للحياة سيرة سلف الأمة الصالح. يقول محمد أسد: [إن لفظة "الدولة" لا تصف بالضبط هذا الإبداع الفذ، ذلك أن إمام السنوسية لم يهدف مطلقًا إلى إقامة حكم شخصى لنفسه أو لأولاده وأحفاده من بعده، بل إن ما أراده كان أن يُعدّ أساسًا نظاميًا لبعث الإسلام بعثًا روحيًا اجتماعيًا سياسيًا، وبمقتضى هذا الهدف فإنه لم يفعل شيئا لهدم البناء القبلى التقليدى فى المنطقة، ولم يهدد سيادة سلطان تركيا الاسمية على ليبيا ـ إذ ظل يعتبره خليفة الإسلام ـ بل وقف جهوده كلها على تفقيه البدو فى العقائد الإسلامية التى انحرفوا عنها فى الماضى، وعلى أن يقيم بينهم ذلك الشعور بالأخوة الذى كان القرآن قد حض عليه، ولكنه امّحى طيلة قرون من العداوات القبلية. فمن الزوايا الكثيرة التى انتشرت فى جميع أنحاء أفريقيا الشمالية حمل السنوسيون رسالتهم إلى أقصى القبائل، وأحدثوا فى عقود قليلة تبدلاً كاد يكون معجزًا بين العرب والبربر سواء بسواء، فزالت الفوضى القديمة بين القبائل وأصبح مقاتلو الصحراء الذين كانوا فيما مضى متمردين، متحلين بروح تعاونية لم تعرف بينهم من قبل. وفى الزوايا تلقى أولادهم الثقافة لا فى تعاليم الإسلام فحسب بل فى كثير من الصناعات والفنون العملية التى كان البدو الرحل ينظرون إليها سابقًا نظرة ازدراء وإباء. لقد حُملوا على أن يحفروا آبارًا أكثر وأفضل فى مناطق ظلت جرادء طوال قرون، وأخذت المزارع الناجحة بإرشاد السنوسى، تظلل الصحراء. وشجعت التجارة، وأمكن السلام الذى أشاعه السنوسى من السفر إلى أماكن لم تكن القوافل تستطيع أن تجوبها فى السنين الماضية دون أن تلقى بعض قُطَّاع الطرق. وبالاختصار فإن نفوذ الطريقة السنوسية كان دافعًا قويًا إلى المدنية والتقدم فى حين أن تمسكها بسيرة السلف الصالح رفع المقاييس الروحية فى المجتمع الجديد إلى أعلى كثيرًا مما عرفه فيما مضى ذلك الجزء من العالم. لقد ارتضى كل رجل من رجال القبائل وكل زعيم من زعمائها زعامة إمام السنوسية الروحية، وحتى السلطات التركية فى ثغور ليبيا وجدت أن سلطة الطريقة الأخلاقية قد سهلت عليها إلى حد كبير التعامل مع القبائل البدوية التى كانت قبل ذلك "صعبة جدًا". وهكذا بينما ركزت السنوسية جهودها على تنشئة السكان المحليين تنشأة إسلامية، فإن نفوذها أصبح مع الزمن لا يكاد يميز من السلطة الحكومية الحقيقة. هذه القوة كانت تستند إلى قدرة السنوسية على جعل البدو البسطاء والطوارق فى شمال إفريقيا يطرحون تمسكهم الشكلى بالأمور الدينية، وتملؤهم بالرغبة فى أن يعيشوا حقًا فى روح الإسلام]. [الطريق إلى الإسلام لمحمد أسد 333] * * * والسنوسية ـ كغيرها من الطرق الصوفية، تقوم على أساس من المحبة؛ محبة الله والرسول، ومحبة الشيخ، ومحبة الإخوان فى الطريق.. فالمحبة هى الوقود الذى يدفع المريد بصدق فى طلب طريق الآخرة. لذلك تجدها تهتم بالأمور التى تؤجج نيران المحبة على الدوام من كثرة الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، ومدارسة سيرته وسنته، والتغنى بمدائحه، مع ما للطريقة من أوراد آخرى. يقول الدجانى: [والوصول ـ الذى ترمى إليه الطريقة السنوسية ـ يعنى إقامة الصلة بين الفـرد والرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة. فالسنوسيـة تؤمن بإمكانية الاتحاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتهدف إلى تحقيق ذلك.. وأتباع الطريقة يؤمنون بأن ابن السنوسى كان متصلاً بالرسول مباشرة. وقد قال هو عن نفسه بأنه مأمور من الرسول.. حيث أمره الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء الزوايا والدعوة إلى الله. وقد روى المهدى عن أبيه أنه ـ أى المهدى ـ دخل على أبيه فى مرضه الأخير، قال: "فوجدته متهللاً، والأنوار ساطعة وهو يقول: هذه يد النبى صلى الله عليه وسلم، ومد يده الشريفة، فأخذتها وسلمت عليها ظاهرًا وباطنًا"، وكأنه كان وقت تجلى امتزاجى، وهو امتزاج الروحين فى ذات واحدة]. [الحركة السنوسية للدجانى 247] ومن أوراد الطريقة المهمة الصلاة العظيمية لسيدى أحمد بن إدريس شيخ الشيخ السنوسى الكبير، وبها يسأل المريـد ربه تعالى أن يحقق له الجمعية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى: "اللهم إنى أسألك بنور وجه الله العظيم الذى ملأ أركان عرش الله العظيم، وقامت به عوالم الله العظيم، أن تصلى على مولانا محمد ذى القدر العظيم، فى كل لمحة ونفس عدد ما فى علم الله العظيم، صلاة دائمة بدوام الله العظيم، تعظيمًا لحقك يا مولانا يا محمد ياذا الخلق العظيم وسلم عليه وعلى آله مثل ذلك واجمع بينى وبينه كما جمعت بين الروح والنفس ظاهرا وباطنا، يقظة ومناما، واجعله يارب روحا لذاتى من جميع الوجوه فى الدنيا قبل الآخرة يا عظيم". * * * توفى الشيخ محمد بن على السنوسى سنة 1276هـ ـ 1859م فخلفه ابنه محمد المهدى الذى زادت الزوايا فى خلافته زيادة كبيرة، وقد استشرف تحرك القوى الأوروبية ضده فانتقل من زاوية الجغبوب التى كانت مركزًا للطريقة إلى واحة الكفرة، ثم إلى قرو فى الصحراء الإفريقية، وراح يعد أتباعه لجهاد الأعداء، فكان يحث المريدين على تعلم ركوب الخيل وفنون القتال والرماية، ويعظم فريضة الجهاد. ولمّا كانت الطريقة السنوسية تقوم على مزج العبادة بالعمل، فقد خُصص يوم الخميس من كل أسبوع للعمل اليدوى، يشتغلون فيه بشتى الحرف، وكان المهدى نفسه يعمل بيديه ويقول للمريدين: "يكفيكم من الدين حسن النية.. والقيام بالفرائض الشرعية". * * * لما شعر السيد محمد المهدى بدنو أجله، كان ولده السيد إدريس لا يزال صغيرًا، فعهد بأمر الخلافة السنوسية إلى ابن أخيه السيد أحمد الشريف السنوسى لما يعرف فيه من الصفات التى تؤهله لحمل الأمانة الثقيلة.. وقد لاقى هذا الاختيار قبولاً عامًا من جميع الإخوان ومشايخ الزوايا وذلك فى الاجتماع الذى عُقد بالكفرة يوم 12 ربيع أول من عام 1320 هـ ـ 1902م ، وبهذا بدأت صفحة جديدة ومجيدة من تاريخ الحركة السنوسية، تضاف إلى تاريخ الأمة الإسلامية العريقة، ونضالها المتواصل ضد جحافل الشرك والهمجية.. * * * واصل السيد أحمد الجهاد ضد الفرنسيين، والعمل ـ فى نفس الوقت ـ على نشر الدعوة الإسلامية بكل حكمة فى أفريقيا، واتخذ من الكفرة عاصمة للحركة السنوسية، وراح يكوِّن جبهة إسلامية قوية فى مواجهة الزحف الفرنسى القادم من الجنوب، وكذلك استطاع أن يحصل على دعم الدولة العثمانية، وكان يشرف بنفسه على الحرب ضد الفرنسيين، ويبذل ماله وجهده فى إمداد المجاهدين بالسلاح، وتشجيع التجار على جلب الأسلحة للمجاهدين حتى اشتهر عنه قوله: "ليس عندى صديق أعز ممن يساعدنى بالسلاح". قام السيد أحمد بتأليف كتاب عن الجهاد بعنوان "بغية المساعد بأحكام المجاهد" يبث به فى أتباعه روح الجهاد الحق، ويستحثهم للنهوض إلى جهاد أعداء الله فى أى وقت يُدعون إليه، فقد ظهرت بوادر الغدر من الأعداء، والزعيم الفطن من يستعد للشىء قبل وقوعه، ويتخذ لمفاجآت الأيام عدتها.. ومن أفضل هذه العدة ـ كما ذكر السيد أحمد فى بعض مؤلفاته: "متابعة السنة فى الأقوال والأفعال والأحوال، ثم أخذ الأوراد اللازمة، وبعدها على المريد أن يشتغل بالصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم إلى أن يستولى على قلبه، ويخامر سره تعظيمه، بحيث يهتز عند سماع ذكره، فيسبغ الله عليه نعمه ظاهرًا وباطنًا"(*). * * * وراء مياه البحر فى الشمال كان الطليان يعدون عدتهم، ويسّحذون خناجرهم المسمومة، ويتلمظون للانقضاض على طرابلس، وكان الجنود يتدربون على نشيد المعركة القادمة الذى يقطر سُمًّا ودمًا وصديدًا والذى تقول كلماته: "أنا ذاهب إلى طرابس فرحًا مسرورًا.. لأبذل دمى فى سبيل سحق الأمة الملعونة.. ولأحارب الديانة الإسلامية.. سأقاتل بكل قوتى لمحو القرآن.. ليس بأهل للمجد من لم يمت إيطاليا حقا". [شوقى شاعر الخلافة الإسلامية لمحمد خالد ثابت ص 42] * * * كان السنوسيون منشغلين برد الاعتداءات الفرنسية المتواليه من الجنوب، عندما جاءت الأخبار أن العدو الطليانى قد نزل ببرقة. كان ذلك فى سنة 1911، وقبل ذلك بعامين كان من يسمون أنفسهم بالأتراك الأحرار قد قاموا بخلع السلطان عبد الحميد ـ بقية السلف الصالح وأعظم رجالات العالم فى وقته ـ وأمسكوا هم بزمام الأمور فى دولة الخلافة الإسلامية مما سبب كارثة محققه انتهت بمؤامرة كمال أتاتورك مع الغرب الصليبى التى أدت إلى إلغاء الخلافة نهائيًا سنة 1924. كانت سياسات الدولة العثمانية بعد هذا الانقلاب تتَّسم بالتخبط والرعونة، فكانت النتيجة أن تخلت عن طرابلس فى أشد أوقات محنتها لولا أن قيض الله لهذه البلاد رجلاً بحق، قام للأمر كما يحب الله ورسوله: سيدى أحمد الشريف ـ رضى الله عنه وأرضاه ـ الذى قام بلملمة شمل البلاد والعباد، واستطاع أن ينظم مقاومة بطولية هى مفخرة لأمة الإسلام على مر الأيام، استمرت عشرين عامًا كاملة بين قوتين لا وجه ـ أصلاً ـ للمقارنة بينهما من ناحية العدد والعدة والعتاد.. وصف الأمير شكيب أرسلان السيد أحمد الشريف السنوسى بقوله: ".. لو عاش فى زمن السلف الصالح وأيام الغزوات العربية والفتوحات العمرية لما كان مكانه فى ذلك الوقت ليقصر عن مكان أحد من أولئك الأبطال الذين نشروا الإسلام فى الخافقين ورفعوا لواءه من نهر الرون إلى جدار الصين. فما ظنك وهو قد جاهد هذا الجهاد كله ووقف مدة عشرين سنة فى وجه دولة من الدول العظام فى عصر دثرت فيه معالم الجهاد وانطفأت جذوة الإسلام، حتى لم يبق منها إلا الرماد، واستولى اليأس على قلوب المسلمين، حتى حسبوا كل مقاومة لدولة أوربية ضربًا من ضروب الحماقة، وعم ذلك جموعهم الحاضر منهم والباد. وانتشر فى الربى والوهاد. ومع هذا فإن سيدى أحمد الشريف السنوسى قد أتى ببرهان ساطع ودليل قاطع على أن فئة من المسلمين فى قطر لايتجاوز عدد أهله عدة مئات من الألوف، يمكنهم بقوة الإرادة وثبات العزم، ومضاء الصريمة وإباء الضيم، وترجيح المعنى على المادة، وإيثار الشرف على الترف وامتلاء القلوب بالإيمان، ووقف النفوس على اعتزام عزائم الإسلام، أن تثبت مدة 240 شهرًا بازاء دولة عدد أهلها اثنان وأربعون مليونًا، مجهزة بجميع ما هى مجهزة به عظميات دول العالم المتمدن، مالا تملك أعظم منه دولة من الدول القاعدة فى الصف الأول فى ممالك الأرض". [حاضر العالم الإسلامى 4/398] جمع السيد أحمد الشيوخ والعلماء والقادة، وشاورهم فى الأمر، وكانت كلمته التى قالها حاسمة: "والله نحاربهم ولو وحدى بعصاتى هذه". فبث موقفه هذا فيهم روحًا لا تخضع ولا تلين، وبعث إلى شيوخ الزوايا ورؤساء القبائل والأعيان يأمرهم بجهاد عدو الله، والاستماتة فى لقائه، وأعلن على الملأ أنه سينـزل بنفسه إلى ميدان الجهاد. كان أعظم سلاح السنوسيين الخيل والبنادق والحراب والسيوف، بينما عدوهم يملك الأساطيل والطائرات والمدافع والدبابات والأسلحة الفتاكة، ويملك خطوط اتصال وتموين وإمداد مفتوحة وسهلة بينما كان السنوسيون معظم الوقت واقعين تحت حصار خانق، وظروف شديدة وصعبة. لكن الرجال إذا صدقوا، وأروا الله من أنفسهم ما يحب ثَّبتهم الله وأيَّدهم ورفع درجاتهم فوق ما كانوا يظنون أو يطمحون.. يقول الأمير شكيب أرسلان: "لولا السيد أحمد الشريف رحمه الله لكانت إيطاليا استصفت قطرى طرابلس وبرقة من الشهر الأول من غارتها الغادرة عليهما وإننا لا نزال نتذكر كلام القواد ورجال السياسة الأوربية عن الحملة الإيطالية يوم جردتها على ذينك القطرين إذ قال بعضهم إن إيطاليا ستقبض على ناصية الأمر وتستكمل هذا الفتح فى مدة 15 يومًا، وقال أشدهم تشاؤما وأقلهم تخيلا وأبصرهم بأمور الشرق وهو اللورد كتشنر المشهور أن هذا الفتح الذى يستسهله الناس على إيطاليا أمامه من الصعوبات أكثر مما يظنون، وقد يستغرق ثلاثة أشهر بالأقل.. فليتأمل أولو الألباب كيف أن هذه الثلاثة الأشهر امتدت عشرين عاما ورزأت الدولة الإيطالية بمائة وخمسين ألف عسكرى قتلى عدا الجرحى، وبثلثمائة مليون جنيه من الذهب الوضاح. هذا كان مجموع خسائر إيطاليا منذ سنتين بحسب الإحصاءات الرسمية. وهذا كان ثمرة جهاد السيد السند. نعم لم تأكل إيطاليا فى اعتدائها الفظيع هذا مريئا ولم تشرب هنيئا وعلق فى حلقها من سمك الإسلام حسك لا يزول فى الأحقاب ولا فى القرون". * * * نشبت معارك ضارية بين الفريقين غير المتكافئين، وكان النصر فى معظمها للسنوسيين الذين كبدوا العدو خسائر فادحة، واشتعلت معارك الجهاد فى أنحاء البلاد، وتتابعت البطولات التى رفعت شأن البطولة والأبطال فى تاريخ الإنسانية بأسره. ورأت إيطاليا ـ رأى العين ـ عجزها عن إتمام احتلال بقية ليبيا على الرغم من هجماتها البربرية وأعمالها الوحشية أينما حلت قواتها، فراحت تجرب طرِّيق المخادعة وألاعيب السياسة كما هى عادة الغرب دائما. وكان السيد أحمد راسخًا فى موقفه من محاولة عمل صلح يعلم مسبقًا أن العدو فيه مخادع ولا شرف عنده، ولا عهد له ولا ميثاق، وإن هذا موروثه منذ الحروب الصليبية الأولى التى كشفت عن طبائع الصليبيين وعقائدهم فى عدم التمسك بأى عهد أو ميثاق مع مسلم. لكن الدولة العثمانيـة التى أصبحت فى طور الاحتضـار بعد اقصـاء السلطان عبد الحميد قبلت بإبرام صلح مع إيطاليا، وقامت بناء عليه بسحب حاميتها من ليبيا. وقف السيد أحمد الشريف راسخًا كالطود، عازمًا على مواصلة الجهاد، فكتب منشورًا إلى مشايخ الزوايا والقبائل يعلن فيه مواصلة الجهاد، وطلب من كل مسلم فى سن الرابعة عشر حتى الخامسة والستين أن يلحق بالمجاهدين آخذًا معه سلاحه ومؤونته. وراح السيد يجوب البلاد طولاً وعرضًا، زائرًا للزوايا وللقبائل فى أماكنها ولأماكن المجاهدين، وأثناء ذلك يشارك فيما يدور من معارك، ويبثّ فى الجميع عزيمة قوية وطاقة هائلة على الصبر والتحمل والقيام بأعباء الجهاد. وحاولت إيطاليا أن تبرم اتفاقًا معه على أن تترك له إمارة البلاد الداخلية وتحتفظ هى بالموانئ والثغور الساحلية، فما انخدع، وما غلبته نفسه طلبًا للراحة! وفى كل هـذا ظل السيد أحمد على ولائه لدولة الخلافـة، بعد إقصاء السلطان عبد الحميد، لأن الأمور لم تكن قد تكشفت بعد عن حقيقتها. وكان العالم الإسلامى كله يموج بالفتن وتحتوشه مؤامرات الأعداء من كل جانب، وكانت بريطانيا تحيك مؤامراتها الخبيثة فى جزيرة العرب فتتآمر مع السعوديين فى نجد على حرب الدولة العثمانية فى العراق وشمال جزيرة العرب وشرقها، وتتآمر مع الشريف حسين ـ بالحجاز ـ على الثورة على الدولة العثمانية بما عُرف بالثورة العربية. فلما نشبت الثورة العربية سنة 1916 طلبت الدولة العثمانية من السيد أحمد الشريف، أن يتوسط بينها وبين شريف مكة لإقناعه بعدم الانفصال عن الدول العلية والإقلاع عن أعمال الثورة، فرحب بهذه الوساطة، ورأى فى ذلك فرصة مواتية لإقناع الدولة العلية بمد يد العون للمجاهدين فى ليبيا من جديد. وفعلاً عهد السيد أحمد بقيادة الطريقة إلى السيد إدريس السنوسى، ثم غادر ليبيا على متن غواصة ألمانية إلى استانبول، وكانت الدولة العلية قد حالفت ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى التى نشبت سنة 1914م. وفى استنبول رأى السيد معالم الانهيار السريع، وهو واقع بين نارين، يحمل فى قلبه همًا على وطنه المحتل، وتأتيه أخبار المحن المحيطة به، والشدائد التى تتراكم عليه يوما بعد يوم، ومن ناحية أخرى يؤرقه ما يراه فى الدولة العلية من أحوال، وما يصل إليه من أخبار العالم الإسلامى الذى تكالبت عليه دول الغرب، ثم كانت الفاجعة الكبرى بتمكن كمال أتاتورك من مقاليد الحكم فى دولة الخلافة. وطُرد السيد من تركيا طردًا قبيحًا، بعدما أسدى لأتاتورك من خدمات جليلة قبل أن يكشف الأخير عن وجهه القبيح وحقيقته المخزية!! لك الله يا سيدى. لقد تحملت مـا تنوء عن حمله الجبـال، وظللت إلى آخر يوم فى حياتك الطيبة المباركة لم تقصر فى واجب من الواجبات، ولا حدثتك نفسك أن تركن طرفة عين، وقد تقدمت بك السن، إلى طلب الراحة لجسدك المضنى، وقلبك المثقل بالهموم. * * * بعد أن طُرد السيد من استطنبول توجه إلى الشام، لكن الفرنسيين الذين احتلوا الشام لم ينسوا له مواقفه فى التصدى لتسللهم فى أواسط أفريقيا وجنوب ليبيا فاضطروه إلى الرحيل، وما دروا أنهم بذلك مسخرون من جهة العلى الأعلى سبحانه وتعالى لدفع الحبيب إلى لقاء حبيبه. وفى المدينة المنورة أسلم السيد الروح بعد مرض عضال لم يمهله ودُفن بالبقيع، لا يفصله عن محبوبه وقدوته ونور عينه وفرحة قلبه صلى الله عليه وسلم إلا مسافة قصيرة، ولئن كانت روحه قد امتزجت بروح النبى صلى الله عليه وسلم مدة حياته، إلا أن تقارب الأجساد فيه ما يزيد من فرحة قلب المحب المشتاق. * * * إن أخبار السيد أحمد الشريف السنوسى لم تنته عند هذا الحد، ولا يمكن لها أن تنتهى، لأن الصادقين لا تنتهى حياتهم بالموت، بل تظل أرواحهم تشع فى الكون نبضات تنفع الناس إلى يوم الدين، وتبث فيهم معانى الشرف والبطولة والصدق، فسنلتقى معه مرة أخرى.. فى الفصل القادم عن البطل الشهيد عمر المختار، الذى هو واحد من رجاله، وحسنة من حسناته. (من كتاب مدارس الحب مصانع الرجال) (*) من كتاب "الأنوار القدسية فى مقدمة الطريقة السنوسية" ذكره الكتانى فى "فهرس الفهارس" وقال: "وهى رسالة جامعة نافعة فى الطريقة السنوسية وأركانها وتعاليمها وتراجم رجالها.." وذكر له أيضا كتاب "الفيوضات الربانية" وقال: "وذكر فيها أسانيده فى القرآن والصحاح الستة والمسانيد وأسانيد الطريقة السنوسية والشاذلية والنقشبندية وغيرها من الأحزاب والأوراد. "وذكر له أيضا كتاب "الدر الفريد الوهاج فى الرحلة من الجغبوب إلى التاج" وكتاب "فيوض المواهب الرحمانية" وقال: "وهو كبير جدًا، فصّل فيه أحوال سلفه ومعارفهم ووارداتهم، وتراجم أصحابهم، رتبهم على ثلاث طبقات، وهم نحو ثلاثمائة، وهو تاريخ مهم فى نحو مجلدين. يسّر الله طبعه". آمين
_________________ أنا الذى سمتنى أمى حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
|
|