وخُص صلى الله عليه آله وسلم برؤية جبريل عليه السلام في صورته الأصلية التي خُلق عليها – قلت: ويا ليت شعري من الذي خُص برؤية من؟!-: ، وفيه لغات كسر الجيم والراء فمثناة تحتية ساكنة، والثانية كذلك لكن الجيم مفتوحة، والثالثة فتح الجيم والراء وبهمزة بعدها ياء اسم مركب من جبر وهو العبد، وإيل وهو الله، وقيل غير ذلك، وله ستمائة جناح يسد الخاقين، وأما البشر غير الرسل فلا يقدرون على رؤية الملك في صورته، روى الطبراني عن ابن عباس بلفظ: "رأيت له ستمائة جناح"، ورواه البخاري في تفسير النجم، ورواه مسلم في الإيمان من حديث ابن مسعود بلفظ: "إن النبي صلى الله عليه آله وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح"، وبلفظ: "رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح"، ورواه ابن حبان بأتم من الكل بلفظ: "رأيت جبريل عند سدرة المنتهى وله ستمائة جناح ينتثر من ريشه الدر والياقوت". أهـ
وفي الصحيحين: أنه لم يره في الصورة التي خُلق عليها إلا مرتين.
ومن رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة: "إن أول ما رأى المصطفى صلى الله عليه آله وسلم جبريل بأجياد صرخ جبريل يا محمد، فنظر يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء، فقال: يا محمد جبريل جبريل فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئاً ثم خرج عنهم فناداه فهرب، ثم استعلن له جبريل من قبل حراء فذكر القصة". قال ابن حجر: وفي هذه الرواية ابن لهيعة وهو ضعيف.
وقد ثبت في مسلم عن عائشة مرفوعاً: "لم يره على صورته التي خُلق عليها إلا مرتين"، وروى أحمد وغيره عن ابن مسعود: أن المصطفى صلى الله عليه آله وسلم لم يره في صورته إلا مرتين، أما أحدهما فإنه سأله أن يريه نفسه ما رآه فسد الأفق، وأما الأخرى فليلة الإسراء عند السدرة، وأما في غير هاتين فكان يأتيه على هيئات كثيرة منها: أنه كان يأتيه بصورة دحية، وتصور له مرة بصورة فحل من الإبل فاتحاً فاه ليلتقم أبا جهل، وروى الدار قطني في كتاب الإفراد مرفوعاً: "أتاني جبريل في خضر تعلق به الدر يعني جاءني في لباس أخضر تعلق به اللؤلؤ العظام تمثل له بهذه الهيئة", وللترمذي عن عائشة: "لم ير محمد صلى الله عليه آله وسلم جبريل في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى ومرة في أجياد"، قال ابن حجر: وهذا يقوي رواية ابن لهيعة وتكون هذه المرة غير المرتين ولم يضمها إليهما؛ لاحتمال ألا يكون رآه فيها على تمام صورته.أهـ
واختلف في هذه فقيل: إن الله يغني الزائد من خلقه، وقيل: مجرد تخييل للرائي، وقيل: بالتداخل.
واعلم أن الملك له صورتان: حقيقية ومثالية، فالحقيقية لم تقع إلا للمصطفى صلى الله عليه آله وسلم، والمثالية هي الواقعة لبقية الأنبياء، بل شاركهم في ذلك بعض الصحابة، عدّ هذه الخصوصية من الخصائص، البيهقي، وحجة الإسلام الغزالي.
تنبيه: قوله في الحديث: "له ستمائة جناح" قيل: يجوز أن يكون أخبر به عن عدد، أو عن خبر الله وملائكته، وقد جاء القرآن بأجنحة الملائكة، لكن يبقى الكلام في كيفيتها، قال السهلي: إنها صفات ملكية لا تدرك بالعين فإنه تعالى أخبرنا بها مثنى وثلاث ورباع ولم ير لطائر ثلاثة أو أربعة أجنحة، فكيف ستمائة؟ فدل أنها صفات لا تدرك بالفكر ولا ورد ببيانها خبر فيجب الإيمان بها إجمالاً، واعترض بأن لفظ الطبراني يرجح أنها كالطير وقد ورد نشر الجناح بحيث يسد الأفق وهذا نص صريح في أن جبريل يرى بالعيان ويدرك بالبصر، فمن زعم أنه خيال موجود في الأذهان لا العيان فقد كفر وخرج عن جميع الملل.
قال حجة الإسلام:الملك له صورتان: مثالية وحقيقية بل يُرى بصور مختلفة في وقت واحد في مكانين، لكن لا تدرك حقيقة صورته بالمشاهدة إلا بأنوار النبوة كما رأى النبي صلى الله عليه آله وسلم جبريل في صورته مرتين، وكان يريه نفسه في غيرها كصورة آدمي؛ وذلك لأن القلب له وجهان: وجه إلى عالم الغيب وهو مدخل الأوهام والوحي، ووجه إلى عالم الشهادة، فالذي يظهر منه في الوجه الذي يلي عالم الشهادة ولا يكون إلا صورة متخيلة؛ لأن عالم الشهادة كله متخيلات، إلا أن الخيال تارة يحصل من النظر إلى ظاهر عالم الشهادة بالحسن فيجوز أن لا تكون الصورة على وفق المعنى؛ لأن عالم الشهادة كثير التلبس، أما الصورة التي تحمل في الخيال من إشراف عالم الملكوت على باطن سر القلب فلا يكون إلا محاكياً للصفة وموافقاً لها؛ لأن الصورة في عالم الملكوت تابعة للصفة فلا جرم، ولا يرى المعنى الحسن إلا بصورة حسنة والقبيح إلا بصورة قبيحة فتكون تلك الصورة عنوان المعاني ومحالها بالصدق.