بسم الله الرحمن الرحيم {شفاعة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حق} قال الشيخ إبراهيم اللقاني
وواجب شفاعة المشفع *** محمدٍ مقدماً لا تمنع
(قوله وواجب شفاعة المشفع) أي وواجب سمعاً عند أهل الحق شفاعة المشفع بفتح الفاء- وهو الذي تقبل شفاعته، وأما بكسرها فهو الذي يقبل شفاعة غيره. والشفاعة لغة: الوسيلة والطلب. وعرفاً: سؤال الخير من الغير للغير. وشفاعة المولى : عبارة عن عفوه؛ فإنه تعالى يشفع فيمن قال: لا إله إلا الله وأثبت الرسالة للرسول الذي أرسل إليه ولم يعمل خيراً قط فيتفضل الله تعالى عليه بعدم دخوله النار بلا شفاعة أحد. وقوله “ محمد “ بدل من المشفع، دفع به إبهامه، وقوله “ مقدماً “ أي حال كونه مقدّماً على غيره من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فهو الذي يفتح باب الشفاعة لغيره كما قال ابن العربي. وفي الصحيحين: (أنا أول شافع وأول مشفع) . وفي كلام المصنف إشارة إلى واجبات ثلاثة؛ فالأول: كونه صلى الله عليه وآله وسلم شافعاً. والثاني: كونه مشفعاً أي مقبول الشفاعة. والثالث: كونه مقدّماً على غيره؛ فإنه حين يشتدّ الهول ويتمنى الناس الانصراف ولو للنار يلهمون أن الأنبياء هم الواسطة بين الله وخلقه، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلاَلٍ العَنَزِيُّ، قَالَ: اجْتَمَعْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ البُنَانِيِّ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِذَا هُوَ فِي قَصْرِهِ فَوَافَقْنَاهُ يُصَلِّي الضُّحَى، فَاسْتَأْذَنَّا، فَأَذِنَ لَنَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقُلْنَا لِثَابِتٍ: لاَ تَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ هَؤُلاَءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ جَاءُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِي الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ - أَوْ خَرْدَلَةٍ - مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ " فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَوْ مَرَرْنَا بِالحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَنَا فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: هِيهْ فَحَدَّثْنَاهُ بِالحَدِيثِ، فَانْتَهَى إِلَى هَذَا المَوْضِعِ، فَقَالَ: هِيهْ، فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً فَلاَ أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا، قُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ فَحَدِّثْنَا فَضَحِكَ، وَقَالَ: خُلِقَ الإِنْسَانُ عَجُولًا مَا ذَكَرْتُهُ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ، قَالَ: " ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "
وله صلى الله عليه وآله وسلم شفاعات أخر، منها شفاعته في إدخال قوم الجنة بغير حساب، ومنها شفاعته في عدم دخول النار لقوم استحقوا دخولها، ومنها شفاعته في إخراج الموحدين من النار، ومنها شفاعته في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها، ومنها غير ذلك كما ذكره السيوطي وغيره. (قوله لا تمنع) أي لا تعتقد امتناع شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم في أهل الكبائر وغيرهم، لا قبل دخولهم النار ولا بعده، وقصد المصنف بذلك الرد على المعتزلة ومن وافقهم في إنكارهم شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم فيمن استحق النار أن لا لا يدخلها وفيمن دخلها أن يخرج منها. وأما الشفاعة العظمى فلا ينكرونها، وكذا الشفاعة في زيادة الدرجات وحديث: (لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي) موضوع باتفاق، وبتقدير صحته فهو محمول على من ارتد منهم. - {ويشفع غير سيدنا محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم- من الأخيار}
وغيره من مرتضى الأخيار ## يشفع كما قد جاء في الأخبار
(قوله وغيره من مرتضى الأخيار ## يشفع) بسكون العين للوزن: أي وغيره صلى الله عليه وآله وسلم ممن ارتضاه الله تعالى من الأخيار كالأنبياء والمرسلين والملائكة والصحابة والشهداء والعلماء العاملين والأولياء يشفع في أرباب الكبائر على قدر مقامه عند الله تعالى، وشفاعة الملائكة على الترتيب؛ فأولهم في الشفاعة سيدنا جبريل، وآخرهم فيها التسعة عشر الذين على النار. وقوله “ كما قد جاء في الأخبار “ أي للنص الذي قد جاء في الأخبار الدالة على ذلك كما أجمع عليه أهل السنة، ولا يشفع أحد ممن ذكر إلا بعد انتهاء مدة المؤاخذة . فإن قيل: لا فائدة في الشفاعة حينئذ. أجيب بأن فائدتها أظهار مزية الشافع على غيره، على أنه لولا الشفاعة لجوزنا البقاء وعدمه بحسب الظاهر لنا. وبالجملة فذلك من باب القضاء المعلق.
- إذ جائز غفران غير الكفر ## فلا نكفّر مؤمناً بالوزر
(قوله إذ جائز غفران غير الكفر) هذا تعليل للشفاعة، فكأنه قال: لأنه يجوز عقلاً وسمعاً غفران غير الكفر من الذنوب بلا شفاعة، فبالشفاعة أولى، وأما غفران الكفر فهو وإن جاز عقلاً ممتنع سمعاً. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: من الآية48) وعلم مما تقرّر أن المراد بالجواز في كلام المصنف الجواز العقلي والسمعي معاً، ولذلك قيد بغير الكفر لأن غفران الكفر ممتنع سمعاً وإن جاز عقلاً. والحكمة في غفران الذنوب دون الكفر أنها لا تنفك عن خوف عقاب ورجاء عفو ورحمة بخلاف الكفر، وذلك أن صاحب الذنوب مسلم يعتقد نقص نفسه فيخاف العقاب ويرجو العفو والرحمة، بخلاف صاحب الكفر فإنه لا يعتقد نقص نفسه فلا يخاف العقاب ولا يرجو العفو والرحمة. ولا يخفى أن هذا التعليل الذي ذكره المصنف فيه قصور، لأن الشفاعة شاملة للشفاعة في فصل القضاء وللشفاعة في غفران الذنوب، وهذا التعليل خاص بالشفاعة في غفران الذنوب فتأمله (قوله فلا نكفر مؤمناً بالوزر) مفرع على ما ذكر، أي فلا نكفر –بالنون– أي معاشر أهل السنة أو – بالتاء- أي أيها المخاطب أحداً من المؤمنين بارتكاب الذنب صغيرة كان الذنب أو كبيرة، عالماً كان مرتكبه أو جاهلاً، بشرط أن لا يكون ذلك الذنب من المكفرات كإنكار علمه تعالى بالجزئيات، وإلا كفر مرتكبه قطعاً، وبشرط أن لا يكون مستحلاً له. وهو معلوم من الدين بالضرورة كالزنا، وإلا كفر باستحلاله لذلك. وخالفت الخوارج فكفروا مرتكب الذنوب وجعلوا جميع الذنوب كبائر كما سيأتي، وأما المعتزلة فأخرجوا مرتكب الكبيرة من الإيمان، ولم يدخلوه في الكفر إلا باستحلال، فجعلوه منزلة بين المنزلتين، فمرتكب الكبيرة مخلد عند الفريقين في النار، ويعذب عند الخوارج عذاب الكفار، وعند المعتزلة عذاب الفساق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شرح جوهرة التوحيد للعلامة الشيخ إبراهيم اللقاني المسماة تحفة المريد تأليف العلامة الشيخ إبراهيم بن محمد الباجوري
_________________ يارب بالــمــصـطــفى بــلـغ مـقـاصــدنا --- واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم
واغفر إلهى لكل المسلمين بما --- يتلون فى المسجد الأقصى وفى الحرم
بجاه من بيته فى طيبة حرم --- واسمه قسم من أعظم القسم
|