ترامب يعلن الحرب على تحالف الدول العميقة
بقلم تييري ميسان
نجح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فرض نوعٍ من السلام على قطاع غزة، ولم يكن ذلك الإنجاز ضد حماس فحسب، بل كان أيضاً ضد التحالف اليميني المتطرّف الذي يقوده بنيامين نتنياهو. ولم يكن خصوم ترامب لا الفلسطينيين ولا الإسرائيليين، وإنّما "الدولتين العميقتين" لكلٍّ من المملكة المتحدة وإسرائيل. يحاول تيري ميسان فك الغموض عن هذه الشعبذة.
قبل تسعة أشهر، كان المحللون على اختلاف انتماءاتهم وولاءاتهم يصفون دونالد ترامب بكافة النعوت والألقاب؛ لكن بمجرّد دخول خطة السلام التي اقترحها لوقف الحرب في قطاع غزّة بين إسرائيل وحركة حماس حيّز التنفيذ، تعالت أصوات عدة شخصيات يستحسنون الفكرة وينسبونها إليهم. لقد بات السطو على أفكار الآخرين عندما تنجح أمراً شائعاً لدى المحللين الذين أصبحوا مسؤولين سياسيين ويفتقدون للأفكار والمبادرات.
https://www.voltairenet.org/article223013.htmlصحيح أنّه لا أحد، باستثناء دونالد ترامب ومعبوده رئيس الولايات المتحدة السّابع الديمقراطي أندرو جاكسون، أيقن أنّه "يمكن للتجارة أن تحل محل الحرب". لقد كان ذلك رهاناً جريئاً لا يحل أيًا من المشاكل التي تواجه الشعوب، لكنه يزيلها ويفتح آفاقًا جديدة.
وكذلك، زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنّه كان دوماً يسعى إلى تحقيق هذه النتيجة، متناسياً في ذلك الجرائم التي اقترفها بحق الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين واليمنيين والإيرانيين، لكنّه ليس الوحيد: فقد صرّحت وزيرة التعليم البريطانية بريدجيت فيليبسون نيابةً عن رئيس الوزراء كير ستارمر، أنّها لعبت دوراً محورياً وراء الكواليس لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، وكأننا نسينا الجهد الاستخباري الذي ساهم به سلاح الجو البريطاني طوال فترة الحرب فوق سماء غزة لتقديم معلومات لتل أبيب ورحلات رؤساء الأركان الإسرائيليين السريّة ذهاباً وإياباً إلى لندن.
والأغرب من ذلك كلّه أنّ أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كلاهما يشيد بعلاقته مع حركة حماس الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، رغم أعمال القتل والتعذيب المنسوبة إليها، وجاءوا إلى قمة شرم الشيخ لتوقيع وثيقة السلام، على مرأى من الرئيس المصري، الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي يعتبر إسرائيل والإخوان أعداءً له على حدٍّ سواء.
لم يكن هذا التوقيع يشبه أي توقيعٍ آخر. فبحضور نحو عشرين رئيس دولةٍ غربية، تواصل التظاهر بالاعتقاد بأنّ هذا النزاع هو نزاع عشائري بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين لم يتمكنوا من التفاهم طيلة ثمانين عاماً. وكان بعض الساسة الأغبياء قد اصطفوا وراء اليهود بحكم علاقتهم الوثيقة بإسرائيل، فيما اصطف البعض الآخر وراء العرب، رغم أنّ كلّ أولئك الذين عاشوا في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة الفرنسيين، يعلمون يقيناً أنّ هذا الصراع كان مختلقاً، وأنّ الإمبراطورية البريطانية هي من حبكته كي يستمر لصالحها فحسب إلى الأبد.
والسؤال الذي يطرح نفسه، كيف تمكن دونالد ترامب من تلافي هذا الفخ الذي وقع فيه كثيرٌ من أسلافه؟
لكي نفهم ذلك، علينا أن نتصور أنّ الرئيس الأمريكي قد أدرك أنّ الدولة البريطانية-الأمريكية-الإسرائيلية العميقة هي من تدير خيوط هذا النزاع الذي لا ينتهي، وقد حارب الستراوسيين (أتباع ليو ستراوس) في الولايات المتحدة مدة أربعة وعشرين عامًا، كما أنهّ اعترف بأن إليوت أبرامز (الذي عمل في إدارته خلال فترة ولايته الأولى) هو الزعيم الحقيقي للتحالف الحاكم في إسرائيل.
لمّا فكرت إدارة الرئيس جو بايدن في الإطاحة بنتنياهو والمساعدة في تعيين رئيس حزب معسكر الدولة المعارض بيني غانتس على رأس السلطة في تل أبيب (مارس 2024)، أدرك ترامب أن البريطانيين يرفضون الخطوة لأنهم يرفضون أن يدمر الجنرال غانتس حركة حماس. أجل، لقد كانت لندن دائماً تحمي الإخوان المسلمين، بينما كانت تساعد إسرائيل عسكرياً. لقد كانت هذه هي استراتيجيتها الإمبراطورية: "فرّق تسد" ودعم كلا الجانبين في آن واحد، حتى يحيّد كل منهما الآخر، وتستمر بذلك مصالح التاج البريطاني دون الحاجة لاستثمار أي جهد.
لذلك استعان دونالد ترامب بأعدائه في إبرام اتفاقية السلام: فأقحم السير توني بلير -المستشار السابق للإمارات العربية المتحدة ومصر-في الاتفاق، أي رئيس الوزراء البريطاني السابق الذي تحالف مع الستراوسين في غزو العراق عام 2003.
كما استعان الرئيس ترامب ببنيامين نتنياهو بعدما أدرك منذ فترة طويلة هوسه بالبقاء في السلطة وتقلبات مزاجه التي تؤثر على قراراته السياسية وسلوكه العام. ألم يقل عنه جاك شيراك ذات مرّة أنّه كاذبٌ مريض يسعى لطرد الفلسطينيين فحسب؟ فرهان ترامب هو أنّ نتنياهو لم يصبح نازياً فجأةً، بل هو يتبع توجيهات الصهاينة التصحيحيين في 7 أكتوبر تماماً مثلما كان جورج دبليو بوش يتبع توجيهات الستراوسيين في 11 سبتمبر.
لن يقف دونالد ترامب عند هذا الحد، فهو يريد إنهاء الحرب ضد الروس كما أنهى الحرب ضد العرب. وقد أوضح له مبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف منذ بداية جولته إلى موسكو وكييف، أنّ القوميين الأوكرانيين المتطرفين كانوا حلفاء منذ عام 1921 (التقارب بين سيمون بتليورا وفلاديمير جابوتينسكي) وأنهم قتلوا سوياً الأوكرانيين الموالين للسوفييت واليهود غير الصهاينة.
يتلاعب القوميون الأصوليون في أوكرانيا بالرئيس غير المنتخب فولوديمير زيلينسكي مثلما يتلاعب الصهاينة التحريريون بينيامين نتنياهو. لقد توغلوا في المؤسسات الأوكرانية بمجيئ أندري بيليتسكي (الذي يقود اليوم لواء الجيش الثالث) وزعيم تنظيم "القطاع الأيمن" ديمتري ياروش والنائب ورئيس البرلمان الأوكراني السابق أندري باروبي (الذي قُتل قبل شهرين)، بينما توغل الستراوسيون في الأمم المتحدة وتوغل البريطانيون في مجموعة الاتصال الخاصة بالدفاع عن أوكرانيا "مجموعة رامشتاين".
ولحل هذه المعضلة، يتعين على الرئيس دونالد ترامب أن يفعل مع فولوديمير زيلينسكي ما فعله مع بنيامين نتنياهو. يجب عليه أن يستثمر في إعادة بناء ما تبقى من أوكرانيا حتى ينسي الاوكرانيين الأراضي التي فقدوها. ويمكنه الاعتماد في إنجاز هذه التمثيلية على نظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي يمكنه القبول بالخسارة في نظر الغرب إذا كان سيفوز بشكلٍ واضح في نظر الروس.
في البداية، اتصل دونالد ترامب هاتفياً يوم 16 أكتوبر بالرئيس بوتين، وذكّره بأنّ تحذيرات السلطات الدنماركية من توغل طائرات مسيّرة روسية إلى أراضيها كانت مجرد خدعة. في الواقع، يقوم الدنماركيون على غرار الدول الأوروبية الأخرى منذ فترة طويلة، بحماية مطاراتهم من احتمال حدوث هجمات بالطائرات المسيّرة (ألمانيا وبلجيكا وبلغاريا وإسبانيا وفنلندا وفرنسا وهنغاريا وهولندا وجمهورية التشيك ورومانيا والسويد وسلوفاكيا وسلوفينيا يقومون أيضاً بحماية محطاتهم النووية). لكن الدنمارك رفضت تدمير الطائرات المسيّرة التي كانت تحلق فوق مطاراتها ولم تعط أي معلومات عنها. وبدلاً من ذلك، فضلت اتهام روسيا وأغلقت مطاراتها. من الواضح أن هذه العملية ليست سوى افتراء لتبرير تقسيم القارة الأوروبية بجدار من الطائرات المسيّرة تحت مظلّة حلف شمال الأطلسي. وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد أكّد على أن بلاده لن تقدم أبداً على استفزاز حلف الناتو.
وأخبر الرئيس دونالد ترامب نظيره زيلينسكي، يوم 17 أكتوبر، أنّه يتوجب عليه القبول بخسارة الأراضي التي حررتها روسيا، ما يعني أن مجموعة الاتصال الخاصة بالدفاع عن أوكرانيا التي تقودها المملكة المتحدة وألمانيا وكذا المحكمة الخاصة بجريمة العدوان على أوكرانيا التي أنشأها المجلس الأوروبي أصبحتا باطلتين ولاغيتين.