إن العلماء لم ينقلوا ذلك مسنداً فحسب بل دققوا في عدالته وضبطه خاصة عندما يختص الأمر بالحديث الشريف، وربما يتسامحون في القصص والحكايات وغيرها ويوردونها مسندة –أيضاً- على اعتبار قاعدة: "من أسندك فقد أحالك أو حمَّلك".
ثم إن علماء المسلمين قد قاموا بمجهود خارق لخدمة السنة الشريفة، وما من حديث من الأحاديث النبوية إلا ووضع تحت المجهر العلمي لدى علماء الحديث الشريف فدُرِسَ سنداً ومتناً، تصحيحاً وتضعيفاً، شرحاً وتحليلاً، وربما قامت المعركة العلمية والمناظرة الكبيرة حول اللفظة الواحدة من الكلام النبوي، وأُفردت المؤلفات التى لا تحصى حول الحديث الواحد بطرقه وروايته وشواهده ومتابعاته وشرحه وتحليله، ثم يطالعنا قوم لا خلاق لهم بأن السنة النبوية لم تدرس حق الدراسة ولم تفهم حق الفهم؛ وهو ظلم بيِّن، وحيدة عن الحق، وعدم إنصاف منهم، ولو كانوا صادقين في نقدهم لعظموا تراث الأمة الإسلامية الذي قام على دراسة الوحيين الشريفين بما لم يحدث لكتاب على مدار تاريخ الإنسانية.
ومن أكبر ما يدلك على مدى الجهاد والمعاناة التى كابدها رواة الحديث الشريف ما جاء عن عن عبد الله بن بريدة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر فقدم عليه وهو يمد ناقة له فقال:" إني لم آتك زائرا إنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم رجوت أن يكون عندك منه علم ".(1) أهـ
قال الخطيب البغدادي المتوفي 463ه: "ارْتَحَلَ كَتَبَةُ الْحَدِيثِ , وَتَكَلَّفُوا مَشَاقَّ الْأَسْفَارِ إِلَى مَا بَعُدَ مِنَ الْأَقْطَارِ لِلِقَاءِ الْعُلَمَاءِ وَالسَّمَاعِ مِنْهُمْ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ , وَمِنْ قَبْلُ قَدْ سَلَكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فِي الرِّحْلَةِ لِلسَّمَاعِ , حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَأَتَيْتُهُ , وَرَحَلَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى مِصْرَ فِي سَبَبِ حَدِيثٍ وَاحِدٍ-أي لأجل حديث واحد- , وَذَلِكَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَحَلَ إِلَى مِصْرَ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ حَتَّى سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ , وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنْ كُنْتُ لَأَسِيرُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مَسِيرَةَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ , وَرَحَلَ الْحَسَنُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ فِي مَسْأَلَةٍ , وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ: إِنْ كَانَ الرَّاكِبُ لَيَرْكَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ فِيمَا دُونَهُ , وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُنَّا نَسْمَعُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْبَصْرَةِ , فَمَا نَرْضَى حَتَّى نَرْكَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَسْمَعُهَا مِنْ أَفْوَاهِهِمْ , وَاسْتِيعَابُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَطُولُ"أهـ (2) أهـ
فاهتم علماء الإسلام بالإسناد على مدار التاريخ الإسلامي منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وكذا من جاء بعدهم إلى زماننا هذا؛ حتى قال ابن المبارك: " الْإِسْنَادُ عِنْدِي مِنَ الدِّينِ , لَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ , وَلَكِنْ إِذَا قِيلَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَكَ بَقِيَ "(3) أهـ
وكانوا ينهون من يحدث بالأحاديث من غير سند؛ حتى يُظهر رجاله الذين يحدث عنهم، فعن عتبة بن أبي حكيم، قال: "جَلَسَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي فَرْوَةَ إِلَى الزُّهْرِيِّ , فَجَعَلَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لَهُ ابْنُ شِهَابٍ: مَا لَكَ؟ قَاتَلَكَ اللَّهُ تُحَدِّثُ بِأَحَادِيثَ لَيْسَ لَهَا أَزِمَّةٌ , وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ ابْنِ شِهَابٍ شَبِيهٌ بِهَذَا الْمَعْنَى "(4) أهـ
يتبع بمشيئة الله.....