موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 6 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: عن السلف والسلفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس أغسطس 19, 2021 1:20 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14302
مكان: مصـــــر المحروسة

وهي سلسلة مقالات كتبها فضيلة ‏الأستاذ الدكتور / محمد عبد الفضيل ‏القوصي - عليه رحمة الله - وزير الأوقاف الأسبق ونائب رئيس جامعة الأزهر ‏الأسبق.وعضو هيئة كبار العلماء ‏بالأزهر الشريف وعضو مجمع اللغة ‏العربية بالقاهرة.‏*

من‎ ‎يتأمل‎ ‎النقاش‎ ‎الناشب‎ ‎بين‎ ‎المهتمين‎ ‎بقضية السلفية والفكر‎ ‎السلفي‎ ‎تعتريه‎ ‎الدهشة‎ ‎حين‎ ‎يلحظ أن‎ ‎صورة‎ ‎السلف‎ ‎الحقيقية‎ ‎التي‎ ‎احتفظت‎ ‎بها‎ ‎ذاكرة الأمة‎ ‎،‎ ‎‏- والتي‎ ‎هي‎ ‎مدار‎ ‎القضية - قد‎ ‎أصابها‎ ‎التجريف والتشويه‎ ‎من كلا طرفيها‎ ‎،‎ ‎كل‎ ‎على‎ ‎طريقته‎ ‎، ولكل‎ ‎وجهة‎ ‎هو‎ ‎موليها.‏

لقد‎ ‎أضحى‎ ‎مفهوم‎ ‎السلف عند‎ ‎أحد‎ ‎طرفيها - وهو‎ ‎الطرف‎ ‎المتدثر‎ ‎بعباءة‎ ‎التنوير والحداثة - تعبيرًا‎ ‎شائعًا‎ ‎عن‎ ‎تكريس‎ ‎أفضلية‎ ‎المتقدم على‎ ‎المتأخر؛‎ ‎لمجرد‎ ‎السبق‎ ‎الزمني‎ ‎،‎ ‎وتعبيرًا - أيضًا -‏عن‎ ‎ترسيخ‎ ‎قيمة‎ ‎التقليد‎ ‎،‎ ‎وغلق أبواب‎ ‎الاجتهاد‎ ‎،‎ ‎ومحاصرة‎ ‎لروح‎ ‎الإبداع‎ ‎والابتكار‎ ‎في‎ ‎جميع‎ ‎المجالات - الدينية ‏منها‎ ‎وغير‎ ‎الدينية - بل‎ ‎أصبح‎ ‎مفهوم‎ ‎السلف‎ ‎لديهم‎ ‎هو‎ ‎المسئول‎ ‎عن‎ ‎انعدام‎ ‎الحراك الاجتماعي‎ ‎،‎ ‎وتجمد‎ ‎الحراك‎ ‎السياسي !! إلخ.‏

أما‎ ‎مفهوم‎ ‎السلف‎ ‎عند‎ ‎الطرف‎ ‎المقابل‎ ‎، المتدثر‎ ‎بعباءة‎ ‎التجمد‎ ‎عند‎ ‎ظواهر‎ ‎النصوص الدينية - فقد‎ ‎أضحى‎ ‎مرادفًا‎ ‎لتعطيل‎ ‎نشاط العقل‎ ‎أو‎ ‎النفور‎ ‎منه‎ ‎،‎ ‎وتوسيعًا‎ ‎لدائرة التحريم‎ ‎،‎ ‎وتركيزًا‎ ‎على‎ ‎الأشكال‎ ‎والمظاهر إلى‎ ‎غير‎ ‎ذلك‎ ‎من‎ ‎مظاهر‎ ‎التصحر‎ ‎العقلي‎ ‎،‎ ‎والتحجر‎ ‎‏ ‏الفكري.‏

نود‎ ‎في‎ ‎هذا‎ ‎الصدد‎ ‎أن‎ ‎نطرح‎ ‎على‎ ‎نحو ‏مجمل‎ ‎عدة‎ ‎ركائز‎ ‎رئيسة‎ ‎في‎ ‎هذه‎ ‎القضية‎ ‎، ذات‎ ‎الأطراف‎ ‎المتشابكة :‏

لا‎ ‎جدال‎ ‎في‎ ‎أن‎ ‎القرون‎ ‎الثلاثة الأولى‎ ‎من تاريخ‎ ‎الأمة‎ ‎الإسلامية‎ ‎هي‎ ‎خير‎ ‎القرون‎ ‎كما يقرر‎ ‎الحديث‎ ‎النبوي‎ ‎الكريم‎ ‎،‎ ‎لكن‎ ‎الصحابة الأجلاء‎ ‎لم‎ ‎يظفروا‎ ‎بتلك‎ ‎الخيرية‎ ‎لمجرد السبق‎ ‎الزمني‎ ‎،‎ ‎أو‎ ‎تقادم‎ ‎العهد‎ ‎؛‎ ‎بل‎ ‎لأنهم السابقون‎ ‎بالخيرات‎ ‎،‎ ‎ولأنهم‎ ‎الذين‎ ‎تلقوا الوحي ‏غضاً طرياً من فيه صلى الله عليه وسلم ‏، فآمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا ‏النور الذي أنزل معه.‏

ولأنهم الذين جاهدوا وصبروا‎ ‎وقاتلوا‎ ‎وقُتِلُوا،‎ ‎فالمعيار‎ ‎الإيماني والأخلاقي‎ ‎هو‎ ‎مصدر‎ ‎الخيرية‎ ‎،‎ ‎وليس‎ ‎الفضل للمتقدم‎ ‎،‎ ‎فقد‎ ‎يكون‎ ‎الفضل‎ ‎للمتأخر ، حين ‏يسبق‎ ‎به‎ ‎جهده‎ ‎وعمله.‏

ثانياً : إن‎ ‎تلك‎ ‎الثلة‎ ‎من‎ ‎الصحابة ‏والتابعين‎ ‎وتابعيهم‎ ‎،‎ ‎وهم‎ ‎السلف - ‏‎ ‎بحق - لم يكونوا‎ ‎نماذج‎ ‎متكررة‎ ‎،‎ ‎متشابهة‎ ‎الصفات‎ ‎، متماثلة‎ ‎السمات‎ ‎،‎ ‎بل‎ ‎كانوا‎ ‎يختلفون ويتفقون‎ ‎،‎ ‎ويجتهدون‎ ‎في‎ ‎فهم‎ ‎النصوص وتنزيلها‎ ‎على‎ ‎واقع‎ ‎الحياة‎ ‎،‎ ‎ثم‎ ‎ينظر بعضهم في‎ ‎أقوال‎ ‎بعض‎ ‎،‎ ‎ويتعقب‎ ‎بعضهم‎ ‎أقوال بعض‎ ‎، ‏والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة ، ‏‎ ‎لكن‎ ‎اجتهاداتهم ونظراتهم - على ‏اختلافها -‏‎ ‎لم‎ ‎تكن‎ ‎صادرة‎ ‎عن الميل‎ ‎والهوى‎ ‎،‎ ‎بل‎ ‎كانت‎ ‎اجتهادات‎ ‎منضبطة ‏بالفهم‎ ‎العميق‎ ‎للكتاب‎ ‎والسنة‎ ‎،‎ ‎لا‎ ‎تنقض للإسلام‎ ‎عروة‎ ‎،‎ ‎ولا‎ ‎تعود‎ ‎على‎ ‎الأصل‎ ‎بالنقض كما‎ ‎يقول‎ ‎الأصوليون‎ ‎،‎ ‎وهاهنا‎ ‎يكون‎ ‎حق الاجتهاد‎ ‎مكفولًا‎ ‎، ‏وحق الاختلاف متاحًا‎ ‎ومفتوحًا.‏

فاجتهادات السلف واختلافاتهُم إذن لم ‏تكن البتة نقضاً للثوابت أو اختراقاً ‏للأصول. ‏

ثالثاً : لئن‎ ‎كان‎ ‎هذا‎ ‎حال‎ ‎من‎ ‎يسمون‎ ‎بحق السلف ، فقد‎ ‎أتى‎ ‎بعدئذ‎ ‎على‎ ‎الناس‎ ‎حين من الدهر‎ ‎اصطنع‎ ‎فيه‎ ‎البعض‎ ‎لافتة‎ ‎براقة هي "السلفية" ادعى‎ ‎بها‎ ‎أصحابُها‎ ‎أنهم وحدهم - ودون‎ ‎سواهم - ورثة‎ ‎السلف،‎ ‎وأنهم ‏‎-‎دون‎ ‎سواهم‎- ‎المنتسبون‎ ‎إليهم،‎ ‎فقصروا وراثة‎ ‎السلف‎ ‎على‎ ‎اتجاه‎ ‎أحادي‎ ‎بعينه.‏
‎ ‎
ثم تخيروا‎ ‎من‎ ‎الآراء‎ ‎والمقالات ما‎ ‎خيل‎ ‎إليهم‎ ‎أنه‎ ‎وحده‎ ‎رأي‎ ‎السلف‎ ‎،‎ ‎وأنه ‏الحق‎ ‎كل‎ ‎الحق‎ ‎،‎ ‎أما‎ ‎غيره‎ ‎فهو‎ ‎الباطل‎ ‎كل الباطل‎ ‎،‎ ‎أو البدعي - خالص ‏البدعية ، وامتد‎ ‎نطاق‎ ‎تلك‎ ‎الأحادية ‏الحادة من‎ ‎العقائد إلى‎ ‎العبادات‎ ‎،‎ ‎إلى‎ ‎المعاملات‎ ‎،‎ ‎والتصرفات الحياتية‎ ‎التي‎ ‎تحفل‎ ‎بها‎ ‎دنيا‎ ‎الناس‎ ‎،‎ ‎وذلك كله‎ ‎من‎ ‎خلال‎ ‎منهج‎ ‎مصمت يتجمد‎ ‎عند ظواهر‎ ‎النصوص‎ ‎،‎ ‎ويعطل‎ ‎نشاط‎ ‎العقل‎ ‎، ‏ويلغي‎ ‎وظيفة‎ ‎اللغة‎ ‎بحقيقتها‎ ‎ومجازها ‏وتأويلاتها‎ ‎القريبة‎ ‎والبعيدة‎ ‎في‎ ‎فهم‎ ‎القرآن الكريم‎ ‎والسنة‎ ‎المطهرة،‎ ‎في‎ ‎غفلة‎ ‎عن‎ ‎أن من يهمل "مجازات القرآن ‏الكريم ، فقد أهمل شطر الحسن فيه" ‏كما قال بعض المتقدمين بحق.‏

بل في غفلة أيضاً عن أن السلف‎ ‎أنفسهم‎ ‎لم‎ ‎يتجمدوا‎ ‎على‎ ‎رأي‎ ‎واحد ، وإنما ‏كانوا‎ ‎يتمتعون‎ ‎بضرب‎ ‎من‎ ‎السماحة ‏العقلية التي‎ ‎تتيح‎ ‎لبعضهم‎ ‎أن‎ ‎يصوب‎ ‎رأي الآخر، ويتعقبه، ويختلف‎ ‎معه ، بل ‏كان ذلك يحدث بمحضر منه صلى الله ‏عليه وسلم.‏

رابعاً : ولئن‎ ‎كان‎ ‎موقف (السلف) ‏الأصيل - بحق - بريئًا‎ ‎من‎ ‎التصلب ‏والانغلاق‎ ‎والأحادية، فإن‎ ‎بعض ‏العلمانيين يجعل‎ ‎الفكر‎ ‎السلفي‎ ‎برمته‎ - ‎دون تفرقة‎ ‎بين‎ ‎اتجاه‎ ‎السلف‎ ‎الرحب ‏المنفتح ،‎ ‎وبين‎ ‎من ادعوه‎ ‎واحتكروه ‏تحت اسم "السلفية" مسئولًا‎ ‎عن‎ ‎محاصرة ‏روح‎ ‎الإبداع‎ ‎والابتكار‎ ‎،‎ ‎ومسئولًا‎ ‎أيضًا‎ ‎عن جمود‎ ‎الحراك‎ ‎الاجتماعي‎ ‎والسياسي‎ ‎،‎ ‎ثم يلقي‎ ‎بسائر‎ ‎تبعات‎ ‎التخلف‎ ‎التي‎ ‎تعاني‎ ‎منها الأمة‎ ‎على‎ ‎كتفي‎ ‎الفكر‎ ‎السلفي‎ ‎وحده‎ ‎دون سواه .‏

ترى : هل‎ ‎غابت‎ ‎عن‎ ‎هؤلاء‎ ‎تلك‎ ‎الروح الإبداعية‎ ‎التي‎ ‎أنتجت‎ ‎حضارة‎ ‎الإسلام‎ ‎العلمية والعملية‎ ‎خلال‎ ‎القرون ‏الثلاثة الأولى حيث كانت آراء‎ ‎السلف ‏فيها‎ ‎ملء‎ ‎العيون‎ ‎والأسماع‎ ‎والعقول؟!‏

هل‎ ‎غابت‎ ‎عن‎ ‎الذاكرة‎ ‎تلك‎ ‎الروح‎ ‎الإبداعية التي‎ ‎جسدتها‎ ‎مدرسة‎ ‎الرأي‎ ‎في‎ ‎كيان‎ ‎الفكر الإسلامي‎ ‎على‎ ‎يدي‎ ‎الإمام‎ ‎الأعظم‎ ‎أبي‎ ‎حنيفة النعمان (80هـ - ‏‏150هـ) وهو‎ ‎في‎ ‎طليعة السلف‎ ‎علمًا‎ ‎وهداية؟!‏

ثم أقول أخيراً : لعل‎ ‎تلك‎ ‎الوقفات ‏الموجزة‎ ‎تسهم‎ ‎في‎ ‎إزالة‎ ‎الغبار‎ ‎عن‎ ‎وجه ‏طائفة‎ ‎السلف‎ ‎،‎ ‎التي‎ ‎لحقها‎ ‎التشويه‎ ‎والافتراء سواء‎ ‎ممن‎ ‎ادعوها‎ ‎واحتكروها، ‏أو‎ ‎ممن أنكروا‎ ‎صفاءها‎ ‎ونقاءها،‎ ‎وهي‎ ‎من‎ ‎كل‎ ‎ذلك براء.‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* جريدة الأهرام : 16 / 10 / ‏‏2009م.‏


_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عن السلف والسلفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أغسطس 23, 2021 8:06 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14302
مكان: مصـــــر المحروسة

حين تصاب بعض المفاهيم الأساسية في الفكر الإسلامي بالاختلاط والالتباس – يُمسي تحديد معانيها الرئيسية والفاصلة مهمة ملحة لا تحتمل التأجيل أو الإرجاء ، سعياً وراء إزالة ما علق بها من غبش الرؤية وزيغ التصور.

في هذا الإطار يصبح الكشف عن الصورة الحقيقية لطائفة السلف – رضوان الله عليهم – على قدر كبير من الأهمية ؛ نظراً لما أصاب تلك الصورة من خلط وتشويه ، سواء على يد من ادعوا لأنفسهم احتكار وراثة السلف تحت اسم السلفية ، فإذا بصورة السلف وقد اقتربت على أيديهم بالشكلية والجمود ، أو على يد بعض حملة الأقلام من التنويريين الذين ذهبوا إلى الجانب المقابل.

ربما بتأثير رد الفعل – فإذا بصورة السلف وقد اقترنت لديهم بالتخلف والنكوص عن تيار التقدم ، ولكل وجهة هو موليها !

من أصوب الصواب – إذن – أن تحتكم الرؤية الصحيحة لمفهوم السلف إلى عدد من الضوابط الجوهرية ، تهدي إلى الرشد ، وتنأى عن الجدل العقيم.

أول تلك الضوابط : أن مفهوم السلف وإن كان يرجع زمنياً إلى القرون الثلاثة الأولى التي هي خير القرون إلا أنه يضرب بجذوره إلى ما يمكن أن يكون "نسقاً معرفياً متكاملاً" ذا موجهات فكرية ثلاث :

تتمثل أولى تلك الموجهات : في نفور السلف رضوان الله عليهم من كل ما يشتم منه رائحة الاتهام بالكفر والشرك ، فلقد كانوا أعمق أجيال البشر حرصاً على أن تكون أبواب "الإيمان" مفتوحة على مصاريعها للناس جميعاً ، بمجرد أن تنطق الألسنة بالشهادتين ، وكيف لا ، وقد بذلوا في سبيل الله المهج والأرواح ؟! كيف لا .. وأصداء كلماته صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد "أشققت عن قلبه" ستظل راسخة في العقول ، محفوظة على الألسنة؟

يتبع إن شاء الله.


_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عن السلف والسلفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة أغسطس 27, 2021 3:16 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14302
مكان: مصـــــر المحروسة

وتبعاً لذلك – وبالضرورة – فقد كانوا أحرص الناس على "تضييق المنافذ" أمام كل من يُشتَمُّ منه رائحة ضد الإيمان وه "الكفر".

وهذا هو عليّ بن أبي طالب (وقد رفع الخوارج في وجهه سيوفهم ، وقتلوا من جنوده من قتلوا – ينفي عنهم الكفر حين سُئلَ : أكفار هم ؟ قال : لا ، بل من الكفر فروا ، وإنما هم إخواننا لكنهم بغوا علينا).

وتتمثل ثانية تلك الموجهات في نفور السلف رضوان الله عليهم من الحرفية في فهم "النصوص" والتصلب عند حروفها ؛ اعتماداً على سليقتهم العربية الخالصة التي لم تزل بعد بمنجاة عن العجمة.

مما فتح أمام ذائقتهم اللغوية أبواب المجازات على اتساعها ، وبهذه الذائقة اللغوية والبلاغية الفذة اتصلت أرواحهم وقلوبهم وعقولهم بالإعجاز القرآني في مختلف وجوهه.

وها هو عبد القاهر الجرجاني يقول عن مجازات القرآن :

"إن للشيطان من جانب الجهل بها مداخل خفية يأتي لبعض الناس منها ، فيسرق منهم دينهم وهو لا يشعرون ، ويُلقِيَهم في الضلالة من حيث يظنون أنهم مهتدون" !!

وتتمثل ثالثة هاتيك الموجِّهات في إقبال السلف بالترحاب والقبول والرضا على الاختلاف والتعدد – متى كان ذلك الاختلاف وذاك التعدد لا ينقض لأصول الدين عروة ولا يهدم منها ركناً ، ولعل مما لا يَمَلُّ المرء من تكراره – في هذا الصدد – ذلك "الانبثاق المبكر" لمدرستي الرأي والنص حول الصحابيين الجليلين عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، بما يحمله ذلك الانبثاق المبكر من مشروعية التعدد ومشروعية الاختلاف ، فماذا يعني ذلك التعدد والاختلاف بي صحابيين مصادرهما الأول من الكتاب والسنة واحدة ؟

ماذا يكون ذلك إلا أن يكون جهداً فكرياً بشرياً أوقدت شجرته من عبقرية ذلك السلف الصالح وملكاته الفذة الباذخة وطاقاته الإبداعية الكامنة.

تلك الملكات والطاقات التي تحلقت حول المصادر الأولى من الكتاب والسنة فهماً واستيعاباً ، ثم استنباطاً واستلهاماً ، ثم ما لبثت تلك الطاقات الإبداعية أن بسقت فروعها لدى مدرستين سامقتين : هما مدرسة الرأي لدى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ، ومدرسة النص لدى الإمام الجليل أحمد بن حنبل.

ثاني تلك الضوابط : أن منهج السلف – وإن كانت له هويته الذاتية وكيانه المتماسك .. لكنه كان ملتقىً فريداً لجميع الملكات الإنسانية الرفيعة على تنوعها وثرائها ، فلقد وجدت فيه الفاعلية العقلية ملاذها وموئلها ، كما وجدت فيه النسائم الروحية والوجدانية مجلاها ومراحها ، كما وجدت فيه الاتجاهات الأخلاقية والسلوكية مستقرها ومستودعها.

يتبع إن شاء الله.


_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عن السلف والسلفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت أغسطس 28, 2021 1:29 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358
جزاك الله خيرا وزادك علما وفهما ونورا

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عن السلف والسلفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت أغسطس 28, 2021 6:58 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14302
مكان: مصـــــر المحروسة

اللهم آمين آمين آمين يارب العالمين ، وجمعاً إن شاء الله.

الأخ الفاضل (أحمد ماهر بدوي) :

أكرمكم الله وبارك فيكم وجزاكم الله خيراً ويسعدني دائماً مروركم الكريم ودعواتكم المباركات.


_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: عن السلف والسلفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس نوفمبر 11, 2021 3:28 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14302
مكان: مصـــــر المحروسة

وإلا فبماذا تفسر تلك المناقشات العقلية ‏الرصينة التي واجه بها عبد الله بن عباس ‏حَرْفِيَّة الخوارج وضيق آفاقهم ؟

وبماذا تفسر النفثات الروحية والوجدانية ‏المرهفة التي تترجم لها المصادر الحديثية ‏الكبرى تحت اسم عميق الدلالة حافل ‏بمشاعر القلب الرقراقة وهو اسم ‏‏(الرقاق) أو (الرقائق) ؟

وبماذا تفسر تلك الشاعرية المجنحة ‏والأحاسيس الوجدانية العفيفة في القرن ‏الأول الهجري لدى حسان بن ثابت ، ‏ثم لدى الشعراء الحجازيين كالأحوص ‏وعبد الله بن قيس الرُّقَيَّات ؟

وبماذا تفسر ظهور الداعية الأخلاقي ‏الأشهر الحسن البصري ومدرسته ‏الباذخة في ذلك القرن ذاته ؟

وبماذا تفسر ماذكره ابن حزم في "طوق ‏الحمامة" عن أحد الفقهاء السبعة الذين ‏عاشوا في قلب ذلك القرن نفسه ، ‏والذي وصفه ابن عباس رضي الله عنهما ‏بقوله : (هذا قتيل الهوى لا عَقْل ولا ‏قَوَد).‏

ثالث تلك الضوابط : أن منهج السلف ‏وإن كان له هذا الجانب الفكري بثرائه ‏وخصوبته ، فقد كان له حضوره اليقظ ‏في خضم الحياة الواقعية ومجراها الدافق ، ‏ذلك الحضور الذي عبر عنه أحدهم ‏بقوله : "كانوا أقوياء على الضالين ‏والمخطئين".‏

لقد كان السلف - بهذا الحضور اليقظ ‏يبتغون أن يضعوا الأمة الإسلامية في ‏معترك الحياة بخيراتها وشرورها ؛ لكي ‏تتمخض جهودهم عن إقامة مجتمع فاضل ‏ينشد العدل والحرية ، ويجابه الظلم ‏والقهر والاستبداد.‏

ولذلك فليس من المستغرب أن ينخرط ‏السلف الصالح في تيار الحياة السياسية ‏والاجتماعية الزاخر بالحيوية ، فيخطئون ‏ويصيبون حسبما تهديهم اجتهاداتهم ‏البشرية ، ولذلك فليس من المستغرب ‏أيضاً : أن ينأوا بأنفسهم عن الجدل ‏العقيم والخلافات النظرية الاعتقادية.‏

فالحياة المائجة بالأحداث أكثر ثراء من ‏أفانين الجدل ومنحنيات النظريات.‏

ثم أقول أخيراً فلنتأمل موقف السلف ‏حق التأمل ؛ لنرى أنهم كما كانوا أبرياء ‏عن الجمود والتحجر ، فقد كانوا أيضاً ‏خصماء للتأخر والتقهقر ، ولنرى فيهم ‏أيضاً ذلك النموذج المثالي للإنسان في ‏قوة ارتباطه بالوحي ، والتحامه بتيار ‏الحياة ، والتزامه بالقيم ، وحرصه على ‏صلاح الدنيا وسعادة الآخرة *.‏

يتبع إن شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* جريدة الأهرام : 23 / 2 / ‏‏2010م.


_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 6 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 8 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط